العنف الديني كسلوك بارانوي

خليل غريب

 

تتعدد المنظورات التي يمكن أن تقارب منها ظاهرة العنف الديني، وتكشف المقاربة النفسية بدورها مجموعة من المعطيات والمحددات التي يمكن أن تحيل على بعض السبل لعلاج هذه المعضلة؛ فإن فهم سيكولوجيا التطرف والتعصب من الأهمية بمكان؛ وهذا الفهم كفيل بمعرفة الأسباب والمحفزات والأوضاع التي تلقي بالشباب في غياهب السوداوية والدموية. من وجهة نظر التحليل النفسي هناك علاقة بين العنف والوحشية وبين بعض السمات والحالات الباثولوجية، ولا يعني ذلك بالضرورة استحكام المرض العقلي وبالتالي رفع المسؤولية الجنائية، فقياسا على ما ذكر فرويد من أن جميع الناس عصابيون بنسبة ما إذ ليس هناك حد واضح بين الحالة العصبية الطبيعية والمرضية، فإن الأمر متعلق بتدرج بين الخفة والحدة، فما يحدد المرض الحقيقي هو زوال العقل.

في البارانويا Paranoia وما يرافقها من انجذاب شديد نحو الذات ومن موقف سلبي ارتيابي يكونه البارانوي حول الآخر المختلف؛ سبب وجيه يدفع بعض الناس إلى ارتكاب العنف باسم الدين، فهناك تشابه بيّن في الخصائص النفسية بين شخصيتي المتطرف والبارانوي Paranoiac. وللصلة الموجودة بين القلق والخوف والتفكير البارانوي؛ فيمكن أن نميز هاهنا بين خوفين: الخوف البارانوي من “الفساد” الذي يعرفه الأصوليون ويحددونه بالبعد عن الدين، وهو ما يمثل بالنسبة لهم انسحاقا في هاوية الفقدان والضياع ومن ثم فإنه لا يمكنهم تقبل ذلك مهما كلفهم الأمر من متاعب وتضحيات، يعتقد الأصوليون استدعاء لشعور بدائي انتاب الإنسان في الزمن السحيق؛ أن اللعنة الالهية قد تحل بسبب العدول عن تعاليم الله ما يدفعهم إلى ممارسة العنف للحيلولة دون ذلك بحمل الناس على الخضوع لأوامر الله. والنوع الثاني: الخوف من تغول الآخر الذي يجب إخضاعه، أو وأده في المهد حتى لا يكبر ويصبح تهديدا حقيقيا لوجود الذات، وهذه الحالة تظهر جلية في ممارسات البوذيين في بيرمانيا ضد الأقلية المسلمة، التي يسعون من خلالها إلى كبح الجماح المتوهم لهذه الفئة التي تمثل 4 بالمائة من مجموع سكان البلد؛ وربما إلى تقليل عددهم؛ لأنهم يتكاثرون بوتيرة سريعة كما عبر عن ذلك الراهب أشين ويراتو الذي يعتقد أنه المحرك للعنف الطائفي في ذلك الصقع، تتعامل الجماعة البوذية القومية “969” التي يتزعمها بمنطق فرعوني بارانوي: “اقض عليه قبل أن يقضي عليك”، وهي جملة تلخص أحد أهم دوافع ممارسي العنف باسم الدين. يشبه ويراتو الذي يلقب ببنلادن البورمي الطائفة المسلمة بالكلب المسعور الذي لا يمكن أن ينام الإنسان بقربه مهما كان رحيما ومحبا؛ فهو يرى أن المسلمين يشكلون أكبر خطر على بلده وهويته، ويخشى من مصير مماثل لما يحصل في بلدان أخرى بسبب الجماعات العنيفة المنتسبة للإسلام، “إذا ضعفنا فسوف يصبح بلدنا مسلما” يقول ويراتو، نقيض الضعف الذي يجسده أتباعه في ممارسة العنف في أبشع صوره ضد إثنية الروهنغيا.

وتعد الحجج التي يقدمها ويراتو مقنعة في أوساط أشياعه من منتسبي الثيرافادا (السلفية البوذية)؛ المدرسة البوذية المهيمنة في بيرمانيا؛ إنهم يعتقدون أنهم يحمون عقيدتهم وأرضهم من أتباع دين كثيرا ما التصقت به تهمة العنف، رغم أن المسلمين لم يبادروا بالعنف؛ إلا أن البوذيين المناوئين للإسلام في البلد المذكور يعدون حادثة اغتصاب مسلم لبوذية عام 2012 عدوانا صارخا ضد البوذيين، وهو ما كلف طائفة بأسرها الكثير. من الذرائع التي يرددها ويراتو لتبرير الكراهية أن المسلمين متغلغلون في بعض القطاعات الحيوية كالتجارة والبناء والنقل، ويرى في استمرار ذلك خطرا يهدد كيان وطنه، لذلك يدعو إلى مقاطعة المتاجر والشركات التي يديرها مسلمون. ورغم أن الروهنغيا تعد الأقلية الأكثر تعرضا للاضطهاد في العالم حسب منظمة الأمم المتحدة إلا أن مضطهديهم يتحدثون عن جرائم المسلمين في حق البوذيين وظلمهم لهم.

لدى الشخص البارانوي شعور هذائي قوي بالاضطهاد Persecution delirium؛ يجعله في حالة قلق وماليخوليا على الدوام؛ وهذا ما يجعله قابلا للانفجار في أية لحظة، وهو الحال بالنسبة لأتباع الجماعات الإسلامية الثورية، والثورية تولد من رحم الشعور بالاضطهاد، تروج هذه الجماعات خطابا بكائيا إليجيا وتميز تصريحات قادتها وأتباعها نبرة بكائية ناتجة عن عقدة الاضطهاد، يذكرون دائما بالنكبات والمذابح، والاحتلال والغزو الأجنبي، إنها إليجيا موت الأمجاد وتبدد الهوية وانتهاك العرض، موت القيم والأخلاق، وموت الثبات والاستاتية بسبب التطور والصيرورة، الأصوليون باختلاف مشاربهم يشعرون بالاضطهاد لأنهم لا يستطيعون الاندماج في الصيرورة، ويتحسسون ويخافون من التغيير الذي يعني لهم الفقدان، فالتطور عدوهم والآخرون الذي تحرروا من القيود والضوابط وساروا في مضمار التطور أعداء بالنسبة لهم يضطهدونهم ويكرهونهم، يكرهون الفضيلة المتجسدة فيهم والقيم الجميلة التي يحافظون عليها، ولا يقدرون قيمة الكنز الذي يدلون عليه؛ هكذا يتم تأثيم الآخر المختلف لا لشيء فقط لأن نظرته إلى العالم مختلفة. هذا قد يفسر أيضا التحاق بعض الشباب من الجالية المسلمة في أوروبا بالجماعات الإسلامية العنيفة؛ فمن أبرز أسباب ذلك تعذر الاندماج عليهم لأسباب ذاتية أو موضوعية*، وشعورهم بالاختلاف والغربة عن المحيط الذي يعيشون فيه، مع أخذ بعض الجزئيات بعين الاعتبار كوجود مشاكل اجتماعية أو التعرض للفشل والصدمات النفسية في حياتهم الاعتيادية، كل ذلك يضخم شعورهم الهذائي بالاضطهاد وينمي لديهم النزوع العدواني، ولا يعود الملاذ إلا العودة إلى الأصل، إلى الهوية المفقودة، وأمام تعدد وجوه هذه الهوية، فإن هؤلاء يختارون الوجه الأقرب للموقف الذي كونوه حيال الحياة الاجتماعية والذي يتناغم من شخصياتهم وخصائصهم النفسية المكتسبة، وبالتالي الاتجاهات الأصولية العدوانية التي تؤكد أسباب الشعور الاضطهادي عند هؤلاء الأفراد وتزيد من حدته، عدمية السلوك العدواني عند بعضهم الذي يترجم في البداية في ارتكاب جنح وجرائم لغير هدف أو لغايات دنيوية، يؤطر فيما بعد بالمكون الهوياتي حيث ترسم غايات أخروية للفعل الإجرامي الذي يجد في الدين مصدرا يستمد منه المشروعية.

البارانويا هي دافع الحركات الفاشية على اختلاف أضرابها، فهذه الأخيرة تسعى إلى صهر كل المكونات المختلفة في عقيدتها حتى لا يأتي يوم وتصبح الأمور خارجة عن سيطرتها، إنها تضمن بذلك بقاءها واستمرارها. وهي لا تقيم وزنا للآخر لنزعة التمركز حول الذات Egocentrism المسيطرة عليها، القوى الفاشية والعنصرية والأصولية تحركها الميغالومانيا أو جنون العظمة وهو تمظهر بارانوي، يخيم عليها وهم تمثيلها للخير في العالم، الحق كل الحق معها، والحق لا يتعدد، هذه الجزمية والدوغمائية تمنحها القوة واللاشفقة.

من الهذيانات البارانوية وُهام المثالي الشغوف Passionate idealist الذي يجعل من الشخص مبشرا لا يعرف الفتور بفكرة معينة دينية، سياسية أو اجتماعية، يكون على استعداد لنشرها والتضحية في سبيلها والدفاع عنها بأية وسيلة، وقد ينتهج العنف لأجل ذلك، هذا التعلق والهوس يفقده الاتصال بالواقع ويحول دون إدراكه لحقيقة الأمور فيظل حبيس المثال ينشده باستمرار، هذه الحالة تظهر بجلاء في الجماعات الأصولية الدينية والفاشية التي ترى في كل مخالف عدوا للخير والمثال، يشكل تهديدا لكيانها وعقيدتها وبهذا تبرر استئصاله.

هناك علاقة وثيقة بين التعصب والبارانويا؛ فالبارانويا هي البنية الذهنية الكامنة وراء التعصب، وتدل عدة مؤشرات على أن المتعصب غالبا ما يكون ذا شخصية بارانوية فهو شكاك متعال محتقر للآخرين ولآرائهم، دائما يفترض وجود عدو يهدد الفكرة التي يدافع عنها، شديد الانجذاب لتلك الفكرة ويدافع عنها بشدة وبلا كلل، والبارانوي متصلب عنيد لا يقبل النقد فضلا عن النقد الذاتي، له آراء ثابتة لا تتغير. كما أن العلاقة وثيقة بين العنف الذي غالبا ما ينتج عن التعصب، والذي جرت العادة على اعتباره عرضا عصابيا وذهانيا؛ وبين البارانويا التي يمكن أن تؤدي بالشخص إلى ممارسة العنف وصنع معاناة الآخرين، وفي هذا السياق أكد بعض الخبراء في الطب النفسي معاناة اندرس بريفيك المتطرف النرويجي الذي نفذ هجومي أوسلو وأوتايا عام 2011 من الفصام البارانوي. نفس الأمر نلمحه في شخصية أساهارا زعيم جماعة أوم شنريكيو التي ارتكبت هجوم غاز السارين في ميترو الأنفاق في طوكيو عام 1995، كان أساهارا مهووسا بفكرة نهاية العالم وما سيسبقها من حروب وكوارث، فضلا عن زعمه أن وكالات الاستخبارات تتعقبه، واستحوذت على هذه الجماعة الروحانية التي جمعت في البداية في بين تعاليم البوذية والهندوسية نزعة بارانوية واضحة تتمثل في معاداة المجتمع وهوس زعيمها وأتباعه بمعتقدات اسكاتولوجية: “معركة هرمجدون” التي وردت الإشارة إليها في سفر الرؤيا، والتي ترمز إلى الحرب النهائية بين قوى الخير وقوى الشر ممثلة في المسيح وأتباعه، والمسيح الدجال وجنده.

شبيهة بهذه المعتقدات تلك التي نجدها لدى أتباع جماعة الدولة الإسلامية، التي تستعمل خطابا استقطابيا وتحميسيا ذا صبغة أبوكاليبتية، ينم عن هوس بأحاديث الفتن والملاحم، والمرويات التراثية التي تتحدث عن نهاية العالم، ففي مقابل هرمجدون نلفي “الأعماق ودابق” وهما موضعان في الشام قرب حلب جاء ذكرهما في حديث(مسلم،2897) يخبر أن حربا ستندلع في آخر الزمان في هذه المنطقة بين المسلمين والروم ستنتهي بانتصار المسلمين وقتل المسيح الدجال بحربة المسيح الذي ينزل في آخر الزمان، وتطلق جماعة الدولة على مجلة الكترونية تصدرها باللغة الانجليزية اسم دابق، فيما تحمل مؤسسة إعلامية ناطقة باسم التنظيم اسم أعماق، تتمسك هذه الجماعة بحديث الفرقة الناجية أو الطائفة المنصورة التي تجسد قوة الخير في العالم، والتي وكلها الله بحفظ الأمانة ونشر الرسالة الخالدة حتى لا يبقى بيت مدر ولا وبر إلا يدخله الإسلام، وهو ما سيعقبه تحقق العدل والرخاء في ظل طوبى الخلافة. تتبدى في طموح هذه الجماعة الذي يمكن إدراجه ضمن هذيانات المطالبة البارانوية Revendication deliriums وتحديدا المطالبة الميتافيزيقية؛ علامات المثالي المتعلق، إضافة إلى الأنوية القوية والنزعة المركزية التي تميز فكرها، هذا يجعل اعتقادها راسخا بأنها تتصرف بأعين الله ووحيه وأنها تبطش بيد الله، لأن رجالها صدقوا ما عاهدوا الله عليه ولم يبدلوا ولم يتبعوا السبل؛ بل ثبتوا على ميراث السلف الصالح، هذه الأرثوذكسية تغذي الشعور الميغالوماني الذي يطغى على الغيرية لدى هؤلاء، فلا تعود للآخر المختلف حرمة بل يصير نزع القيمة عنه مؤيدا بأمر مالك الملك الذي يفعل في ملكه ما يشاء بأيدي عباده المؤمنين، ومع أن السلفية الجهادية لا تؤمن بعقيدة الحلول والاتحاد، إلا أنه يمكن القول إنها تمارسها عمليا من خلال النطق بلسان السماء والاستحواذ على الدين وتفسيره الذي هو ملك للجميع.

ورغم أن بعض المؤشرات قد تدل على تاريخية الحديث المذكور –حديث دابق- الذي رواه أبو هريرة، وربما إسرائيليته، إلا أن لدى هذه الجماعة الأصولية اعتقادا لاعقلانيا راسخا بتحقق هذه النبوءات في آخر الزمان، ففي الحديث إشارة إلى أن الحرب ستكون بالأسلحة التقليدية “السيوف والحراب”، وفيه ذكر فتح “القسطنطينية” التي كانت عاصمة الامبراطورية الرومانية والبيزنطية على التوالي، ولعل هذه المعطيات هي التي جعلت “جماعة المسلمين” التي عرفت إعلاميا بجماعة التكفير والهجرة؛ تبحث عن مخرج لمسألة الأسلحة التقليدية، فكان أن زعمت هذه الجماعة أن حربا كونية ستقوم بين الدول العظمى آنذاك الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي؛ ستؤدي إلى اختفاء الأسلحة الحديثة والمتطورة، ثم يعود القتال بالأسلحة البدائية كالسيوف والحراب حينها سيبدأ دور الجماعة التي ستقاتل الدجال وجنده، وقد تميزت هذه الجماعة أيضا بسمات بارانوية بارزة كالتعالي والشعور بالتميز عن الآخرين، واعتبارها الناس من غير أتباعها كفارا، كما كانت جماعة عنيفة لا تترد في اغتيال خصومها، نقطة الشعور بالاضطهاد كما مر من أهم سمات الشخصية البارانوية لذا فأغلب الجماعات العنيفة تعاني من هذا العرض فخطابها لا يخلو من الحديث عن ظلم الأعداء وتداعيهم علي الأمة، وهذا الاضطهاد قد يكون حقيقيا وقد يكون مبالغا فيه وغير معقول، الفكرة التي يتفق عليها أكثر الباحثين أن قادة جماعة التكفير قد تعرضوا لألوان العذاب في السجون، وربما كان هذا سببا في بروز البارانويا بمختلف أعراضها لديهم، الصدمات النفسية لا شك تترك آثارها في النفس الإنسانية والتي تؤدي إلى عواقب وخيمة فيما بعد؛ يكون بطلها شخص سيكوباثي أي صاحب الروح المعذبة المعانية.

لا ينظر الأصولي البارانوي بعين النحلة بل بعين الذبابة، وهذا لا يعني أن بينه وبين الذبابة قواسم مشتركة، هذا غير صحيح، لدى الأصوليين نزعة تطهرية مهيمنة قد تأخذ شكلا وسواسيا وتماثل أعراض ميزوفوبيا معنوية “دينية وأخلاقية”، وهو ما يفسر تدقيق بعض الأصوليين والمتعصبين في الكلام واختيارهم الألفاظ بعناية شديدة خشية الوقوع في الكفر، وإسهابهم في بيان نواقض الإيمان، ويدخل في هذا الإطار أيضا المبالغة في تحديد شروط الحجاب الساتر بدقة والمبالغة في تفصيل ضوابط تعامل الرجال والنساء فيما بينهم. رهاب الأصوليين من الاتساخ هو ما يدفعهم إلى ممارسة التطهير الديني والأخلاقي؛ فهم يرون وجوب طهر الأرض من العقائد المخالفة لعقيدتهم، ولزوم اختفاء الانحرافات الأخلاقية والاختيارات الأخلاقية الغريبة عنهم بشكل نهائي، إنهم يمارسون ما من شأنه أن يحول دون اتساخ المجتمع الإنساني، والعنف والقسوة في نظرهم مقابل للتنظيف، والعقوبة وسيلة نظافة الهدف منها استجلاب رضا الله. الخوف من حلول الغضب الإلهي بسبب انحراف العباد عن الجادة هاجس عند المتعصب البارانوي، فهو يرى أن ذلك الضلال مؤذن بالخسف والمسخ والقذف، إنه سبب الأوبئة والكوارث الطبيعية، وسبب عدم تقبل الله للدعوات، بل حتى الغزو الأجنبي هو بسبب البعد عن الله والانحراف عن صراطه المستقيم، هذا الخطاب الأزموي الذي ينبثق في خضم الأزمات ويوظف في أدلجة الحشود وتحميسها ليس بجديد، فقديما عد بعض الفقهاء غزو التتار تسليطا من الله وعزوه إلى البعد عن الوحي والدخول فيما كرهه الله، ومن ذلك الخوض في الفلسفة والمنطق!

قد يشعر الأصولي بالإهانة –كما هو حال البارانوي لفرط حساسيته- لمجرد اختلاف الآخرين مع وجهات نظره أو لإخفاقه في هداية الناس بالطرق الوعظية ما يدفعه إلى حملهم بالقوة على الهداية كما يفهمها واعتناق تصوره الديني فـ “الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن”، إن الأصولي يرى أن الناس قد خانوا الأمانة الإلهية، التي ظل وحده محافظا عليها، فتتكون لديه نزعة رسولية تجعله يسعى في تعبيد الناس للرب، وتجعله في حرب ضد الكل. قد لا نتفق نسبيا مع من يحاولون نزع الدين من هؤلاء بالقول إنهم ليسوا أهل دين إنما يتظاهرون بتعلقهم الديني لتحقيق مطامح مادية ما جعل البعض يعيبون على مؤسسات دينية رفضها تكفير بعض الجماعات الإسلامية العنيفة، وعموما نرى أن هؤلاء مرضى بالدين، إنهم مجانين الله، طبعا الإله كما يتصورونه، وكما تعكسه نفسياتهم التي تحتاج إلى الدراسة أكثر من التركيز على ما يخلقونه من أحداث.

تكشف السمات البارانوية بعض المفاتيح لعلاج أسباب آفة العنف الديني والفكر السلبي، فماذا ينبغي أن يكون التصرف بالنظر إلى هذه السمات المرضية التي تميز الجماعات كما تميز الأفراد؟

أولا لا ينفي علماء النفس دور العوامل البيئية في تكوين الاضطرابات النفسية، فلكل بيئة أمراضها ومرض البيئة العربية والإسلامية الأول هو التطرف الديني لأنها بيئة منتجة لهذا التطرف، إن انتشار العنف الديني ما هو إلا نتيجة حتمية للظروف الثقافية والاجتماعية والسياسية التي عاشتها وتعيشها هذه الأمة، إنه مرحلة ضرورية في حياة العالم العربي والإسلامي حتمتها هذه الظروف، وهي لا شك مرحلة عابرة إلا أن نوع التعامل معها هو ما يحدد مدة استمرارها، فهل سنفعل ما من شأنه تقليص هذه المدة؟ أم أن تصرفنا سيكون وقودا لهذه النار يجعلها تبقى وتتمدد لأحقاب أخرى؟

أولى تلك السمات؛ الدوغمائية والوثوقية التي تتكرس في غياب التفكير النقدي والعلمي، وتخييم ثقافة الخطوط الحمراء التي توطدها قوانين ازدراء الأديان** بصيغها المطاطة التي تحرس حتى الدخيل على البنية الدينية. ماذا ننتظر من أوساط اجتماعية تطبعها الجزمية والتابوية وتغيب عنها ثقافة الشك والتساؤل والتحليل والفهم؟ هل ننتظر من ذهنية جمعية منغلقة إلا الانغلاق والتقوقع؟ عندما نغرس بذور فكرة الحق والباطل التديُّنية -لا الدينية التي تتناغم مع القيم الإنسانية- في نفوس الناشئة هل ننتظر إلا نباتات شائكة وأشجارا مخيفة؟

السمة الثانية: الشعور الاضطهادي- الجحيم هو الآخرون؛ وهو شعور راسخ في النفسية الإسلامية ويمكن القول أنه مع الانفتاح التكنولوجي الحاصل أصبح هذا الشعور يشكل أحد وجهي عملة الموقف من الآخر حيث نجد على الوجه الآخر الإعجاب والانبهار بالمضطهِد المفترض وهو ما يحيل على نوع من الازدواج العاطفي. النظرة إلى الغير لا يتأتى تغييرها إلا بتربية النشء على احترام ومعرفة الآخر، وباستبدال ثقافة نحن أي “بنو الإنسان” بثقافة نحن وهم “شرق وغرب” “مسلمين وكفار”، وتبديد هواجس أن الآخر يتربص بنا ويريد لنا الشر، ومد جسور الحوار وتبادل الأفكار والانتقادات.

السمة الثالثة: المثالية ونشدان الأوهام؛ وهي سمة تميز العقل الإسلامي الذي يبحث عن اليوتوبيا: “سيأتي يوم يصل فيه الإسلام إلى المشارق والمغارب”، “ستملأ الأرض عدلا في ظل الخلافة الآتية لا محالة”، مع أن زمن التدافع قد انقضى، وأصبح المنشود اليوم قيمة السلام لا النزاعات والحروب. هذه القيمة العظيمة التي متى تشربتها قلوب الناشئة واستوعبتها عقولهم، اصطبغ بها سلوكهم في المدرسة وفي الشارع ونشأت معهم فكان سلوكهم في المستقبل بردا وسلاما على أوطانهم وعالمهم.

السمة الرابعة: الكآبة والسوداوية؛ التي لا سبيل إلى إجلائها إلا ترسيخ ثقافة حب الجمال والحياة وتحسينها والإبداع فيها، هذه الثقافة التي احتلت مكانها نفسية التذمر والتشاؤم على المستوى الاجتماعي الذي ينعكس على العلاقة بالآخر وعلى النظرة إلى العالم والحياة بصفة عامة.

السمة الخامسة: الخوف وهو ميزة الجو العام في المجتمعات العربية والإسلامية وهو ما ينتج نفسيات وعقليات معتلة ويؤدي إلى بروز التمرد السلبي؛ وذهابه رهين بالقطع مع عقلية “الفتنة أشد من القتل” ومع فكرة المؤامرة والكف عن معاداة الحرية، إذ لم تكن الحرية والحوار والتفكير والعلم يوما فتنة إلا بالنسبة للعقلية الاستبدادية ولحراس الأوهام، وأعداء الحقيقة. هذه المجتمعات في حاجة إلى تغيير مناخ الخوف والتحسس الملوث؛ بفتح النوافذ لنسيم الحرية والانطلاق والتسامح وبناء الوئام والسلم الاجتماعي في ظل التعددية وحرية الفكر.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* تعذر الاندماج ليس هو بالضرورة ما يدفع هؤلاء الشباب إلى التطرف، فالملاحظ أن مسار بعض المتطرفين قد عرف تحولا من الاجتماعية إلى الاجتنابية، فهناك سبب آخر للتطرف هو “الشعور الزهدي الأنَفِي” المتخلق من الانغماس في الدنيويات والمتع والذي يفرض على الشخص الانخلاع من دنيا الكدر والهجرة إلى يوتوبيا الصفاء، وتلعب هنا عقدة الذنب دورا مهما.

** هذه القوانين قد تزيد من حدة التطرف لأنها تؤكد أن هناك فعلا حربا على الدين وأن العقل يتناقض مع الدين ما يمثل سندا للفكر الأصولي العنفي وتبريرا لوجوده، ولأنها تكرس قناعة لزوم معاقبة العقلانية والفكر الحر، وهو ما يساهم في تضييق الخناق على الفكر التنويري والنقدي ما يعني بالمقابل توسيع دائرة الجهل والجمود والتحريم وهي العناصر المنتجة للعدوانية والعنف.

المصدر: http://alawan.org/2016/05/06/%D8%A7%D9%84%D8%B9%D9%86%D9%81-%D8%A7%D9%84...

الأكثر مشاركة في الفيس بوك