الوجوه والأقنعة : من الثورة الإيرانية إلى الربيع العربي..

نعمان الحاج حسين

 

“إذا نلت سلطة مطلقة وكنت مسيطرا تماما على كل ما يحدث فهل تعلم ماذا سوف يحدث لك؟؟ سوف يكون قد تم التنبؤ بالمستقبل تماما وسوف تكون نبيا كاملا وسوف تعرف كل ما سوف يحصل. وعندما تعرف كل ما سيحصل ستكون قد حصلت عليه، لأنّ المستقبل المعروف تماما هو مثل الماضي ولذلك فانك سوف تتوقف طبعا عن اللعب لتبدأ لعبة جديدة لأنّ ما تبحث عنه هو المفاجأة..”

ألان. و. واتس- الميثولوجيا الغربية انحلالها وتحولها- كتاب: (الأساطير والأحلام والدين) .

مع اندلاع المظاهرات الشعبية في الريف التونسي أواخر العام 2010 ووصولها للعاصمة تونس.. مرددة شعارات مدنية تحررية تريد إسقاط النظام، ثم رحيل الرئيس التونسي عن البلاد لعجزه عن مواجهة الثورة، انتشرت المظاهرات في البلدان العربية على التوالي..مصر، ليبيا ،اليمن وسوريا ..فيما عرف بالربيع العربي مما يثبت في العمق وجود تيار شعوري بوحدة الشعوب العربية بعد عقود من الممارسات القطرية وتقوية الحركات الدينية لإحباط نزعة القومية العربية. وانتقال الثورة إلى ميدان التحرير في مصر وإسقاط مبارك رسخ الطابع السلمي وأعطى للربيع العربي بعده العالمي كما لو أن عقودا من تعويم الظاهرة الأصولية لم تكن سوى ممارسات على سطح السياسة في العالم العربي، في زخم سلمي يعيد للذاكرة بدايات الثورة الإيرانية قبل ثلاثين عاما..قبل أن تتحول الثورة الإيرانية نفسها إلى جمهورية إسلامية . لكن في الوقت نفسه، وبالإضافة للاختلافات الطبيعية بين الدول العربية المجزئة فان اقل قليلا من نصف قرن على استقرارها، رسخت الأنظمة العربية فروقات ظهرت مع تفاوت التداعيات السلبية للثورات..فبينما أعقب إسقاط القذافي بالقوة انتشار العنف على يد فصائل معدودة دمرت أجزاء من ليبيا، انتشرت في سوريا فصائل عسكرية وإسلامية لا تعد ولا تحصى  ألحقت الخراب في كل مكان، وخاصة الخراب المعنوي وتشتيت (هوية) الشعب السوري دون أن تسقط النظام، واندلعت حرب أهلية في اليمن بعد إخراج الرئيس اليمني من السلطة نتيجة عام من المظاهرات السلمية، وعودته بالتحالف مع الحوثيين لشن حرب تدخلت فيها السعودية عسكريا. وبعد ممارسة ديمقراطية أوصلت الإخوان المسلمين للسلطة في مصر وإخراجهم بانقلاب عسكري أعاد نظاما ديكتاتوريا أكثر سوءا من نظام مبارك. ووحدها تونس التي تمثلت هزيمة الثورة فيها بتراجع منظم عن وصول الإسلاميين للسلطة وانتخاب عنصر من عناصر الدولة العميقة التي تم إسقاطها، مما أوحى انه لم يكن من قبيل الصدفة أن الربيع العربي انطلق من تونس وان تونس وحدها كانت ناضجة للثورة فكانت وحدها ناضجة لعقلنة فشلها الثوري دون الانزلاق الى حرب أهلية ولا إلى هشاشة مبتذلة كالتي سادت مصر وأظهرت هيئات النظام والمعارضة فارغتين من المحتوى السياسي. وبذلك تعود للأذهان مقولة بعض المراقبين إن فشل الثورات العربية ناجم في الأساس أنها لم تكن سوى انتفاضات منذ البداية ولم تكن ثورات ومن الطبيعي أنها لا تملك إمكانية حقيقية لإزاحة الأنظمة وإقامة أنظمة جديدة وإنها لم تقم إلا بالتقاط (إشارة) الثورة الصادرة من تونس دون أن تكون الإشارة بديلا عن إمكانية (مفتقدة) لنجاح الثورة في البلدان العربية..وان وحدة الشعور لدى الشعوب العربية لا تغني شيئا عن فروقات عمرها نصف قرن من تجزئة وقمع المجتمعات العربية.

ومع مرور سنوات خمس على الربيع العربي فقد رافق الإحباط من دوران الثورات حول نفسها أو حتى فشل الثورات، إحساس فاجع بغياب المثقفين عن لعب أي دور من الأدوار المنوطة بهم في التأطير أو القيادة أو حتى مجرد التنظير لأحداث تتعلق بمصير المجتمعات العربية. فمع تحول الأمل الذي بعثته الثورة في تونس ثم في (ميدان التحرير) في مصر إلى يأس لا يعرف الناس إلى أين سيفضي بهم،غاب الخطاب الثقافي عند المثقفين، ماعدا ترداد ما يقوله إعلام لم يعد يقول شيئا سوى الإخبار عن الأحداث التي لا تبين فيها ماهية السياسة التي تجرى وفقها. وصار كلام المثقفين بدوره وجها آخر للإعلام الذي لم يكن في يوم من الأيام وجها آخر للسياسة أكثر مما هو اليوم.. لذلك فإن مجرد الاستماع إلى (تشومسكي) ردا على سؤال عما يسمى بـ(داعش)، تطرق أذن المستمع كلمات على بداهتها صار المتلقي لا يسمعها إلا نادرا ، يقول (تشومسكي): “إذا كنا نريد أن نحارب داعش، وهي مسخ والكل ضدها فعلينا أولا وقبل كل شيء أن نعرف من أين أتت ومن هي؟”..فلم يقبل تشومسكي الفرضية التي دأب عليها (المحللون) والمثقفون.. القائلة أنه يجب البحث في الإسلام لفهم (داعش) الإسلامية وكفى. فالمستشرقون الجدد، ناهيك عن كثير من المستشرقين الكلاسيكيين طبقوا مناهج علم التاريخ والاجتماع والانثروبولوجيا وعلم الأديان على دراساتهم حول اليهودية والمسيحية دون أن يعكر صفو عملهم ظهور (إسرائيل) كامتداد أسطوري أو خرافي للتاريخ اليهودي أو كاستعمار حديث ولا الظواهر العنصرية المسيحية الحديثة..لكنهم ارتضوا دراسة الإسلام دون تطبيق أيّ من المناهج التاريخية المذكورة عندما تعلق الأمر بالأصولية الإسلامية واعتبروها امتدادا، مجرد امتداد خطي للإسلام التاريخي نفسه، مستشهدين بخطاب الأصوليين بدل إخضاعه للدراسة والتفكيك. وهكذا..بينما قالت اليهودية إن (يهوه..هو يهوه) دون ان يكون واضحا ان كان (يهوه) رب الناس ام رب اليهود..فقط، وقالت المسيحية إن (المسيح هو الله) وقال الإسلام إن (الله..هو الله) فإن المحللين والمعلقين الغربيين يقولون: (إن الإسلام هو..الإسلام) وردد المثقفون العرب والمسلمون من ورائهم القول التبسيطي ذاته. يقول (محمد أركون):” والشيء الذي يدهشني عندما أقرأ الكتب الصادرة في الغرب حول الأصولية الإسلامية هو فقرها النظري والابستمولوجي المريع. فهي تتحدث بشكل ممل ومكرور عن نفس الشيء أي: الإسلام الاقنومي المسؤول عن كل شيء يحصل في المجتمعات التي انتشر فيها هذا الدين.”  لذلك كان من السهل على وسائل الإعلام تصوير الانزلاق إلى أسلمة الربيع العربي والتي كانت بمثابة اغتيال معنوي لآخر محاولة انعتاق للشعوب العربية على انه تطور (طبيعي) تم بسلاسة تفوق سلاسة الانزلاق إلى عسكرتها، أو أن السقطتين تمتا بالسهولة الطبيعية نفسها ولذلك فهي قابلة للتصديق تماما دون الإلحاح على التساؤل المشكك: (كيف حدث هذا؟ ومن أين جاء؟ ومن يمكن أن يكون وراؤه؟) إذا سلكنا سلوك تشومسكي في التساؤل الكاشف والذي لم يسلكه المثقفون ، مما ألقى غطاء على عملية الاغتيال الجسدي للربيع العربي بعد المعنوي. ولو كان لابد للمثقفين العرب والمسلمين من تقليد المفكرين الغربيين فقد كان عليهم أن يقلدوا (عمل) المستشرقين وما جلبوه للبحث المعا صر بعد قرون من النضال الفكري والتنوير وتوسعهم بالبحث التاريخي في الظواهر المتعالية على التاريخ، وإخضاعهم اليهودية والمسيحية للمناهج التاريخية الموسعة، بان يقوموا بتطبيقها على الظاهرة الإسلامية؛ أي كان عليهم تقليد (العمل ) الذي قام به الباحثون الأوروبيون..لا أن يقوموا بتقليد (عدم العمل).. أي عدم إخضاع الظاهرة الإسلامية للمنهج التاريخي وعلم الاجتماع مثلما استبعد الغربيون (الإسلام) من دراساتهم عن اليهودية والمسيحية، ولم يبق سوى تلقّي الظواهر كما لو أنها ماهيات، حين يتعلق الأمر بالإسلام فقط ، بحجة واقعيتها الزائفة التي يوثقها الإعلام. ولطالما كانت صورة العالمين العربي والإسلامي صورة استاتيكية جامدة في الاستشراق الكلاسيكي رغم عمقها اللغوي ودقتها التأريخية، وفي فترة ما بعد الاستقلال ظهر مدى تصلب هذه النواة في الصورة الاستشراقية عن مجتمعات غير متحركة لا يمكن أن يكون مستقبلها غير نسخة عن ماضيها، حين أصبح حاضر العرب والمسلمين آنذاك حافلا بشتى الاحتمالات الجديدة إلى درجة ثورية على عكس تاريخهم الأبدي المفترض ولم يكن العرب والإسلام سوى جزء من خيارات العالم الثالث كله مما طبع بطابعه عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية برمته. لكن الاستشراق الكلاسيكي بمعظمه تجاهل ذلك الحاضر. وعلى الرغم أن (علم ) الاستشراق الكلاسيكي لم يكن يوما ضحلاً أو سطحياً لكنه إما انه انخرط في موضوع دراسته بصورة غير حيادية، مما سلب عنه مزاعمه العلمية، وهذا لب نقد إدوارد سعيد في كتابه المشهور”الاستشراق” أو إن المستشرقين  كانوا محايدين تجاه الموضوع نفسه عندما كان عليهم أن ينخرطوا بالتعليق على وضع الإسلام وليس وصفه كشيء جامد..وهذا عنصر من عناصر النقد الملحاح الذي يوجهه (محمد أركون) للمستشرقين التقليديين..نقول..مثلما كان الاستشراق مناسبة عظيمة كشفت اهتمام الغرب الأوروبي بالشرق لدرجة التورط..وذلك من اجل مصالحه الخاصة ومن ضمنها الاستعمار الأوروبي وليس بحسب المصلحة المفترضة للعلم، كذلك يجب أن يكون تورط الاستشراق الجديد فرصة لا تقل خطورة للدلالة على انهماك سياسة الغرب الثقافية بالوضعية الحالية للمجتمعات العربية والإسلامية مع زعم المستشرقين الجدد تصحيح خطأ المستشرقين القدماء الذين كانوا حياديين إزاء حاضر المجتمعات الإسلامية بان ينخرطوا هم إلى جانب العرب والمسلمين مع حركية المجتمعات الجديدة ..ولكن.. ما هو الشيء الذي وقف الاستشراق الكلاسيكي نحوه موقفا حياديا، وفي أي شيء انخرط المستشرقون الجدد؟ ما حدث هو ان ما تجاهله الاستشراق الكلاسيكي كان حراك وحيوية المجتمعات العربية والإسلامية بعد الاستقلال، والتحولات الفكرية والاجتماعية والنضالية التي اخترقت المجتمعات العربية الإسلامية كلها تقريبا..لأنّها كانت اتجاهات تحررية من الاستعمار الأوروبي ومن التاريخ التقليدي الخاص بها وسادتها النزعات القومية واليسارية، هذه الاتجاهات التي، على اية حال، هزمت في مواجهة الاستعمار الحديث هزائم متفاوتة وضاعت في مسارات الحرب الباردة بين الشيوعية والرأسمالية بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية التي قادت (الثورة المضادة) لإيقاف انتصارات الشعوب خارج أوروبا. وهي نفسها الحقبة التي تجاهلها الاستشراق الجديد فقد كانت حقبة السبعينات مرحلة فاصلة سادها (الوفاق الدولي) بين القطبين الأعظمين..على حساب الاشتراكية العالمية..ثم على حساب العالم الثالث الذي استفردت السياسة الأمريكية بتحطيم مشاريعه الوطنية بمختلف الوسائل السياسية والاقتصادية والإيديولوجية.. في هذه اللحظة حين جنحت المجتمعات العربية للجمود بنتيجة الهزائم والفشل ورسوخ الأنظمة العربية انخرط المستشرقون الجدد بالكتابة حول ما أسموه يقظة المجتمعات الإسلامية باعتبارها مجتمعات متحركة لا جامدة واعترفوا بمشروعية رفض الاستغلال الغربي حتى من خلال خطاب ديني والسعي لإقامة دول دينية إسلامية طالما أن هذا هو النزوع (الحقيقي) (؟) لشعوب تعتبر الإسلام وليس الحداثة الغربية هو مشروعها المعاصر. وعلى العكس من ذلك يقول (سيرج لاتوش) في كتاب (تغريب العالم): “ان حركات الهوية التي تمثل الاصولية الإسلامية نموذجها الراهن، أكثر تعقيدا، لأنّها تخفي التوجه البراهما ني في الهند والنزعات المتزمتة حتى في قارة أوروبا العجوز. والجماهير العربية المتعصبة التي يجذبها الأخوان المسلمون والحركات الشيعية اليوم، كانت ناصرية وبعثية قبل عشرين سنة، أي إنها آمنت بنوع من التآلف بين الحداثة والتاريخ الإسلامي، “، أي إن الاستشراق الجديد أكد مقولة الاستشراق الكلاسيكي حول مجتمعات لا تنتج الا تاريخها في الوقت الذي يزعم انه ينتقد الاستشراق الكلاسيكي  ويتعاطف مع الشعوب العربية والإسلامية. وإذا كان المستشرقون القدماء حجة في دراساتهم اللغوية والتاريخية التي أفادت الثقافة العربية والإسلامية لأنّهم كانوا رغم كل شيء بحاثة مجدون ألفوا دراسات معمقة عن التراث العربي والإسلامي فان سمة كتابات المستشرقين الجدد كانت السطحية والضحالة، مما تناسب مع وسائل الإعلام التي كانت تنقل أحداث العالم الإسلامي دون تعمق، مع الكثير من الإثارة. في هذه الأثناء بالذات، عام 1978، بينما اصدر ادوارد سعيد كتابه المدوي (الاستشراق) بالانكليزية..وثار جدال مستمر حول تفكيك الاستشراق الكلاسيكي، كان العالم العربي يشهد شعار (الصحوة الإسلامية)..الذي تعزز حين انتصرت الثورة في إيران فسقط نظام الشاه..وحل الخميني مكانه. وأخذت وسائل الإعلام تقدم المستشرقين الجدد كمحللين ومفسرين من خلال خطاب شعبوي لا يتناقض مع سطحية التغطية الإعلامية. وبينما كان المثقفون العرب والمسلمون متشككين بالاستشراق الكلاسيكي وشعروا انه ربما كان متواطئا مع الحقبة الاستعمارية فان العديد من المثقفين العرب والمسلمين اليوم، يتعاطون مع تحليلات المستشرقين الجدد وملاحظاتهم على أنها ثقة في الموضوع رغم لا تاريخيتها المموهة والخادعة، والمثقفون يسهمون في تعرضهم للخدعة تعبيرا عن انفصالهم عن المنعطف التاريخي الذي تمر به مجتمعاتهم بينما عدم تعمق الأوروبيين في جذور وأسباب الظاهرة الإسلامية له (وظيفة) اجتماعية مزدوجة: مع الاستشراق الكلاسيكي ومع العولمة الغربية الجديدة. لذا لا بد من الحديث عن الربيع العربي في سياقه.. فليست الواقعية هي محض ما يحدث في ارض الواقع دون الاهتمام بما وراءه إلا بالنسبة للإعلام أما بالنسبة للمثقفين الذين يفترض بهم أن يكونوا الوجه الآخر لمجتمعاتهم ولأهدافها الحقيقية، وليس وجها آخر للإعلام – الذي هو وجه آخر للسياسة – في ما يشبه متاهة لا يُعرف فيها الوجه من القناع ، فهو يجعل للمثقفين دورا خطرا. ” فإذا كانت فعالية الإنسان الفكرية – يقول ميشال بريجان – ليست سوى البنية الفوقية الهشة لظاهرة تنتمي إلى الطبيعة الاجتماعية لا إلى الطبيعة العقلية فقط، فانه لا يعود هناك دلالة للفكرة إلا من خلال قابليتها للتوصيل ولاجتياز الخطاب البشري” ودون وضع الأحداث في سياقها الاجتماعي والتاريخي، يجعل كل ما يدور حولنا سلسلة من المعجزات أو الكوارث غير القابلة للتفسير أو الفهم في الحالين..

المصدر: http://alawan.org/2016/10/04/%D8%A7%D9%84%D9%88%D8%AC%D9%88%D9%87-%D9%88...

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك