التسامـــح صيـــرورة الاختــلاف الإنسانــي

التسامـــح صيـــرورة الاختــلاف الإنسانــي

عماد كامل
المفاهيم التي تستند في صيرورتها إلى الخبرة الإنسانية، والتي تدفع الإنسان إلى الانجازات المستمرة والتغيير والتجديد في حياته،
هذه المفاهيم تمتاز بكونها لا تميل إلى التجريد عن الواقع والعيش في عالم المثالية ولا تتخذ من المدن الفاضلة مكانا، لذا فان الإنسان لا زال يقدم الكثير من الخسائر بسبب تشبثه بمفاهيم وقيم تميل إلى التجريد والمثالية. ومفهوم التسامح واحد من المفاهيم الإنسانية الكبرى، الذي شق طريقه إلى تاريخ الإنسانية فأضفى عليها المزيد من السلام في هذا العالم، فهو كغيره من المفاهيم الذي جرى عليه الكثير من التراكمات المعرفية وتخلله الكثير من التجاذبات بين مختلف التوجهات والأيديولوجيات، ولو تتبعنا صيرورة معنى التسامح في الحياة الإنسانية من الناحية الاجتماعية فأنه يعني كما يراه احد الباحثين بأنه" الموقف الذي يقضي بالاعتراف للآخر بحق التصرف والتفكير بشكل مختلف. هذا الموقف يتعلق بوجود التجانس الذي يرفع مستوى قبول الهامش والأصالة والمخالفة والانتهاك. والتسامح من ناحية نفسانية اجتماعية، يقع هامشه بين حدود التغاير الاجتماعي الكائن بين القبول السلبي لوضع أو تصرف غير طبيعي أو غير منتظم واستعمال ردود الفعل الرافضة، الدفاعية والمعيارية. وتتغير [عتبة التسامح] ومدته وقدرة التشبث به، على حسب تكوين ووضع نفسية وثقافة الأفراد وحسب طبيعة وحدة الإثارات" فالتسامح يعني الاستعداد لقبول وجهات النظر المختلفة ولا يعني بالضرورة الموافقة عليها،وهو ضد التعصب الذي هو التطرف في قبول فكرة أو عقيدة وهذا السلوك عادة ما يفضي إلى العنف وتهميش الآخر.
ولمفهوم التسامح حضور واضح في المنظومة الفلسفية فقد جاء تعريف التسامح في موسوعة"لالاند" الفلسفية بأنه "طريقة تصرف شخص يتحمل، بلا اعتراض، أذى مألوفاً يمس حقوقه الدقيقة، بينما في إمكانه رد الأذية؛ طريقة تصرف سلطان يتقبل علناً، بحكم نوع العادة، هذه المخالفة أو تلك المخالفة للقوانين أو للأحكام المولج بتطبيقها. وهو استعداد عقلي، أو قاعدة مسلكية قوامها ترك حرية التعبير عن الرأي لكل فرد؛ حتى وإن كنا لا نشاطره رأيه" ويرى إد. غوبلو "أنه ليس على المرء التخلي عن قناعاته أو الامتناع عن إظهارها، والدفاع عنها أو نشرها، بل تقوم على امتناعه من استعمال جميع الوسائل العنيفة، والقدح والذم، بكلمة: يقوم التسامح على تقديم أفكاره دون السعي لفرضها.
وقد تجلى ظهور مفهوم التسامح في التاريخ الغربي ، في القرن السادس عشر الميلادي بعد الحروب الدينية الطاحنة التي دارت رحاها بين الكاثوليك والبروتستانت: فقد انتهى الأمر بأن تساهل الكاثوليك مع البروتستانت، وبالعكس. ثم صار التسامح يرتجى تجاه جميع الديانات وكل المعتقدات. وفي آخر المطاف، في القرن التاسع عشر الميلادي، شمل التسامح جميع الأفكار الحرة المطروحة، فيرى الفيلسوف جون لوك "أن التسامح جاء كرد فعل على الصراعات الدينية المتفجرة في أوروبا، ولم يكن من حل أمام مفكري الإصلاح الديني في هذه المرحلة التاريخية، إلا الدعوة والمناداة بالتسامح المتبادل والاعتراف بالحق في الاختلاف والاعتقاد".أما الفيلسوف الفرنسي فولتير فقد قال كلمته المشهورة التي تُعلي من شأن الحرية والتسامح وقبول الآخر على مبدأ الاختلاف وتنبذ الإقصاء والتهميش وتعترف بحق قبول الآخر إذ يقول: "إنني لا أوافق على ما تقول، ولكنني سأدافع حتى الموت عن حقك في أن تقوله.
أما فيلسوف العلم والمجتمع المفتوح المعاصر "كارل بوبر" فيذهب إلى أن التسامح موقف أخلاقي وعقلي ينبع من الاعتراف بأننا غير معصومين عن الخطأ وأن البشر خطَّاؤون، ونحن نخطئ طوال الوقت. وذلك خلاف موقف المتعصب الذي ينبع أصلاً من اليقين بصحة الآراء والتنكر لحقيقة وجود الخطأ في كل ما نعرف. إذن فالتسامح يعني في ابسط صوره الإقرار بمبدأ التعدد الإنساني، كما أن التسامح ليس عفواً تصدره الشعوب على أناس مذنبين ،إنما هو قبول بالآخر المختلف، بما يجعله شريكا في صناعة الحياة، وليس هامشا ذا دور تكميلي.وهكذا نخلص إلى إن التسامح حركة بإزاء الآخر، ملؤها الإيمان بقيم التعدد والاختلاف، والذي هو تعبير عن وجود فوارق طبيعية مادية ومعنوية توجد بين أبناء المجتمع الواحد،وكلما تعمق الاعتراف بالمغايرة والاختلاف تجذر سلوك التسامح واثبت جدواه،لان الآخر يمثل كسر لقيود التمركز حول الذات.
وأخيرا فقد أثبتت تجارب الشعوب ان التسامح أفضل وسيلة لتنظيم الأمور، كما انه يحقق فاعلية كبيرة في مجال التجديد والتغيير في حياة المجتمعات
المصدر: http://www.ifidonline.com/ar/index.php?option=com_kunena&Itemid=83&func=...

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك