العولمة بين المعنى المعلن والمعنى الخفي

د. ناصح البقمي

 

مصطلح العولمة من أكثر المصطلحات المعاصرة انتشاراً وغموضاً في الوقت نفسه. ولذلك يتساءل كثير من  الناس عن معنى هذا المصطلح؛ هل هو جعل الأنظمة السياسية الموجودة في العالم على نمط سياسي واحد؟ أم فتح الأسواق وإلغاء القيود والحواجز الاقتصادية بين الدول ؟ أم تصدير ثقافة معينة ينبغي لها أن تسيطر وتفوق غيرها من الثقافات ؟ أم أن العولمة هي كل ما تقدم، بل وربما أكثر ؟

ثم يأتي السؤال الأهم وهو: ما حكم العولمة في الإسلام ؟ وما موقف المسلمين منها ؟

للإجابة عن هذه الأسئلة، عُقدت كثير من المؤتمرات والندوات والمحاضرات، بغية تجلية هذا الأمر وبيان الموقف منه. إلا أن ما قدم فيها ـ وبخاصة العولمة الاقتصادية ـ كان يعاني أمرين: إما طرح الموضوع والتعمق فيه من الناحية الاقتصادية دون بيان الحكم الشرعي، أو طرح إسلامي عام لا يضع النقاط على الحروف.

فلا يبين الحكم الشرعي بعد دراسة الظاهرة دراسة وافية، ولا يطرح حلولا تفصيلية وسياسات شرعية يمكن تطبيقها في الواقع. فمعظم الكتابات الإسلامية التي صدرت اتسمت بالعمومية وعدم التعمق، حيث اشتملت على أحكام متعجلة وتوصيات أقرب إلى التمنيات منها إلى الحلول والسياسات، باستثناء بعض الرسائل العلمية القليلة جدا التي تناولت أجزاء يسيرة من هذا الموضوع الضخم. ولا شك أن تشعب الموضوع وتعقيده قد حال دون الوصول إلى المقصود.

وإسهاماً مني في تجلية هذا الأمر، فقد بحثت هذا الموضوع، من ناحية معنى العولمة بعامة والعولمة الاقتصادية بخاصة، وأهدافها، وأدواتها، وأسباب بروزها، وآثارها الاقتصادية في الدول الإسلامية، ومنظماتها التي تخطط لها وتطبقها على شكل سياسات في الدول النامية وهي: البنك الدولي للتعمير والتنمية،  وصندوق النقد الدولي، ومنظمة التجارة العالمية.

وقد بينت حكم تلك السياسات في الشريعة الإسلامية وطرحت سياسات شرعية يمكن أن يستغنى بها عن سياسات تلك المنظمات في حالة معارضتها للشريعة الإسلامية، أما سياساتها الموافقة للشريعة فيمكن الأخذ بها إذا اقتضى الأمر.

والعولمة "Globalization" لفظة إنجليزية حديثة المنشأ، لا يجدي البحث عنها في المعاجم العربية. بل لا بد من الرجوع إلى المعاجم والقواميس الأجنبية لمعرفة المقصود بها.

وبالرجوع إلى بعض تلك المعاجم وجدت أن أصل اللفظة هو " Globe " ويعني: كرة، أو الكرة الأرضية، أو كرة يعلوها صليب ترمز إلى سلطة الملك وعدالته. والصفة منها " Global " وتعني: كروي، أو عالمي، أو شامل. أما الاسم وهو " Globalization " فيعني ما يلي:

"worldwide in scope or application To make global ;esb.to make ":

أي أن العولمة هي إكساب الشيء طابع العالمية، وبخاصة جعل نطاق الشيء أو تطبيقه عالميا. ويلاحظ على صيغة " zation ـ " في لفظة "Globalization" أنها تفيد وجود فاعل يفعل، فليس الأمر عفويا.

وقد ترجمت اللفظة الإنجليزية "Globalization " إلى ثلاثة ألفاظ عربية هي: " العولمة "  و"الكوكبة "و" الكونية ". وقد انتشرت اللفظة الأولى على لسان كثير من الكتاب والمفكرين، وإن كان بعضهم يعترف بأن لفظة " الكوكبة " أدق من لفظة " العولمة "؛ لأن لفظة العولمة اشتقاق من "عالم " الذي يقابل " World " وليس من " الكوكب " الذي يقابل "Globe".

وقد اختلفت التعريفات الاصطلاحية للعولمة، باختلاف توجهات وأفكار من يعرَّفونها، قبولا أو رفضا. فبينما يعرفها الغربيون بتعريفات تبدو محايدة وبراقة، يعرفها بقية المفكرين في الدول النامية وبخاصة المسلمين منهم، بتعريفات تصورها على أنها خطر داهم يجب التنبه له ومواجهته.

كما أن تعريفاتهم للعولمة قد اختلفت أيضا من شخص لآخر، بسبب تعقيدها وتشعبها وتعدد جوانبها، بل رأى بعضهم، عدم جدوى البحث عن تعريف جامع مانع، واكتفى بتحديد المعنى ومعرفة أبعاده ومضامينه.

فمن الفريق الأول ـ وهو المؤيد للعولمة ـ عرفها صندوق النقد الدولي بأنها " تزايد الاعتماد الاقتصادي المتبادل بين بلدان العالم، بوسائل منها: زيادة حجم وتنوع معاملات السلع والخدمات عبر الحدود والمتدفقات الرأسمالية الدولية، وكذلك من خلال سرعة ومدى انتشار التكنولوجيا ".

ويؤخذ على هذا التعريف، أنه يحصر العولمة في المجال الاقتصادي ويهمل المجالين: السياسي، والثقافي. كما أنه يصور العولمة وكأنها ظاهرة تلقائية تحدث عفويا بين الدول، وليس خلفها جهات توجهها وتسيرها. وكما أن هذا هو المعنى المعلن للعولمة، أما المعنى الخفي فشيء غير ذلك.

ومن الفريق الآخر ـ وهو المعارض للعولمة ـ عرفها الأطرش بأنها " اندماج أسواق العالم في حقول التجارة، والاستثمارات المباشرة، وانتقال الأموال، والقوى العاملة، والثقافات، والتقانة، ضمن إطار من رأسمالية حرية الأسواق، وتاليا خضوع العالم لقوى السوق العالمية، مما يؤدي إلى اختراق الحدود القومية، وإلى الانحسار الكبير في سيادة الدولة، وأن العنصر الأساسي في هذه الظاهرة، هي الشركات الرأسمالية الضخمة متخطية القوميات ".

وعرفها الدكتور الزنيدي بأنها: " ذلك التوجه وتلك الدعوة التي تسعى إلى صياغة حياة البشر في مختلف  الأمم، وفق القيم والمسالك والأنماط الغربية ـ وبالدرجة الأولى الأمريكية ـ وتحطيم خصوصيات الأمم المختلفة، إما بالترغيب أو بالترهيب ". ثم ذكر أن هذا التعريف تلتقي فيه عامة التعريفات وإن اختلفت صياغاتها، وأن هذه الفكرة ليست جديدة، فإشاعة قيم الغرب، تدرجت من التغريب، إلى الحداثة، ثم إلى العولمة، فليس في الأمر شيء جديد. 
والراجح في معنى العولمة في نظري: هو ما ذكره المعارضون؛ وهو المعنى الخفي للعولمة. وملخص هذا المعنى أن العولمة هي نشر القيم الغربية الرأسمالية في العالم، وجعل العالم كله يسير وفقا للنموذج الغربي الرأسمالي في مجالات السياسة، والاقتصاد، والثقافة.

المصدر: http://www.denana.com/main/articles.aspx?article_no=3019&pgtyp=66

 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك