الحرب على «الدولة الإسلامية» بين العنف والإصلاح

شفيق ناظم الغبرا

 

«داعش» أو تنظيم «الدولة الإسلامية» ليس فصيلاً عنيفاً فحسب، وما التركيز على جانبه العنيف إلا تصغير لحجم المشكلة المرتبطة به الآن وفي الفترة القادمة. إن تصنيف تنظيم «الدولة الإسلامية» بصفته تنظيماً إرهابياً يتجاوز التصنيف العادي، وذلك لأنه يستخدم الجيوش والقدرات العسكرية ويواجه جيوشاً وتحالفات كبرى، كما وقع في هجوم الصيف الفائت، عندما اقتحم هذا التنظيم أجزاء كبيرة من العراق وقبل ذلك من سورية. لهذا بالتحديد، لا بد من رؤية مختلفة للمشهد، فالحركة الجهادية في العالم الإسلامي والتي تمثل «الدولة الإسلامية في العراق والشام» أحد تعبيراتها، هي نتاج ضعف حالة حقوق الإنسان واحتكار الاقتصاد والفقر والبطالة وتردي السياسة والمؤسسات في الواقع العربي، ففي الواقع العربي أرستقراطية رافضة للتغيير ومترددة حياله ومعها أجهزة رسمية وجيوش تخشى احتمال قيام ثورات جديدة، وقد أرعبها مشهد عام 2011 وقررت أن تقف بقوة ضد تداعياته ونتائجه. لكن ما يعيب هذه النخب العربية أنها حتى الآن غير قادرة على إعادة إنتاج مشهد ما بعد الاستقلال، خصوصاً أنها فقدت الزخم الذي سبق أن ميزها، وهي حتى الآن لم تلتقط إشارة رئيسية، فهي لن تنجح في استعادة المبادرة من دون دمج القوى الجديدة التي أفرزها الواقع العربي في السنوات العشرين الماضية، وهذا يتطلب إصلاحات وتنازلات وشراكة جادة مع الشعوب العربية. إن مغالاة القوى الرسمية والنخب الحاكمة في رفض الإصلاح بعد ثورات 2011، باستثناء تونس والمغرب، سيساهم في تمكين القوى العنيفة والجهادية السلفية، كحال «الدولة الإسلامية» وأخواتها.

وعندما نتمعن في الحالة الجهادية الأوسع سنجد أننا أمام عنف ينبثق من مضمون، فهناك مأزق المسلمين في العلاقة مع المنظومة الدولية (شعور بالتهميش والعنصرية، الذي يعكس حالة التوتر حول الصراع المستمر في فلسطين)، وهناك مأزق المواطن العربي في علاقته بدولته الوطنية (إصلاح وتغيير وعدالة ومساواة وثورات وسوء إدارة وخوف من التغيير وارتباك)، ثم هناك مأزق العلاقة بين العرب وإيران في ظل تمدد الأخيرة إقليمياً.

قيام الأردن مثلا بإعدام ساجدة الريشاوي المرتبطة بالعمليات الانتحارية في الأردن عام 2005، لم يكن إلا ردة فعل على الإعدام الدموي من قبل «الدولة الإسلامية» للطيار الأردني الأسير معاذ الكساسبة. في هذا الإعدام دخل الأردن نفق الانجرار نحو العنف، والواضح أن إعدام الريشاوي لم يقتصّ من قريب ولا من بعيد من «الدولة الإسلامية» على فعلها الدموي وغير الإنساني، فقبل أيام كان اسمها مطروحاً للتبادل، ثم بعد يومين تم إعدامها. ساجدة الريشاوي امرأة مستضعفة وضحية فقدت نصف عائلتها، وقد استغلتها قوى أكبر منها من دون إدراك منها أو حتى مقدرة منها على رفض ما دُفعت للقيام به. «الدولة الإسلامية» أرادت أن تورط الأردن بردود فعل وبمشاركة أكبر في العمليات الجوية، وهذا ما حصلت عليه. لنتخيل أن الولايات المتحدة ساومت على سجناء غوانتانامو في صفقة تبادل، ثم قررت -كرد فعل على إعدام الرهينة الأميركية- إعدام عدد من المتهمين في أحداث 11 سبتمبر المسجونين في غوانتانامو.

إن الأوضاع التي أطلقت «الدولة الإسلامية في العراق والشام» (داعش) ما زالت قائمة، فالأزمة السورية بصورة خاصة ثم العراقية هي في كارثة مستمرة. الولايات المتحدة لن تعود إلى العراق بقوات تقاتل على الأرض ولا دول الخليج والمملكة العربية السعودية أو مصر والأردن أو حتى تركيا ستدخل إلى عمق الأراضي العراقية من دون تصور واضح لحل المسألة السورية. أما الجيش العراقي، فقد سقط في الامتحان التاريخي، وهو عاجز عن القيام بدور كبير منذ انهياره المفاجئ في الصيف الماضي، لهذا يعتمد النظام في العراق على الميليشيات، كميليشيا «أبو الفضل العباس» و «حزب الله» العراقي وغيرها، والتي تقوم بتجاوزات كبيرة (وفق الكثير من المراقبين لا تقل عن تجاوزات «الدولة الإسلامية») بحق المدنيين والأسرى وغيرهم. وفعلاً خسرت «الدولة الإسلامية» آلاف المقاتلين في القصف الجوي، لكنها كسبت في المقابل آلاف المقاتلين المتطوعين من دول مثل مصر وشمال أفريقيا واليمن والخليج. وحتما يفكر هؤلاء بأوطانهم، وسيعودون إليها في أحد الأيام.

سيبقى العنف سلاحاً تستخدمه الدول الأقوى كما يستخدمه الطرف الأضعف لإرباك خصم قوي ولخلق بيئة مناسبة لانضمام مزيد من الأفراد، وذلك تمهيداً لبناء قوة أكبر. الدول تستخدم الطائرات والمدافع التي تؤدي إلى وقوع خسائر مدنية، والعنف الصادر عن الجماعات يقوم بالشيء ذاته، وبينما تقوم جيوش الدول بضرب المدنيين لجعلهم يتراجعون عن دعم الجماعات المسلحة، تقوم هذه الجماعات من جانبها بضرب المدنيين لإحراج الدول ولإضعاف إرادتها السياسية. وفي الحالتين يكون الإرهاب هو السلوك الذي يستهدف المدنيين والأسرى.

إن أخطر ما في الواقع العربي هو أن كل عنف ضد الدول والأنظمة والأجهزة التابعة لها يتحول مبرراً لإغلاق المساحة العامة ولمنع النقاش السلمي والتعبير غير العنيف. التطرف يضرب بعنف ويمنع كل نقاش حيث يسيطر (كما هو الحال في مناطق «الدولة الإسلامية»)، لكن الأنظمة ترد في الوقت ذاته على المختلفين معها، سواء كانوا من «الإخوان المسلمين» والتيارات الإسلامية السلمية والتيارات المدنية المطالبة بالحقوق والإصلاح من خلال إغلاق المساحة والتفرد وانتهاك الحريات، فهناك من يعتقد في الجهاز العربي الرسمي أن الحرب على الإرهاب هي الفرصة الذهبية للحرب على الحقوق والحريات والتعبير والتظاهر السلمي، وذلك بهدف إعادة الوضع العربي إلى ما كان عليه قبل 2011. هذا الضغط على القوى المدنية والحقوقية سيصب بشكل مباشر لصالح انتشار العنف، كما سيقوض مع الوقت أسس الدولة الوطنية بصفتها دولة جامعة لكل الناس. إن هروب الدولة الوطنية العربية من متطلبات الإصلاح في ظل ما يقع في المنطقة والعالم (تغيرات في ميزان القوى العالمي، أزمات اقتصادية، حركات شعوب، تطرف) هو وصفة لانهيار الدول كما ثبت في الوضع العربي حتى اللحظة.

العرب -كما المسلمون- ليسوا مختلفين عن حضارات وشعوب أخرى، فعصر الإرهاب في أميركا اللاتينية تراجع جذرياً عندما بدأ التحول الديمقراطي وبدأت الأنظمة السياسية في نسج حوارات سياسية وقانونية مع فئات عنيفة رفعت السلاح في وجه الدولة. وقد تم دمج من وافق على التخلي عن السلاح مقابل حريات وحقوق واستقلال قضاء وعدالة. في أميركا اللاتينية في ثمانينات وتسعينات القرن العشرين، بدأت عملية تسامح جاد وانتقال مدني مسؤول. وفي الولايات المتحدة توقف زمن العنف الملون وإرهاب بعض الجماعات البيضاء في سبعينات القرن العشرين، وذلك في ظل إقرار الحقوق المدنية ودمج الملونين في النظام الأميركي الاجتماعي والحقوقي.

إن فوضى اليوم، وخاصة منذ 2011 يمكن أن تقرأ كالتالي: إن مرحلة من التاريخ العربي توشك أن تنتهي وأخرى توشك أن تبدأ. إن الوعي بمدى تغير المعادلة التي تحيط بنا يجب أن يجعلنا نعيد النظر في خطورة الاعتماد على الحلول الأمنية والعسكرية بصفتها الحلول الرئيسية، فلا حل للعنف الذي ينشأ بيننا من دون حقوق إنسان متطورة وحريات وانفتاح وتسامح ومشروع دولة وطنية نامية ومواطن مدجج بالحقوق. الإصلاح سيعني المقدرة على دمج قوى المجتمع الشبابية والمهنية والاجتماعية التي نشأت في العقدين الأخيرين في حياة سياسية يسودها الاختلاف والتداول السياسي السلمي. هل ينجح العقل الرسمي العربي، الذي تجمد عبر العقود بسبب غياب السياسة، في التقاط إشارات التغير (كما وقع في تونس والمغرب)، أم أنه يعيد إنتاج ذاته لصالح مزيد من العنف؟.

 

 

الحوار الداخلي: 
الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك