هل يكفي إدراك المظالم لتأسيس نظرية في العدالة؟

جاد الكريم الجباعي

 

ليس الإنسان في حاجة إلى علم ولا إلى فلسفة لكي يعرف ما ينبغي عليه أن يفعل ليكون أميناً وخيراً، لا بل ليكون حكيماً وفاضلاً .. فملكة الحكم العملية تتقدم، في الفهم الإنساني على ملكة الحكم النظري.

إيمانويل كانط (ميتافيزيقا الأخلاق، ص 59)

تكتسب فكرة العدالة أهميتها النظرية والعملية من تأثيرها العميق في بنية المجتمع الأساسية؛ أي في المؤسسات، وفي سلوك الأفراد وتشكيل ذواتهم وعلاقاتهم المتبادلة، وارتباطها الوثيق بمبادئ المواطنة والإنصاف، ومفهومي الخير والحق، وتكافؤ المعاني والقيم والرموز، التي يضفيها الأفراد والجماعات على أعمالهم، وأثرها في تمكين المجتمع من استثمار رأس ماله المادي والاجتماعي والثقافي والرمزي على وجه أفضل فأفضل. وتكمن أهمية العدالة، بوجه عام، والعدالة الاجتماعية بوجه خاص، في التأليف بين الحرية والمساواة، على تعارضهما، فتحدهما أو تقيدهما بقيود العقل (العملي) والخير العام والمصلحة / المصالح المشتركة والأهداف أو الغايات المشتركة.

المساواة حد أخلاقي على الاستئثار والاحتكار والتسلط والاستبداد، وشرط ضروري للتشارك الحر في الحياة العامة وحياة الدولة. والحرية هي "السم المضاد للمساواة"، بتعبير توكفيل؛ والعدالة تركيب منهما، يشبه تركيب الماء من الهيدروجين والأوكسجين، إذا فصلنا أحدهما عن الآخر صار الهيدروجين ساماً والأوكسجين حارقاً. الحرية وحدها، مطلقة من أي قيد ومشرَّعة ذاتياً، قد تفضي إلى الفوضى وتفكيك العلاقات الاجتماعية والروابط الإنسانية، و"حرب الكل على الكل"، بتعبير توماس هوبز. والمساواة وحدها، مطلقة من أي قيد، تنفي الاختلاف، فتقتل الحرية وتعصف بالكيان الإنساني للأفراد والجماعات والمجتمعات، وتجعل منهم مجرد قطعان بشرية.

العدالة عند الفلاسفة هي "المبدأ الإنساني، المثالي، أو الطبيعي، أو الوضعي، الذي يحدد معنى الحق ويوجب احترامه وتطبيقه، ويحدد معنى الخير، ويوجب  التزامه، فإذا كانت متعلقة بما يطابق الحق والخير دلت على الاستقامة والنزاهة، والمساواة في الكرامة الإنسانية والحريات والحقوق المدنية والسياسية، وفي توزيع الثروة الاجتماعية المادية واللامادية وعوامل إنتاجها بين الفئات الاجتماعية وأفرادها. وإذا كانت متعلقة بالفاعل دلت على إحدى الفضائل الأصلية، وهي الحكمة والشجاعة والعفة". ويرى بعضهم أن العدالة هي الفضيلة كلها.

وللعدالة باعتبارها فضيلة جانبان: أحدهما فردي والآخر اجتماعي، "فإن نظرت إليها من جانبها الفردي دلت على هيئة راسخة في النفس التي تصدر عنها الأفعال المطابقة للحق والخير وجوهرها الاعتدال والتوازن والامتناع عن القبيح والبعد عن الإخلال بالواجب والتفريط بالمسؤولية. وإذا نظرت إليها من جانبها الاجتماعي دلت على احترام حقوق الآخرين وإعطاء كل ذي حق حقه" [1]. وقد بين الفلاسفة أن أساس العدالة هو المساواة، وأن مبدأها هو التوسط بين طرفي الإفراط والتفريط. ينطبق ذلك على المعاملات والمبادلات انطباقه على التوزيع.

وهي طريق إلى الثقة والاحترام والمحبة، ذلك أن العدالة توجب التقيد بالحق، على حين أن المحبة توجب أن يريد الإنسان لغيره أكثر مما يريد لنفسه. "الإنسان لا يحتاج إلى العدالة إلا إذا فاته شرف المحبة، ولو كان الناس متحابين لتناصفوا ولما وقع بينهم خلاف". وإذا اعتبرنا المحبة مبدأ أخلاقياً عاماً ملازماً للذات الإنسانية والعدالة قاعدة عملية موضوعية ضرورية لتنظيم علاقات الناس لم يكن بين هاتين الفضيلتين تعارض؛ لأن مبدأ المحبة يصبح في هذه الحال أساس الأفعال العادلة، ولأن قاعدة العدالة يمكن أن تمتد إلى جميع الواجبات، حتى تشمل تحديد علاقات المحبة وتحديد صورها القابلة للتنفيذ[2].

في ضوء ما تقدم، يمكن التفريق بين العدالة، بصفتها قاعدة موضوعية ضرورية، توجب التقيد بالحق والإنصاف في توزيع الدخل والثروة والسلطة وسائر المنافع الاجتماعية، وتؤدي إلى استقرار الحياة الاجتماعية والسياسية وازدهارها، بمقتضى العقل، وبين العدالة، بوصفها قاعدة أخلاقية، تعني إرادة الخير الخاص والعام، والاعتدال في الأحكام والمساواة في الحريات والحقوق المدنية والسياسية والاحترام المتبادل والتعامل بالمثل، أي أن يريد الإنسان لغيره مثل الذي يريده لنفسه، وأن يعامل الناس كافة كما يحب أن يعاملوه. وإذا أمعنا النظر في الأمر قد يبدو لنا أنهما ضروريتان بالتساوي، ولا تقوم إحداهما بغير الأخرى.

"والعدالة الاجتماعية هي احترام حقوق المجتمع والتقيد بالمصالح العامة، أو هي احترام الحقوق الطبيعية والوضعية التي يعترف بها المجتمع لجميع أفراده .. في سبيل حفظ بقائهم وتيسير تقدمهم وتحقيق سعادتهم"[3]. والمجتمع العادل هو المجتمع الذي يوفر لأفراده الإناث والذكور حرية متساوية، حتى يتسنى لكل فرد أن يطور فهمه الخاص للأخلاق الخاصة وتصوره الشخصي للحياة الجيدة، تبعاً لما يستطيع وما يأمل. ذلك لأن مشاريع الحياة الفردية لا يمكن أن تتشكل بمعزل عن السياقات الاجتماعية والعلاقات المتبادلة بين الذوات".

محاصرة بعض المدن والحواضر والبلدات السورية، وقطع المواد الغدائية والأدوية والماء والكهرباء والاتصالات عنها، علاوة على قصفها بجميع أنواع الأسلحة، وما أثارته من ردود فعل من نوع الفعل، وقائع شعر بها بعض السوريين أو أدركوها، على أنها ظلم وعدوان وجور وتوحش وهمجية ولم يدركها بعضهم الآخر، على هذا النحو، بل راح هؤلاء يبحثون عن مسوغات تجعلهم يتعايشون معها. ولسنا على يقين من أن هؤلاء وأولئك يعانون أزمة ضمير. وهكذا يمكن أن يكون الموقف من مجاعة أو جائحة أو استئثار واحتكار وإقصاء وأشكال أخرى من اللاعدالة.

إذن، إما أن الشعور أو الإدراك الأولي لا يكفي، لأن يكون أساساً لنظرية (عامة) في العدالة تفسر مثل هذه الوقائع، وإما أن هذا الإدراك الجمعي معطوب، وأن المسألة تكمن في التصورات والأحكام المسبقة، التي تمتح من سرديات مختلفة ومتخالفة يغذيها غل تاريخي مكبوت. ما يستدعي التفكير المشترك، لردم الهوة بين هذه التصورات والأحكام، لأنه أفضل البدائل الممكنة. يمكن قول الشيء نفسه عن مواقف مختلفة من أشكال صارخة من الظلم هنا وهناك، كالإفقار والإقصاء والتهميش والعدوان والعنصرية والاضطهاد القومي والجنسي... ويمكن البحث في إدراك الأفراد والجماعات لمظالم سابقة أيضاً مخزونة في أعماق الذاكرة أو ما يسمى التاريخ.

لذلك نشك في مقولة: إدراكُ المظالم هو لبُّ نظرية العدالة، ثم يأتي التفكير الذي يدفع إليه هذا الإدراك. فإذا لم يتوسط الشعور دوماً بين الفهم والعقل، فيغدو فاهماً وعاقلاً، من دون أن يكف عن كونه شعوراً حراً أو وجداناً مستقلاً، يمكن أن ينتكس إلى الغريزة. وإذا استعملنا مفاهيم كانطية يمكن القول: إن "ملكة الحكم" (الذاتية) إذا لم تتوسط دوماً بين "العقل الخالص"، المتصل بالطبيعة والعلوم الطبيعية، وبين "العقل العملي" المتصل بالمجتمع والعلوم الاجتماعية والإنسانية، تظل ملكة بدائية.

نشك في مقولة سن؛ لأنه لا يمكن بناء نظرية عامة على الشعور والإدراك فقط، ولأن بواعث الشعور وخلفياته مختلفة أساساً، وكذلك بواعث الإدراك. أجل، يمكن لمثل هذا الإدراك الذي افترضه سن أن يدفعنا، أو يدفع بعضنا، وهو الأرجح، إلى حكم أخلاقي على الظلم والظالمين، كما في المثال السوري، ولكنه لا يؤدي بالضرورة إلى رفع ما يمكن رفعه منه، ما دامت اتجاهات القوى الاجتماعية وخلفياتها الثقافية والأخلاقية متعاكسة، ومحصلتها إما صفرية وإما غَلَبَة ومغلوبية. يمكن للأنف أن يشم رائحة الظلم[4]، ولكن يمكن ألا يشمها أيضاً، ويكون مع ذلك "سليماً"، بدليل أنه يشم رائحة السلطة والقوة والمال ورائحة النفط والغاز ورائحة الدم وغيرها من الروائح.

إن تعدد الأسباب والدوافع لإدانة الظلم، في موضوع محدد، ويقابله تعدد تصورات الأفراد والجماعات لما هي العدالة في الموضوع نفسه، كالحرب الدائرة في سورية، هو ما يرجح إمكان التوافق، حسب منطق المجموعات الحرة الرياضي. فالحجة التي يسوقها سن لدحض نظرية العدالة، عند جون رولز، قد تنقلب ضده. فإذا كانت كل مجموعة من الناس تنطلق من سبب محدد في إدانة الظلم، من دون أن تنفي الأسباب الأخرى كلها أو بعضها يكون راولز على حق. حتى الذين يرون في الحرب حرباً على تكفيريين وإرهابيين ورداً على مؤامرة خارجية، لا يستطيعون نفي أشكال الظلم والجور التي تنجم عنها كل يوم، ولا عن أشكال الظلم التي ولدت الاحتجاجات الشعبية، ولكنهم يعزونها إلى الأخطاء البشرية أو ينسبونها إلى الخصم.

يرى سن أن "الشيء المهم .. بصفته مركزياً للعدالة، هو أننا يمكن أن يكون لدينا إحساس قوي بالظلم يستند إلى كثير من الأسس، ومع ذلك لا نتفق على أن يكون أساس واحد معين هو السبب المهيمن لتشخيص الظلم"[5]. نتساءل: لمَ ينبغي أن يكون هناك سبب واحد مهيمن؟ ما دام هناك أسس مختلفة من البديهي أن يكون للظلم مظاهر مختلفة، ومن البديهي أن تكون استجابات من يقع عليهم الظلم مختلفة وإدراك من يدركونه مختلفاً، هذا الاختلاف الذي لا مناص منه هو ما يدرج العدالة في الممارسة اليومية بطرق مختلفة ونسب مختلفة. إذا كان فريق من الناس يرون أن الأيديولوجيات المذهبية من أبرز أسباب الحرب ومن أسباب المجازر الجماعية وأعمال الثأر والانتقام، ويسعون إلى إبراز هذا العامل ونقده بالإشارة إلى العناصر التي تولد الكراهية في هذه الأيديولوجيات، فإنهم يقدمون خدمة للعدالة لا تقل عن تلك التي يقدمها آخرون لدي كل منهم أسباب أخرى صحيحة، كاحتكار مصادر السلطة والثروة والقوة، أو تغوُّل السلطة الأمنية، أو اغتناء قلة على حساب الكثرة بطرق غير مشروعة .. إلخ.

المثال السوري، وغيره كثير في البلدان المتأخرة، حيث تتخابط الهويات وتتخبط، يستدعي العودة إلى ألف باء الاجتماع البشري، ثم الاندماج الاجتماعي وتشكل المجتمعات الحديثة والدول الحديثة، لتمييز خطين تاريخيين: خط الغلبة والاستتباع وشرعية القوة، الذي تشكلت بموجبه الممالك والإمبراطوريات في العصور القديمة والوسطى، وخط التعاقد والشرعية الدستورية، الذي يميز الأزمنة الحديثة. لذلك تحظى "نظرية" العقد الاجتماعي، التي يتعيدها رولز، باهتمام تستحقه عندنا وعند غيرنا، وتندرج في مشروع نقد الحداثة المتحققة وإعادة إنتاجها، لتعرية جذور التسلط والاستبداد وآليات الإفقار والتهميش وإنتاج النزاعات والحروب.

ـــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] جميل صليبا، المعجم الفلسفي،  دار الكتاب اللبناني ومكتبة المدرسة، بيروت، 1982، الجزء الثاني، مادة العدالة، ص 58 وما بعدها.

[2] راجع/ي، جميل صليبا، العجم الفلسفي، المصدر السابق.

[3] جميل صليبا، المعجم الفلسفي، المصدر السابق، ا.

[4] سن، المصدر السابق، ص 39

[5] أمارتيا سن، فكرة العدالة، ص 37

 

الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك