الفقه والفقيه ومتغيرات السلطة

معتز الخطيب

إن المستجدات والنوازل الفقهية، وتوسع الاجتهاد فيها، في ظل متغيرات واقع السياسة ونظامها الحديث، كلُّ ذلك أدى إلى اضطرابات عديدة في مسالك الفتوى، خاصة مع نشوء (الفتاوى السياسية)

إن المستجدات والنوازل الفقهية، وتوسع الاجتهاد فيها، في ظل متغيرات واقع السياسة ونظامها الحديث، كلُّ ذلك أدى إلى اضطرابات عديدة في مسالك الفتوى، خاصة مع نشوء (الفتاوى السياسية)، ووقع الاضطراب من مدخلين: أن الإسلام نظام شامل، وأن الفقه نفسه احتوى مسائل السياسة، وخاصة ما سمي بالسياسة الشرعية.
إلا أن الذي لم يتم الانتباه إليه أن شمولية الإسلام لم تعنِ شمولية الفقيه في ذاته بحيث يصبح هو -وحده- المتحكم بالمجال العام، وأن كتب السياسة الشرعية تختلف عن كتب السياسة السلطانية، فالأولى أكثر ما تنشغل بالجانب المدني من حياة المسلم من حقوق وحدود، بينما أكثر ما تنشغل الثانية بالجانب السياسي للدولة من وظائف وجيش وأشكال التدبير السياسي وحكم الرعايا.
بل إن الماوردي نفسه يقسم الآداب الاجتماعية إلى قسمين: أدب شريعة وأدب سياسة، فأدب الشريعة ما أدى الفرض، وأدب السياسة ما عَمَر الأرض، (وكلاهما يرجع إلى العدل الذي به سلامة السلطان، وعمارة البلدان؛ لأن من ترك الفرض فقد ظلم نفسه، ومن خرّب الأرض فقد ظلم غيره). وبهذا فإنه كان هناك تفريق وتمييز بين شمولية الإسلام، ووظيفة الفقه والفقهاء، كما كان هناك تمايز بين الفقه والسياسة، إلا أن متغيرات الواقع السياسي هي التي أدت إلى هذا الاضطراب الحاصل الآن في (الأدوار) ووظيفة الفتوى ومجالها وحدودها كما سنوضح.

أولاً: مركزية الفقه

شكّل علم الفقه في تاريخ الحضارة الإسلامية أحد أبرز العلوم الإسلامية التي نشأ في ظلها عدد من العلوم، فحتى بعض المدونات المبكرة في الحديث النبوي اعتُبرت مدونات فقهية كموطأ مالك ثم صحيح البخاري، وكذلك كتب السنن التي لم يكن هدفها الأول جمع الأحاديث النبوية بقدر ما كان الهدف جمع السنن بحسب الوعي الفقهي المبكر، لتكون فيما بعدُ مادةً لعمل الفقيه، بل إن الانقسام القديم الذي نشأ في نهاية القرن الهجري الأول بين من سُموا بـ(أهل الحديث) و(أهل الرأي) كان في حقيقته انقسامًا داخل دائرة واحدة هي دائرة طريقة الاستنباط وبناء الأحكام الفقهية، قبل أن ينفصل الحديث عن الفقه مع فئة انشغلت بجمع الروايات دون فقهها.
والفقه الذي يعني الفهم، وبمعناه الاصطلاحي هو العلم بالأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية، يتداخل مع الشريعة، فالشريعة الإسلامية هي جملة الأوامر الإلهية التي تنظم حياة كل مسلم مكلف -بتعبير الفقهاء- من جميع وجوهها. وهذه الوجوه الشاملة تشمل العبادات والشعائر الدينية والقواعد السياسية والقانونية وآداب الطهارة وصور التحية وآداب الأكل وعيادة المرضى وصولاً إلى أصول النظام السياسي التي تحدد واجبات الإمام وحقوقه على الرعية.
وهكذا يتداخل الفقه بالشريعة، وينوب المفتي مقام النبي، من حيث تبليغ الأحكام الشرعية، المستندة إلى المصادر المعروفة في التشريع، فالمسافة التي تفصل بين الوحي والاجتهاد البشري تضيق كثيرًا في ظل ذلك التداخل؛ بحيث يصعب التفريق بين الشريعة التي هي أحكام الله الخالصة، والفقه الذي أنشئ من حول الشريعة ومد سلطانها على سائر المستجدات والأزمان والوقائع التي طرأت عبر تاريخ الحياة الإسلامية.
فالشريعة الإسلامية إذن هي أبرز مظهر يميز أسلوب الحياة الإسلامية، وهي لب الإسلام ولبابه، وقد أصبح لهذا المصطلح شيوع في الثمانينيات من القرن العشرين في سياق سياسي خاص أضفى عليه بعدًا سياسيًّا في ظل الصراع على السلطة ومرجعية الدولة، فبات يحمل تعبير: (تطبيق الشريعة).
وقد (ظهر التشريع الإسلامي إلى الوجود ونما في ضوء خلفية سياسية وإدارية متنوعة الصور) منذ عصر النبي -صلى الله عليه وسلم- مرورًا بخلفائه إلى دولة الأمويين ثم العباسيين، و(آخر الأمر صار للتشريع الإسلامي على عقول المسلمين سلطان أكبر مما فقده من سيطرة على أجسادهم) في بعض الفترات التاريخية السياسية. وعلى الرغم من انقسام الواقع السياسي للمسلمين، بقي التشريع الإسلامي يمثل العامل الرئيسي في الوحدة، من خلال الخاصية الرئيسة التي ترتكز فيه وهي نظرية لجميع أفعال البشر وعلاقاتهم بعضهم ببعض، وعبر كل المجالات الفردي والجماعي، القانوني والعبادي وغير ذلك.
(إن التشريع الإسلامي يقدم مثالاً لظاهرة فريدة يقوم فيها العلم القانوني، لا الدولة، بدور المشرع، وتكون فيها لمؤلفات العلماء قوة القانون، وكان هذا يعتمد على توافر شرطين: هما أن العلم القانوني كان هو الضامن لاستقرار ذاته واستمراره، وأن سلطة الدولة حلت محلها سلطة أخرى هي سلطة الفقه والفقهاء، وكان هذه السلطة من العلو بحيث فرضت نفسها على الحاكم والمحكوم. وقد تحقق الشرط الأول بفضل مبدأ الإجماع الذي له السلطة العليا بين أصول الفقه الإسلامي، وحقق الشرط الثاني القول بأن أساس الشريعة الإسلامية هو حكم الله)(1).

ثانيًا: جدلية العلاقة بين الفقه والسياسة:

وإذا كانت الشريعة حاكمة على جميع أفعال المكلفين، فإن الفقه -الذي يرادف الشريعة لدى البعض، أو هي جزء منه لدى آخرين- بأحكامه الخمسة السابقة يحكم على تلك الأفعال أيضًا، وهذه الأفعال تعم كل المجالات، فالسياسة داخلة فيها إذن. وعلى هذا فـ (ليست هناك مسافة بين الفقه والسياسة)(2). بل إن أطروحة (الإسلام نظام شامل) لا تقرّ بمشروعية سؤال العلاقة بين الفقه والسياسة.
نشأت أطروحة النظام الشامل، في ظل الصراع الأيديولوجي بين القائلين بوجوب الحل الإسلامي أي المرجعية الإسلامية للأمة، والقائلين بالحلّ الغربي العلماني على اختلاف توجهاته الليبرالية والاشتراكية وغيرها. وفي هذا السياق (قدم حسن البنا فكرة شمول الإسلام، وارتباط الفكر بالعمل، والدعوة بالتنظيم الحركي، والدين بالسياسة)، واعتُبرت دعوة البنّا دعوة تُنشئ (تنظيمًا يجمع الناس وينتظمهم ويأخذهم بالتعليم والتربية الدينية والسياسية)(3). يذهب الشيخ القرضاوي إلى أن أطروحة النظام الشامل هي أصيلة وتكوينية في الإسلام، وليست طارئة عليه، يعني أن البنا لم يستحدثها(4)، وهذا المعنى أدركه بعض المستشرقين، حتى إن شاخت قال: (إن الشريعة الإسلامية هي جملة الأوامر الإلهية التي تنظم حياة كل مسلم من جميع وجوهها، وهي تشتمل على أحكام خاصة بالعبادات والشعائر الدينية، كما تشتمل على قواعد سياسية وقانونية (بالمعنى المحدود) وعلى تفاصيل آداب الطهارة وصور التحية وآداب الأكل وعيادة المرضى. والشريعة الإسلامية هي أبرز مظهر يميز أسلوب الحياة الإسلامية، وهي لب الإسلام ولبابه)(5).
غير أنه لا بد من توضيح جملة من المسائل هنا لا يتم التنبه إليها أو التفريق بينها، أولاها أن الإسلام نظام حياة يشمل نشاط المسلم بما هو إنسان يعيش حياته مستهديًا بالوحي، يوازن بين النص والواقع، ويجتهد في تنزيل النصوص على الوقائع التي تتناولها (تحقيق المناط)، كما يجتهد في تحقيق المقاصد والمصالح في مسائل (العفو) التي خلت منها النصوص وفوّضت أمرها لتقديرات البشر ومتغيرات الأزمان والأعراف وتراكم المعارف.
لكن التطور الذي حدث في العصر الحديث هو ذلك الانفصال بين الشريعة والسياسة في بناء وتصور ومرجعية الدولة الحديثة، بما هي مهيمنة على تفاصيل حياة البشر، وفي هذا السياق حدثت تحولات كبيرة في وعي تلك الفكرة المركزية في الإسلام، وهي (النظام الشامل)، فتحولت من إطار دولة مجسدة لها وقائمة بها، إلى إطار جماعة أو تنظيمات إسلامية، فجرى الدمج بين الإسلام بوصفه نظامًا شاملاً، وبين ما سمي لاحقًا بـ(الإسلام السياسي) على معنى المشاركة في السلطة، أو السعي إليها كما سنبينه فيه تاليًا.
فاشتمال الشريعة الإسلامية على مسائل السياسة أمر لا مفرّ من الإقرار به، وهو ما يشهد به ذلك النتاج الفقهي الضخم، والتاريخ الإسلامي أيضًا، بل ويشهد به التحليل المنطقي الذي قدمناه عن تعريف الفقه الإسلامي وبناء تصوراته. لكن الجديد والطارئ هو مَنْ يمارس السلطة، ويقوم على تطبيق تلك التصورات. هنا حدث -ويحدث- الكثير من الاضطراب منذ نشأة الدولة الوطنية الحديثة والصراع على السلطة والمرجعية أيضًا.
الإسلام منذ نشأته الأولى ما قام على سُوقه إلا في ظل وجود دولة وسلطة حاكمة تستند إليه في الحكم والمرجعية، وفي ظل هذه الأجواء بُني الفقه كله وخضعت تصوراته الكلية وأحكامه التفصيلية إلى ذلك الأفق الذي يُظلله، أي إلى مسلّمة موجودة وهي وجود سلطة (إسلامية) تطبق شريعته، ومكمن الإشكالية الإسلامية المعاصرة هي معضلة التعايش في ظل سلطة مناهضة للمرجعية الإسلامية في معظم الأحيان، أو مهمِّشة لها في أحيان كثيرة، والمطلوب من الفقيه في ظل هذه السلطة تنزيل النصوص وتطبيق تصورات الفقه (الشامل) المؤسّس على الشكل المشار إليه (في ظل سلطة إسلامية) على أرض واقعٍ كهذا (الإسلام فيه مناهَض أو مهمّش)، وعن هذه المعضلة تنشأ كل مشكلات الظاهرة الإسلامية الحديثة والمعاصرة، وتنبثق فئات كثيرة تعكس كلٌّ منها استجابة معينة لتلك المعضلة.
وحتى الاجتهادات الفقهية التي تحاول التجاوب مع هذا الواقع تعاني من ارتباك كبير؛ إذ تحاول -جاهدة- تكييف تصورات هي نتاج فضاء معين، مع واقع مختلف كليًّا عن واقع إنتاج الفقه المتراكم عبر قرون طويلة، كما أنها لا تستطيع تجاوزه، ومن هنا تتنوع تلك الاجتهادات وتضطرب أحيانًا في علاقتها بالسلطة القائمة أو في ممارستها لمسائل الشأن العام أو في موقفها من القضايا الكبرى والعلاقات الدولية بالمقارنة مع تاريخ الفقه الإسلامي وتصوراته.
فالسلطة الإسلامية التي نشأ في ظلها الفقه الإسلامي كله، كان يقف على رأسها الخليفة أو الإمام، وقد عرّف الفقهاء الإمامة أو الخلافة بأنها: (نيابة عامة عن صاحب الشرع - وهو رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في حراسة الدين وسياسة الدنيا به)(6) ، فالخلافة حراسة وسياسة، ومن هنا اعتُبر (الدين والمُلك توأمين)، منذ عهد أردشير الفارسي وحتى عهد الآداب السلطانية(7).
غير أن هذه المسألة حين تتم قراءتها -وفق مرجعية علمانية- تصبح معكوسة؛ فيصبح فقهاء الآداب السلطانية (عملوا على توسيع دائرة الديني في الفقه والشريعة لتشمل فضاء السياسي في المستوى العقائدي ويضمن عدم الفصل بين شؤون الحكم وشؤون الشريعة الإسلامية)(8)، دون أن يعي هؤلاء أنهم يقرؤون التاريخ قراءة منحازة مسبقًا، وأنهم يحاكمونه إلى مفهوم مستحدث طارئ هو مفهوم (الفصل) بين الديني والسياسي، أو (توسيع) الديني وهي مفاهيم علمانية نشأت بعد ذلك بقرون!.
فالغرض من الإمامة أصلاً هو حفظ الدين، يقول الجويني: (الغرض استيفاء قواعد الإسلام طوعًا أو كرهًا، والمقصد الدينُ، ولكنه لما استمد استمراره من الدنيا كانت هذه القضية مرعية)(9)، كما أن الواجبات التي يتعين على الإمام القيام بها هي: حفظ الدين، وتنفيذ الأحكام بين المتخاصمين، وحماية البيضة، وإقامة الحدود، وتحصين الثغور وجهاد من عاند الإسلام، وجباية الفيء والصدقات وتقدير العطايا واستكفاء الأمناء وأن يباشر الإمام بنفسه مشارفة الأمور وتصفح الأحوال(10)، وهكذا فإن (سلطة الإمام كانت ببساطة تفويضًا يهدف إلى تطبيق الشريعة الإسلامية والدفاع عنها فقد ورث عن الرسول السلطتين القضائية والتنفيذية فحسب، أما السلطة التشريعية فلم يكن له منها شيء، بل إن سلطته في الاجتهاد كانت محدودة)(11).
غير أن الذي حدث مع قيام الدولة الوطنية الحديثة، ونشأة القول بالعلمانية، أنه انفصلت الدولة عن الشرعية، والشرعية هنا كما هي في الفقه الإسلامي شرعية دينية تكون فيها السلطة محتكمة إلى الشريعة وصادرة عنها؛ ويقوم فيها الإمام بحفظ الدين وباقي الواجبات المذكورة سابقًا. وبهذا انفصلت السلطة عن الشريعة، وقام ما سمي (بالإسلام السياسي) ليتولى هذا الشأن، فاختلت التصورات والأفعال التي أرساها ما سمي بالسياسة الشرعية التي نظمت العلاقة بين الإمام والرعية، وحددت واجباته وحقوقه، وبيّنت ما يختص به مما لا يحق له التدخل فيه من الشأن الديني: أصله وفروعه، كما نجدها لدى الجويني مثلا.
وفي ظلّ ذلك التنظيم كانت العلاقة بين الفقيه والإمام تقوم على اختصاصات وتمايز، فالإمام يختص بالشأن السياسي، يقول الجويني: (لا يختص به -أي السلطان- إلا ما يتعلق بالسياسة)(12). ويوجب على نظام الملك الحاكم في عصره، أن يراجع العلماء فيقول: (ومما ألقيه إلى المجلس السامي وجوب مراجعة العلماء فيما يأتي ويذر؛ فإنهم قدوة الأحكام وأعلام الإسلام وورثة النبوة، وقادة الأمة، وسادة الملة، ومفاتيح الهدى، ومصابيح الدجى، وهم على الحقيقة أصحاب الأمر استحقاقًا، وذوو النجدة مأمورون بارتسام مراسمهم، واقتصاص أمرهم، والانكفاف عن مزاجرهم)(13).
(فحماة الشريعة هم الملوك والأمراء، وحفاظها هم الأئمة العلماء)(14)، وإذا كان الإمام ورث عن الرسول السلطتين القضائية والتنفيذية فحسب، فإن السلطة التشريعية كانت للفقهاء وحدهم. ويقول أحد كبار الفقهاء المعاصرين: (السياسة لها دورها في التطبيق، وأما الفقهاء فدورهم في التأصيل، وينبغي على الفقيه أن يكون هو السيد في هذه الأمور، أما الحاكم فهو المنفذ لأصول الشريعة وأحكامها)(15). ونحو هذا عند الإمام الغزالي الذي يقول: (الفقيه هو العالم بقانون السياسة وطريق التوسط بين الخَلق إذا تنازعوا بحكم الشهوات، فكان الفقيه معلم السلطان ومرشده إلى طرق سياسة الخلق وضبطهم لينتظم باستقامتهم أمورهم في الدنيا)(16).
لكن بالتأكيد لم تكن العلاقة بين الفقيه والسياسيّ على هذا النحو من الاستقرار تاريخيًّا، فقد شهدت فترات اضطراب، ربما بدأ منذ عصر المأمون العباسيّ (198-218هـ) حيث أمر بلعن معاوية على المنابر، وامتحن من اختارهم من علماء بغداد في عقيدتهم في القرآن، وهي ما عرفت لاحقًا بفتنة خلق القرآن. وفي واقع الأمر هذا تدخل من الإمام في الشأن الديني، قد تختلف فيه الأفهام هل يحق له أم لا، وإن كان الجويني مثلاً يرى أنه (يجب اتباع الإمام قطعًا فيما يراه من المجتهدات فيُرتَّب القتال على أمر مقطوع به، وهو تحريم مخالفة الإمام في الأمر الذي دعا إليه وإن كان أصله مظنونًا...)(17) وهو يعني هنا الإمام المجتهد(18)، لكن الإمام أحمد بالتأكيد لم يكن يرى هذا الرأي، بل يرفض رأي الخليفة وأن تكون له كلمة في مسألة هي من صميم اختصاص العلماء، وإلا ما بقي في السجن!. وإنما يقع الصراع في العلاقة أيضًا في المسائل التي لا يختص بها الإمام فيحاول اجتذابها، فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يختص به، بل هو موكول إلى المسلمين عامة بشروطه، غير أنه لا بد من الإقرار بأنه كان للسلطان مداخل عديدة يتيحها له الفقه الإسلامي نفسه أو السياسة الشرعية على وجه الخصوص، للتدخل في الشأن الديني، من خلال جباية الزكاة، أو اختيار مذهب ونصرته على آخر، أو من خلال عقوبات التعزير التي أوكل أمرها إلى الإمام وهي عقوبات غير مقدرة شرعًا، أو من خلال تقرير المصالح خاصة إذا ضعف مبدأ الشورى، أو تم التشاور مع اعتباره معلِمًا غير ملزِم، وغير ذلك.
وربما يكون هذا النزاع المبكر في عهد المأمون، هو الذي دفع إلى تقرير ما هو شرعي مما هو غير شرعي من شؤون (السياسة) فكتب الفقهاء كتب (السياسة الشرعية) لتوضيح الحقوق والواجبات للإمام والرعية على السواء.
لكن مع كل هذا بقي الإمام يختص بشؤون السياسة، والفقيه يختص بشؤون الدين، حتى عهد الإصلاحية الإسلامية في تونس ومصر، حيث رأى الفقيه أو الإصلاحي أنه مشارك في الشأن السياسي وفي إصلاحه، في ظل الهجمة الاستعمارية، ومحاولة بناء دولة عصرية تقف في وجه ذلك السيل الذي يهدد الوجود والهوية، ويكاد يطيح بالدين. هنا لجأ الفقيه الإصلاحي إلى المصالح والمقاصد لبناء تلك الدولة التي تحمي الوجود والهوية كليهما، وتصون ضرورات الدين التي جاء بها. وقد تحالف رجال الحكم ورجال الإصلاح في تونس من أجل ذلك وتم تشريع المؤسسات الحديثة من باب المصالح كما أشرنا سابقًا، من أجل تحقيق الإصلاح الديني والسياسي معًا، فحدث الوصل بين الفقه والدولة، لكن ذلك لم يستمر طويلاً فسرعان ما انفصل الفقه عن الدولة فوجدت النخبة الإصلاحية نفسها معزولة عن الشأن العام الذي استبد به السياسيّ لكن هذه المرة بمعزل عن الشريعة فاختل الفقه من أساسه، وبقيت المعضلة جاثمة في الفكر الإسلامي المعاصر في كيفية التعاطي مع هذه الدولة الناشئة، التي ما أمكن الاعتراف بشرعيتها، ونشأت أطروحة الدولة الإسلامية، وتحولت المشكلة مع بعض التنظيمات الإسلامية العنيفة إلى تكفير الدولة ومحاولة الحلول محلها ما يعني أن تلك الفئة من الناس اعتبرت نفسها رأت من حقها وحدها تولي أمور الشأن العام فحدث الصدام الذي لا تزال آثاره حتى الآن قائمة.
وإذا كان الفقه -كما قلنا- ينتظم أفعال الناس جميعها، ويحكمها، فإن هذا يصدق أيضًا على السلطان أو الإمام في خاصة نفسه، كما أن الشريعة الشاملة تصدق على السياسة والعبادة وسائر المجالات، ومن هنا فإن الفقه يتناول مسائل السياسة، إلا أن تعاطيه معها بما هي تدبير الشأن العام خارج عن منهج تعاطيه مع مسائل الأفراد، ولهذا أوجد الفقهاء اسمًا خاصًّا لهذا، أسموه (السياسة الشرعية)، وعرفها ابن نجيم الحنفي بأنها (فعل شيء من الحاكم لمصلحة يراها، وإن لم يرد بذلك الفعل دليل جزئي)(19)، مع أنه قال قبل ذلك: (لم أر في كلام مشايخنا تعريف السياسة). وعماد السياسة الشرعية عند جمهور الفقهاء قائم على المصلحة المرسلة، ولذلك نقل الجويني عن بعضهم قوله: (إن أبناء الزمان ذهبوا إلى أن مناصب السلطنة والولاية لا تستدّ إلا على رأي مالك رضي الله عنه، وكان يرى الازدياد على مبالغ الحدود في التعزيرات، ويسوّغ للوالي أن يقتل في التعزير. ونقل النقلة عنه أنه قال: للإمام أن يقتل ثلث الأمة في استصلاح ثلثيها)(20) ، وقد انتقد الجويني هذا انتقادًا لاذعًا قائلاً: (وهذا الفن يستهين به الأغبياء، وهو على الحقيقة تسبُّبٌ إلى مضادّة ما ابتُعث به سيد الأنبياء). فالجويني شافعي ومذهبه أضيق المذاهب في اعتبار المصالح، فقد تقدم أن الشافعي حصر الاجتهاد في القياس فقط وهو المسلك الأول من مسالك الفتوى كما أشرنا.
إذن فكرة المصلحة نفسها، هي جوهر ما عُرف بالسياسة الشرعية، وحين كان رجال الإصلاح هم رجال الدولة توسعت المصالح، ونشأت مقولات وتطورات وإنتاجات فقهية كثيرة لقضايا العصر مدت سلطان الفقه، ونمّته، في ظل مسلك المصلحة والمقاصد دون تجاهل منهجية القياس والنص. وعن مسلك المصلحة والمنافع نشأت مقولات فقه الواقع، والموازنات والأولويات بالاستناد لمقولات ابن القيم والعز بن عبد السلام، والتي أدت إلى نشوء فقه الأقليات، وتوسعة دائرة الحلال، وغيرها بحكم المنزع الدعوي الذي يهدف إلى نشر الإسلام وإعادة الطابع الإسلامي للحياة.
وفي تقديري أنه أمكن للنهج القياسيّ أن يستمر دون تحديات، وأن يُنتج ذلك النتاج الضخم في ظل تصور يفصل بين المجالين الخاص والعام، تكفل القياس بالمجال الخاص، وتكفلت (السياسة الشرعية) بالمجال العام التي يتولاها الإمام، مثل شؤون الجهاد، قال الجويني: (أما الجهاد فموكول إلى الإمام، ثم يتعين عليه إدامة النظر فيه على ما قدمنا ذكره فيصير أمر الجهاد في حقه بمثابة فرائض الأعيان؛ والسبب فيه أنه تطوّق أمور المسلمين وصار مع اتحاد شخصه كأنه المسلمون بأجمعهم فمن حيث أناط جرُّ الجنود وعقد الألوية والبنود بالإمام وهو نائب عن كافة أهل الإسلام صار قيامه بها على أقصى الإمكان به كصلاته المفروضة التي يقيمها)(21).
بالإضافة إلى وجود حكم فقهي يسمى (فروض الكفاية) يتناول (بعض) مسائل الشأن العام، التي يقوم بها الأفراد. يقول الجويني: (معظم فروض الكفايات مما لا يتخصص بإقامتها الأئمة، بل يجب على كافة أهل الإمكان ألا يُغفلوه ولا يَغفلوا عنه، كتجهيز الموتى ودفنهم والصلاة عليهم. (...) وأما سائر فروض الكفايات فإنها متوزعة على العباد في البلاد، ولا اختصاص لها بالإمام)(22).

ثالثًا: ظاهرة الفتاوى السياسية وإشكالاتها

وهكذا فإن العلاقة بين الفقه والسياسة في الوعي الفقهي الكلاسيكي بقيت محصورة بما سمي بـ(السياسة الشرعية) قبل انفصال السلطة عن الشريعة، أما بعد ذلك، فإن عمل الفقيه توسع مع التحول الذي طرأ على فكرة (النظام الشامل)، فنشأت (الفتاوى السياسية) التي يخاطب بها الجمهور، بعيدًا عن السلطة التي ناهضت أو همّشت الشريعة، والتي اعتمدت مرجعية مفارقة في ظل نظام دولي معاصر. هنا حدث اختلال كبير، ففي التاريخ لم يكن الفقيه بحاجة إلى إصدار الفتاوى في مجال الشأن العام، وفي مسائل تخص الإمام، لكن مع غياب الإمام وفي ظل الصراع معه توسعت دائرة عمل الفقيه لتشمل المجال العام الذي يصطرع عليه مع الحاكم المنفصل عن الشريعة.
هذا التحول الجديد أفرز عددًا من المستجدات، فقد حلت (الفتوى) محل (شرعية) السلطة السياسية، وحلّ الفقيه محل الإمام (الغائب منذ نشأة الدولة الحديثة) في التعاطي مع المجال العام وتقدير المصالح ومخاطبة الجماهير، ومع تعدد الفقهاء أو المفتين حدث اضطراب كان الإمام يحول دونه ويملك سلطة حمل الناس على أحد تلك الاختيارات والمذاهب، بما يضمن وحدة الصفّ وتآلفه. ومع هذا التعدد اضطر المفتون إلى إدراجه ضمن الاختلاف الفقهي المعهود في المذاهب الفقهية دون إدراك الفرق بين فتاوى الأفراد وفتاوى المجال العام، أو بين المسائل الفرعية من العبادات والمعاملات وبين مسائل السياسة الكلية(23). هذه المتغيرات كلها فرضت إعادة تعريف السياسة بالقول: (السياسة اليوم قد أخذت معنى أوسع؛ لأنها لم تعد متعلقة بالحكام فقط، وإنما هي متعلقة بالمجتمع كله بأفراده ومؤسساته ونقاباته وأحزابه)(24)، هذا التوسع في مفهوم السياسة، اكتسب معنى جديدًا مع نشأة ما سمي بـ(الإسلام السياسي) الذي طرح مفهومًا شاملاً للتدين، ما عاد تدينًا فرديًّا، ولا تديُّنًا عباديًّا قاصرًا فحسب، ولم يعد مرتبطًا بالتقوى والإيمان الوجداني والقلبي فحسب، إنه أبعد من ذلك؛ إذ يعني (عملية رسالية تطلب التغيير الشامل (الشخصي والاجتماعي والسياسي والقانوني)، وتتميز بموقف اجتماعي -نفسي- ثقافي مشخّص: من الآخرين والدولة والمجتمع والعالم بأجمعه)(25).
الإشكال الأساسي هنا في صناعة (الفتوى السياسية) هو أنها تتبنى لغة المسلك القياسي أولاً؛ من حيث بناء الأحكام الصارمة، وترتيب الإثم والثواب، وإضافة فروض جديدة على المسلم في مجال الشأن العام، حيث تصبح المشاركة في الانتخابات البرلمانية العراقية في ظل وجود الاحتلال فريضة شرعية مثلاً (القرضاوي 11-12-2005م، والقره داغي 13-12-2005م)، إلى غير ذلك من فتاوى وجوب المقاطعة الاقتصادية وغيرها، وهذه كلها فروض وواجبات شرعية بحسب تلك الفتاوى تنهض بموازاة الدولة الوطنية، ومع فراغ منصب الإمام/الخليفة الذي تحاول أن تشغل مكانه، بالفتوى إن لم يمكن بالسلطة وذلك أضعف الإيمان ومما يستلزمه واجب البيان الشرعي بحسب أصحاب تلك الفتاوى.
لكن تحليل هذه الفتاوى ومنطقها القانوني الصارم، يوقع في مشكلات فقهية، لا تقتصر على تعددها واضطرابها في مسائل الشأن العام التي تتطلب قرارًا موحدًا فحسب، بل تطرح تساؤلاً عن موقف الشريعة الإسلامية نفسها من زيادة الفروض الشرعية، وتاليًا تطرح ما موقع هذا المفتي أو ذاك من كون فتواه (توقيعًا عن رب العالمين) كما يعتبرها العلماء وابن القيم على وجه الخصوص، ثم ما حكم مخالف تلك الفريضة الجديدة شرعًا؟ وهل يملك المفتي بناءً على تقديره (الشخصي) للمصالح التي بنى عليها الفتوى الشرعية ترتيب الإثم الشرعي على مخالف تلك الفريضة دون وجود نصوص وحي تتناول ذلك أو تنص عليه؟
هذه أسئلة جديرة بالتأمل والبحث المتأني، بعيدًا عن (تكييفات) بعض المفتين التي تقول مثلاً: (من المرونة أن تكون هناك عدة أراء بعدد المفتين أو العلماء أو المراجع، وكلهم يعتبر أنه يقدم حكمًا شرعيًّا هو حكم الله في هذه المسألة، والأمة تتقبل هذا الحكم أو ذاك وتمضي به، وأي حكم تقبلته الأمة طالما أنه صادر عن دليل شرعي معتمد فهو إن شاء الله حكم مقبول عند الله -عز وجل-)(26). فضلاً عن هناك خلطًا بين الحكم الشرعي الثابت والكلي والفتوى التي هي جزئية ويمكن أن تتغير.
والدخول في مناقشة منطق الفتاوى السياسية يكشف عن إشكالات عدة، خاصة إذا ما استحضرنا متغيرات الواقع الحديث الذي نشأت فيه علوم جديدة، وأدوار فكرية واجتماعية عديدة بات الفقيه واحدًا منها وليس معظمها أو يشغل المركز فيها، فمع نشأة الفكر الحديث، برزت مصطلحات ومفاهيم جديدة على المنظومة الإسلامية، كالمثقف، والمفكر، والسياسي، وغير ذلك. وبقي الفقيه تحديدًا ينظر بعين الريبة إلى ثلاثة مصطلحات على وجه الخصوص هي: المفكر، والمثقف، والداعية، إلا أن مشكلته مع المفكر بقيت أكثر بروزًا وحضورًا، فهو ينازعه في مركزيته بوصفه نواة للعلوم الدينية، ومصدر الأحكام الشرعية، فـ(المفتي قائم مقام النبي)، بتعبير الشاطبي، بل هو (موقّع عن رب العالمين) بتعبير ابن القيم، ولهذا حرَص د. البوطي في مقدمة كتابه (الجهاد) على أن ينبه الناس إلى الفرق الشاسع بين الفقيه والمفكر، ذلك الذي هو بعيد عن أحكام الله (وهي الفقه بطبيعة الحال)، ونحو هذا نجده عند د. القرضاوي الذي اعتبر أن المفكر هو الذي ينطلق من منطلقات فلسفية قد تكون غير شرعية.
السمة الأساسية في الفقه وعمل الفقيه هي الضبط والتقنين (ليس بمعناه القانوني)، ففضلاً عن مركزية الفقه ومرجعية الفقيه بحسب التاريخ الإسلامي، فإن هذه السمة الأساسية التي يختلف فيها المفكر وفكره، والسياسي وعمله، عن الفقيه، ففي حين تشكل النصوص مرجعية الفقيه، فينطلق من النص لتنزيله على الواقع، أو من الواقع للبحث له عن حل في النص، فإن المفكر ينطلق أساسًا من الواقع أو من وقائع التاريخ، تاريخ الأحداث والأفراد والأفكار، والمفكر الإسلامي يضم إلى ذلك مرجعية الوحي على سعتها، فنصوص الفقهاء التي شكلت مرجعيات وسيطة للفقيه المعاصر، قد لا تعني المفكر، فقد يتجاوزها إلى ما يجده أقوى وأكثر مصداقية وواقعية.
وفيما يخص الشأن السياسيّ، فقد كان هذا من اختصاص الإمام، أو الخليفة، فحتى الجهاد كان موكولاً أمره إلى الإمام واجتهاده(27)، ويلزم الرعيةَ طاعته فيما يراه من ذلك. هذا ما صرّح به جمهور الفقهاء؛ وقالوا: إنه أعلم بكثرة العدو وقلّتهم، ومكامن العدو وكيدهم، فينبغي أن يُرجع إلى رأيه؛ لأنه أحوط للمسلمين.
لكن كما نشأ الانفصال بين الدين والدولة، نشأ الانقسام بين الفقيه والسياسي في ظل الدولة الحديثة، ولكون السياسي في الغالب درس السياسة بمفهومها الغربي، والفقيه لم يدرس إلا ما يسمى بالسياسة الشرعية، فإن ذلك الانقسام بين الدين والسياسة، انتقل إلى الفقيه والسياسي؛ ركني الثنائية الأولى، ومن هنا تختلف طبيعة تعاطي كلّ منهما مع الأحداث، وتقديره لها، بل إن الأمر مع الفقيه يزيد عن ذلك، فالسياسة الشرعية -قبل أن تهيمن عليها النزعة الفقهية القانونية- هي بحسب قول ابن عقيل الحنبلي: (السياسة ما كان فعلاً يكون معه الناس أقرب إلى الصلاح، وأبعد عن الفساد، وإن لم يضعه الرسول، ولا نزل به وحي. فإن أردت بقولك: (إلا ما وافق الشرع) أي لم يخالف ما نطق به الشرع؛ فصحيح. وإن أردت: لا سياسة إلا ما نطق به الشرع: فغلط، وتغليط للصحابة)(28).
وفي هذا ما يدل لأمرين: الأول: أن السياسة بهذا المعنى هي أقرب إلى عمل السياسي الحالي، وليس إلى عمل الفقيه الذي يدور في فلك الأحكام الخمسة التكليفية، فالسياسة بهذا المعنى لصيقة بالفكر ومنهجيته، والثاني: أن فكرة المصلحة ومتعلقاتها، هي جوهر فكرة المقاصد الشرعية، والتي إنما توسعت ونضِجت في رحم السياسة الشرعية، مع كتاب (الغياثي) للإمام الجويني، وهي لم تستقل إلا بعد أن انفصلت عن باب (القياس) الفقهي، والذي هو جوهر عمل الفقيه في المستجدات. وفي هذا إشارة إلى التباين بين النزعتين: الفقهية والفكرية، وتفسيرٌ لماذا يصر الفقهاء -على الدوام- على أن مقاصد الشريعة إنما يقتصر دورها على مجرد (الكشف) عن حِكمة الأحكام الفقهية المقررة سلفًا، ولا تصلح دليلاً شرعيًّا.
وإذا كان الفقه -في معظمه- يخاطب الشخصية الطبيعية (الأفراد)، كما لاحظ د. علي جمعة، وكان الفقهاء خصّوا الإمامَ (الخليفة) بالرأي في مسائل الجهاد والقضايا الكبرى، فإن الانفصال بين الدين والدولة، وانهيار ما بني على ذلك من اختصاصات كانت تتوزع على مؤسستين، جعل كثيرًا من الفقهاء يدخلون مساحة القضايا الكبرى والشأن العام (وهي قضايا سياسية) ويفتون فيها وفق منهجيتهم القانونية التي غلب عليها مخاطبة الشخصية الطبيعية (الأفراد) دون إدراك كافٍ بالتبعات والمتغيرات التي تنشأ عن هذا، سواء لجهة المستقبِل للفتوى أم لجهة بناء الفتوى نفسها. وهنا تأتي مقولة (فتاوى الأمة) التي طرحها البعض(29) وحاول التنظير لها لتسد ذلك الفراغ الناشئ.
هذا التداخل بين الفقه والسياسة في عمل الفقيه، في سياق تفكك المنظومة القديمة التقليدية، التي كانت تنظّم تلك العلاقات والاختصاصات، ساهم في إذكائه ما سمي بـ (فقه الواقع)، الذي لا نجد له ضبطًا منهجيًّا محكمًا، ليبقى لكل شخص تقدير ما يراه واقعًا، ومن المفارقة أنه تأسس هذا الفقه اعتمادًا على مقولات فقهية متأخرة، أبرزها مقولات ابن القيم نفسه صاحب المنهجية النصية.
فلو مضينا مع هذا، سنجد أن المفكر هو أكثر إدراكًا للواقع من فقيه اليوم نفسه في كثير من الأحيان، لما سبق شرحه من منهجية كل منهما، غير أننا نجد العكس، فالسلفيون بادروا بالسخرية من (فقه الواقع)، والتقليديون سخروا من (المفكر)، أما السلفيون فرأوا في فقه الواقع تجاوزًا للمنهجية النصية، وأما التقليديون فرأوا أن المفكر يتجاوز المنهجية نفسها وينازعهم في مركزية الفقه لأجل مخاطبة الشخصية الاعتبارية (المجتمع والأمة).
وفي الواقع هناك فئة وسيطة تخلط بين عمل الفقيه والمفكر، فتستعمل لغة الفقهاء في قضايا لا تحتمل ذلك، في محاولة التصدي لقضايا كبرى لم يعتد الفقه التقليدي التنظير لها؛ لكونه -في معظمه- كان يخاطب الشخصية الطبيعية (الأفراد) أولاً، ولمنهجيته القانونية الصارمة ثانيًا.

ــــــــــــــــــــــــــــ

1- شاخت، جوزيف، تراث الإسلام، ترجمة: حسين مؤنس، وإحسان العمد، الكويت: عالم المعرفة، عدد 234، ط3، 1998م، 2/106، وانظر:2/ 95-100.

2- محمد حسين فضل الله، حوار سناء الجاك، صحيفة الشرق الأوسط، لندن 15/3/2007.
3- البشري، طارق، الملامح العامة للفكر السياسي الإسلامي في التاريخ المعاصر، القاهرة: دار الشروق، ط2، 2005م، ص24-26.
4- القرضاوي، يوسف، الدين والسياسة: تأصيل ورد شبهات، القاهرة: دار الشروق، 2007م.
5- شاخت، تراث الإسلام، مرجع سابق، 2/95.
6- انظر: الريّس، ضياء الدين، النظريات السياسية الإسلامية، ط6، ص125. وانظر: ابن جماعة، بدر الدين (733هـ)، تحرير الأحكام في تدبير أهل الإسلام، تحقيق فؤاد عبد المنعم، قطر: رئاسة المحاكم الشرعية والشؤون الدينية، ط2، 1991م، ص48.
7- جاء في عهد أردشير: (اعلموا أن الملك والدين أخوان توأمان لا قوام لأحدهما إلا بصاحبه؛ لأن الدين أسّ الملك وعماده، ثم صار الملك بعدُ حارس الدين...). وهو ما نجده لدى الماوردي لاحقًا والجويني ثم الغزالي الذي يقول: (إن الدنيا مزرعة الآخرة ولا يتم الدين إلا بالدنيا، والملك والدين توأمان؛ فالدين أصل والسلطان حارس، وما لا أصل له فمهدوم وما لا حارس له فضائع). عهد أردشير، تحقيق وتقديم إحسان عباس، بيروت: دار صادر، 1967م، ص53، والغزالي، أبو حامد، إحياء علوم الدين، بيروت: دار المعرفة، باب: العلم الذي هو فرض كفاية، 1/17.
8- عبد اللطيف، كمال، في تشريح أصول الاستبداد، بيروت: دار الطليعة، ط1، 1999م، ص239.
9- الجويني، أبو المعالي، الغياثي: غياث الأمم في التياث الظلم، تحقيق عبد العظيم الديب، قطر: الشؤون الدينية، ط1، 1400هـ، ص183، فقرة 268.
10- انظر: الماوردي، الأحكام السلطانية، ص15-16. والجويني، الغياثي، مصدر سابق، ص183 وما بعد. وابن جماعة، تحرير الأحكام، مصدر سابق، ص65 إلا أن ابن جماعة ذكر أن الواجب العاشر هو العدل.
11- شاخت، تراث الإسلام، مرجع سابق، 2/121.
12- الجويني، الغياثي، مصدر سابق، ص238 فقرة 345.
13- الجويني، الغياثي، ص379 فقرة 540.
14- ابن جماعة، تحرير الأحكام، ص87.
15- الزحيلي، وهبة، الهدنة والسلم، حلقة برنامج الشريعة والحياة، 2007م:
http://www.aljazeera.net/NR/exeres/75D48BE0-4762-4F86-89AD-87188178BC73.htm

المصدر: http://aafaqcenter.com/index.php/post/1217

 

أنواع أخرى: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك