التفكير في الدراسات الثقافية العربية

عبد العزيز بومسهولي

 

التفكير في الدراسات الثقافية العربية

من خلال مقاربة المفكر الثقافي طارق صبري[1]

أو استراتيجية إعادة التوطين واللاتَوْطين

في البدء ننطلق في هذه المقالة من قول المفكر البريطاني المغربي طارق صبري الذي سيعيننا على تتبع استراتيجيته في التفكير في الدراسات الثقافية التي تعد ميدانًا خصبًا وجديدًا بالنسبة إلى الفكر العربي المعاصر. يقول طارق صبري (ملاحظة ضرورية: أغلب الاستشهادات هي من ترجمة الباحث المغربي نور الدين الزويتني المتخصص بدوره في الدراسات الثقافية): "خلال العقد الأخير، بينما كان العديد من الباحثين المهتمين بالإعلام العربي في الوسط الأكاديمي الغربي والعربي منشغلين بشكل مستمر بالتفكير والكتابة حول المظاهر المختلفة لهذا المجال الجديد نسبيًّا للبحث، وجدت نفسي منشغلاً بأسئلة معرفية، كان أكثرها إلحاحًا السؤال التالي: كيف يمكن للدراسات الثقافية العربية التي تعاني من نقص شديد، أن تستفيد من مشروع نقدي للدراسات الثقافية العربية؟"[2] يبدو أنّ هذا القلق المعرفي هو ما دفع بالباحث طارق صبري إلى الاهتمام الفكري بالأسئلة الأكثر إلحاحًا، حول الفضاءات والزمانيات التي تم بداخلها تأطير هذا المجال وكذا طرائق تأويله واللحظة التاريخية التي كان هذا المجال يتفاعل معها. في خضم الصراع مع هذه الأسئلة المقلقة، وفي الوقت الذي انشغل فيه أغلب الباحثين بتفكيك بنيات وسائل الإعلام العربية الرقمية والعابرة للحدود وتأثيرها في المجتمعات العربية، بدت مقاربته، بمثابة طريقة للبداية بالتأسيس من أجل تحليل أكثر رصانة، تدعو إلى تفكير ينخرط في مناقشة شاملة للمجال الناشئ للدراسات الثقافية العربية وتطوره. مقاربة البداية بالتأسيس، موضوعًا مركزيًّا للبحث، ليست بأي شكل من الأشكال استراتيجية لإعادة صياغة (أو تفكيك) ما قيل أو كتب سابقًا، أو محاولة للتقليل من شأن أي نوع من البدايات القبْلية. الدراسات الثقافية العربية موجودة بشكل مسبق هناك، في الدراسات وأطروحات الدكتوراه، والمقالات العلمية والكتب. هنا يؤكد طارق صبري أنّ المشكلة مع مثل هذه الملخصات هي أنّها، من الناحية المعرفية، غير واعية بذاتها أو بالأجزاء المكونة للكل. وهذا ما دفعه إلى القول بأنّها ليست واعية باللحظات التاريخية والعرضية التي تتجاوب معها. ويرى أنّ مثل هذا الوعي والثقة بالذات يمكن أن يوجد فقط عندما نبدأ، نحن بوصفنا باحثين، بالاشتغال بموضوعنا. لذلك يعتقد بأنّ الدراسات الثقافية العربية مازالت بحاجة إلى دراسة جادة ومنهجية من موقع الاختلاف بالمفهوم الدريدي [différance] وبمثابة نوع من التمرين في التفكير حول التفكير. إنّ التعامل مع هذا الانزياح بوصفه لحظة تفكير هو، بداية، الغائية الأساسية لهذه الاستراتيجية. وهي كفيلة بتمكيننا من تتبع المقالات التي ستلي، والتي كتبها باحثون ناشئون ومؤسسون في هذا المجال، وتهتم بطريقة متداخلة الاختصاصات ونقدية، بما أعتقد أنّها مواضيع أساسية تواجه هذا المجال من الدراسة ومسار تقدمه. إنّها تسمح بتأمل نقدي وإعادة ربط بين الأوجه المتعددة لهذا المجال، بما في ذلك، وليس حسب ترتيب معين، اللغة والخطاب، اللغة والثقافة، وسائل الإعلام والحداثة، دراسات النوع، تاريخ وسائل الإعلام، الثقافة والتاريخ، الدولة والإنتاج الثقافي، الاقتصاد السياسي لوسائل الإعلام، الثقافة الشعبية، علم المعرفة والمأسسة.. وفق هذا الطرح يظل الهدف الأساسي للباحث في الدراسات الثقافية العربية، هو ممارسة النقد الانعكاسي بامتياز[3].

التوطين واللاتوطين طريقتين للاشتغال على البداية

يطرح طارق صبري سؤالاً جوهريًّا يستكشف من خلاله الكيفية التي تسهم في إعادة ما يسميه التوطين أو الأرضنة، واللاتوطين، أو تقويض الأرضنة، لتلمس طريق البداية المؤسسة التي تجعل الدراسات الثقافية ممكنة في العالم العربي. وهذا السؤال هو كالتالي: كيف نؤسس لإبداع مترابط معرفيًّا دون أن يغيب عن نظرنا "الغربال اللامتناهي": المستوى الذي يغوص داخله الفكر البشري، وينفصل فيه عن الموطن، ويتحرك ويبدع، دون سرقة فكر الآخر أو تبخيسه؟ بهذا الخصوص، وكطريقة للبداية، أو جعل البداية قضية مركزية، كما يعبر عن ذلك "بنيامين". ويطرح طارق صبري مسألة بالغة الأهمية، تعبيرًا عن الأنواع الجديدة للتأويل واللغة الجديدة التي يمكن أن تعتمد عليها الدراسات الثقافية العربية لتأو يل الظواهر الثقافية والاجتماعية، مع الحفاظ على ما يسميه "لالاند" "السبب النقدي الضروري". لذلك فهو يشتغل من خلال آلية نقدية مزدوجة قابلة للتمثل؛ لكي يضمن أنّ الظواهر الثقافية سواء في تطورها الداخلي والخارجي، وأشكال الفكر وتأويلها، وأنواع المحايثة الحدسية والميتافيزيقا التي تنتجها، هي خاضعة لدحض مزدوج ذي مسافة نقدية. غير أنّ هذه العملية النقدية المزدوجة، كما يرى وله حججه في ذلك، ليست كافية لوحدها من الناحية المنهجية لمساعدتنا على إدراك غائيتنا: خلق مشروع ثقافي نقدي واع ليس فقط بزمانيته [الوعي بالزمن/ إحساس بالزمن التاريخي الذي يتوجه للمستقبل] وبمكانيته [التموضع النظري والمعرفي]، ولكن أيضًا بتموضعه العلائقي بالآخر، بزمانيات أخرى، وبوجوده بصورة مختلفة، وبوجوده داخل الزمن وخارجه. ويستوجب هذا خلق نظام أخلاقي جديد وكامل للآخرية وإدماجه، ليس فقط بمعناه الأنطولوجي، بل أيضًا شرطًا مسبقًا وضروريًّا لشكل أخلاقي للعقلانية. لكي يشتغل هذا النوع من العقلانية الأخلاقية، يجب التعبير عنه من خلال مسار معرفي مزدوج هو: إعادة التوطين واللاتوطين. الفكرة هنا هي عملية مناوشة للأفكار/المفاهيم والنماذج، فوق سطح فكري، ذهابًا وإيابًا من المحايثة إلى التعالي وبالعكس؛ في تنَقل مستمر بين/من ثقافة المحايثة إلى ثقافة التعالي. الهدف هنا هو الشروع في إبداع أخلاق ووجود للآخرية، وشكل متعال للتجريبية، حيث يتم تحديد الفكر والوجود ليس فحسب من خلال الاعتراف بوجود التجربة وتفضيل الإبداع، ولكن أيضًا عبر شكل غير مشروط للالتزام بالآخرية – فكر الآخر وتقنية الآخر، لتجنب الكمائن التي من السهل السقوط فيها، والتي تحمل معها استشراقات عكسية ومعارك مرتبطة بحدود التخصصات. هنا يؤكد طارق صبري أنّه من الواجب على الدراسات الثقافية العربية الأخلاقية والنقدية و/أو الإبداعية أن تتعالى على هذا النوع من العنف، وتنخرط في عمليات تفاوض؛ زواج مختلط بفكر الآخر، ولربما حتى، ولم لا، تعلم الكلام بتلعثم في لغات الآخر. الانطلاق من إعادة التوطين أو الاتصالية إلى اللاتوطين أو الانفصال، في الوقت الذي يتم فيه البناء والهدم بالتزامن، هو طريقة لحماية التفكير من التشعب الشجري بنيةً للسلطة، والمحايثة الثقافية، وأنواع الإمبرياليات الوجودية، إضافة إلى أنواع السلفيات الثقافية والثنائيات الجامدة التي تأتي معها. فمن خلال رد الفعل الثاني والذي ينتج عن إعادة التوطين واللاتوطين يتمكن الفكر، بوصفه أداةً، أن يبدع ثانية، أن يبدع ليس فقط من الداخل لأجل تنمية ذخيرته، بل أيضًا لأجل الآخر[4].

إعادة التوطين اتصاليةً معرفيةً (إيبيستيميةً) ضروريةً

يرى طارق صبري في كتابات أخرى، خاصة في كتابه الهام: "التقاءات ثقافية في العالم العربي، حول الميديا، الحداثة واليومي" (2010)[5] أنّه لا يمكن  للترابط الواعي للدراسات الثقافية العربية/دراسات وسائل الإعلام أن يحدث دون علاقة بالنقاشات والإشكاليات الأساسية المتضمنة في الفكر العربي المعاصر؛ فما هو الهدف المعرفي للدراسات الثقافية إذا لم تكن قادرة على التأثير في المشاكل الخاصة بالفكر العربي المعاصر والنظرية الاجتماعية والتعامل معها؟ ألا نعيد التوطين؛ بتجاهل هذا النوع من الفصل المعرفي- ولذا فهو لا يستطيع التعبير عن هذه الفكرة بالقوة الكافية – يعني الاشتغال في مستوى معرفي غير واع تمامًا بتاريخه الخاص، بزمنه الخاص وحتى باللحظات التي يمكن أن يكون ردَّ فعل تُجاهها. من المحتمل أن تكون النتيجة مخزونًا سطحيًّا جدًّا - مجرد زبد زائد: مشروع لا أساس له وبداية فاشلة. ولأنّ بنيات التواصل الاجتماعي وعملياته منغرسة بعمق في بنيات تشكل اجتماعي معين وعملياته، ولأنّ الذات العقلانية والأخلاقية هي ذات مُشكَّلة اجتماعيًّا، فإنّه من اللازم، عند التعبير عن مفهوم الدراسات الثقافية العربية، ليس التعاطي مع النظرية الاجتماعية فحسب، ولكنه من الضروري أيضًا، حتى نفهم العمليات والبنيات الأوسع التي تحدد وسائل الإعلام والثقافة والمجتمع العربي، القيام بتحويل اتجاه بواسطة الفلسفة. إذن كيف ولماذا تأسست هده النقاشات بالطريقة التي تأسست بها والمواضيع التي تناولتها بالفعل. لإعادة توطين الدراسات الثقافية العربية على سطح واع ببنيات تشكلاته الاجتماعية، ولأنّ تخصص الدراسات الثقافية تطور في أماكن أخرى بمثابة رد فعل ضد ازدواجية الحداثة، يصبح الانخراط الجدي في النقاشات حول الحداثة في الفكر الفلسفي العربي المعاصر تمرينًا فكريًّا ضروريًّا. يوضح طارق صبري أنّه فقط عبر هذا التموضع المعرفي، بوصفه بداية، نستطيع أن نختار من بين هذا التعدد في المواضع موضعًا نعتقد أنّه سليم بالقدر الكافي ليكون محاورًا لمشروع نقدي وأخلاقي للدراسات الثقافية العربية. من المهم أن نضيف أنّه يجب أن لا نؤطر هذا التمرين داخل سياق اللاتغريب، لأنّه من الأساسي للسياق الغربي واللاغربي أن يكون هناك تحويل اتجاه عن طريق الفلسفة. للانكباب على مهمة إعادة التوطين، عن طريق البداية من الأساس، وهنا سيراجع وسيستشهد بشكل كامل بتصنيف قدمته في عمله لسنة [2010: ص 30 -35] لوصف أربعة مواقف فلسفية عربية أساسية، بعضها أكثر هيمنة من الأخرى، في علاقتها بالحداثة والتقليد، علاقة يرى أنّها مازالت في قلب الخطاب الفلسفي العربي المعاصر.

الموقف التاريخاني/الماركسي

يرى صبري بأنّ الشخص الأساسي الذي تمثل هذا الموقف هو عبد الله العروي، وهو مؤرخ ماركسي كرّس مشروعه التاريخي الثقافي لمسألة الحداثة. وقد عبر عن ذلك في مفهوم العقل: "كل ما كتبته لحد الآن هي أجزاء من كتاب واحد حول مفهوم الحداثة". كانت دعوة العروي لقطيعة معرفية حاسمة وجذرية مع الماضي، أو ما يسميه الحسم، مساهمة أساسية في الفكر الفلسفي العربي حول الحداثة. إنّ العروي يؤكد أنّ التقدم والتنمية يمكن أن يتحققا فقط عندما تحدث قطيعة حاسمة مع الماضي والتراث، وكذلك حين يصبح العرب واعين بتاريخهم الخاص وبدورهم فيه. بالنسبة إليه إنّ المادية التاريخية الغربية [التاريخانية الماركسية حتى يكون التعبير دقيقًا] وسياستها الثورية هي الاستراتيجية الوحيدة القابلة للتطبيق للتخلص من السلفية الثقافية والمظاهر السطحية لليبرالية، والتقنوقراطية، وهي أيضًا الطريق الوحيد للحداثة. غير أنّه لا يجب الخلط بين قطيعة العروي الجذرية مع الماضي [1973، 1996، 2001] وبين الرفض التام للأصول، أو الإرث الثقافي. بالنسبة إلى العروي يبقى هذا موضوعًا مهمًّا جدًّا للبحث. ما يرفضه، مع ذلك، هي أنظمة القيم الخاصة بالتراث العربي الإسلامي. ويعبر عن ذلك قائلاً: "إذا كانت القيمة هي المطلق، كما يعتقد رجل الدين والفيلسوف، إذن فالإنسان المعاصر هو إنسان اللاقيمة، مادام لا يتوقع أن يكون أي شيء قطعيًّا". بالنسبة إلى العروي السبب الأساسي للانحراف الفكري العربي هو عدم قدرة العرب على تحقيق ذلك الانفصال التاريخي بين الواقع العلماني في العالم العربي وإرثه الثقافي[6].

الموقف البنيوي العقلاني

محمد عابد الجابري، الذي يُعتبر الصوت الأساسي المعبر عن هذا الموقف، له رأي مختلف من التراث. فعوض أن يقطع الصلة بالماضي من الناحية الجمالية والأخلاقية والمعرفية، يرفض الجابري كونية العروي [المادية التاريخية الغربية] ويدافع عن مقاربة تاريخانية للتراث تقوم بتطويره من الداخل حتى يتصالح مع الحاضر ومع الواقع الجديد للثقافات العربية. فالجابري يدعو إلى الانفصال من أجل الاتصال كاستراتيجية يتم عبرها حل مشكل اللاوعي في الزمانية الثقافية العربية. بالنسبة إلى الجابري المشاكل الأساسية للفكر العربي وللأزمة الثقافية العربية هي في الأصل ناتجة عن مشكل معرفي بنيوي في صيغ التفكير العربي. فهو يلاحظ أنّ إشكالية التراث والحداثة لا تتأثر بالصراع الطبقي بل بقضايا مفاهيمية وثقافية تتعلق بالفكر وبنيته. الجابري، مثل أي مفكر، هو نتاج للحظات تاريخية معينة. تأثر التكوين الفكري للجابري، مثل عدد من المفكرين القوميين المهيمنين على الساحة الفكرية، بمن فيهم العروي، بالأحداث التاريخية الأساسية: احتلال فلسطين في سنة 1948، تأميم قناة السويس من طرف عبد الناصر في يوليوز 1956، الحروب العربية الإسرائيلية لسنوات 1967 و1973. شكلت هذه الأحداث التاريخية وعيًا سياسيًّا كاملاً، وحددت طرق التأويل التي تم اعتمادها لتأويل العروبة والثقافة العربية من طرف جيل كامل من المثقفين العرب. يعتبر التأويل القومي لوظيفة الثقافة تأويلاً مهمًّا. إنّ عبارة "العالم العربي" تنقسم إلى تعبيرين موحِّدين هما: "الوطن العربي" و"الأمة العربية". يحيل التعبير الأول على وحدة جغرافية، ويشير التعبير الثاني إلى تجربة روحية مشتركة [دين]. إنّ السمة التاريخية الأساسية المُمَيزة للثقافة، حسب الجابري، تكمن في وظيفتها عاملاً مُوَحدًا. ترتبط هنا يقظة الوعي العربي بقدرة الثقافة على التوحيد. تكمن الوظيفة التاريخية وهدف الثقافة، في منظور الجابري، بوصفه مفكرًا قوميًّا بامتياز، في المساعدة على تحويل العالم العربي من مجرد فضاء جغرافي [الوطن العربي] إلى الأمة العربية، فضاء مرتبط بالتجربة والوعي المشتركين[7].

الموقف الثقافي السلفي/ التراثي

التراث العربي الإسلامي هو مُكوِّن أساسي للثقافة العربية ويعتبر الأنموذج الحضاري المتناسق والممكن، إن لم نقل الوحيد. يعتبر هذا الموقف معقدًا ومتنازعًا عليه ويمكن بكل سهولة فكه إلى عشرات المواقف المختلفة [بعضها متعارض]. كلمة "تراثي" مشتقة من تراث. يفرق طه عبد الرحمان [2006] بين التراثي والتراثوي. تحيل الأولى على مدارس فكرية تعلي من قيمة التراث، غير أنّ الثانية، التراثوي، تحيل على موقف أكثر أرثودوكسية داخل التراث، وهو الذي يعتبر التراث الإسلامي الخطاب الوحيد المقبول، ويرفض بشدة وبشكل دفاعي كل ضروب السرد الأخرى. ليس هناك مجال للآخرية، للتسامح أو الهوية المزدوجة بخصوص هذا الموقف. يميز كذلك طه عبد الرحمان بين الحداثة والحداثوية. الحداثي مفكر يتبنى الحداثة باعتبارها مرحلة ضرورية للتطور الإنساني، وهو مستعد للتفاوض من أجل أنموذج محلي للحداثة [الجابري أنموذج جيد لهذا الموقف]. غير أنّ الحداثوي هو ذلك النوع من المفكرين الجذريين، ربما مثل العروي، الذي لا يخاف أن يجادل من أجل قطيعة حاسمة مع الماضي. يتنوع الموقف الثقافي السلفي من التراثي إلى التراثوي. ما يعطي هذا الموقف الثقافي السلفي بعض التناسق، بوصفه تشكلاً خطابيًّا، هو تعلق منتسبيه بالفكرة الطوباوية لماض يمكن استعادته، وأيضًا هو أسلوب التفكير/ المنهجية، ذو الطبيعة الوهمية ربما، الذي يعتقد بأنّ حلول المشاكل الحاضرة للعالم العربي الإسلامي يمكن أن توجد في ماض أو زمانية غير محددة [الحقبة الذهبية للسلف الصالح]. داخل هذا الموقف يبقى محرك الصراع هو تفضيل الماضي على الحاضر والأصالة الوهمية على الاختلاف[8].

الموقف العرضي: إعادة التوطين نقدًا مزدوجًا

بالموازاة مع هذه المواقف الثلاثة المهيمنة يوجد خطاب رابع بقي تقريبًا غير ملاحظ على هوامش الفكر العربي المعاصر. يُسمي مؤيدوه فلسفتهم بفلسفة التجاوز [فلسفة تَعِدُ بتجاوز إشكالية الازدواجية بين الحداثة والتقليد]. يمكن أن تملك هذه المجموعة مَخْرَجًا للطريق المسدود الذي يوجد فيه الفكر العربي، لكنها تواجه عقبات ذاتية وموضوعية، كما أنّ الاثنين مترابطان. تاريخيًّا عندما يكون المثقفون العرب تحت تهديد خارجي [الإمبريالية]، فإنّهم يميلون إلى التحول من كونهم عقلانيين متنورين إلى تقليديين [العروي 1976]. أول ضحية هو الفكر ذاته لأنّه يتحول من العقلانية إلى الدوغمائية. يفسر هذا أيضًا لماذا لم تجد كتابات المفكرين العرب مثل عبد الكبير الخطيبي [1980] عبد السلام بن عبد العالي [1983، 2000، 2002] عبد العزيز بومسهولي [2001، 2003، 2005، 2006، 2007]، فاطمة المرنيسي وإدوارد سعيد [هناك بطبيعة الحال أمثلة أخرى] الصدى والتلقي أنفسهما على الساحة الفكرية العربية كذلك الذي تلقته كتابات مترسخة في الإيديولوجيات الجوهرية: قومية وطنية، قومية إسلامية وقومية عربية. أفرز تهديد الإمبريالية مواقف رجعية ودفاعية؛ مواقف تبرر الخطابات المُخَدَّرة للوحدة والسلفية. من المهم التذكير بأنّ الإمبريالية هي نظام لا يقوض الوعي والبنيات المؤسساتية فحسب، لكن أيضًا الفكر وتطوره. يمكن أن يلخص هذا الموقف الرابع في فلسفة التجاوز. فمفكروها الأساسيون يرفضون الخطابات الإيديولوجية للهوية، ويضعون التراث وحتى الحداثة في موقف الاختلاف بمعناه "الدريدي" حيث يصبح التقليد والفلسفة موضوعين للنقد والتقويض، من هنا دعوة الخطيبي لنظام علامات مزدوج ولنقد مزدوج ولموت مزدوج [تعني الموت هنا ولادة الاختلاف باعتباره مصدرًا لأسئلة جديدة وانزياحات وطرق تفكير جديدة. يمثل مؤيدو هذا الموقف، الذين يتقدمهم الخطيبي، أقلية صغيرة جدًّا في الفكر العربي المعاصر. إنّهم يعلون من قيمة الآخرية والتعدد والتشظي واللاخطية والمساءلة المستمرة للخطابات الجوهرية العربية حول التحول. يعتبر التراث بالنسبة إليهم، حسب تعبير الخطيبي، مجرد عودة الموتى المنسيين. ويعتبر الخطيبي مفهوم "الاختلاف المتوحش" في مواجهة الغرب وما يسميه الهوية العمياء ساذجًا، وطنيًّا وقوميًّا وإيديولوجيًّا وينتهي فقط إلى مجرد مصيدة نظرية. عوض ذلك يدعو إلى عمل نقدي يزعج الأرضيات الميتافيزيقية التي تحتكر الفكر العربي، وبالدرجة الأولى ميتافيزيقا الله أو اللاهوت، ميتافيزيقا المذاهب، وميتافيزيقا التقنية. يعتبر رأي "الخطيبي" في التراث مختلفًا عن رأي العروي، لأنّه يرفض التعبير عن التراث من خلال أي فلسفة للتاريخ. وينتقد الرأي الإيديولوجي للعروي حول التاريخ بسبب شمولياته ويعتبره نوعًا من الميتافيزيقا التي تعلي من قيمة التنظيم والاستمرارية والإرادة، والتي لا تولي اعتبارًا للاختلاف والآخرية والفوضى واللاخطية [1980]. من جهة أخرى يؤكد عبد السلام بن عبد العالي بأنّه لا يمكن للفكر العربي أن يتقدم إلا إذا تم تأطير إشكالياته داخل التغيرات والثورات التي تحدث في الفكر المعاصر عبر العالم: أ- ثورة سيميولوجية أدت إلى إعادة فحص التأويل وإنتاج المعنى؛ ب- ثورة معرفية قاطعت فلسفة الكوجيتو؛ ج- ثورة فلسفية قلبت الأفلاطونية وأعلت من شأن حقيقة الجسد. يؤكد عبد السلام بن عبد العالي أن ثورة سيميولوجية أدت إلى إعادة فحص للتأويل الفكر أصبح راكدًا في المخزون الثقافي العربي، لأنّه أضحى غير متصل بالحدث، ويدعو إلى إعادة الاتصال بين الفلسفة العربية والحدث. يؤيد عبد السلام بن عبد العالي والخطيبي معًا الكونية وإعادة توطين الفكر. يستعمل "عبد السلام بنعبد العالي" رأي "هيدغر" في الميتافيزيقا والمقاربة التفكيكية لدريدا للتعبير عن موقفه من التراث ومن مظاهر أساسية أخرى للفكر في المخزون الفلسفي العربي. ويدعو إلى إعادة قراءة التراث بالاختلاف بمعناه الدريدي طريقةً لتجاوزه. يمكن أيضًا إرجاع رأيه في الاختلاف الدريدي، طريقةً للتعامل مع الأشكال الجوهرية للهوية والتراث إلى الجدلية "الهيجيلية"، لكن عبد السلام بنعبد العالي يدافع عن نوع آخر من الجدلية، جدلية تحرر الاختلاف من الأشكال المطلقة والثابتة للتعارضية. ويدعو إلى إبعاد النقيضين، حتى يتم التقريب بينهما - وهذا بالضبط ما يعنيه هيدغر بـ "الاختلاف الأنطولوجي". لا يسعى عبد السلام بنعبد العالي وأتباعه من الموقف الفكري نفسه إلى تجاوز الميتافيزيقا الساذجة كما نعيشها في العالم العربي الإسلامي فحسب، ولكن أيضًا الميتافيزيقا الفلسفية.

لنكرر القول، إنّ لهذا الموقف المعرفي في الفكر العربي المعاصر، أخلاقياته في ما يخص الآخرية ورأيه الدقيق حول المعرفة والهوية الذاتية، وهو الذي يحتاج إلى التقوية والتطوير. المهمة هنا هي إعادة موضعة هذه المدرسة الفكرية، بتحويلها من هوامش الفكر العربي إلى مركز تفكيرنا حول الثقافة والمجتمع العربي، وبالتأكيد، حول الدراسات الثقافية العربية. بالطبع لا يشمل هذا التصنيف بل ولا يمثل الفكر العربي المعاصر. إنّه فقط عبارة عن مجاز لملخص ضخم، وادعاء عكس ذلك يعتبر ضربًا من التضليل. يبقى لدينا أن نقوم بمحاولات تفريع، والحالة هذه، يجب أن ننظر إلى المهمة الفكرية لإعادة التوطين بوصفها عملية ومشروعًا مستمرّين. النقاشات حول الصيغ العربية للتفكير السياسي، والتي تعتبر أعمال عبد الله العروي حول الدولة ونقد محمد عابد الجابري للتفكير السياسي العربي جزءًا مهمًّا جدًّا منها، هي نقاشات هامة خاصة فيما يتعلق بتطوير دراسات ثقافية عربية أعيد توطينها. أيضًا تعتبر أعمال "عبد الله الغذامي" حول النقد الثقافي العربي مهمة بالقدر نفسه[9].

حول ضرورة التعامل مع الوجود والزمانية بوصفهما عمليتين إبداعيتين

يشير "محمد عابد الجابري" في كتابه المبدع "نقد العقل العربي" إلى ضعف كبير في الفكر العربي المعاصر: هو الالتباس في الزمانية الثقافية العربية، أو ما يسميه اللاوعي في الفكر العربي حيث يعتبر الزمن الثقافي العربي الحديث زمنًا راكدًا، لأنّه لا يعطينا تطورًا للفكر العربي ولا انتقالاً من حالة إلى أخرى، لكنه عوضًا عن ذلك يقدم لنا معرضًا أو سوقًا لمنتجات الماضي الثقافية والتي توجد في الزمانية نفسها مع المنتجات الجديدة، حيث يصبح القديم والجديد معاصرين. النتيجة هي تداخل الأزمنة الثقافية المختلفة في تصورنا لتاريخنا الثقافي... بهذه الطريقة يصبح حاضرنا معرضًا لماضينا، ونحيا بذلك ماضينا في حاضرنا، بدون تغيير وبدون تاريخ. غير أنّ الجابري الذي كان مقتنعًا بأنّ مشكل الزمن اللاواعي هو نتيجة للنقص في صيغ التفكير [والتي قدم لها الحل المعرفي التالي: نحل مشكل الزمن اللاواعي بإعادة ترتيب مخزوننا الثقافي من الداخل، بطريقة تجعله متجاوبًا مع الحاضر، وذلك بتقديم أجوبة وحلول من الحاضر] فشل على الرغم من ذلك في معالجة مسألة مستعجلة إلى حد ما: كيف ندرس الزمن الحاضر للثقافات العربية في كل قداستها ونقائصها؟ لايقترح الباحث هنا أنّه لا طائل من دراسة التاريخ الثقافي العربي أو الماضي، أو لنقل تاريخ وسائل الإعلام العربية. ولا يقترح ضرورة تركيز الدراسات الثقافية العربية على الحاضر فقط. يبقى الماضي كما نعرف آلية التحليل الأكثر إفادة في التعامل مع التغيير المستمر. عوض ذلك يؤكد طارق صبري أنّه لا يمكن إيجاد حل للنقص في الزمانية الثقافية العربية - لاوعيها - بإعادة تنظيم التاريخ الثقافي وحده. نحتاج لمقاربة أنتروبولوجية للمطالبة بالزمن الحاضر للحياة اليومية العربية في كل تمظهراتها الثقافية، والدفع بهذا الزمن إلى الواجهة حتى يتأكد من زمنه ومن وجوده، ويشير الباحث هنا إلى أنّ الدراسات الثقافية العربية هي الحقل المناسب لهذه المهمة. غير أنّ المواضيع التي لا يزال الخطاب العربي حول الحداثة لم يقاربها بعد هي الإنسان والتجربة المعيشة. لا يمكننا أن نفهم تمامًا معنى الحداثة في العالم العربي اليوم دون فهم معنى أن تكون حداثيًّا، وإذا كان العيش في عالم تتحكم فيه وسائل الإعلام جزءًا من تجربتنا الحداثية، فالخطاب الفلسفي الذي يتجاهل هذا الأمر هو بالتأكيد مفتقر إلى عنصر المعاصرة الذي هو مكون أساسي للحداثة. وفي السياق نفسه، لا يمكن للوعي الثقافي بالزمن في الحداثة العربية أن يطمئن إلى زمنه فقط من خلال الشك الديكارتي أو من خلال المدارس العقلانية والتاريخانية، أو من خلال المدارس السلفية طبعاً. إضافة إلى ذلك، فإنّ الخطاب العربي حول الحداثة متأثر جدًّا بالفكر والمنهجية الغربيين [خصوصًا المواقف العقلانية والتاريخانية] إلى درجة أنّه ورث على نحو عفوي إشكالية نوقشت بكثرة في علم المعرفة الغربي الحديث، والتي يمكن إرجاعها إلى ديكارت الذي لم تكن نقطة انطلاق تفكيره في العالم هي الحقيقة الفعلية [الواقع الفعلي] للعالم الموجود والحي بالفعل، بل محتويات عقله. من هنا ينطلق عدد كبير من الفلاسفة الحداثيين وآخرون حسب تعبير "سكانل". يجب على الخطاب الفلسفي العربي حول الحداثة أن يخلق وجودًا أو أن يؤنسن موقفه من الحداثة، بمعنى أن يصبح قادرًا على التعامل مع دلالتها السوسيولوجية والأنتروبولوجية. إنّ الذين يهددون بالقيام بهذا [الموقف العرضي] يتم إبعادهم لكونهم ينكرون التاريخ ولكونهم هامشيين. إذن، إذا كان علينا أن نستعمل الخطاب العربي حول الحداثة قنطرةً يمكن أن نفهم من خلالها وسائل الإعلام والثقافة والمجتمع العربي، فيجب أن نبدأ بفصله عن خطابه، أو بالأحرى ميتافيزيقيته، حتى يصبح موضوعًا للنقد قبل أن يتحول إلى أداة للنقد[10].

تمفصلات اللاتوطين في الثقافة العربية

إنّ دور اللاتوطين يماثل في الأهمية دور إعادة التوطين. فهما يؤديان معًا مهمة معرفية معينة، حيث الفكر، بوصفه أداة إبداعية، قادر أن يكون إبداعيًّا، حيث يخلق دائمًا مجالًا للانزياح والفجوات، ويؤسس لطرق جديدة لرؤية العالم وتأو يله. هناك العشرات من الكتب والأطروحات والمقالات العلمية حول الثقافة العربية، صيغها، مشاكلها ومستقبلها. وقد كُتبت أغلبها باللغة العربية، غير أنّه توجد أيضًا العديد من المنشورات حول الموضوع باللغة الفرنسية والإنجليزية ولغات أو روبية أخرى. لقد أنتج مركز دراسات الوحدة العربية وحده العشرات من الكتب [لكتاب فرديين أو لمجموعة من الكتاب] التي تحاول التعامل، من خلال قدرات وخصوصيات مختلفة، مع مستقبل الثقافة العربية والتحديات التي تواجهها. وعلى الرغم من أنّ عدد المنشورات التي تتناول التحديات التي تواجه الثقافة العربية [وهنا يستعمل الباحث مقولة الثقافة العربية في معناها العام جدًّا وغير النقدي] ليبين الأهمية التي تحتلها هذه المقولة في المخزون الثقافي العربي المعاصر، سيكون أمرًا سطحيًّا وتبسيطيًّا جدًّا استعمال الكثرة أو الكم مقاييسَ، أو تقييم مسألة الكيف في هذا المخزون. إنّ الغِنى والتنوع اللذين لا يمكن إنكارهما لمثل هذه الأعمال يتم إضعافهما بسبب مشاكل أساسية منعت دراسة تحول الثقافة العربية من كُلِّ متشظّ إلى مشروع ثقافي مترابط وواع. عندما يحدد طارق صبري مفهوم كلمة "واع"، فهو لا يعني تحديدًا "الوعي السياسي" لأنّ الكثير من الأعمال حول الثقافة العربية هي محفزة بغائيات تاريخانية واضحة. تبدو المفارقة إلى حد ما في أنّه في الوقت الذي طور فيه تأريخ مقولة الثقافة العربية نفسه إلى مشروع ثقافي متناسق وذي وعي سياسي، أبعد في الآن نفسه أنواعًا أخرى من التأويل حول الثقافة، خصوصًا تلك التي تتنافس من أجل تحديدات عرضية وأكثر اتساعًا، وبالتالي عمل على تقييد ما يمكن أن يقال أو يفكر فيه أو يدرس فيما يخص هذه المقولة بعيدًا عن الايديولوجيا وأنواع الميتافيزيقا التي تحملها معها. كان لهذا النقص المعرفي أثر واضح في مستوى البحث في وسائل الإعلام في العالم العربي، حيث يميل الأكاديميون إلى اعتبار البحث المهتم بالخبر والمعلومة أكثر أهمية من البحث في وسائل الإعلام الذي يركز على الترفيه أو مظاهر أخرى من الثقافة الشعبية. ساهم تأطير "الثقافة العربية" داخل الخطابات القومية، الوطنية، الإسلامية والسلفية فعلاً في تأريخ مقولة الثقافة العربية، غير أنّه يؤكد أنّ هذه العملية أدت في الوقت نفسه إلى مأزق إبستيمولوجي، تأكدت فيه هيمنة تأويلات قليلة جدًّا للثقافة العربية. هنا يصبح التأريخ السياسي للثقافة مجرد ميتافيزيقا سياسية لأنّها تختصر ما يمكن أن يقال حول الثقافة أو الهوية العربية في إطار ثابت وضيق للتحليل. إذن فهو يعني باللاوعي في الخطاب حول الثقافة العربية بالدرجة الأولى نقصًا على المستوى المعرفي وعلى مستوى النسق الفكري، وليس بالضرورة نقصًا سياسيًّا [بالرغم من أنّ الاثنين ليسا غير مرتبطين تمامًا]. وكما أنّ هناك خطابات متعددة حول الحداثي والحداثة في المخزون الثقافي العربي [بعضها أكثر هيمنة من الآخر]، هناك أيضًا خطابات مختلفة حول الثقافة. إنّ هذين الموقفين الفكريين المثيرين للنقاش مرتبطان، لأنّ هذه الخطابات التي تهيمن على النقاش حول الحداثة والتقليد تحدد أيضًا الطريقة التي تتمفصل بها مقولة الثقافة، والطريقة التي يُفكر فيها ويتم تكييفها. تعمل كل من هذه المواقف الثلاثة المهيمنة في الثقافة العربية [التاريخانية، العقلانية/ البنيوية، السلفية الثقافية] على مفصلة مقولة الثقافة داخل إطارات تبرّر غائيات ذلك الموقف الإيديولوجي. وهذا يضع الموقف الرابع والأقل هيمنة [الموقف العرضي]، والذي تمت مناقشته، مرة أخرى، على هامش الخطاب العربي حول الثقافة والهوية. مازالت الخطابات المهيمنة حول الثقافة العربية مجمدة في مستوى ميتافيزيقي ديكارتي، بل يمكن أن نضيف، في مستوى جمالي ونخبوي، غير واع تقريبًا بالعوامل الأنتروبولوجية، والتحولات الثقافية والسوسيو-اقتصادية التي تحدد طبيعة المجتمعات والثقافات العربية المعاصرة. ما هو مطلوب في هذا المقام ليس عملية مد الجسور أو إعادة التوطين، كما بين طارق صبري ذلك من قبل، بل عملية الفصل أو اللاتوطين. وتكمن المهمة الفكرية هنا في فضح الربط الخطابي الزائف بين الفكر العربي [المخزون الفلسفي، خطاباته المؤرخة للتحول] وتمفصلات الثقافة- وهذا يعني فك هذا الربط الزائف وتعريته بالتخلص منه في خطابه. لا يجب الخلط بين فكرة الفصل/ التشويش على الربط بين تمفصلات الثقافة والخطابات العربية حول التحول، وبين الهجوم على أيّ شكل ممكن من التاريخانية العربية. سيكون هذا سوء فهم. ولا يجب الخلط أيضًا بين هذه الفكرة ومحاولة التخلص من التأثير السياسي من الثقافات العربية، أو فعلاً، من الخطابات حول الثقافات العربية. إذا كان علينا أن نعتبر الثقافات العربية مواضيع للبحث العلمي، فيجب أن نكون مستعدين للمهمة الأنتروبولوجية التي تأتي مع هذا البحث. يجب أن نكون مستعدين لتطبيق النقد المزدوج للخطيبي [1980] وذلك بمساءلة الاستمراريات والكليات الجامعة والغائيات الكامنة في الخطابات العربية حول الثقافة والهوية واستجوابها والتشويش عليها. إنّ مهمة الفصل مفيدة هنا لأنّها ستفتح فضاءً يسمح لتمفصلات أقل كليانية وأكثر اتساعًا بالظهور. فضلاً عن أنّ الفصل هو طريقة للتقدم وتحرير تعبيرات سياسية جديدة وفضاءات جديدة للمقاومة. لذلك عوض أن يكون الفصل أو اللاتوطين أداةً للتخلص من التأثير التاريخي والسياسي، يمكن أن يؤدي الفصل واللاتوطين إلى خلق خطابات بديلة وجديدة للتحول، كما يمكن أن يوسعا مجال البحث حول الثقافة العربية.

يؤكد طارق صبري أنّ تأطير الثقافة العربية داخل الخطابات الجوهرية للأصالة والوحدة يخفي الاختلاف [الترتيب الثقافي والاجتماعي] ويقوض التأويلات الأنتروبولوجية للحياة اليومية. لقد فشلت محاولات المفكرين العرب بطريقة مفارقة: أ- في التعرف على دور الثقافة الشعبية بوصفه مجالاً لإنتاج الدلالة السياسية وب- بالتقليل من قيمة مركزية الحياة اليومية بالنسبة إلى الجماهير العربية وثقافاتها. الإشكالية الثانية هي نتيجة للإشكالية الأولى، وتظهر في الفراغ التحليلي الموجود بين الوساطات الموحَّدة والرسمية للثقافات العربية وبين المجموعة الهائلة من الأشكال المقاوِمة والمعاصرة للتعابير الفنية الكرنفالية، والتي تبقى، كما يمكن ملاحظة ذلك، غير مدروسة بطريقة كافية. إضافة إلى ذلك ولتسليط الضوء على إشكالية منهجية ثالثة، يعبر طارق صبري عن عدم اقتناعه بأنّه قد تم التفكير في الثقافات الشعبية العربية من خلال إطار بنيوي واقعي يعترف بالروابط الإشكالية وباللحظات الانسيابية والمعتمدة بعضها على بعض على الرغم من ذلك، والتي تحدد طبيعتها. مازال على الثقافات الشعبية العربية أن تُعقلَن من خلال بنية علائقية وترابطية، أو عبر مشهد أمامي وواقعي يستكشف الروابط بين السياسي والاجتماعي والاقتصادي والوجودي والأنتروبولوجي، وكذلك الدينامية التي تنتج عن الترابط بين المحلي والعالمي. يهاجم الموقفان العقلاني والسلفي الثقافة الشعبية. وبينما يرى الموقف السلفي الثقافة الشعبية، وخصوصًا الثقافة التي تدعمها وسائل الإعلام، امتدادًا للخطاب الرأسمالي الغربي ولثقافته الاستهلاكية، يرى الموقف العقلاني أنّ الثقافة الشعبية اليومية هي لاواعية ولا تاريخية. في مثل هذه الظروف تكون الثقافة التي تسود [على الرغم من مقاومتها بشكل دائم وبطرق عدة] هي ثقافة الأذن، وهو يعني بذلك ثقافة احترام الدولة ومفكريها [العقلانيين والسلفيين معًا] وإيديولوجياتهم المتعددة وخطاباتهم المختلفة للتحول. النتيجة هي إلى حد ما متوقعة: تبقى الثقافة الشعبية العربية والتجارب المعيشة والثقافة الدنيوية ليست فقط حاضرةً على هامش الخطاب الفكري العربي والبحث الأكاديمي ولكن أيضًا على هامش الخطابات السياسية التي، بطريقة مفارقة، تساند الطبقات العاملة العربية واهتماماتها [انظر صبري 2010][11].

الحياة اليومية

يؤكد لوفيبر أنّ الحياة اليومية ليست مجرد مفهوم بل هي مفهوم يمكن استعماله بمثابة موجه لفهم للمجتمع. غير أنّ فعل الحياة اليومية، كما عرفنا ذلك من لوفيبر، وقبله أدورنو الذي طالب بإلحاح أن نفرق بين الثقافة الشعبية أو ثقافة الناس والصناعات الثقافية [1991]، يمكن أن يكون مجالاً للتحكم والإيديولوجيا. يؤكد لوفيبر أنّ الحداثة ومؤسساتها مسؤولة عن تشيؤ الحياة اليومية وذلك بفصل وقت الفراغ عن طبيعته الاحتفالية وتعويض هذه الطبيعة بمجرد عرض معمم: التلفزة والسينما والسياحة. ليس صعبًا أن نجد أمثلة من داخل الثقافات الشعبية العربية يتم فيها تشييء الشعبي لخدمة الغائيات الإيديولوجية للدولة. غير أنّه يجب أن نتساءل: هل تمفصلات الحياة اليومية داخل خطابات التشيؤ أو الوعي المزيف هي في حد ذاتها أنوع من التموضعات الإيديولوجية التي تحتاج للمساءلة؟ إنّ تفسير لوفيبر للحياة اليومية ينهل كثيرًا من البنيوية الفرنسية، ولنكون أكثر دقة، من سماه سكانل ساخرًا "بابا الماركسية البنيوية"، ألتوسير. في هذا الموقف أو هذا التموضع للحياة اليومية، لا يمكن اعتبار التجربة المعيشة أساسًا لأي شيء لأنّها لاواعية بمعنيين: أنّها ليست انعكاسية [غير واعية بذاتها إذا أردنا] وبالتالي لا تعطي تفسيرًا لذاتها. وإنّها لاواعية أيضًا من وجهة نظر التحليل النفسي، ولا يمكن أن تتحدث عن نفسها. موضعة الحياة اليومية والتجربة المعيشة في هذا الخط من التفكير تحدُّ بوضوح ما يمكن أن يقال عن الحياة اليومية والثقافة الشعبية، ولهذا بالتأكيد انعكاسات جدية على الطرائق التي تتمفصل بها وسائل الإعلام وجماهيرها [انظر مساهمة فرجاني في هذا الكتاب]. ربما نقد الحياة اليومية الأكثر تدقيقًا والذي يكون أكثر إفادة هو النقد الذي يجمع بين نقد الإيديولوجيا وتموضع أكثر ثقافوية، مثلًا، كالذي دافع عنه رايمند ويليامس الذي يعتبر التجربة المعيشة أساسًا لتحليل نقدي وواع للثقافة. كانت مثل هذه التسويات على مستوى النماذج الفكرية هدفًا لمقال نشره هول في مجلة وسائل الإعلام، الثقافة والمجتمع تحت عنوان: "الدراسات الثقافية: أنموذجان فكريان"، حيث فشل هول، حسب سكانل، في محاولته التي تمثلت في تفضيله ألتوسير على وليامس. ما أجده أكثر إثارة في نقد لوفيبر للحياة اليومية هو تأكيده على موضعتها بإعادة اكتشافها بوصفها مجالًا حاسمًا للدراسة، وأيضًا حثّه على إيجاد لغة أو خطاب جديد لتحقيق ذلك. والجواب، كما لاحظ ذلك لوفيبر هو "الحياة اليومية، إعادة اكتشاف الحياة اليومية- لن نهمل ونتنكر لها بعد الآن أو نتملص منها ونتجنبها- ولكن بإعادة اكتشافها فعليًّا مع المساهمة في تجليها؛ هذه المهمة... تستوجب خلق لغة... إنّ تجلي الحياة اليومية هو خلق شيء جديد، شيء يتطلب كلمات جديدة." إنّ اختزال اليومي، أو الثقافة الشعبية اليومية في وسائل الإعلام هو أيضًا اختزال لليومي وديناميته في عالم المؤسسات. إنّ الحياة اليومية أو اليومي هو بالتأكيد ظاهرة أكثر اتساعًا وأكثر تنوعًا لأنّها تشمل مجموعة كاملة من الأنشطة الإنسانية وأوضاعًا اجتماعية غير مؤسساتية، من التسوق إلى الطبخ، ممارسة الجنس، اتباع الموضة، الاصطفاف في الطابور، العبادة والرقص. أي نوع من اللغة، أو نظام للرموز أو نسق تأويلي نعتمد عليه لدراسة الثقافات الشعبية العربية اليومية؟ يمكن أن ينجح خلق لغة جديدة للتعامل معها فقط إذا سبقته مهمة فكرية أخرى وهي دمقرطة مقولة "الثقافة العربية" وتحريرها من أ- قبضة الجمالي خطابًا [أنظر مقال لغذامي في هذا الكتاب] وب- وخطابات التحول التي تقلل من شأن كل الأشكال الأخرى للتعابير الفنية والكرنفالية، ومن ضمنها الترفيه.

الآخرية أخلاقًا والأخلاق آخريةً

لا تحتاج أخلاق الآخرية أن تكون مطابقة لأي خطاب محايث للتدين لكي تكون أخلاقية. إنّ التركيز هنا هو على الآخرية باعتبارها مشروطية أخلاقية ضرورية وتأويلية، سابقة، نوعًا ما، لطريقة ما للتفكير في الآخر غير محايثة وشاملة و/أو لثقافته، أفكاره، لغاته وتواريخه. في هذه الحالة توصف المعرفة بأنّها "علاقة الإنسان بالعالم الخارجي، علاقة الذات بالآخر، حيث يجد الآخر نفسه أخيرًا مجردًا من آخريته، وحيث تصبح الآخرية تنتمي للعالم الداخلي، وحيث التعالي يجعل نفسه محايثًا. لا ينبغي لمشروع في الدراسات الثقافية العربية، بوصفه شكلاً من أشكال المعرفة، أن يحدد دوره في الحاجة إلى الدفاع عن الآخرية وذلك النوع من الحياد الأخلاقي الذي يأتي معها بعيدًا عن ما يوجد مسبقًا. أنا، كأي شخص آخر بشكل دائم وفي كل مكان، هو الآخر لأنّني موجود؛ كما أنّنا دائمًا آخر الآخر. ليست الآخرية إذن مجرد مقولة متعالية أخلاقية، مقولة سابقة عن الوجود، كما يجعلنا ليفيناس نعتقد؛ إنّها أيضًا مقولة تحدد وجودنا وهي بهذا المعنى مقولة وجودية بامتياز. أعني بالآخرية هنا الاحترام والالتزام بكل أشكال الآخرية: المتعلقة بالدين، الرأي، العرق، النوع، اللغة والفكر. وهذا يعني أن نتأكد بأنّ علاقتنا بالعالم الخارجي هي علاقة حياد تام واحترام، كيفما كان الآخر مختلفًا. تَبَني الآخرية بوصفها أخلاقًا واستراتيجية معرفية هو عمل يسبق لا تأسيس مجتمع أخلاقي فحسب، بل أيضًا عقلانية أخلاقية وحتى "حداثة أخلاقية"، حسب تعبير طه عبد الرحمان. إنّ من النقائص الأساسية للفكر والتفكير الأصولي في الفكر العربي المعاصر، سواء كان السلفي الثقافي، المادي الماركسي التاريخي، الإسلامي والقومي العربي، وهناك أشكال أخرى من الجوهريات والسلفيات، هو إبعادها وإقصاؤها للآخر. هؤلاء يهيئون سطحًا للمحايثة، طريقةً غائية وجوهرية للتحول، دون أن يدركوا أنّ كل أسطح المحايثة يتم استبدالها أو التعالي عنها دائمًا في النهاية.. ومن البديهي تقريبًا، كما يعبر عن ذلك بولياني، أنّ الفرق بين مجتمع حر ومجتمع شمولي يكمن تحديدًا في هذه النقطة: يعتبر المجتمع الحر حرًّا إذا لم يضطلع من حيث المبدأ بمحاولة التحكم في ما يجده الناس معقولًا، أما المجتمع الشمولي فيُنظر إليه من حيث المبدأ بوصفه محاولة لممارسة مثل هذا التحكم. إنّ أخلاقًا راديكالية للآخرية وللاختلاف وللعالم الخارجي هي الطريق الوحيد لتجنب هذا الشَّرَك الفكري والنظري. يجب أن تكون الدراسات الثقافية العربية النقدية والأخلاقية سطحًا يكون فيه خط الفرار أو الهروب، أو ما يسميه دولوز إعادة التوطين، دائمًا مفتوحًا، دائمًا قابلاً لعملية الفرار؛ الهروب. غير أنّه لا يجب فهم إعادة التوطين على أنّها غياب للفعل أو اعتباطية فكرية [لامبالاة بورجوازية] بل باعتبارها آلية إبداعية قصدية. ليس الفرار هنا من المسؤولية والالتزام/التاريخية، بل من الأفكار البالية والزائدة، من الميتافيزيقا ومن الأساطير التي تأتي مصاحبة للحكايات الجوهرية للتحول. ليس هناك، في الواقع، شيء أكثر حركية من الفرار. لنضع الآخر والآخرية في قلب الدراسات الثقافية العربية. هدف هذه الأخلاق ليس مجرد المعاملة بالمثل، ولكن خلق مسار خارجي راديكالي، حيادي، يجعل الآخرية اهتمامًا بالآخر، من أجل الآخر، وطريقة للوجود بصورة مختلفة.[12]

حول الإبداع، مفاهيم وأسطح

يذهب طارق صبري إلى أنّه من الممكن، داخل عمليات الاشتغال الخاصة بإعادة التوطين واللاتوطين وإعداد الآخرية لتصبح شكلاً من الأخلاق، غرس الإبداع داخل الدراسات الثقافية العربية والفكر العربي. تكمن فائدة منهجية النقد المزدوج كما قدمها الخطيبي في وعدها بأن تشتغل بمفاهيم محلية وعالمية معًا في علاقة من الاختلاف الديريدي، حيث يتم إخضاعها جميعًا لعملية فعلية ومستمرة للهدم وإعادة البناء. بهذه المنهجية نضمن الفرار أو الهروب من كل أشكال الإمبرياليات الأنطولوجية وأيضًا من العديد من الخطابات المخدَّرة للتحول والتي تكلمنا عنها أعلاه. أؤكد أنّه داخل هذا الإطار التحليلي النقدي وهذا النوع من الآلية يمكن للإبداع أن يتجسد. أن تكون مبدعًا أو أن تبدع هو أن تكون قادرًا على الهدم والبناء من جديد دون أن تصاب بالشلل أو أن تجعلك النصوص والأفكار والمفاهيم ضعيفًا، سواء منها الكونية أو المحلية، والتي اكتسبت بمرور الوقت وضع المحايثة أو القداسة. وطريقة نزع القداسة [ينبغي ممارسة نزع القداسة طقسًا فكريًّا لكي نكون مبدعين] عن مثل هذه الأشكال من المعرفة لضمان فائدتها وملاءمتها هي وضعها على محك الواقع. وإذا ثبت أنّ هذه المفاهيم غير مناسبة، زائدة أو غير متزامنة مع الواقع الاجتماعي والثقافي، نحتاج آنذاك أن نعيد التفكير فيها ونخلق أشكالاً جديدة.

لهذا فإنّ التفريق بين المفاهيم أو خلقها، والسطح هو مفتاح لفهم ما يراه طارق صبري نقصًا معرفيًّا أساسيًّا في الدراسات الثقافية العربية الناشئة؛ وهو يعني بهذا ذلك الخلط بين مجموعة متشظية من الكتابات حول وسائل الإعلام والثقافة والمجتمع في العالم العربي، باعتبارها أحداثًا للسطح نفسه والذي هو في هذه الحالة الدراسات الثقافية العربية. السبب الرئيسي لمثل هذا الخلط أو النقص هو أنّ الكتابة والتفكير حول وسائل الإعلام والثقافة والمجتمع في العالم العربي، اللذين تطورا في العقد السابق، قد فعلا ذلك بعيدًا عن أي تمفصل جدي للإشكاليات المعرفية التي تصحب أي تطور في مجالات البحث الجديدة، ومن المؤسف حقًّا حسب طارق صبري أن نلاحظ بأنّه حيث تمت محاولات لموضعة المجال معرفيًّا، فإنّ ما يبقى هدفًا سائدًا، على العموم، هو النزعة الجوهرية والـتأصيلية. حالما يصبح السطح الذي نشتغل فوقه واعياً بنفسه؛ نحدد ماهيته وقدرة اشتغاله وكيفيتها، ويمكن أن نبدأ آنذاك عملية الإبداع المترابط؛ إنّه نوع من الإبداع، واع ومتأكد من زمنه ومكانه. عدم قدرتنا على تحديد السطح الذي سنكتب ونبدع فوقه [هنا في هذه الحالة البحث في وسائل الإعلام والثقافة والمجتمع في العالم العربي] هو قيامنا بطريقة لاواعية وساذجة وبدون تكلف بتقديم خدماتنا كمستشرقين سُذّج.

من المهم جدًّا كما يرى طارق صبري تعيين حدود نقد مزدوج بتعبير الخطيبي، كإطار تحليلي يتم من خلاله التفكير في إبستيم إبداعي ونقدي، هو الدراسات الثقافية العربية، ودراسته بطرق تجعل منه، عبر العمليات المستمرة لإعادة التوطين [الاتصالية الإبداعية]، مترسخًا في الفكر والواقع العربي المعاصر ومناسبًا لهما؛ وأيضًا عبر اللاتوطين [الانفصال] باعتباره آلية للاختلاف الديريدي والهروب المستمر الذي يضمن النقد الذاتي والإبداع. وقد أكد طارق صبري ضرورة تحفيز هذا النقد المزدوج بتوسيع مفهوم الثقافة العربية وبتقديم أخلاق للآخرية وشرحها حتى تشكل العملية الإبداعية جزءًا من عقلانية أخلاقية تتعالى على الثنائيات والجوهريات والإغراءات الغائية التي تأتي مع الأصالة وخطاباتها المخدَّرة للتحول.[13]

خلاصة

إنّ النظر إلى الدراسات الثقافية العربية باعتباره حقلاً جديدًا للبحث في وسائل الإعلام والثقافة والمجتمع العربي، كما يرى طارق صبري، هو بالدرجة الأولى مهمة معرفية، وطريقة لجعل الحقل واعيًا بوجوده في الزمان والمكان. إنّ هذا الإبستيم بالتحديد هو ما حفز على إغناء الدراسات الثقافية تطويرًا يسهم في التأسيس للدراسات الثقافية العربية بوصفها فضاءً معرفيًّا واعيًا أو سطحًا تخضع فيه دراسة الثقافة والمجتمع العربي لنوع من الدقة الفكرية والعلمية والمنهجية. إنّها عملية لا تتأسس عليها حقول جديدة فحسب، بل تتشكل عليها مفاهيم ونماذج فكرية جديدة، وهي بدورها تتحجر وتندثر لتفسح المجال لمفاهيم ونماذج أخرى، في تأرجح دائم بين البناء والهدم، الاستمرارية والقطيعة، إذ تتم باستمرار معارضة الغائيات المحايثة الجديدة والتعالي عليها. من الجدير بالذكر أنّ الاستراتيجية التي يقترحها علينا طارق صبري تعد مدخلاً أساسيًّا لمقاربة التوجهات الجديدة في الدراسات الثقافية العربية التي غدا عالمنا العربي في أمس الحاجة إليها وذلك من أجل تعميق فهمنا بكيفية توطين المفاهيم التي تشكل تصوراتنا للعالم، وإعادة توطينها، ولبناء جسور ثقافية يتموضع من خلالها الفكر العربي المعاصر ضمن موقعه من العالم المتحول بصورة جذرية والزاخر بإمكانات جديدة لامتناهية للإبداع الثقافي.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1]- طارق صبري مفكر بريطاني مغربي، وهو أستاذ الدراسات الثقافية في جامعة وستمنستر بلندن ومدير المركز العربي للإعلام بالجامعة نفسها، وهو من مؤسسي (ومحرري) مجلة تهتم بالدراسات الثقافية عنوانها: مجلة الثقافة والتواصل، وهي مجلة دورية تصدر بالأنجليزية، صدرت له عدة كتب أشرنا إلى بعضها في هوامش هذا المقال، وينصب اهتمام طارق صبري الذي يعتبر من مفكري الموجة الجديدة في الدراسات الثقافية البريطانية بالثقافات الفرعية، والشعبية، والزمن الثقافي، والإعلام والوسائط التقنية، فضلاً عن أنّه مهتم بالقراءة الثقافية للفكر الفلسفي العربي المعاصر الذي يجتهد بطريقته في تقديمه في الأوساط الثقافية البريطانية.

[2]- tarik Sabry. Arab cultural studies , Mapping the Field, I.B. Tauris. London. New york. 2012; p 2.

- وقد اعتمدنا في كتابة هذه المقالة بعد الاطلاع على أعمال الكاتب، على ترجمة رصينة للباحث المغربي نور الدين الزويتني للكتاب المشار إليه أعلاه، والتي خص بها مركز الإعلام العربي بجامعة وستمنستر بلندن.

[3]- Ibid. p,4.

[4]- Ibid, p 5.

[5]- Tarik Sabry. Cultural Encounters in the arab world, on media the modern and everyday, Ib tauris, London, New york 2010.

[6]- Ibid. p 35.

[7]- Tarik Sabry, Arab cultural studies. P 6.

[8]- Ibid. p 7.

[9]- Ibid. p 9.

[10]- Ibid. p 11.

[11]- Ibid. p 14.

[12]- ibid. p 16.

[13]- Ibid. p 18.

المصدر: http://www.mominoun.com/articles/%D8%A7%D9%84%D8%AA%D9%81%D9%83%D9%8A%D8...

 

الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك