ثلاثية الفشل - الخطأ الأميركي الكبير

فهد بن بخيت

 

يذكر الروائي القانوني والمحامي المتقاعد جون غريشام في روايته التخيلية الصادرة عام ٢٠٠٨م «الاستئناف - The Appeal» أحداثاً تلخص واقع جماعات الضغط في المجتمع الأميركي. وهي جماعات تمارس مهنة تشكل جزءًا رئيسياً من نسيج المجتمع الأميركي يجب تعلمه والتكيف معه والعمل وفق قواعده، وتُعنى جماعات الضغط بدراسة واقع الحال وحال الواقع وتكييف الظروف وتسخيرها للخروج بنتائج حسبما تم تعيين هذه الجماعات لاجله سواء على مستوى انتخابات بلدية أو قضائية أو حكام الولايات أو ممثلي الفيدرالية أو أعلى من ذلك.

تدور أحداث الرواية في ولاية ميسيسبي؛ وهي من ولايات الجنوب والتي دخل الفرد فيها يُعد الأقل على مستوى الولايات المتحدة الأميركية دون اهمال اعتبارها الولاية الأرخص من ناحية تكاليف المعيشة كذلك. ولعل موقع الأحداث هو لتصوير مدى تغلغل جماعات الضغط في المجتمع الأميركي حتى في أفقر الولايات، لكن الناتج القومي لهذه الولاية يعادل الناتج القومي لجمهورية السودان مع عدد سكان يعادل نحو الـ ٨٪ فقط من عدد سكان الجمهورية، وهذا يؤكد ضخامة الناتج القومي الأميركي وأهمية التأثير على متخذي القرار بشأنه على جميع الجبهات وعلى أقل المستويات صعوداً إلى قمة الهرم - لا العكس.

وتصور الرواية مصنعاً يشتبه بأنه سرب موادَّ كيميائية مسرطنة إلى مورد مياه شرب طبيعية أدت لوفاة العديد - منهم زوج وابن المدعية في دعوى قضائية والتي رفعت بدورها دعواها بالضرر ضد الشركة مطالبة بما مجموعه واحد وأربعون (٤١) مليون دولار لتعويضات مختلفة. وتكسب المدعية الحكم في الدرجة الأولى ليتحرك الملياردير خلف ملكية الشركة مسخراً قدراته لوأد هذه السابقة التي ستؤثر على قيمة أسهم شركته وقد تشكل محفزاً للغير للتحرك بمواجبهة شركته. من هنا يبدأ التخطيط بعيد المدى، تخطيط يؤتي ثماره بعد ما يربو العام وليس لأجل نتائج آنية أو ذات عمر محدود. وتحيز الفرص أظهر أن بعد درجة التقاضي الأولى هناك في نهاية المطاف وآخره المحكمة العليا في ولاية مسيسبي. وأحكام كل محكمة في الولايات المتحدة الأميركية تأتي بقواعد قانونية تعتبر سوابق قضائية تؤسس لأحكام القانون. وكل محكمة أعلى تؤسس لأحكام المحكمة الأدنى منها - أي أن المحكمة العليا هي الأهم. وفي ولاية مسيسبي مثل خمس عشرة ولاية أخرى يتم اختيار قضاة المحكمة عبر تصويت العامة وليست اختيار الساسة ولا الأحزاب.

لذلك بدأ الملياردير تركيز جهوده باحترافية لخدمة مصالح شركته ليس اليوم بل بعد نيف ولو خسر مرحلة في الطريق وذلك عبر جماعة ضغط متخصصة في تحوير مسارات الانتخابات القضائية فقط وبذلك تبدأ الحرب لأجل المقعد المتاح على طاولة المحكمة العليا، الحرب لمكافحة المرشحة الناجحة والمتألقة والأقوى لأنها ذات ميول لنصرة المستضعفين في مواجهة الشركات المتغلبة. وحرية هذه هي بتسخير الإمكانيات لإيجاد وتجهيز وتسخير أحد المحامين المتوسطين ممن ليس لديهم أي سوابق أو ميول سياسية، لكن يسهل تطويعه خلال المعركة الانتخابية من خلال جماعة الضغط ولضمان تشتيت المرشحة الأقوى تدخل جماعة الضغط مرشح ثالث مشتبه في سلوكياته وآدابه العامة - أي لا فرصة له. بالتالي تحتقر المرشحة كلا المنافسين وتستسهل الفوز فتخفف من وتيرة حملتها. خطة ليست فقط بعيدة المدى بل دقيقة ومحكمة أخذت حتى العامل النفسي للخصم.

إلاّ أن المرشح الثالث ينسحب تحت ضغط الحملة كما هو متوقع ومدروس ومخطط من قبل جماعة الضغط. وقوة الحملة الإعلامية لمرشح الشركة - دون أن يدري أنه مرشحها - في مواجهة استخفاف المرشحة الأقوى تجعل مرشح جماعة الضغط يفوز. ويبدأ هذا المرشح حملته الشعواء على كرسي المحكمة العليا بالتصويت من أصل تسعة قضاة كيفما اتسقت الظروف ليدخل في مواجهة ضميره وأسرته ومصالحه.

هكذا وبصورة استقرائية تلعب اللعبة في الولايات المتحدة الأميركية. هكذا يتحكم ساسة أميركا في شعبها. وتتحكم جماعات الضغط في ساستها. ويتحكم متخذو القرار الحقيقيون خلف الستار في جماعات الضغط.

خلال فترة رئاسة الرئيس ربما الأهم في التاريخ الحديث للولايات المتحدة الأميركية. كان الرئيس رونالد ريغان - والذي فاز لولايتين متتاليتين تعتبر حتى الآن آخر عصر ذهبي لرئيس جمهوري - يستأنس كثيراً برأي زوجته السيدة نانسي ريغان بشأن من يختارهم كوزراء له. وكانت بدورها السيدة نانسي تستأنس برأي حفنة قليلة جداً من أصدقائها المقربين جداً بشأن من أفضل الأسماء المرشحة لذلك منهم الأمير السفير بندر بن سلطان الذي أمضى عقدين ونيف من الزمان يلعب اللعبة الأميركية. ويمكن تلمس آثاره على ترشيح كل من جورج شلتز وزيراً للخارجية وروبرت مكفارلن مستشاراً للأمن القومي في عهد الرئيس ريغان. كذلك خلال فترة رئاسة الرئيسين الجمهوريين جورج بوش (الأب) وجورج دبليو بوش (الابن) كان جلياً في الصحافة الأميركية مدى التقارب وعمق الصداقة بين الأمير السفير وعائلة بوش ومدى تأثير الأمير السفير على الرئيسين وحلقاتهما.

 

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك