الحماية من الأشرار.. وظلم الأبرياء!

معركة الرئيس الأميركي ترامب مع القضاء والمحامين والمنظمات الحقوقية في بلاده حول قرار حظر دخول مواطني سبع دول ذات أغلبية مسلمة أبرزت قوة مؤسسات الدولة ورسوخ القواعد الأساسية التي تقوم عليها، فلا تداخل في الاختصاص ولا تبادل في المواقع ولا اعتداء على المهام، الجميع يؤدي «واجباته» ويخضع لسلطة القانون في إطار القواعد العامة للدستور، وحين وقف القضاء في وجه القرار وعلق تطبيقه امتثلت الأجهزة التنفيذية ولجأت وزارة العدل إلى المحكمة طالبة إلغاء تعليق قرار الرئيس، لكن محكمة الاستئناف الفيديرالية رفضت الطلب فما كان من وزارة الخارجية إلا الامتثال لأمر القضاء والشروع في قبول اللاجئين، وأصدرت تعليماتها إلى المنظمات الدولية «بإعادة الحجز للاجئين من كل الجنسيات بما في ذلك السوريون الذين كان من المقرر أن يصلوا منذ توقيع أمر الحظر».

 

 

هذا «المشهد القانوني» كان موضع إعجاب وتقدير حتى الذين تضرروا منه، فهو صورة يفتقدونها في الكثير من دول العالم، بحيث «تختلط» الأسباب بالوسائل وترتفع لافتات حق للوصول بها إلى باطل، لكن الإعجاب بالمشهد، الذي تحول إلى «معركة قانونية» لا يخفي حجم المأساة التي تتعرض لها الغالبية البريئة نتيجة الرغبة في مواجهة القلة الشريرة التي تقلق العالم وتحرمه السكينة والشعور بالأمن والاستقرار. ونذكر بأن قرار الرئيس دونالد ترامب، الذي آثار كل هذا الضجيج وشغل العالم: يحظر دخول المواطنين من دول ذات أغلبية مسلمة (إيران، سورية، العراق، ليبيا، السودان، اليمن، الصومال) ويعلق برنامج الولايات المتحدة لاستقبال اللاجئين لمدة أربعة أشهر (120 يوماً)، ويحدد عدد المسموح باستقبالهم خلال هذا العام 50 ألفاً (كان أوباما سمح بـ110 آلاف)، ويحظر دخول اللاجئين السوريين لأجل غير مسمى، ويعطي القرار الأولوية للأقليات الدينية التي تواجه اضطهاداً في أوطانها، وفي مقابلة تلفزيونية قال ترامب إن الأولوية في طلبات اللجوء إلى الولايات المتحدة التي يقدمها السوريون ستكون للمسيحيين منهم.

 

 

قدر لي أن أشاهد على الطبيعة آثار «ردود الأفعال» على القرار في بعض المطارات والأسواق والفنادق ولقاءات المهتمين بالقضايا العامة.. شركات الطيران فاجأها القرار وبدا موظفوها في حال من الحرج والارتباك في المطارات، كنت مغادراً مطار هيثرو في لندن صباح الأحد 29 كانون الثاني (يناير) في طريقي إلى مطار دالاس بواشنطن، وحين وصلت مكان سحب بطاقة الصعود إلى الطائرة أبرزت للموظفة جواز سفري فإذا بها تسحب ورقة أمامها، بحركة سريعة لتقرأ ما فيها فضحكت وقلت لها: لست من الأشرار، فتبسمت، وهذا جهد كبير من إنكليزية تؤدي واجباً رسمياً، وقالت: معذرة القرار مفاجئ للجميع وأنا لم أسمع به إلا قبل قليل حين سلمني رئيسي هذه الورقة لمطابقة جوازات المسافرين، فنحن لا نريد أن نغامر بتحمل مسؤولية إعادة ركابنا من المطارات الأميركية. وحال هذه الموظفة تعكس انشغال الناس في بريطانيا وأميركا، بمختلف أعمارهم وجنسياتهم، بهذا القرار في الفنادق والمطاعم ومحطات القطارات، الكل يتابع الأخبار والمناقشات على القنوات التلفزيونية ويعبر عن رأيه بمختلف الأساليب، البعض يبتسم والآخر يقطب والبعض يهز رأسه بحركة، لا تعرف هل هي استخفاف أم استهزاء أم حنق وغضب؟ وسمعت، خلال ثلاثة أيام قضيتها في واشنطن، قصصاً إنسانية حزينة يخشى أصحابها من «تشتت أسري» بعد صبر ومثابرة سنين عدة نجحوا في حصول بعضهم على الجنسية ولم يبق للبعض إلا القليل، والبعض يخاف من منع عودة الزوجة والأبناء الذين ذهبوا في إجازة للوطن وهناك من يفكر في أن يفرض على نفسه وعائلته «إقامة جبرية» خشية السفر والوقوع تحت طائلة القرار وحتى لا يفقد مسوغات البقاء في أرض «الأحلام»، وهناك خوف حقيقي في الدوائر العدلية ووسائل الإعلام والهيئات الحقوقية من تداعيات هذا القرار، وإمكان توسعه ليشمل رعايا دول أخرى إذا لم «تحاصره» القوانين.

 

 

والسؤال المحوري الذي يشغل ساعات البث في القنوات التلفزيونية الإخبارية ويثير ضجيج الاختلافات هو: هل القرار يستند إلى قاعدة قانونية تحميه من موجة المعارضة التي تواجهه؟ ولأن الولايات المتحدة تحكمها مؤسسات الدولة في إطار الدستور، فإن المعركة بدت قانونية بامتياز، وشرعت «الأسلحة القانونية» تخرج في ساحة المعركة، فالرافضون يستدعون قانون الهجرة الصادر من الكونغرس في 1965 الذي ينص على أنه «يحظر التمييز ضد أي شخص عند إصدار تأشيرة هجرة بسبب العرق أو الجنس أو الجنسية أو مكان الميلاد أو محل الإقامة»، لكن هذا النص القانوني الذي يتسلح به المقاومون للقرار تواجهه ترسانة أخرى من القوانين والسوابق تدعم حق الرئيس في إصدار مثل هذه القرارات ويستشهدون بما حصل بعد أحداث الـ11 من أيلول (سبتمبر) وقدرة الإدارة على اتخاذ الإجراءات «القانونية» لحماية الأمن القومي ويستدعون قانون «الأجانب غير المقبولين» الصادر في 1952 وينص على «تعليق دخول أي فئة من الأجانب» يجد الرئيس أنها تضر بمصالح الولايات المتحدة ويذكرون بقرار الرئيس الأميركي جيمي كارتر الذي منع دخول الإيرانيين في 1982.

 

 

وعلى رغم أن المعركة المعلنة قانونية وتتسع ساحتها ويتكاثر المتعاركون في ميدانها، إلا أن السياسيين دخلوها لتصفية الحسابات بأدوات القانون، إذ وصف بعض الديموقراطيين القرار بأنه «تمييز ديني وعنصري»، وأن سخرية الرئيس من القضاء تهدد بإدخال البلد في أزمة دستورية.

 

 

وإذا كان هذا القرار وما أثاره من جدال سياسي وقانوني وفر «تسلية» للبعض فإنه خلق واقعاً مريراً ومشاعر محزنة للكثيرين، فهو «مسلٍّ» للذين يتابعون الأخبار والتعليقات والحوارات من دون أن تمسهم آثاره السلبية، ومحزن جالب للتعاسة للذين يكتوون بناره، يقفون على أبواب المجهول وهم يرون «حصاد» السنين يتبخر وأمل النجاة يتلاشى، فهل تدرك الدولة الكبرى أن محاربة الأشرار القليلين لا تستوجب ظلم الأبرياء الكثيرين، وأن فكرة «الانعزال» لم تعد عملية في عصر رحلة الأفكار في شبكة التواصل؟

http://www.alhayat.com/Opinion/Mohammed-Almokhtar-Alfaal/20036828/%D8%A7...!

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك