الإسلام السّياسي في الممارسة، نماذج من أقطار عربية

خالد غزال

 

(1)

تنتشر تيارات الإسلام السياسي في جميع البلدان العربية تقريبا، تتفاوت في انتماءاتها المذهبية بين بلد وآخر، وإن كانت الغلبة للمذهبين السني والشيعي. كما تتفاوت في قوتها السياسية ومدى انتشارها الشعبي، وموقعها داخل مؤسسات المجتمع، السياسية والمدنية والاقتصادية.. عرفت صعودًا خلال العقد الأخير ودقّ بعضها أبواب السلطة. ساهمت الانتفاضات العربية في نفخ الروح القوية لدى معظم هذه التيارات، ودغدغت لديها أحلام الاستيلاء على المجتمعات العربية تمهيدا لمشروع إعادة الخلافة إلى المسلمين. لم يعد الحديث عن تكهنات في سلوك الإسلام السياسي وتعبيراته،  عندما يتسنى له السيطرة في بلد ما، فالنماذج التي تمكنت في بعض البلدان العربية، وآخرها ما يسمى بدولة الإسلام في العراق والشام (داعش)، ومعها تيارات جهادية من قبيل “جبهة النصرة” وغيرها من التنظيمات غير معروفة العدد، هذه الممارسات تقطع بالوجهة التي سيرسو عليها الحكم في المجتمعات العربية، وعلى نمط الحياة المدنية التي ستفرضها هذه التنظيمات على أبناء هذه المجتمعات بقوة السيف والقتل والذبح الحلال باسم الإسلام والعودة إلى السنة النبوية وإعلاء شأن الأمة التي اعتبرت “خير أمة أخرجت للناس”.

تسلط الدراسة الضوء على نماذج من وصول بعض تيارات الإسلام السياسي إلى السلطة، وكيفية ممارستها في كل بلد. سيجري التطرق إلى بلدان مصر، تونس، ليبيا، اليمن، سوريا، وهي البلدان التي شهدت انتفاضات في السنوات الأخيرة. كما سيتطرق الى فلسطين خصوصاً حركة حماس، وحزب الله في لبنان، والجزائر، والسودان بوصفه من النماذج الأولى التي دقت فيها هذه التيارات باب السلطة. لاينفي الاقتصار على هذه النماذج التقليل من أهمية سائر التيارات في الأقطار العربية الأخرى. لكنّ هذه النماذج، بل بعضها يمكن ان يختصر الصورة العام لممارسة الإسلام السياسي في الوطن العربي.

1 ــ مصر

تحتل مصر الموقع الأهم في قراءة الإسلام السياسي، نظرية وممارسة، بالنظر إلى نشاة حركة الإخوان المسلمين فيها، وهي الحركة الأم لسائر التيارات الإسلامية، سواء ما يطلق عليها معتدلة أم متطرفة. وإذا كانت التيارات الإسلامية قد شهدت ذروة قوتها في الأعوام الاخيرة، فإنّ هذه القوة تعود بجذورها إلى ترسخ هذا التنظيم في المجتمع المصري على امتداد ثمانية عقود. منذ الأيام الأولى لإعلان التنظيم على يد مؤسسه حسن البنا، ظلت شعاراته القليلة لكن المعبرة تحكم مساره حتى اليوم، وأهمها : الإسلام هو الحل، الإسلام دين ودولة ومصحف وسيف، الهدف النهائي هو إعادة الخلافة الراشدية إلى المسلمين بعد أن أنهاها مصطفى كمال في تركيا.

إلى جانب الإخوان المسلمين، نشأت تيارات سياسية أهمها الحركة السلفية والحركات الجهادية، والطرق الصوفية، إضافة إلى المؤسسة الدينية المتمثلة  بالأزهر، وهي تيارات يجمعها قاسم مشترك هو تطبيق الشريعة الإسلامية. كان ظهور التيار السلفي بقيادة “حزب النور” والتبريرات الفقهية والأيديولوجية لمشاركته في الحياة السياسية، مفاجئاً. يشير الكاتب المصري خليل العناني إلى هذه التيارات السلفية بالقول :”إنّ الانطلاق السلفي إلى الفضاء العام لم تحده المقولات الثيولوجية والأيديولوجية لشيوخ التيار وقادته، بل على العكس حاول هؤلاء إيجاد تبرير فقهي للنشاط السياسي للسلفيين : لم تعد الأحزاب مصدر شرك كما كان يقال، ولم تعد البرلمانات “مجالس كفرية” كما كان كثيرون من رموز الدعوة السلفية يكررون، كما يعد التواصل والتحالف مع قوى ليبرالية وعلمانية مخالفة دينية” (  خليل العناني، التيارات السلفية في مصر : تفاعلات الدين والأيديولوجيا والسياسة، من كتاب جماعي : الإسلاميون ونظام الحكم الديمقراطي –اتجاهات وتجارب، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، بيروت، 2013، ص 145).

اكتسبت التيارات الإسلامية موقعاً مهماً داخل المجتمع نجم عن عدة عوامل، لعل أهمها سعي هذه التيارات إلى الاندماج بالحياة اليومية للمصريين وتقديم نفسها المطالبة بالعدالة الاجتماعية ومحاربة الفساد، والمناهضة للإستبداد، والمعبرة عن اهتمامات الناس، وهو ما مكنها من أن يكون لها موقع هام في المؤسسات الاجتماعية والمدنية، وتقديم أعمال خيرية وخدمات للمواطنين. كما أفادت من  سياسة الدولة المزدوجة تجاهها: أباحت الدولة لهذه التيارات نشر ثقافتها الدينية في اوساط الشعب، واستخدمها بعض الحكام خصوصاً أنور السادات ودعم موقعها في مناهضته التيارات المعارضة لحكمه، في المقابل مارست السياسات الرسمية اضطهادًا لها في مراحل معينة، مما أكسب قوى هذه التيارات احتضاناً شعبياً كونها تتعرض للقمع. لكنّ الأهم من كل ذلك هو قدرة هذه التيارات، لا سيما الإخوان المسلمين على بناء شبكة تنظيمية قوية مكنتهم من التغلغل في مؤسسات الدولة.

عندما اندلعت الانتفاضة المصرية في 25 كانون الثاني / يناير من العام 2011، لم يكن “الإخوان” وسائر التيارات الإسلامية من مطلقي الانتفاضة أو من مؤيديها في الأيام الأولى، بل إن بعضها قدم خطاباً مناهضا للثورة ومطالباً بطاعة الحاكم. “لم يتبنّ الإخوان المسلمون شعار “الشعب يريد إسقاط النظام” إلا بعد أسبوع على اندلاع الثورة. كانت التيارات السلفية أكثر التيارات الإسلامية معارضة لثورة 25 يناير، وكانت هذه المعارضة جزءًا من فكرها الذي يرفض أي خروج على الحاكم.. بالنسبة للصوفيين، عارضوا صراحة ثورة 25 يناير، ولم يشاركوا في أي من تجلياتها باستثناء بعض شباب الصوفية.. شيخ الأزهر أحمد الطيب عارض الثورة يوم 25 يناير ودعا المتظاهرين إلى الانصراف من ميدان التحرير، وأكد أنّ تواصل التظاهرات حرام شرعاً، كما أنها دعوة إلى الفوضى.. المفتي علي جمعة اعتبر التظاهرات فتنة وخروجاً على الشرعية، ,من ثم فهي “حرام، حرام، حرام”( محمد السيد سليم، الأداء السياسي للتيارات الإسلامية في مصر منذ 25 يناير، الإسلاميون ونظام الحكم الديمقراطي، ص 415 – 416 ). وفي الجمعة الأولى بعد تنحي مبارك، كان لافتا حضور الشيخ يوسف القرضاوي وإمامته بالمصلين، مع الإصرار على استبعاد الشباب الذي سبق لهم أن بادروا بإعلان الانتفاضة، وهي مقدمة لاختزال “الإخوان” للإنتفاضة بتيارهم وإقصاء سائر القوى الفاعلة.

لم يعد خافياً أنّ الإخوان المسلمين عقدوا صفقة مع المجلس العسكري الذي تولى السلطة بعد تنحي الرئيس حسني مبارك، وهي صفقة تقوم على تمكين “الإخوان” من الهيمنة على المؤسسات الدستورية، مقابل الرئاسة للعسكريتاريا. هذه الصفقة تمت بمباركة من الولايات المتحدة الأميركية، التي سبق لها وأجرت مفاوضات طويلة مع الإخوان المسلمين منذ العقد الأخير من القرن الماضي، استنادًا إلى نظرية أميركية ترى في الإسلام السياسي القوة الصاعدة في البلدان العربية على حساب الأنظمة القائمة. لذا كان التوجه الأميركي في الوقوف ودعم هذا الإسلام الذي وحده يوفر الأمان للمصالح الأميركية في نهب الموارد العربية وضمان أمن اسرائيل. أثبتت التطورات اللاحقة بعد إطاحة الإخوان المسلمين في مصر عمق هذه العلاقة وتواصل المراهنة الأميركية على هذا النمط من الإسلام.

تجلت ممارسة الإخوان المسلمين لسياستها وبرنامجها بعد الفترة التي دخلتها مصر في مرحلة العودة الى المؤسسات الدستورية. بدأ الإصرار على الانفراد بتقرير مستقبل مصر انطلاقاً من المقولات الفكرية للإسلام السياسي، بدأ ذلك عند الاستفتاء على التعديلات الدستورية التي كان “للإخوان” الغلبة في اللجنة التي اقترحت التعديلات وفق توجهاتهم ، فاعتبر “الاخوان” هذه الموافقة بأنها موافقة على تطبيق الشريعة الإسلامية، بكل ما يثيره الشعار من توافق مع الوجدان المصري. وشدد “الاخوان”، ومعهم التيارات السلفية، على أن كل انتقاد لهم ولممارستهم إنما هو هجوم على الدين الإسلامي نفسه، مختزلين هذا الدين ببرنامجهم السياسي.

خلافا لتعهداتهم وإعلاناتهم في المراحل الأولى من الانتفاضة، بأنهم يرفضون الدولة الدينية، ويسعون إلى إقامة دولة مدنية، والإعلان عن عدم رغبتهم بتقديم مرشحين للانتخابات في كل المحافظات، جاءت ممارساتهم مناقضة لهذه الاعلانات. شعر “الإخوان” أن بمكنتهم تحقيق أكثرية نيابية، فخاضوا الانتخابات بمرشحين منهم في كل أنحاء مصر. حقق “الإخوان” نجاحاً كاسحاً في البرلمان، وهو ما جعلهم يتراجعون عن تعهدهم بعدم تقديم مرشح لرئاسة الجمهورية، فخاضوا الانتخابات بمرشحهم محمد مرسي الذي نجح بشق النفس، على رغم تقارير كثيرة تشير إلى نجاح المرشح المنافس أحمد شفيق، لكن تهديد “الإخوان” بالثورة وإعلان العصيان دفع المجلس العسكري إلى إعلان فوز مرسي تجنبا لفوضى مسلحة كانت مصر ستدخل بها.

بعد استتباب السلطة “للإخوان” في أعقاب انتخابات الرئاسة، سيظهر الوجه الحقيقي لممارستهم الاستبدادية والمتخلفة في الآن نفسه، بمنطق إدارة الحكم والبلاد. استهل “الإخوان” سلطتهم بالانقلاب على المجلس العسكري الذي كانت له اليد الطولى في نجاحهم، وأقصوا التيارات السلفية التي شكلت العنصر المرجح لهم في انتخابات الرئاسة، وجرى التخلي عن التعهدات والسياسات التي وعدوا بها، والتي باتوا يرون فيها ما يناقض مصالحهم. واعتمدوا سياسة طائفية متطرفة قائمة عل التمييز بسبب الدين والجنس، خصوصا تجاه الأقباط، وتصنيفهم بأنهم رعايا لا مواطنين وعليهم دفع الجزية، فعمقوا الشقاق الطائفي في المجتمع. والأخطر من كل ذلك، هو كشف القناع عن هدفهم في تحويل مصر إلى دولة دينية، وتصريح رئيس الجمهورية بأنه سيبني الدولة الإسلامية على غرار الدولة الإسلامية الأولى التي جرى تأسيسها في المدينة زمن الرسول . وسعى “الإخوان” للهيمنة على مؤسسات الدولة الإدارية والتنفيذية وتسخيرها في خدمة مصالح التنظيم.

هذه السياسة الإقصائية والتعثر في إدارة الحكم والبلاد، أثارت منذ اليوم الأول ردود فعل شعبية ضد “الإخوان” وممارساتهم، فبديلاً عن سياسة الحوار، اعتمدوا سياسات ميليشوية سلطت بموجبها جماعاتها على القتل والضرب والتعذيب، وتجري ممارسة ذلك مع ترديد شعارات الله أكبر.. الجهاد في سبيل الله.. وبالروح والدم نفديك يا إسلام..هكذا كرس “الإخوان” مفهوما للشريعة قائماً على القمع والاضطهاد واحتكار السلطة في يد الحاكم، وكان من تجلياتها الإعلانات الدستورية للرئيس التي تحوله ديكتاتورًا مطلق السلطة أين منها سلطة الحكام السابقين. هذه السياسات شكلت عنصراً مسرّعاً في انكشاف الاخوان المسلمين، وتخلي أقسام واسعة من القوى السياسية والمدنية والعسكرية عنهم، بل بدا الشارع المصري بعد عام فقط على تولي مرسي للرئاسة أمام غضب شعبي وانتفاضة متجددة، أفاد منها المجلس العسكري للقيام بانقلاب مستندًا إلى المظاهرات الجماهيرية الواسعة التي قامت في 30 حزيران / يونيو مطالبة بإسقاط حكم “الإخوان”. يصف الكاتب المصري مصطفى اللباد تلك اللحظة بالقول :”اعتقدت “الجماعة بسذاجة، أنها أحكمت قبضتها على السلطة، على الرغم من أن الدكتور محمد مرسي لم يكن متحكماً في أعمدة السلطة : الجيش والشرطة وأجهزة الأمن والإعلام، تلك التي تشكل أركان السلطة في بلدان العالم الثالث. ومع تنكر الجماعة للقوى الثورية صاحبة المشروعية في الثورة، والحديث عن “غزوة الصناديق” و”الحكم الإسلامي” والتمكين للجماعة، كانت الهوة تتسع كثيرًا مع ملايين المصريين. وساهم سعي “الجماعة” نحو احتكار السلطة في ظهور تحالف موضوعي مؤقت بين الناقمين يضم القوى الثورية ومؤسسات الدولة وأجهزتها، وهو التحالف الذي لم يكن متصورًا من دون وجود “الإخوان المسلمين” إسمياً في السلطة” (مصطفى اللباد،الثورة المصرية : الرواية الأخرى، جريدة السفير، 10 – 6 – 2014).

بعد إسقاط حكم الاخوان المسلمين، وما تبعه من اعتقالات في صفوفهم، دخلت الحركة في منعطف جديد في ممارستها السياسية استأنفت فيها الأصل في النشأة، أي استخدام العنف بوسائله المختلفة : اغتيالات، تفجيرات لمقرات أمنية وعسكرية، هجوم على مقرات أجهزة الأمن، سيارات مفخخة تطال مدنيين، هجوم على الكنائس.. بحيث يبدو وكأن مشروعهم السياسي تحول مشروعاً انتحارياً بكل معنى الكلمة. عادت نظريات الجهاد تسيطر على فكر “الإخوان”، واستعاد سيد قطب موقعه المركزي في توجيه وإرشاد الحركة بكل ما يحمله من تطرف وعنف من أجل القضاء على “مجتمع الجاهلية” التي تعيش مصر في كنفه، وفقا لمنظومته الفكرية المشهورة.

لم يكن أحد يتوقع أن ينهار حكم “الإخوان” بهذه السرعة القياسية، لا شك أنهم المسؤول الأول عن هذا الانهيار، ومعه أوهامهم عن تحويل مصر إلى دولة ثيوقراطية على غرار الدولة الإيرانية، وتشكيل جيش من الحرس الثوري يقود المجتمع بالسيف والكرباج، ويستعيد زمناً غابرًا من التاريخ لا موقع له في حياتنا الحاضرة. إذا كان القمع المسلط اليوم على حركة “الإخوان” لن يلغي موقعهم في المجتمع، لأنّ هذا القمع الشديد سابقاً لم يمنع تغلغلهم في المجتمع المصري، إلا أن استعادة وزنهم السياسي بما يعيد إدخالهم في السياسة يبدو بعيدًا جدًا لسنوات مقبلة. كان أحد قادة “الإخوان” خيرت الشاطر قد صرح خلال الأزمة وقبل سقوط محمد مرسي، أنه إذا فقد “الإخوان” الحكم، فلن يستطيعوا استعادته قبل خمسين عاماً. قد تكون هذه من النبؤات الصحيحة التي تطال حركة الإخوان المسلمين.

 

2 ــ تونس

تعتبر حركة النهضة الإسلامية التيار الإسلامي السياسي الأبرز في تونس. تأسست رسمياً عام 1972، ولم يعترف بها كحزب رسمي زمن حكم زين العابدين بن علي، إلى أن تم الاعتراف بها في شهر آذار / مارس 2011، وذلك بعد نجاح الانتفاضة ورحيل بن علي. تشكل حالياً الطرف الرئيسي في الحكم، يتولى رئاستها اليوم راشد الغنوشي. في المراحل الأولى من تشكلها ، استلهمت أفكار سيد قطب وأبو الأعلى المودودي، وركزت في شعاراتها على إعادة الاعتبار للهوية العربية الإسلامية لتونس. لاحقاً، وفي حقبة المنفى، طورت الحركة منظومتها الفكرية والسياسية، فقدمت نفسها في وصفها تمثل الإسلام المعتدل المنفتح على العصر، ودعت إلى تأسيس دولة ديمقراطية، كما قالت بالمحافظة على الدولة المدنية وعدم الارتداد على التشريعات التي سبق أن وضعت زمن الرئيس الحبيب بورقيبة. من المهم رصد ممارسة الحركة خلال الانتفاضة التونسية، وبعد أن وصلت إلى الحكم، وذلك على الصعيدين النظري والعملي.

لم تكن حركة النهضة ومعها سائر التيارات الإسلامية، خصوصاً السلفية منها، المبادرة في إطلاق الانتفاضة التونسية، ولكنها انخرطت فيها بعد  النهوض الشعبي ونزول الناس إلى الشارع لإسقاط نظام بن علي. أتاحت الانتفاضة للحركة الخروج من العمل السري إلى العمل العلني، وفي بيانها الأول بعد نجاح الانتفاضة أشارت إلى “تجدد تمسكها بمبادئها المعلنة واحترامها للتنوع والحق في الإختلاف ورفضها للوصاية على الإسلام وتمسكها بالعمل المشترك على قاعدة النضال من أجل تحقيق الانتقال الديمقراطي وتجسيد مباديء الثورة وتحقيق مطالبها”بيان صادر عن حركة النهضة بتاريخ 1 آذار / مارس 2011 بتوقيع راشد الغنوجي).

على غرار حركة الإخوان المسلمين في مصر، بدت حركة النهضة ذات وجهين في التعبير عن نفسها، فخطابها النظري والسياسي قبل الثورة بدا كأنه للاستهلاك المحلي والخارجي ولكسب تأييد الجمهور التونسي، بما يعتبر أحد المحطات في الطريق إلى السلطة والتمكن منها. وبما أنها قد وصلت الى السلطة، فقد أظهرت وجهها الحقيقي، في وصفها تيارًا سياسياً ساعياً إلى حكم تونس وخلق دولة دينية، وإقصاء سائر التيارات المدنية وتشجيع التيارات الإرهابية وتغطية أعمالها ، ثم الارتداد عن كل المكاسب المدنية الموروثة.

عشية تسلمه رئاسة الحكومة صرح حمادي الجبالي الأمين العام لحركة النهضة عن الهدف الرئيسي للحركة وهو “إرساء معالم الخلافة الإسلامية الراشدة السادسة”. رأى كثيرون من القوى السياسية في هذا القول تصريحا بهدف إقامة دولة إسلامية دينية، بكل ما تعنيه من تقويض لقواعد الديمقراطية وإنهاء الحكم الجمهوري. وكان راشد الغنوشي قد صرح ب”أن الإسلام يملك القدرة على استيعاب الصيغة الديمقراطية وترشيدها في اتجاه أن يكون حكم الشعب مستضيئاً بالقانون الإلهي”( مصطفى القلعي، موقع الأوان، 11- 1- 2014 ). شكل هذا التصريح دعوة لإقامة دولة دينية بالمواربة، وذلك عندما يضع “القانون الإلهي” مرجعية للسلطة وللتشريعات الناظمة للحكم. في السياق نفسه، يشير الكاتب التونسي فريد العليبي إلى ازدواجية خطاب الحركة قائلاً :” تكرر حركة النهضة القول أنها ليست حزباً دينياً، مشددة على هويتها المدنية الوسطية، و لكن علامات كثيرة تبين أنها توظف الدين رئيسياً في خطاباتها السياسية ، و في أكثر من مرة تم الإمساك بها متلبسة باستعمال الجوامع للدعاية السياسية، من ذلك خطبة ألقاها راشد الغنوشي غداة عودته إلى تونس في جامع الزيتونة، و هو الجامع نفسه الذي أسبغ فيه إمامه عليه رضا الله مشبها إياه بالصحابة قبل أن ينقلب عليه و يبسط سيطرته علي هذه المؤسسة الدينية العريقة مدعيا أن الرسول زاره في منامه مطالبا إياه بعدم الاستقالة من تأدية هذه الوظيفة الدينية . وهى تعزف على أوتار عديدة في نفس الوقت، و تخصص للمقام الواحد أكثر من مقال، أي إنها تناور لكي تصل إلى مبتغاها، فالوسيلة لا أهمية لها أيا كانت طبيعتها، الا بقدر ما تكون مفيدة في الوصول إلى الغاية التي حددتها، و هي السيطرة على السلطة، و هذا ما ظلت تحلم به طيلة عقود. و ينتقي الغنوشي من الدين ما يحلو له، فهو، لتأكيد الارتباط بين الدين و السياسة و لعسكرة الأتباع يستشهد بالرسول الذي كان قائدا للجيوش و يضع جانبا قوله أنتم أولى بأمور دنياكم، و عندما تدعو الحاجة لتقديم تنازلات و يكون في منبر فكري و تحت الأضواء لا يستنكف من القول أن الصراع في تونس ليس عقائدياً بل هو صراع سياسي و أن “للإسلاميين و العلمانيين أرضية مشتركة للعمل”، فالمخاتلة تقتضى ذلك” (فريد العليبي، الديني والسياسي في الانتفاضة التونسية، موقع الأوان، 12 – 7 – 2014 )

شهدت تونس بعد نجاح الانتفاضة موجة إرهابية قادتها التيارات السلفية، ونجم عنها اغتيالات لبعض قادة المعارضة، وتهديدات بالاغتيال وإهدار الدم لعدد من المفكرين والكتاب والعاملين في وسائل الإعلام، تحت حجة الهرطقة والارتداد عن الإسلام وما شابه من اتهامات. أثيرت شبهات كثيرة حول احتضان حركة النهضة لهذه المجموعات وتغطية أعمالها. وفي سياق تجديد العمل التشريعي، سعت حركة النهضة إلى وضع مواد مقيّدة لحرية التفكير والرأي، وقاتلت لجعل الشريعة الإسلامية مصدر التشريع، ودعا زعماؤها لمراجعة “مجلة الأحوال الشخصية” من أجل الغاء النصوص الواردة فيها حول المساواة بين الرجل والمرأة وإبداله بمبدأ االتكامل، ودعوا إلى إلغاء النصوص التي تمنع تعدد الزوجات.. ناهيك بمجموعة اقتراحات بعضها “ملغوماً”، بما يؤدي إلى تكريس هيمنة دينية على البلاد. وعاشت تونس أزمة اضطراب في السلطة، عندما اندفعت حركة النهضة لتكريس توجهاتها في نصوص دستورية، بما وضع البلاد على شفير حرب أهلية، بالنظر إلى المعارضة السياسية والشعبية التي وقفت في وجه التشريعات المقترحة من حركة النهضة.

أمام الغليان الشعبي والسياسي الذي سببته ممارسات النهضة، وبعد أن أسقط الشعب المصري وقواه المسلحة حكم الإخوان المسلمين في مصر، تراجعت حركة النهضة عن اقتراحاتها وخضعت لمنطق القوى المدنية، وقبلت بما كان مستحيلاً في نظرها قبل الاضطرابات الداخلية والتحولات المصرية. لا شك أن العنصر الأساسي في تراجع حركة النهضة هو وجود قوى سياسية وشعبية في تونس كانت قادرة على إفشال “انقلاب” النهضة، وهي قوى تستند إلى منظمات مهنية ونقابية وسياسية موروثة وذات موقع متجذر داخل المجتمع التونسي. عبرت الكاتبة التونسية رجاء بن سلامة عن هذه الفترة من الصراع بالقول:”إن تراجع النهضة لم يكن نتيجة الوضع الإقليمي والدولي الذي تنبّه إلى خطر “الإخوان” بعد سنة من صعودهم إلى دفة السلطة فحسب، بل أن معطيات داخلية تونسية دفعت بتغيير عميق داخل الديناميكية السياسية التونسية.. فبعد الانتخابات، سارعت النهضة إلى طرح مشروعها الإسلاموي الخاص بها، وعرضه للنقاش في المجلس التأسيسي، وخاصة تعويض استحقاق المساواة بين الرجل والمرأة بالتكامل بينهما، والتضييق على حرية التعبير بدعوى حماية المقدسات، ثم مشروع إعادة الأوقاف..الخ، كل ذلك دفع بقطاع واسع من المجتمع المدني إلى التصدي لهذا المشروع الثيوقراطي، وكبح جماح النهضة وتنبيهها إلى وجود قوى ضغط قوية في تونس قادرة على الحد من الأريحية الإنتخابية التي ربحتها الحركة في الجولة الأولى” (رجاء بن سلامة، الإسلام السياسي حمى تؤرق جسد الحداثة العربية، موقع الأوان، 11- 6 – 2014 ).

المصدر: http://alawan.org/2016/07/19/%D8%A7%D9%84%D8%A5%D8%B3%D9%84%D8%A7%D9%85-...

(2)

3 ــ ليبيا

تعتبر ليبيا من أوائل البلدان العربية التي بدأ فيها نشر أفكار حركة الإخوان المسليمن. وكسائر المجتمعات العربية، تعددت التيارات الإسلامية في ليبيا، وظل أكثرها يعمل في السر بالنظر إلى موقف النظام الليبي الذي منعها من العمل ومارس القمع المادي ضدها. عشية الانتفاضة الليبية، كانت التيارات الإسلامية تضم : الجماعة الإسلامية المقاتلة التي اعتمدت خيار التغيير بقوة السلاح، حزب التحرير، جماعة التبليغ والدعوة، التيار السلفي، والإخوان المسلمون الذين أسسوا “حزب العدالة والبناء”، حيث شدد أحد قادة هذا الحزب محمد صالح الشلماني على أنه حزب مدني ذو مرجعية إسلامية يطمح أن يكون وسطياً منفتحاً على غيره، ويضيف قائلاً :”نحن نختلف عن حزب النهضة التونسي وحزب الحرية والعدالة في مصر. نحن في ليبيا قررنا أن نطلق مبادرة لحزب سياسي ديني لا علاقة له بالحركة الدينية الدعوية على غرار الكثير من الأحزاب الإسلامية العربية الأخرى”  .

يطرح سؤال حقيقي عن دور التيارات الإسلامية في الانتفاضة الليبية، ومدى تشابهه مع الدور الذي لعبته هذه التيارات في مصر وتونس مثلاً. انخرطت الأحزاب الإسلامية في الانتفاضة الليبية في مراحلها الأولى وحتى مقتل القذافي، وتفاوتت المشاركة وفقاً لقوة كل طرف ومدى اتصاله بالتجمعات القبلية والعشائرية السائدة في ليبيا. لا يمكن الحديث عن دور الجماعات الإسلامية في الانتفاضة من دون ربط هذا الدور بالموقف القطري، الذي شكل حاملة سياسية ومادية في التدخل بالانتفاضة وإزاحة قيادات أساسية قامت بالحراك، لصالح قيادات إسلامية اخرى، خصوصا تيار الإخوان المسلمين. وهو موقف ظل مستمرًا وشكل عنصرًا أساسياً في الصراع على السلطة الدائر حالياً في البلاد. في حديث لأحد قادة الانتفاضة محمود جبريل يقول :”أعتقد ان القطريين كانوا يثقون بمصطفى عبد الجليل أكثر من ثقتهم بي، أحسوا أنه متعاطف مع التيار الإسلامي، وهو كان أعلن أنه متعاطف مع الإخوان، وقال أنه لو قرر يوماً الانضمام إلى اي حزب، سينضم إلى حزب العدالة والبناء الذي يمثل الإخوان” (محمود جبريل : انحياز قطر للإسلام السياسي كان واضحاً منذ بداية الثورة الليبية، شبكة الأخبار الليبية، 10 – 2 – 2014 ).

من مفارقات الانتفاضة الليبية، وخلافاً لسائر الانتفاضات، كان التدخل العسكري الغربي بقيادة حلف الناتو حاسماً في نجاح الانتفاضة. وهو تدخل كمنت وراءه مصالح غربية في ثروات النفط الليبية القليلة الكلفة والعالية الجودة. صحيح أن الدول الغربية لم تقحم نفسها لاحقاً في الصراعات الداخلية على السلطة والنفوذ، إلا أنها حققت أهم أهدافها بالاستحواذ على حصتها من الثروات التبرولية، امتيازات لشركاتها  وانتاجا وتوزيعا.

المفارقة الليبية الاخرى تتمثل بمرحلة ما بعد نجاح الانتفاضة ودخول البلاد في فوضى الصراع على السلطة. في هذه المرحلة، سعى الإسلاميون المتعددو الأجنحة إلى فرض كل طرف لنفوذه لأخذ مواقع في السلطة. انحكم الصراع بالعنف الذي لجأت اليه التيارات الإسلامية والقبائل والعشائر التي تشكل قاعدة البنى المجتمعية في ليبيا. بدا أن الجماعات الإسلامية، التي تملك أكبر الكميات من السلاح، لا ترغب في قيام دولة ومؤسسات ولا بناء جيش وطني أو شرطة ليبية، على اعتبار أن هذه المؤسسات ستقلص من سلطتها ونفوذها. وعلى غرار ممارسات التيارات الإسلامية في مصر وتونس، سعت التيارات الاسلامية الليبية لوضع دستور يهدف إلى اقامة دولة دينية في ليبيا من خلال الإصرار على اعتبار الشريعة الإسلامية مرجع التشريعات والقوانين، والتراجع عن بعض المكتسبات المدنية التي كانت موجودة ، على محدوديتها، ومنها ما يتعلق بالمرأة، حيث كان من المثير للسخرية أن وزير العدل الذي بدا متحدثاً باسم الانتفاضة في أيامها الأولى، افتتح تصريحاته بأن الانتفاضة ستعيد تعدد الزوجات التي كان القذافي قد ألغاها.

4 ــ اليمن

ينتشر الإسلام السياسي في اليمن عبر تنظيمين رئيسيين هما التجمع اليمني للإصلاح وحركة الحوثيين، يضاف إليهم تنظيم القاعدة الذي يعمل بنشاط اليوم، ويدعو إلى تكريس الشريعة الإسلامية بالعنف المسلح. يعتبر التجمع اليمني للإصلاح الفرع المحلي لحركة الإخوان المسلمين، لكنه في الواقع أشبه بتنظيم يحوي داخله منوعات من الإخوان والوهابية والمصالح القبلية.. كان على علاقة وثيقة بالمملكة العربية السعودية. يدعو إلى التمسك بالإسلام عقيدة وشريعة، وبناء اقتصاد وطني نابع أيضاً من الشريعة الإسلامية. يلخص عمرو حمزاوي وناثان براون واقع وطبيعة التجمع اليمني بالقول :”يشترك التجمع اليمني للإصلاح مع الأحزاب والحركات الإسلامية الأخرى الناشطة في العالم العربي في بعض خصائصه الرئيسية، فهو على غرارهم، يمتلك أيديولوجية وبرنامجاً يستندان إلى المرجعية الديينة. كما أنه دأب على المشاركة في العمل الحزبي بهدف تحقيق إصلاحات دستورية وسياسية واقتصادية – اجتماعية. كذلك، بات التجمع تدريجياً ملتزماً بالإجراءات الديمقراطية سواء على المستوى الحزبي الداخلي أو أيضاً على نطاق السياسات اليمنية ككل. وبالتالي، هذه الخصائص المشتركة تبرر اعتبار التجمع حزباً إسلامياً. ومع ذلك يختلف التجمع عن معظم الإسلاميين العرب من جوانب عدة : فهو يجمع بين التأثيرات القبلية، وبين تأثيرات جماعة الإخوان المسلمين والمجموعات السلفية اليمنية. ومقارنة مع الإسلاميين في أماكن أخرى، أظهر التجمع درجة أعلى من الانقسامات الداخلية حول مسائل رئيسة، مثل علاقته بالنظام الحاكم، ومشاركة النساء في الحياة السياسية، وكيفية تفسير برنامج الحزب الإسلامي وترجمته إلى إجراءات سياسية” ( ناثان براون وعمرو حمزاوي، بين الدين والسياسة، الإسلاميون في البرلمانات العربية، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، ومركز كارنيغي للشرق الاوسط، بيروت، 2011، ص 226 – 227 ).

يشكل الحوثيون طرفاً أساسياً في اليمن، تطور نفوذهم في الأعوام الأخيرة عبر التدخل الإيراني والدعم المالي والتسليحي المقدم لهم. اسمهم الأصلي “حركة أنصار الله”، وهي حركة سياسية دينية مسلحة تتخذ من مدينة صعدة مركزًا  لها، عرفت “بالحوثيين” نسبة إلى مؤسسها حسين الحوثي الذي كان الأب الروحي للجماعة، والذي قضى على يد السلطات اليمنية عام 2004.  تنتمي الحركة، قيادة وأعضاء إلى المذهب الزيدي في الإسلام. الحركة متهمة من قبل السلطة اليمنية والمملكة العربية السعودية بأنها تابعة لإيران التي تتدخل في الجزيرة العربية وتمد نفوذها وتنشر مذهبها الشيعي من خلال احتواء تنظيمات لا تقف على نفس الإتجاه العقائدي مع المذهب السني أو الوهابي. اعتقلت السلطات اليمنية عددًا من الشبكات التي اتهمتها بالتجسس لإيران، وهي مجموعات تنتمي إلى الحركة الحوثية.

يمارس تنظيم القاعدة نشاطاً مسلحاً واسعاً داخل اليمن، ويحتل مناطق فيها، وهو على تداخل مع القبائل. انحسر دور التنظيم عند اندلاع الانتفاضة ونزول الجماهير إلى الشارع، لكنه عاد ليزدهر مع الأزمة السياسية التي تعيشها اليمن والصراع على السلطة فيها. وفرت الاضطرابات السياسية في اليمن فرصة ذهبية لتنظيم القاعدة لتوسيع أنشطته وتقوية شوكته.

تدرس الدكتور باسمة رو هذه الظاهرة وتأثير انشغال الحكومة المركزية بمواجهة التظاهرات وقمعها وكيف “سهّل لأفراد التنظيم السيطرة على المنشآت الحكومية، واستغلال معاناة السكان، وتصعيد الهجمات، لاسيما في جنوب اليمن وشرقه، خاصة محافظات أبين وشبوة ومأرب والجوف وحضرموت. وأصبحت اليمن واجهة جديدة وملاذاَ استراتيجياً آمناً للقاعدة بعد تراجع أنشطتها في العراق والمملكة العربية السعودية”. وجدير بالذكر أن نشاطات التنظيم تصاعدت بشكل ملحوظ عقب دمج الفرعين اليمني والسعودي من القاعدة في فرع واحد يدعى ” تنظيم قاعدة الجهاد في جزيرة العرب” في يناير/ كانون الثاني عام 2009.

وتضيف الكاتبة :”فبنية التنظيم وأيديولوجيته ساعدته على تخطي الأزمات التي أعقبت وفاة قادته البارزين. كما عزز عدم الاستقرار السياسي حضور التنظيم وتغلغله بين صفوف الساخطين على نظام الرئيس المخلوع علي عبدالله صالح. وشهدت فترة الربيع اليمني حرص التنظيم على كسب تعاطف الجمهور الثائر، حين أعلن المسؤل الشرعي لتنظيم القاعدة في جزيرة العرب، عادل بن عبد الله بن ثابت العباب في الثاني والعشرين من أبريل/ نيسان عام 2011 عن تأسيس “أنصار الشريعة” ( باسمة رو: القاعدة في اليمن.. حافة الخطر الدائمة، معهد العربية للدراسات والتدريب، 18 – 7- 2012 )

باستثناء تنظيم القاعدة، لعب الإسلاميون، على مختلف مشاربهم، دورًا مهماً في الانتفاضة اليمنية، وفي إسقاط علي عبد الله صالح. شاركوا في الحشود الجماهيرية وتصدوا لأجهزة السلطة، على رغم اتهامات توجه إلى التجمع اليمني بأنه كان يريد الحفاظ على النظام وإسقاط الرئيس فقط، وذلك نظرًا لتورط التجمع بفضائح فساد. لكن دور التجمع بدا واضحاً في المرحلة التي أعقبت إسقاط الرئيس، والعودة إلى المؤسسات الدستورية، حيث بدا التجمع ومعه الإخوان المسلمين عملياً أصحاب شهوة سلطة وإقصاء لسائر التيارات السياسية على غرار إخوانهم في مصر وتونس وليبيا. وبالنظر إلى اختلاط الصراع السياسي بالصراع القبلي، لم يكن للإخوان أن يحققوا ما سبق لغيرهم. أما الحوثيون، فاندفعوا إلى صراع مسلح مع التجمع ومع السلطة الجديدة، وأكسبوا صراعهم بعدًا طائفياً ومذهبياً بشكل صريح. يشير الكاتب اليمني عبد الوهاب قطران إلى طبيعة الصراع المندلع بالقول :”فالإخوان المسلمون وحزب الإصلاح، يمارسون سياسة الاقصاء والتفرد في الوزارات التي سيطروا عليها، وهي العدل والداخلية والتربية والتعليم والمالية والتخطيط والتعاون الدولي. وهم لديهم نهم وتعطش للسلطة والاستيلاء عليها، وقد وظفوا في تلك الوزارات الآلاف خارج معايير القانون. يمارسون الفساد المالي بشكل واضح ومكشوف” ( عبد الوهاب قطران : أسباب التفجر الوطني، من كتاب : غياب الرؤية الحضارية في الحراك الثوري العربي، تحرير وفاء صندي، منتدى المعارف، بيروت، 2014، ص 253- 252 ) ويضيف كاتب يمني آخر :”مشكلتنا مع “الإخوان” سواء في اليمن أو في مصر أو تونس وغيرها من بلدان الربيع العربي، أن الجماعة لا تقبل ولا تثق بمؤسسات الدولة القائمة، ولذلك تعمل على استبدالها بمؤسسات “الجماعة”وبكادر الجماعة، وبما يحول الدولة الى أداة من أدوات الجماعة” ( محمد المقالح : الاستحواذ على ثمار السلطة، غياب الرؤية الحضارية، المصدر نفسه، ص 264 )

 

5 ــ سوريا

يمثل الإخوان المسلمون التنظيم الأبرز داخل الإسلام السياسي في سوريا، حيث يعود بجذوره إلى الأربعينات من القرن الماضي. مارس عمله في مراحل متعددة بشكل علني، ثم عاد إلى العمل السري خصوصاً منذ الثمانينات بعد أن دخل في مواجهة مسلحة مع النظام البعثي، الذي استشرس في قتاله معهم، ولم يتورع عن تنفيذ مجازر جماعية وتدمير أحياء سكنية بكاملها على رؤوس ساكنيها، كان أبرزها مجازر حماة التي وصل تقدير قتلاها إلى حوالي خمسين ألف نسمة. ووضعت قوانين صارمة ضدهم وصلت إلى الحكم بالإعدام على من ينتسب إلى هذا التنظيم.

عشية الانتفاضة السورية في آذار/ مارس 2011، أعلن الإخوان المسلمون أنهم شريك أساسي في الحراك المدني الذي انطلق في شوارع المدن والبلدات السورية. وقد كان لهم دور فاعل في هذا الحراك، بحيث بدا أن الانتفاضة السورية قد أعادت لهم الروح، وأدخلتهم في الحياة السياسية مجددًا. وصدرت مواقف سياسية تتصل بمستقبل سوريا بعد إسقاط نظام البعث، كان من بينها مواقف للإخوان المسلمين تقول صراحة بضرروة إقامة دولة مدنية في سوريا، والاعتراف بالتعددية السياسية وبمصالح المجموعات التي يتكون منها المجتمع السوري. نظر كثيرون إلى هذه التصريحات بعين الريبة، ورأوا فيها نوعاً من الاطمئنان الشكلي المطلوب قبل وصولهم إلى السلطة. خلال مسار الانتفاضة وما تبعها من قيام تنظيمات لتوحيدها وتأطيرها، لم يوفر الإخوان أي سعي للهيمنة على “المجلس الوطني” ولاحقاً على “الائتلاف الوطني”، وبدا النفس الإقصائي خصوصاً للمجموعات العلمانية واضحاً، مما أوجد نزاعاً داخل مجموعات المعارضة لم يتوقف حتى الآن. زاد من تصلب الإخوان اعتمادهم على الموقف القطري الداعم بشكل مطلق لهم، والمؤثر من خلال الدعم المالي والعسكري الذي تقدمه قطر للانتفاضة السورية، وكذلك على الدعم التركي المحتضن لهم بحكم انتساب الحزب الحاكم إلى هذا الإسلام السياسي.

مع دخول الانتفاضة في مرحلتها المسلحة، تغير المشهد السوري بشكل كبير لجهة طبيعة الصراع والقوى المنخرطة فيه. تقاطعت مصالح سورية داخلية يمثلها النظام مع توجهات ومصالح غربية أميركية لتحويل سوريا ساحة إرهاب باسم الإسلام السياسي. خلافا للسياسة الأميركية في مصر، والتي كان الرهان فيها على حصان الإخوان المسلمين واستلامهم السلطة، بعد مفاوضات طويلة جرت بين “الإخوان” والإدارة الاميركية وحصل  فيها تفاهمات حول مجمل القضايا خصوصاً المتعلقة منها بالاتفاقات مع اسرائيل، فإن الإدارة الأميركية كان حصانها الأول والوحيد في سوريا رئيسها بشار الأسد ونظامه. فهذا النظام، مع الأب والإبن، أتى برعاية اميركية عام 1970، وكان أحد أعمدة الخطة الأميركية في المنطقة، مدافعاً عن مصالحها وعن مصالح حلفائها، تولى خلال حكمه ضرب المقاومة الفلسطينية وسائر حركات المعارضة الوطنية في المشرق، وأرسل جيشه تحت العلم الأميركي لمحاربة العراق في التسعينات، والأهم من كل ذلك أن الجيش السوري شكل حرس حدود لإسرائيل ومنع أي عمليات ضدها منذ العام1973، واستخدم الأراضي اللبنانية وحركة المقاومة لإدارة حروب بديلة… وعندما اندلعت الانتفاضة السورية، أدركت الإدارة الأميركية أن الإطاحة بالأسد ستؤدي إلى قيام سوريا جديدة،  ليس مضموناً أن تسلك السياسة إياها التي سلكها الأسد، خصوصاً في العلاقة مع اسرائيل. بل قد يكون النظام الجديد داعماً لقوى وطنية معادية لأميركا واسرائيل، لذلك كان القرار الأميركي تدمير سوريا، جيشاً وشعباً ومجتمعاً، وجعلها أشلاء بما يمنع قيام دولة سورية قوية تشكل تهديداً لأميركا ومصالحها. وكان المدخل إلى ذلك إدخالها في حرب أهلية واستحضار قوى الإرهاب لتتقاتل على أرضها.

تقاطع مشروع تحويل الانتفاضة السورية إلى حرب أهلية بين النظام السوري والقرار الأميركي. أفرج النظام عن مجموعات تنتمي إلى القاعدة كانت تقبع في سجونه، وأرسل العراق مجموعات أخرى، ورفدت إيران هذه القوى بمجموعات من عندها، وأدخلت حزب الله اللبناني إلى الأراضي السورية للمحاربة إلى جانب النظام، تحت حجة حماية الأماكن المقدسة الشيعية في البداية، ثم توسع الانتشار إلى سائر المناطق السورية دفاعا عن النظام البعثي. هكذا تحول تنظيم القاعدة إلى فسيفساء من قوى محلية وعناصر من المخابرات السورية والعراقية والإيرانية، أضيف اليها مقاتلون من دول عربية أخرى  ومن أفغانستان وباكستان والشيشان وبعض الدول الأوروبية، بما جعل سوريا ملجأً ومقرًا لكل من يبغي جهادًا في سبيل الله ويقيم دولة الخلافة وفرض حكم الشرع فيها.

كان تحويل سوريا إلى مجمّع للمقاتلين من شتى أنحاء العالم مصلحة صافية للنظام السوري. قدم بشار الأسد نفسه محارباً الإرهاب العالمي تطبيقاً لنظريته أن سوريا تتعرض لمؤامرة عالمية بقيادة الارهاب بسبب دورها الممانع. كما كان للولايات المتحدة الأميركية ومعها الغرب مصلحة في تجميع عناصر الإرهاب وحشرها في سوريا وجعلها تتقاتل وتفني بعضها بعضاً. هنا يكمن بعض سر عدم استعداد الغرب لتسليح المعارضة بحيث تتمكن من قلب النظام، بل الإبقاء على حدود من التسليح تسمح لها بالقتال من دون الحسم. كما تبرز السياسة الغربية في تأييد بقاء الأسد، خلافاً للديماغوجيا الكلامية عن انتهاء دوره، فبقاء الأسد هو ضمانتها في بقاء الحرب الأهلية مشتعلة إلى أمد غير منظور.

لم يخطيء الغرب ولا النظام السوري في استخدام تنظيمات الإسلام السياسي في الحرب الدائرة في سوريا. انقسمت هذه التنظيمات عل نفسها، وكان الانقسام الأكبر بين “القاعدة” وجبهة النصرة التي كانت جزءًا من “القاعدة”، حيث تحولت “القاعدة” إلى “تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام” (داعش)، وحددت معاركها مع جبهة النصرة و”الجيش الحر”، فبدت من أفضل الأسلحة في يد النظام ضد المعارضة السورية المدنية والعسكرية. واندلع القتال بين المجموعات الدينية المسلحة التي تذررت بشكل غير مسبوق، بحيث وصل عددها إلى حوالي المئة تنظيم، كل واحد منها يحتكر السماء ويرى أنه يمثل الإسلام الحق، ويكفر سائر المجموعات، ويهدر دمها. سقط الآلاف من القتلى بين المجموعات الإسلامية المتحاربة بين بعضها البعض، كما سقط الآلاف في القتال مع قوى المعارضة، وفي كلتي الحالتين، كان النظام السوري ومعه الغرب الأميركي والأوربي يعيش ابتهاجا بالذي يجري، فهذه التنظيمات المتحاربة باسم الدين توفر على المعسكرين السوري والغربي عبء المواجهة والتصدي لهذا الإرهاب.

أما العجائب والغرائب فهي التي أبدعت التنظيمات الإسلامية في إظهارها عندما توفر لها السيطرة على مناطق جغرافية، ثم فرض نظامها وقوانينها في تلك المناطق. بدت المناطق السورية الخاضعة لتنظيم “داعش” وكأنها عادت إلى عصور ما قبل التاريخ، لجهة نوع التشريعات التي فرضت على الناس في وصفها عودة إلى السلف الصالح ونشر الدين الإسلامي كما جاء في أيامه الأولى، وكما جرى تطبيقه زمن دولة الخلافة. ظهر هذا الإسلام مصدر قتل وسحل ورجم لمن يخالف تعليمات “داعش”، يتم ذبح البشر لأبسط الأمور ويقرن هذا الذبح بتكبير الله الكبر، لحاجة القتلة الى مباركة إلهية. وفرضت القوانين الصارمة على النساء، ختاناً وتحجيباً ومنعاً من الخروج أو الذهاب إلى المدارس، ووصل الأمر إلى دعوة لتحجيب أثداء البقر، لكونها تثير الغرائز الجنسية. يضاف الى ذلك الموقف من الأقليات المسيحية والعودة بها إلى اشتراط اعتناق الإسلام أو دفع الجزية أو المغادرة. باختصار، كل ما له بالعصر وبالتقدم والحضارة ممنوع منعاً باتاً تحت طائل الإعدام للمخالف،  وكل ذلك يتم باسم الإسلام. لا تحمل سائر التنظيمات الإسلامية، المنتشرة كالفطر، أفكارًا أرقى مما تحمله “داعش”، فالكل في هذا المجال، يندرج في خانة واحدة، سواء أكان هذا التنظيم من مدعي مقاتلة النظام السوري، أو من تلك التي تصنف نفسها داعمة له. لا شك أن واقع الإسلام السياسي كما رست عليه الحال في سوريا يشكل مناسبة مهمة جدًا للنقاش في الإسلام نفسه، أي ما يتصل حقاً بالإسلام وجوهره، وما لا علاقة له بالإسلام بل ينتسب إلى تقاليد بالية رماها التاريخ في مزابله.

المصدر: http://alawan.org/2016/07/20/%D8%A7%D9%84%D8%A5%D8%B3%D9%84%D8%A7%D9%85-...

(3)

6 ــ العراق

يتميز العراق تاريخياً بولادة الإسلام السياسي في ربوعه من خلال الصراع على السلطة الذي نشب بين أنصار معاوية بن أبي سفيان وعلي بن أبي طالب. استخدم القرآن لأول مرة في هذا الصراع السياسي من خلال رفع المصحف والتحكيم الذي تبعه وما نتج عنه من سيطرة الأمويين، وبالتالي انقسام المسلمين إلى فرق وشيع كان أبرزها المذهب السني والمذهب الشيعي ومذهب الخوارج. وتبلورت الفرق بأعداد كبيرة المختلط فيها الدين بالسياسة، وكانت جميعها تلجأ إلى النص القرآني والأحاديث النبوية وأقوال الأئمة، فتخترع ما شاء لها من أقاويل وتنسبها إلى النبي توظيفاً لموقعها وتبريرًا لسياساتها وإسباغ المشروعية الدينية على صراعها مع الفرق الأخرى. سيصطبغ التاريخ الإسلامي على امتداد قرون بحروب اتخذ بعضها طابعاً طائفياً ومذهبياً، استعملت فيها كل بشاعات العنف والذبح والتقتيل، بما يشابه ما تلجأ إليه اليوم تنظيمات الإسلام السياسي في سوريا والعراق من أعمال قتل، وكأنها تستلهم ذلك التاريخ غير المجيد الذي مر به العرب والمسلمون في العالمين العربي والإسلامي. يكاد الإسلام السياسي ينحصر اليوم بين الأحزاب ذات الطابع السني والاحزاب ذات الطابع الشيعي، وهما متفقان في التوجه السياسي والأهداف، وإن كان صراعهما يتمثل بمن يمسك بالسلطة. يشير الكاتب العراقي رشيد الخيون إلى هذا الإسلام بالقول :”ليس هناك من اختلاف في توجهات الإسلام السياسي، من ناحية أسلمة المجتمع والدولة وبناء دولة إسلامية، وإن كان هناك اختلاف فهو اختلاف طائفي، مع أن الطرفين تعاملا مع الظرف السياسي بنفعية، أي أنهما لغرض سياسي تراهما يتجاوزان المذهبية، لكنه تجاوز طاريء قياساً عل العمل السياسي وتوجهاتهما البعيدة” ( رشيد الخيون : تاريخ الإسلاميين وتجربة حكمهم في العراق، من كتاب “الإسلاميون ونظام الحكم الديمقراطي، ص644)

استمر التاريخ الصراعي المذهبي في العراق يحفر عميقاً في الوجدان الإسلامي ويراكم طبقات من الكراهية والحقد، تتمظهر أحياناً خصوصاً في المناسبات ذات الطابع المأساوي، أو تتفاعل في الخفاء. وعندما تكونت الدولة العراقية في الربع الأول من القرن العشرين، غلب على السلطة التكوين السني، على رغم  الأكثرية العددية للتكوين الشيعي. في منطق الطوائف، يسود الانفراد بالسلطة وإقصاء المجموعات الأخرى وممارسة الاضطهاد ضدها من أجل إخضاعها ومنع تمردها. ترسخت هذه السياسة مع صعود الحركة القومية العربية خصوصاً مع استيلاء حزب البعث على السلطة. لقد كان العراق موحدا في عهد البعث بقوة الديكتاتورية وليس بالتوافق الاجتماعي بين مجموعاته السياسية والإثنية. مارس الحكم البعثي تمييزًا طائفياً وقهرًا للمجموعات الطائفية والإثنية التي يتشكل منها العراق. وعلى رغم الادعاءات القومية للحكم البعثي والعلمانية المبتذلة التي اعتمدها، فإن سياسة إقصائية واستئصالية جرى تطبيقها من أقلية حكمت البلاد بالحديد والنار. حطم الاحتلال الاميركي التركيبة السياسية – الطائفية القائمة، لكنه، وخلافا لادعاءات إقامة حكم ديمقراطي في العراق، نصّب منظومة مذهبية مكانها، فبات البلد في قبضة المذهبية الشيعية.

شكلت السنوات التي حكم فيها ممثلو المذهب الشيعي، زمن الإحتلال الأميركي، مختبرًا لممارسة المذهبية الطائفية الشيعية للسلطة، فلم تكن أقل إقصائية واستئصالية من المذهبية السنية السابقة، حيث اعتمدت وجهة “تشييع البلد”، وتصرفت بمنطق الثأر، ليس عن سنوات حكم البعث، بل عن الصراع القديم المستمر منذ حرب يزيد والحسين ومقتل الحسين في معركة كربلاء، هذا الصراع الذي كان يستخدمه قادة العراق في تأجيج الصراع الداخلي، على غرار تصريحات رئيس الوزراء نوري المالكي بأن المعركة ما تزال مفتوحة بين أنصار الحسين وأنصار يزيد. إذا كان البعث والتركيبة السنية السابقة مارست التمييز الطائفي تحت غطاء القومية والعروبة، فإن ممارسة الحكام الجدد كانت طائفية مذهبية عارية، في جميع الميادين العسكرية والسياسية والإدارية، مستلهمة النموذج الإيراني في الحكم.

كان العراق يحفر عميقا، خلال السنوات التي تلت الاحتلال الاميركي لأراضيه، عبر تراكم الأحقاد والكراهية بين مجموعاته، وكان انفلات العنف والعنف المضاد قانوناً يحكم قواه المتعددة هنا وهناك. وكان الفشل المتمادي لسياسة “حزب الدعوة” الشيعي يؤسس ويراكم عناصر التمرد الذي كان واضحاً لكل مراقب أن ناره قادمة. هكذا رسم الإهتراء الداخلي وانقسام المجتمع والإمعان في القمع والعجز عن اقامة توافق سياسي حول السلطة، معالم المستقبل، بما جعل التقسيم الجغرافي نتيجة منطقية وتكريسا للانقسام الداخلي وتمزيق النسيج الاجتماعي للعراق.

إذا كانت التطورات  العراقية قد وضعت تنظيماً إسلاميا متطرفاً في واجهة المعارك التي تخوضها قوى فعلية عسكرية وسياسية بعضها ينتمي إلى النظام البعثي المنهار وبعضها الآخر من العشائر السنية التي اضطهدها النظام الحالي، إلا أن هذه الواجهة لا يجب أن تغفل حقيقة وحجم المشروع الجديد لقوى المعارضة، التي بات من الواضح أنها تهدف إلى إسقاط الهيمنة الطائفية القائمة في حد أدنى، او إلى تقسيم العراق بين مجموعاته الطائفية وتكريس جغرافيا جديدة في البلاد. لعل مجريات الأحداث من قبيل انهيار الجيش العراقي أو تسليم مواقعه ما يشي بحجم التطورات الكبيرة المنتظرة، والتي لا يفيد فيها تصريحات رأس السلطة عن مؤامرة وخيانة وغيرها من الأوصاف. هذا على الصعيد الداخلي.

أما على الصعيد الخارجي، فإن الموقف الإيراني هو الأشد تأثرًا بما يحصل. تصرفت إيران منذ الاحتلال الأميركي على أن العراق امتداد لإيران وقد بات عملياً تحت وصايتها، وهي حقيقة لم تكن غائبة، تمثلت في بناء السلطة التي كان لإيران اليد الطولى فيها. لا تخفي إيران استعدادها للتدخل العسكري لإعادة الأمور إلى ما كانت عليه، وهو مركب سيدخلها في رمال الحرب الأهلية بكلفة كبيرة لا تقاس بما تدفعه في سوريا. أما الولايات المتحدة الأميركية، صاحبة فضل أساسي في تفجير بنية العراق، فلا يبدو انها فوجئت بما حصل، لكنها أعلنت صراحة عن عدم استعدادها للتدخل لإنقاذ النظام ، من دون ان تنفي إمكان التنسيق مع ايران في شأن المواقف الممكن اللجوء إليها عسكرياً وسياسياً.

تقف القوى العراقية اليوم، كل على سلاحه. يكلل الشحن الطائفي والمذهبي شعارات المرحلة. يعلن السيد علي السيستاني الدعوة إلى الجهاد المقدس ضد “غزوة السنة”، وهو الذي أفتى عام 2003 بعدم التصدي للاحتلال الأميركي، ويمتطي عمار الحكيم لباس الحرب ويدعو إلى المنازلة، وهو الذي أتى على الدبابات الأميركية خلال الاحتلال. في المقابل، يعلن مفتي العراق السني ان ما يحصل هو انتفاضة الطائفة السنية على التسلط الشيعي المتمادي منذ عشر سنوات. تحتشد القوى المتطوعة من هنا وهناك لحرب عنوانها ضرب القوى الإرهابية وفق خطاب الحكم،  واستعادة السلطة ووضع حد للاضطهاد من قبل التحالف السني.

بعد سيطرة تحالف عشائر السنة وحزب البعث وتنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش) على أجزاء واسعة من العراق، خصوصاً منها المناطق ذات الغلبة العددية السنية، أعلنت “داعش” إقامة الخلافة الإسلامية، وهو الشعار الذي تهدف جميع التنظيمات الإسلامية إلى تحقيقه. ومدت هذه الخلافة أرضها لتطال جميع الدول العربية، على أن تتركز مرحلياً في بلاد العراق والشام. هكذا زفت “داعش” للمسلمين استعادة مجدهم التاريخي، وحقق الإسلام السياسي أهم منجزاته. منذ اليوم الأول لإعلان الخلافة، ارتفعت أصوات من تنظيمات إسلامية رافضة الخلافة والخليفة معا، واعتبار ما جرى خارج الشرعية والأصول الإسلامية، وترتب على ذلك ازدياد حدة العنف بين هذه المجموعات على غرار ما جرى في التاريخ القديم، وهو قتال من المستبعد ان يتوقف لأنّ كل طرف يستحضر الإله لدعمه وإعطائه المشروعية. لكنّ العجائب والغرائب تجلت في القوانين والتشريعات التي فرضتها “داعش” على السكان الخاضعين لسيطرتها، وهي متشابهة مع ما جرى فرضه في المناطق السورية من وجوب عودة الناس إلى العيش في ظل العصر الحجري، والتزام تقاليد وتعاليم السلف الصالح من قتل وذبح وختان وتحجيب للنساء ومعهن الحيوانات، وإعادة المرأة إلى البيت، وإلغاء كل أثر للفرح ومناسباته..

ومن أجل اكتمال تطبيق الشريعة كما تنص على ذلك الخلافة، استعادت “داعش” آيات من سورة التوبة في القرآن، وفيها ما يدعو إلى قتل الكفار، أي غير المسلمين من نصارى ويهود وغيرهم، وهي آيات نزلت في ظروف لا علاقة لها بالزمن الراهن وتنتسب الى مرحلة الصراع من أجل فرض الإسلام. ترجمت “داعش” سورة التوبة بالهجوم على المسيحيين في مناطق سيطرتها وتخييرهم بين اعتناق الإسلام أو فرض الجزية أو الموت، بل واعتمدت القتل المسبق لرجال دين وآخرين، لإرهاب سائر المسيحيين وفرض تهجيرهم بشكل عملي. لا أحد يمكنه التنبوء بالقوانين الجديدة التي ستعتمدها تيارات الإسلام السياسي عندما تتمكن من السلطة، فقد نشهد ما هو أدهى وابشع مما نراه اليوم، وكله باسم تطبيق الشريعة وتعاليم الدين الحنيف.

 

7 ــ فلسطين

يتمثل الإسلام السياسي في فلسطين بتنظيمين رئيسيين هما حركة حماس وحركة الجهاد الإسلامي، من دون أن ينفي وجود تنظيمات أخرى أقل فاعلية من هذين التنظيمين. لكن الطرف الغالب والأفعل هو حركة حماس، مما يجعلها تختصر موقع الإسلام السياسي بشكل عام. تنتمي حركة حماس إلى تنظيم الإخوان المسلمين، بشقيه المصري والأردني. نشأت في فلسطين في ثمانينات القرن الماضي، تحت اسم “حركة المقاومة الإسلامية” أو “حماس”. تعمل في الضفة الغربية وغزة، وإن يكن وجودها أكثر فاعلية في قطاع غزة. طرحت الحركة نفسها في وصفها بديلاً إسلامياً للتيارات القومية واليسارية السائدة على الساحة الفلسطينية، ورفضت الدخول في إطار منظمة التحرير الفلسطينية. تشير الوثائق التأسيسية للحركة إلى توجهاتها الدينية السياسية التي ظلت تطبعها طوال عملها، فيشير الكاتبان عمرو حمزاوي وناثان براون إلى أيديولوجيا حماس بالقول :”الوثيقة الأيديولوجية لتأسيس الحركة (ميثاق حماس للعام 1988) هي وثيقة ملتوية تعج بالإشارات الدينية، والتفاني المطلق لتحرير فلسطين باعتبارها قضية إسلامية، والتوسلات الداعية إلى المقاومة، والمواقف المتشددة تجاه القضايا الوطنية. وتتضمن الوثيقة إشارات عابرة وتآمرية إلى كيانات مرتبطة بقدر ضئيل للغاية بالنزاع الإسرائيلي – الفلسطيني، كما تتجاوز مجرد تأطير الصراع بوصفه صراعاً بين طوائف دينية، إلى إشارات حادة إلى “بروتوكولات حكماء صهيون”، والنازيون اليهود وتجار الحرب” ( حمزاوي وناثان :بين الدين والسياسة، ص240).

تميزت “حماس” بمواقف مزايدة لفظية على حركة فتح، وبتعطيل أي اتفاقات لتوحيد فصائل المقاومة أو خلال المفاوضات للوصول إلى اتفاقات مع اسرائيل. على رغم انتصارها في الإنتخابات النيابية وتشكيلها حكومة فلسطينية، إلا أن توجه حماس كان متركزًا على الاستيلاء على قطاع غزة والانفصال عن السلطة الفلسطينة. تجلى هذا التوجه في الإنقلاب الذي قامت به عام 2007 على السلطة، وهي التي كانت العنصر الأساسي فيها، وإعلان غزة “إمارة” بكل معنى الكلمة. ومنذ اليوم الأول للانقلاب، أفصح قادة “حماس” عن أن نضالهم الأساسي سيكون ضد القوى العلمانية في فلسطين قبل أن يكون مقاومة اسرائيل، تنفيذًا لتوجه إقامة دولة دينية تعتمد التشريعات الإسلامية وحدها. هكذا نفذت “حماس” اعتقالات وقتل لعناصر من حركة فتح وغيرها من المنظمات الفلسطينية التي لا تقول بمنطقها الديني. كان واضحاً أن ممارسات الحركة وكذلك أيديولوجيتها وهيكلها التنظيمي “يشيران إلى أن الحكم وسيلة وليس غاية. الغاية هي الأسلمة والتحرير من خلال المقاومة. لكن “حماس” تتصرف على نحو أكثر فأكثر بطريقة معاكسة تماماً، فمنذ قرارها بدخول الانتخابات البرلمانية، اختارت حماس طريق الحكم كلما كان هناك مفترق طرق، فهي قللت، على سبيل المثال من شأن الشريعة الإسلامية، وتوقفت عن إطلاق النار ضد اسرائيل، وقمعت الجماعات الجهادية، ورفضت أن تتزحزح عن المناصب الرئيسة في قطاع غزة.

لعل أخطر ما ارتكبته “حماس” ومعها حركة “الجهاد الإسلامي” هو الانحراف بالقضية الفلسطينية عن موقعها الوطني والقومي، ورميها بين أشداق قوى طائفية ومذهبية داخلية وخارجية. منذ احتلال فلسطين وإقامة دولة إسرائيل، شكلت القضية الفلسطينية الحلقة المركزية في المشروع القومي العربي الداعي إلى تحرير الأرض المغتصبة وطرد الاستعمار. كما شكلت المشجب الذي علقت عليه الأنظمة شعاراتها وسياساتها بما فيها التلاعب بالقضية وتوظيفها في نيل مشروعيتها الوطنية، وقمع الشعوب العربية تحت عنوان “لا صوت يعلو فوق صوت المعركة”. وكانت هذه السياسات تتوحد عند طمس الشخصية الفلسطينية ومصادرتها والتكلم باسمها. شكلت هزيمة حزيران خروجاً فعلياً للشخصية الفلسطينية من تحت جبة الأنظمة عبر انطلاق المقاومة المسلحة ضد اسرائيل، وهي المقاومة التي كانت حركة فتح قد أطلقتها قبل عامين أي 1965. على امتداد عقود، خاضت المقاومة حروبا ضد اسرائيل، وخاضت حروباً أكبر مع الأنظمة العربية الساعية دوما لمصادرة القرار الفلسطيني ومنع الشخصية الوطنية من التبلور والاستقلال. كان انتزاع القرار الوطني الفلسطيني وبلورة الشخصية الوطنية الفلسطيينة أهم انجازات المقاومة الفلسطينية منذ سبعبينات القرن الماضي، على رغم ما تكبدته من خسائر على يد اسرائيل والأنظمة العربية على السواء. إن إحدى معضلات الثورة الفلسطينية كانت ولا تزال في سعي بعض الأنظمة العربية للهيمنة على القرار الفلسطيني، وإن مسألة النضال لاستقلالية هذا القرار كانت الأساس في إعادة بلورة الشخصية الفلسطينية. ومن موقع هذه الاستقلالية خاضت الحركة الوطنية الفلسطينية صراعها المديد ضد أعداء مشتركين، من الكيان الصهيوني، إلى الأنظمة الغربية الموالية لإسرائيل، إلى أنظمة عربية لم تكن أقل عداء ضد الشعب الفلسطيني من الحركة الصهيوينة. في هذه المعركة، لم تكن حركة حماس في الموقع المستقل عن بعض الأنظمة العربية المعادية للشعب الفلسطيني. فكيف تصرف الاسلام السياسي تجاه القضية المركزية التي وحدت العالم العربي والشعوب العربية وكانت عنواناً للصراع ضد المشروع الصهيوني والمشروع الأمبريالي الغربي الهادف إلى السيطرة على المنطقة العربية ونهب ثرواتها؟

وجهت “حماس” نقدًا لمقولة القرار الفلسطيني المستقل، وترجمت هذا النقد بربط القضية الفلسطينية بمحاور إقليمية، متمثلة بالنظام البعثي في سوريا وبنظام الملالي في إيران. معروف أن النظام السوري كان من أكثر المؤثرين سلباً في النضال الفلسطيني، ومارس كل أنواع الضرب والتصفية لحركة المقاومة، بالإبادة الجسدية وبالإعتقال وبإدارة انشقاقات داخل صفوف المقاومة، فوضعت حماس القضية مجددًا في جيبه. وتوجهت “حماس” و”الجهاد” إلى إيران وقدما القضية لقادتها، وبات النظام الإيراني يمارس الادعاءات الفارغة بالتهديد الدائم بإبادة اسرائيل والمزايدة على الدول العربية في تبني القضية الفلسطينية، على رغم أن هذه “البهورات” كانت تتلاشى عندما تتعرض فلسطين وخصوصا حركة حماس وقطاع غزة إلى عدوان، فيخفت الصوت الإيراني لنعود ونسمع ترنيمة النظام السوري الدائمة حول تحديد زمان ومكان المعركة الذي تقرره إيران وحدها. خلال العدوان على غزة في تموز 2014، ارتفعت أصوات قيادات عسكرية رفيعة في إيران تهدد بأنها لن تقف مكتوفة الأيدي وستتدخل لدعم الفلسطينيين في غزة. ومع تواصل العدوان، تراجع التهديد ليعلن هؤلاء القادة بانهم ينتظرون فتوى المرشد الأعلى آية الله خامنئي ليبيدوا إسرائيل ويمحوها عن الأرض. وهي فتوى لن تبصر النور بالتأكيد. أكثر من ذلك، لم تتجرأ إيران على إرسال مواد غذائية وطبية الى غزة خوفاً من رد فعل اسرائيل. والخطأ الثالث الذي ارتكبه الإسلام السياسي كان تسليم القرار الفلسطيني إلى دولة قطر صاحبة أكبر قاعدة أميركية في الشرق الأوسط. هكذا، بدلا من التوحد حول القرار الفلسطيني، عملت “حماس” على امتداد سلطتها على منع حصول هذه الوحدة الفلسطينية، بل مارست عمدًا سياسة انفصالية، وكانت تجهض كل محاولة للمصالحة والوحدة، وسلمت القضية إلى المحور الإيراني التركي القطري والسوري، بحيث باتت هذه القوى تتلاعب بالقضية وتوظفها في خدمة مشاريعها وعلاقاتها مع الدول الغربية. لقد دفع الشعب الفلسطيني غاليا ثمن هذا التلاعب عبر سيساسات مغامرة كانت تلجأ إليها حماس في كل مرة يبدو أن وجهة الوحدة الفلسطينية تسير نحو الغلبة، فتأتمر بما يقرره هذا المحور لمنع أي وحدة فلسطينية. يشير الكاتب اللبناني احمد جابر الى هذه المسألة قائلا :” إن الضرر الفادح الذي يمكن أن يلحق بالقضية الفلسطينية ومستقبلها، يأتي من جهة تغيير هويتها، ومن أدبيات إعادة تعريفها فئوياً، من خلال «الاجتهاد» في الدين، أو الاجتهاد في «التنظيم». لقد دفعت فلسطين ثمناً لهذا التصنيف عندما رعى بعض «الإقليم» الانقلاب في قطاع غزة، وما زال الدفع مستمراً، لأن الراعي أمسك ببعض من الأوراق الفلسطينية فوظفها عنده، وبإسم هذه الأوراق وزّع التهم والأوصاف عربياً وإسلامياً. إذا كان الأمر مشروعاً، على سبيل التفكير والانتباه، يصير من الواجب القول إن ضمانة المستقبل الفلسطيني تظل ماثلة في رباط العروبة، وأن الفلسطينيين، وهم يتصدون للهجمة الإسرائيلية الجديدة، فإنهم يتصدرون في ذلك معركة الدفاع عن العروبة عموماً، التي لا يبرر وهنها التنكر لها. لقد احتلت المسألة الفلسطينية مكاناً عالمياً بين حركات التحرر، وكان ذا مغزى تسليم راية الكفاح لها بعد خروج القوات الأميركية من فيتنام، وكان وسيظل ذا مغزى، احتفاظ «الفلسطينية» بقدرتها على الدمج بين الدعم العالمي والانتماء العربي والبعد الديني، بشقيه الإسلامي والمسيحي، وعليه، سيكون قاتلاً وانتحارياً، أخذ فلسطين إلى «فئوية الأسلمة»، أو فرض هذا الخيار عليها” (حمد جابر، الهوية العربية ضمانة فلسطينية، جريدة الحياة، 1- 8 – 2014 ).

تسبب الاسلام السياسي الفلسطيني، خصوصاً منه حركة حماس، في أضرار جسيمة للشعب الفلسطيني وللقضية الفلسطينية بالنظر إلى اختزال القضية في “شخصه”. كان معيباً على هذا الإسلام أن يرفع شعارات النصر الإلهي في كل عدوان ويحسب فقط الخسائر التي تكبدها في مقاتليه للتأكيد على هذا النصر. لم يكن يأخذ في الاعتبار حجم الضحايا من الشعب الفلسطيني والجرحى الذين سقطوا والدمار الذي لحق بالمنشآت والمساكن. لم يكن يعنيه الموازنة بين كلفة إطلاق صاروخ على اسرائيل وبين كلفة الرد الإسرائيلي على الشعب الفلسطيني. على غرار سائر مشاريع الإسلام السياسي الذي يريد السلطة بأي ثمن، كان مشروع هذا الإسلام، ولا يزال، مشروعاً انتحارياً، أصاب ويصيب القضية الفلسطينية والشعب الفلسطيني بأفدح الأضرار التي يصعب تعويضها.

 

8 ــ السودان

دخلت جماعة الإخوان المسلمين إلى السودان في مطلع الخمسينات من القرن الماضي. ترأس الدكتور حسن الترابي الجماعة لفترة غير قليلة من الزمن، وكانت أسماء التنظيم تتبدل، إما نتيجة الانشقاقات أو لأسباب سياسية وتنظيمية، فكان هناك : جبهة الميثاق الإسلامي التي تأسست بين أعوام 1969 -1979 ، وكان الترابي أمينها العام، ثم عاد الترابي ليشكل الجبهة الإسلامية القومية بين 1986 – 1989 ، حيث أعلن أن أهدافه هي أسلمة المجتمع وتأسيس حكم الشريعة الإسلامية في السودان. شارك الإخوان مبكرًا في الحكم، فقد تحالفوا مع جعفر النميري الذي أصدر عام 1983 مجموعة قوانين تشريعية كرّس فيها المرجعية الإسلامية. كانت إحدى “انجازات” النميري بعد وضع تشريعاته إعدام المفكر الإسلامي محمود محمد طه عام 1985، جواباً عن اجتهادات قال بها طه في شأن قراءة النص الديني قراءة عقلانية وتاريخية، وقد صدر الحكم بالإعدام بعد فتوى حسن الترابي الذي اعتبر محمود طه مرتدًا عن الإسلام ويستوجب قتله. هذا مع العلم أن الترابي أتى إلى السودان بعد إنهاء دراساته في جامعات السوربون في فرنسا، وقدّم نفسه مفكرًا إسلاميا متنورًا.

يمثل الإنقلاب الذي قام به الرئيس الحالي عمر البشير بالتعاون مع حسن الترابي ضد نظام جعفر النميري، مرحلة جديدة في موقع الإسلام السياسي السوداني، فقد بات هذا الإسلام جزءًا من السلطة، بل إن الترابي أراد أن يرأس السلطة من خارجها وان يكون فوق رئيس الجمهورية وفوق الحكومة نفسها. لكنّ ازدواجية السلطة هذه لم تدم طويلاً، إذ انقلب البشير على الترابي وأودعه السجن. يشير الكاتب السوداني عبد الوهاب الأفندي إلى تلك التجربة قائلاً :”رأى كثيرون من المراقبين والمعلقين في تفجر الصراع داخل النظام ومآلاته مرحلة فاصلة، مثلت سقوط “الجمهورية الإسلامية الأولى” في العالم الإسلامي، وانهيار الحركة الإسلامية السودانية وتفككها .. وهي مثلت كذلك “سقوط المشروع الحضاري” الذي بشر به الإسلاميون في السودان، وكشفت الخواء الفكري والإفلاس الأخلاقي لأصحاب ذلك المشروع. ذلك أن اعضاء الحركة، حين غامرت بالقفز إلى السلطة، “جعلوا من السودان مختبرًا أو معملاً لإجراء تجربة حكم إسلامي أو مشروع حضاري إسلامي من دون أن يملكوا رؤية فكرية واضحة ولاكوادر مؤهلة لتطبيق تغييرات إسلامية معاصرة في بلد شديد التعقيد بسبب تنوعه الثقافي ومساحته وموقعه الاستراتيجي” ( عبد الوهاب الأفندي، الحكم الإسلامي من دون إسلاميين : جدلية الدولة والحركة في التجربة السودانية، من كتاب الإسلاميون ونظام الحكم الديمقراطي، ص326) على ما يقول الكاتب السوداني حيدر ابراهيم علي.

على غرار سائر تنظيمات الإسلام السياسي التي وصلت إلى الحكم أو قاربت الوصول إليه، سعى الإخوان السودانيون إلى تحويل الدولة والمجتمع ومعها شؤون الحياة إلى إخضاعها لنمط من القوانين والممارسة تستند إلى الشريعة الإسلامية. “طالت العملية أوجه الحياة كافة، بدءًا بالحياة الخاصة في التربية وتزكية النفس، وفي إقامة الشعائر من صلاة وزكاة وحج وصيام .. ونقلت إلى المناهج التعليمية توجهات الدولة القاضية بجعل العقيدة محور الحياة التي تهدف إلى تنشئة جيل مؤمن بربه.. ووضعت قانوناً جنائياً يشتمل على أحكام الحدود بما فيها مادة باسم الردة، ومواد أخرى تسمح بإعدام الصغير والشيخ قصاصاً وفقا للشرع.. وأكثروا من عقوبة الجلد التي وصلت عام 2010 إلى جلد 43 الف امرأة، كما حوكم ما يقرب من مئتي شخص بالردة.. وتوسع النظام القانوني في العقوبات ضد الأشخاص المعارضين للحكم من خلال تأصيل مسائل الخروج على الحاكم المسلم” (شمس الدين الأمين ضوّ البيت، تجربة الإسلاميين السودانيين في الحكم، من كتاب : الإسلاميون ونظام الحكم الديمقراطي، ص 361 ).

لم يترك الإسلام السياسي السوداني شأناً من الشؤون إلا وكانت له بصمات غير حميدة عليه. في ميدان الثقافة، يروي الكاتب السوداني عثمان شنقر أنه “في حادثة أشبه بحوادث العصور الظلامية، الموغلة في الجهل والتخلف الحضاري، أقدم وزير ثقافة وإعلام سوداني، في بدايات تسلم الإسلاميين كرسي السلطة في السودان، قبل ربع قرن، على اقتحام كلية الفنون الجميلة، في ثورة عارمة ضد الفنون، وقام بتهشيم التماثيل وأشغال النحت التي كان يعكف عليها طلاب الكلية، بصورة همجية جاهلة، مستخدماً عصاه في البدء، ثم أمر مرافقيه من الحرس بتكسير كل التماثيل و”الأصنام” باعتبارها رجساً من عمل الشيطان” ( عثمان شنقر، الأصوليون السودانيون والثقافة.. خصام دائم، جريدة الحياة، 10 – 7 – 2014 ). لم يأت هذا التصرف صدفة، فالإسلاميون تعمدوا تشويه الشأن الثقافي لأنه يتعارض مع مشروعهم، ولكون العمل الثقافي والفني قد يخلخل منظومتهم الفقهية.

في تعاطيهم مع المجموعات الإثنية والطائفية التي يتكون منها السودان، مارس الإسلاميون سياسة تمييز عنصري ضد الأقليات، وسعوا إلى سودان يحمل نقاوة إسلامية، واستخدموا العنف ضد الأقليات بعد أن عجزوا عن استيعابها، وكان من أخطر النتائج هو انفصال الجنوب عن الدولة الأم. وفشل الإسلاميون في ميدان الاقتصاد، فيشير حيدر ابراهيم علي إلى هذا الجانب قائلاً :”فقد ثبت أن ما يسمى ب”الاقتصاد الإسلامي”مجرد شعار فارغ ليس لديه أي مضمون اجتماعي، وليس نظاماً اقتصادياً اشتراكياً ولا رأسمالياً ولا خليطاً. وعلى رغم أن رائد فكرة الاقتصاد الإسلامي، الدكتور النجار، أنكر الفكرة، أصرّ الإنقلابيون على أنهم يطبقون اقتصادًا إسلامياً. وكل ما في الأمر منع التعامل الربوي الصريح وإلباسه أقنعة دينية تستخدم الحيل الفقهية لتمرير القروض والمعاملات الربوية. لقد اقتصر اقتصادهم الإسلامي على المضاربات المالية والعقارية وبيع الأراضي.. يكفي أن البلد كان مرشحاً ليكون سلة غذاء المنطقة، باتت تضربه المجاعات موسمياً، وصار متلقياً ثابتاً للمعونات الغذائية من منظمة الغذاء العالمي ومن الشيطان الأكبر – الولايات المتحدة” ( حيدر ابراهيم علي، السودان .. ربع قرن خارج التاريخ، جريدة الحياة، 9 – 7 – 2014 )

 

9 ــ لبنان

يشكل المجتمع اللبناني المتعدد الطوائف والقائم نظامه السياسي على المحاصصة الطائفية بيئة حاضنة لولادة التنظيمات السياسية الطائفية والمذهبية. يحوي لبنان في جوفه منوعات من الأحزاب ذات الطابع الديني، ويشمل ذلك جميع الطوائف من دون استثناء. في البيئة الإسلامية، برزت ظواهر كثيرة خصوصاً في العقود الأخيرة، بعد تفجر الحروب الأهلية في البلد، واكتساح الطوائف للمشترك الذي تمثله الدولة التي جعلتها الحروب الأهلية على شفير الإنهيار. من بين الأحزاب ذات الصفة الطائفية، تفرد “حزب الله” بموقع خاص اكتسبه من موقعه في المقاومة ضد اسرائيل، ومن تمثيله شبه الشامل للطائفة الشيعية، والدور الذي لعبه ولا يزال في الحكم والسلطة. لذا سيقتصر الحديث عن الإسلام السياسي في لبنان على حزب الله، في منشأه العقائدي وفي ممارسته العملية داخل النسيج اللبناني، من منظار الإسلام السياسي الشيعي، وخلافاً لما جرى التطرق إليه في النماذج السابقة التي كانت تتناول الإسلام السياسي ذا الطابع المذهبي السني.

تضافرت جملة عوامل داخلية وعربية وإقليمية في نشوء الحزب  وتطوره. داخلياً، كانت الحرب الأهلية عنصرًا أساسياً في النشوء حيث سيطر الاحتلال الإسرائيلي على جزء من لبنان، رافقه محاولات سلخ لبنان عن العالم العربي بعد الاجتياح، إضافة إلى صعود الشيعية السياسية وسعيها لتعديل المعادلة القائمة التي لم تكن ترى فيها ما ينصف حجمها وموقعها في البلد. عربياً، لعبت سوريا دورًا مركزياً في رعاية الحزب وتوظيفه في خدمة سياستها بعد الضربة التي طالتها خلال الاجتياح، كما كانت ترى سوريا في الحزب عنصرًا يعيد لسوريا دورها العربي. إقليميا، كانت إيران العنصر الحاسم في تأسيس الحزب وتدريب كوادره وتسليحه وتمويله، وكانت إيران ترغب من وراء ذلك إلى ترسيخ أقدامها في المشرق وتوظيفه في مد نفوذها إلى الخليج وسوريا، والتدخل في فلسطين، يجمع كل ذلك هدف إيراني استراتيجي بإنشاء “أممية إسلامية” تحت نفوذها.

يوصّف الكاتب اللبناني أحمد جابر حزب الله بالقول :”أعطى حزب الله لذراعه المسلحة، اسم “المقاومة الإسلامية”، ليجعل الإسلام عموما، مرجعية نظرية لخطه، وليكون في تعاليمه وسننه هادياً ومرشدًا لخطواته.. الإحالة إلى “الإسلامية العامة”، من جانب حزب الله، تناغمت مع “الشمولية الإسلامية” الإيرانية، وكانت صدى وتردادًا لها. أما المقصود “بالشمولية” فهو التوجه بالنهج والتفسير والدعوة .. إلى مجموع “الأقطار الاسلامية”، وعدم اقتصار الأمر على بلد واحد. ينطوي الخروج بالشعار إلى ما وراء الحدود الوطنية والقومية العربية، على ثلاثة أمور هامة، الأول : استبدال الروابط القومية أو الإقليمية أو الفكرية المغايرة، بالرابطة الدينية. والثاني: انتداب المعلن والداعي والمحرض، لذاته، قائدًا وملهماً للمحاولة الجديدة. والثالث : تعيين بلد – مركز للدعوة، على غرار المركز الإشتراكي الذي مثله الاتحاد السوفياتي سابقاً، أو المركز القومي الذي مثلته مصر الناصرية، والدعوة بالتالي إلى الإلتفاف حول المركز، والأخذ بسياسته وتوجهاته والدفاع عن مفاهيمه.. وحتى عن حدوده إذا ما لزم الأمر، في مواجهة ما قد يتعرض له من عدوان.. لكن “إسلامية” المقاومة، العامة سياسياً، لم تكن عامة “دينياً”، فما اعتمد في ميدان “الإسلامية” هذه، هو النص “الشيعي الإمامي” الخاص، الذي له تفسيراته واجتهاداته ومراجعه ومأثوراته وتاريخه واعتقاداته المستقبلية.. مما يمكن معه القول إن “المقاومة الإسلامية” قد تحركت تحت عباءة الشعار العام، “كفرقة” ذات طابع إسلامي خاص، لها نظراتها المحددة إلى الإسلام، ولها افتراقها “الفقهي” عن عدد من نظرات الفرق الإسلامية الأخرى” (أحمد جابر، حزب الله ..وتحولات البنية اللبنانية العامة، من كتاب مشترك مع فارس اشتي وشوكت اشتي بعنوان:الاحتباس الديمقراطي في الأحزاب اللبنانية، إصدار “الفرات للنشر والتوزيع”، بيروت، 2010، ص108- 109 ).

شكل حزب الله التجربة السياسية الوحيدة في العالم العربي التي أعلنت جهارًا التزامها ولاية الفقيه الإيرانية، عل رغم رفض عدد غير قليل من المرجعيات الشيعية اللبنانية لهذه الولاية. كشفت وثيقته التأسيسية الصادرة عام 1985 الوجوه العقيدية والأيديولوجية الثابتة للحزب، فترى الثابتة الأولى أن الإسلام عقيدة ونظام، والحكم للفقيه والأئمة الوارثين :”نحن أمة ترتبط مع المسلمين، في أنحاء العالم كافة برباط عقائدي وسياسي متين هو الإسلام. أما ثقافتنا فمنابعها الأساسة القرآن الكريم، والسنة المعصومة، والأحكام والفتاوى الصادرة عن الولي الفقيه ومع التقليد عندنا”. وتقول الثابتة الثانية بنقل الثورة إلى العالم بالقوة وبأمرة الولي الفقيه، ولهذا أعطت الوثيقة دورًا كبيرًا للمقاومة الإسلامية بواقعها. أما الثابتة الثالثة فتقول بأن ولاية الفقيه الإيراني هي التزام شرعي وسياسي، وله الرأي والمشورة، القرار والأمرة، الطاعة والولاء، فتعطف هذه الثابتة على ما يقول به الإمام الخميني في كتابه “الحكومة الاسلامية” حيث يرد :”فتوهّم أن صلاحيات النبي في الحكم كانت أكثر من صلاحيات أمير المؤمنين، وصلاحيات أمير المؤمنين أكثر من صلاحيات الفقيه، هو توهّم خاطيء وباطل. نعم ان فضائل الرسول بالطبع هي أكثر من فضائل جميع البشر، لكن كثرة الفضائل المعنوية لا تزيد في صلاحيات الحكم. فالصلاحيات نفسها التي كانت للرسول والأئمة”.

سعى الحزب الى بناء نموذج ثقافي وسلوكي متناسب مع توجهاته العقيدية، كما عمل على فرض هذا النمط من التوجه في المناطق ذات الغلبة الشيعية التي يهيمن عليها. “على غرار كل مجموعة أهلية لبنانية، اعتنى حزب الله، بتسريع إعادة احياء “الثقافة الخاصة”، وتعميم طقوسها على جمهوره، المنظم منه والمؤازر، وذلك من خلال خطوات مدروسة ومبرمجة، أعادت استحضار عدد من المناسبات، فأخذت بطقوسها الموروثة، وأضافت إليها شيئاً من “المشهدية” الهادفة إلى تكريس بعد مادي ونفسي في وجدان ممارسيها، والساعية أيضاً إلى جعل المشهدية الحاضرة، استمرارًا لتراث مشهدي سابق، ومرجعية “نمطية”، لكل المشهديات التي تريد الخوض في غمار “التجربة الإحيائية” الطقوسية” ( أحمد جابر، مصدر سابق، ص112).

بعد الإنسحاب الإسرائيلي من لبنان، والذي كان للحزب دور مركزي في فرضه، وبعد الإنسحاب السوري من لبنان في أعقاب اغتيال رئيس الوزراء اللبناني السابق رفيق الحريري، جرى تحوّل في تعاطي الحزب مع الشأن اللبناني الداخلي. لم يشارك الحزب قبل هذه الفترة في الحكومات اللبنانية، لكنه الآن قرر أن يكون شريكاً في السلطة، مستندًا الى موقع مميز من خلال السلاح الذي يمتلكه والالتفاف الشيعي حوله. شكلت حرب تموز نقطة تفجّر في علاقته بالمجموعات اللبنانية الأخرى. انطلق من ادعاء النصر الإلهي في تلك الحرب لمحاولة فرض سطوته على البلد والحكم، وتحول كلياً إلى الداخل اللبناني. كانت أهم نتائج حرب تموز الوصول إلى القرار 1701 الذي فرض وجود قوات الطواريء في الجنوب ومعه انتشار الجيش اللبناني، وانسحاب حزب الله من المنطقة. عنى القرار عملياً إنهاء المقاومة المسلحة ضد اسرائيل، وهي مقاومة كانت توقفت ولم يعد ما يبررها منذ الإنسحاب الاسرائيلي عام 2000. لكن أخطر ما نتج عن الحرب هو نقل حزب الله من الحدود مع اسرائيل إلى الداخل اللبناني وإدخاله في وحول الحرب الأهلية الباردة الدائرة فيه، ووضعه في مواجهة القوى الطائفية الأخرى. في الصراع على المحكمة الدولية الخاصة بمحاكمة قتلة رفيق الحريري، اتخذ الحزب موقفا معادياً للمحكمة، لكونه المتهم الرئيسي بالاغتيال، وسعى إلى قلب صيغة الحكم لمنع تمرير قرار المحكمة لبنانياً. نفذ اعتصاماً لمدة عام ونصف في وسط بيروت، وشل قسما واسعا من الحياة الاقتصادية، وصعّد خطابا فئويا طائفيا مليئاً باتهامات التخوين والتكفير لسائر المجموعات التي تعارضه، وتوّج هذا الاعتصام بشن حرب أهلية (صغيرة) في السابع من ايار عام 2008، غلبت عليها شعارات أن هذه الحرب في بيروت هي انتقام الإمام علي من يزيد بن معاوية، مستحضرًا الصراع الطائفي والمذهبي على السلطة قبل خمسة عشر قرنا. وقبل هذه الفترة، وجهت الاتهامات إلى الحزب باغتيال عدد من القادة اللبنانيين الذين يقفون ضد خطه السياسي وضد السياسة السورية التي يلتزمها الحزب.

على رغم أن الحزب لا يمثل الأكثرية العددية التي تخوله الإمساك بالسلطة، ، وبالنظر إلى أن سلاحه بات عنصراً داخلياً يتحكم بمسار الحياة السياسية، فقد وظف هذا الموقع في تعطيل الحياة السياسية، يشير احمد جابر إلى هذه المسألة بالقول :”لقد كان حزب الله “حاكماً”، عندما استجاب “ائتلاف الحكم”، لمتطلبات المهمة القتالية، وكان حاكماً عندما تقدمت أولوياته على كل الأولويات الداخلية الأخرى. كذلك كان الحزب “متحكماً”، عندما بدا أن المعادلة، التي ساهمت في “تمويه” رغبته في الإمساك بمفاصل “الوجهة الوطنية” العامة، قد تبدلت، فانتقل من مباركة الانتظام المحلي، تحت سقف “الإجماع” حوله.. إلى قيادة “الارتباك الأهلي”، في ظل شعارات متنوعة تخفي الهدف الأساسي للحزب، المشدود الى عوامل استثمار قوته الأولى، بغض النظر عن تبدل الوقائع التي أوصلت الحزب إلى هذه القدر ، وطلب ترجمة “وفرة القوة” لديه، في كفتي ميزان توازن داخلي جديد” ( أحمد جابر، مرجع  سابق، ص128).

منذ عدة أعوام يفصح الحزب دوماً عن كونه جزءًا من مشروع اقليمي عماده النظام الإيراني والنظام السوري، بل هو يسعى إلى ربط لبنان بهذا الحلف. منذ اندلاع الانتفاضة السورية عام 2011، انحاز الحزب بشكل مطلق إلى النظام السوري. لم يكتف بالتأييد السياسي، فتحت وطاة مخاطر سقوط النظام، وبناء للطلب الإيراني، أرسل الحزب مقاتليه إلى سوريا للدفاع عن النظام، مدعياً بأنه ذاهب للدفاع عن الأماكن المقدسة الشيعية، لتتهاوى هذه الحجة سريعا، فنرى قوات الحزب في معظم المناطق التي يدور فيها القتال. ترافق هذا التدخل مع خطاب طائفي مذهبي، إذا كان هدفه الرئيسي تعبئة الطائفية الشيعية لإرسال أبنائها إلى القتال، إلا أن مفاعيله الداخلية كانت سيئة جدًا وخطرة على الداخل اللبناني. أقحم الحزب لبنان في الحرب السورية، ورفع من وتيرة الشحن الطائفي الداخلي بطاقة استثنائية، وهو داخل لم تكن تنقصه حدة الاصطفافات المذهبية. أغرق الحزب نفسه في وحول الحرب الأهلية السورية، ودفع اعدادًا كبيرة من الضحايا، ونقل العنف السوري إلى لبنان بحيث نالت مناطق متعددة نصيبها من التفجيرات التي تركزت على بيئة الحزب الشيعية. وها هو اليوم يقحم نفسه في الصراع الدائر على الأرض العراقية في صراع مذهبي صاف على السلطة بين المكونات الشيعية والمكونات السنية، وهو تورط ستكون أكلافه باهظة على الحزب وبيئته.

 

الإسلام السّياسي: أي مستقبل؟

تشهد الوقائع في أكثر من مكان في العالم العربي عن مرحلة صعود يعيشها الإسلام السياسي، خصوصاً في شقه الأصولي المتطرف، وهو حكم ينفي التبسيطات الثقافوية التي يقول بعضها بأن الأسلمة والأصولية سائرة الى انحدار بالنظر إلى التقدم الثقافي والعلمي الذي تشهده المجتمعات العربية. لكنّ هذا الصعود والفرص المفتوحة  لقوى الإسلام السياسي في الصعود لا يعني نجاح مشروعها في بناء دولة وإدارة مجتمع، وهي ظاهرة يمكن تلمسها في كل مكان أمكن فيه للإسلام السياسي بسط سيطرته. بعض مظاهر الفشل يتجلى في أن معظم الحركات الإسلامية كانت تفتقد برامج ومشاريع لبناء سلطتها، مما جعلها تتصرف بعقلية المعارضة، لأنّ أفكارها في الدعوة إلى أسلمة الدولة والمجتمع اصطدمت بواقع مغاير للأفكار المثالية التي تحملها.

لكنّ القول بأن الإسلام السياسي لا مستقبل له في المدى البعيد، إنما يستند إلى جملة عوامل موضوعية تجعل من مشروعه المستقبلي مستحيلاً. لقد أثبتت التجربة التاريخية في أكثر من مكان على أن الدولة الدينية لم تقم في أي زمن، وهي أسطورة يجري استحضارها من قبل المتسلطين على الأديان، سواء أكانت مسيحية أم إسلامية. كما أن الدين فئوي بطبيعته وإقصائي لغيره، ويستحيل أن يشكل أساساً للشرعية أو وسيلة لحل النزاعات بين المجموعات التي يتشكل منها المجتمع. وفي المكان الذي حلت فيه سلطة دعاة الدولة الدينية، أثبتت الوقائع أن الأساس في هذه السلطة هو  معاداتها  للديمقراطية، وهو موقف ينبع من التصور الخاطيء بأن السيادة تنبع من الله وليس من الشعب، وهي مقولة ما زالت تعطيها تيارات الإسلام السياسي الموقع المركزي في طروحاتها. كما أن التوجه لإقامة الحكم أو بناء الدولة على أساس ديني تنطلق من التمييز بين البشر على أساس الدين، وتقصي سائر المذاهب والطوائف المختلفة مع منطلقاتها الفكرية، أي باختصار تفتقد إلى حق المساواة بين المواطنين في الحقوق والواجبات. وفي كل مكان وصل فيها هذا الإسلام إلى السلطة، مارس أبشع أنواع الديكتاتورية وتسليط سيف الإرهاب على المواطنين، وفرض أنماط من السلوك المستند إلى عصور غابرة والمتنافية مع الحرية الشخصية، كما وصل الأمر بفرض ديكتاتورية على عقول الناس. يستند الإسلام السياسي في أحكامه هذه على تفسير للنصوص لا يأخذ في الاعتبار زمان ومكان تاريخها، ومدى اتصالها بالعصر الحاضر. هذه المحاولة في إخضاع الواقع للنص هي أحد العوامل في تأبيد التخلف الذي تعاني منه المجتمعات العربية والإسلامية.

من العوامل التي تجعل الإسلام السياسي مشروعاً غير قابل لحل مشاكل المسلمين، هو موقفه من التطور الحضاري والتقدم البشري. يبدو مشروع الإسلام السياسي بعيدا عن النهضة بالمجتمع وتطويره والإفادة من منجزات الحضارة البشرية، بل يقوم مشروعه على مواجهة هذا التقدم والارتداد بالمجتمع والعقول إلى ثقافة “أهل الكهف” القائمة على الخرافات والتصورات الخاطئة، تحت حجة العودة إلى السلف الصالح والمحافظة على التراث وحماية الهوية الدينية والثقافية. يقدم هذا الإسلام السياسي منظومته الأيديولجية هذه على أنها يقينيات ثابتة ومعصومة تصل إلى مستوى الحقائق الإلهية، بما يجعل كل حكم وكل نمط من السلوك بمثابة ترجمة دينية لما يقول به الدين في نصوصه المقدسة وسنته وأحاديث النبي والصحابة والأئمة وكل من ينصّب نفسه فقيها يحق له إصدار الفتاوى التي تصبح نصوصاً مقدسة. وعندما تتمركز تشريعات الإسلام السياسي في السنوات الأخيرة على قطع الرؤوس والأيادي والذبح ورجم النساء والجلد وغيرها من تشريعات ما يعرف بالحدود، فلنا أن نتصور اي عوائق وحواجز تقف في وجه تقدم هذ المجتمعات. من الطريف أن الإسلام السياسي في تركيا، وهو المصنف معتدلاً وذا علاقة بالعصر، يخرج منه نائب رئيس الوزراء داعياً النساء إلى عدم الضحك لأن الضحك مفسدة للأخلاق. ليس مغامرة الشك بوجود إسلام معتدل، ففي تركيا أظهرت وقائع السنوات الماضية سعياً من الإسلام السياسي إلى إلغاء الكثير من مظاهر التمدين التي عرفتها تاريخياً بعد إصلاحات مصطفى كمال. وإذا كان الإسلام السياسي يتصرف بحذر في هذا الجانب، فإنما يعود السبب إلى موقع المؤسسات المدنية والعسكرية والسياسية التركية التي تقف حاجزًا في وجه العقل الأصولي لحزب العدالة والتنمية. أما في سائر البلدان العربية، فقد تهاوت ادعاءات الإسلام السياسي المعتدل بمجرد أن اشتمّ هذا الإسلام رائحة السلطة، فانقلب على مفاهيمه السابقة وعاد بفكره إلى زمن العصور الحجرية.

على رغم موقف الإسلام السياسي من التقدم الحضاري، فإن مسلكه العملي يتسم بأقصى الانتهازية لجهة استخدام منتجات العلم والتكنولوجيا الحديثة. هذه التكنولوجيا هي نتيجة الثورة العلمية وانتشار الحداثة، وهي بالأصل انقلاب فكري وثقافي وعلمي على الموروث السائد، وعلى هيمنة الخرافة والأسطورة ومعهما السماء على العقول والنفوس، لصالح العلم والعقل. فهذه المنجزات ليست مجرد تقنيات بمقدار ما هي تقدم بشري على جميع المستويات. يعيش هذا الإسلام السياسي انفصاماً بين واقع العصر وسيادة العولمة بكل منجزاتها الفكرية والعلمية والتكنولوجية ونمط الحياة الذي تفرضه. فالعولمة بهذا المفهوم تخترق المجتمعات وتؤثر على البشر كلهم من دون استئذان، تدخل البيوت عبر القنوات الفضائية وتعمل تغييرًا في الذهنيات. ومهما استعصت العقول على التأثر بهذا القادم، فإن المستقبل سيفرض تحولات في العقول لا بد لها آجلا أم عاجلاً من الاصطدام بالعقول المتحجرة مهما قاومت وامتنعت عن التفاعل.

المصدر: http://alawan.org/2016/07/21/%D8%A7%D9%84%D8%A5%D8%B3%D9%84%D8%A7%D9%85-...

الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك