على نفسها جنت داعش

عمار بنحمودة

- داعش: كان صرحا من خيال فهوى

تقوم الحركات الأصوليّة منذ نشأتها على أساس فكرة طوباويّة، وهي تأسيس دولة إسلاميّة. وليس بمنكر في عرف الشعوب قيام دولة باسم الدين، وخاصّة في إطار التاريخ الإسلاميّ الذي التبس فيه الديني بالسياسيّ، وإنّما ظهرت معايب الفكر الأصولي في إيهامه بوجود حلول سحريّة تتحقّق بمجرّد تطبيق شريعة الله على أرضه والتزام النّاس بمبدأ الحاكميّة. وقد قادت مثل تلك الآراء منذ نشأتها إلى تعاقب أجيال من المدافعين عن شعار الإسلام هو الحلّ ودعاة تطبيق الشريعة والحالمين بقيام الدولة الإسلاميّة. فكثيرا ما كانت تلك الدّعوات تثير مشاعرهم وتحمّس كثيرا منهم لتطبيق شريعة الله على أرضه ولكنّها سرعان ما تتحوّل إلى وهم تتحطم عليه أحلام الطّامعين في الهيمنة على العالم وأسلمته. وليست التّجربة الدّاعشية سوى تجسيد واقعي لهذا الوهم.

وقد تراوحت آثار تلك المنطلقات الفكريّة بين نشأة جماعات انخرطت في التنافس الديمقراطيّ كحركة النّهضة التّونسيّة، وبين قيام جماعات تكفيريّة لا تزال تؤمن بمبادئها الأولى التي أسّست عليها بنيانها وأوهمت بها أتباعها[1]. وظلّت تطبّق الأحكام الشرعيّة والحدود الموروثة عن "السّلف الصّالح" دون أدنى تغيير أو تبديل كتنظيم داعش الذي قام في أرض العراق والشّام على قاعدة تكفير المخالفين، فطبّق نظام الغنيمة وسبا النساء وقطع الرّؤوس وحكم الرقاب باعتماد الحدود الإسلاميّة القديمة.

ولعلّ الخلاف بين الأحزاب التي صارت تعتبر معتدلة والتنظيمات التي عدّت متطرّفة يطرح علينا أسئلة تتعلّق بسرّ افتراق فرق الإسلام السياسيّ وبلوغها مرحلة تكفير بعضها لبعض والحال أنّها نشأت من رحم فكريّة واحدة؛ فما الذي قاد أحزابا إلى الاعتدال؟ وما الذي جعل الباقين ينزعون إلى ما سمّي تطرّفا وإرهابا؟ وهل يمكن القول إنّ المعتدلين كانوا أكثر تفهّما لمتطلبات السياسة وشروط البقاء؟ ولماذا يظنّ "المتطرفون" من أمثال المنتمين إلى تنظيم داعش أنّهم الأقرب إلى تعاليم الدّين وأحكامه؟ وهل يمكن أن نطمئنّ إلى ثنائيّة الاعتدال والتطرّف؟ أليست كلّ الطرق مؤدّية إلى الدولة الإسلاميّة؟

2- آليات التدمير الذاتي: الشريعة بدل الشرعيّة

إنّ المفهوم الأدقّ للتطرّف لا يمكن قياسه انطلاقا من المرجعيّات التي تعتمدها الجماعات الإسلاميّة؛ فالنّاظر إلى التاريخ الإسلاميّ يجد مبرّرات تأويليّة لكلّ فريق منهما، وإن تباينت النتائج التي توصّلوا إليها تسامحا أو تعصّبا سلما أو حربا، وإنّما يمكن قياس الاعتدال والتطرّف من خلال مفهوم التلقّي الذي يتمّثل في الرأي العام العالمي، فالحكم على تلك التنظيمات يظلّ في النهاية موقفا تأويليّا. وثنائيّة القبول والرّفض هي وحدها التي تهب الأحزاب الدينيّة والجماعات الأصوليّة صفة الاعتدال أو التطرّف والإرهاب[2]. ورغم وجود تباين واضح بين تلك الجماعات التي تؤمن بالسّلاح حلاّ لأسلمة المجتمع وردع الكافرين، وبين الجماعات التي ترى في الطريقة الديمقراطيّة وسيلة إجرائيّة لتحقيق مبادئها، فإنّ الفريقين المعتدل منهما والمتطرّف -وفق نظريّة التلقّي- يرى أنّ مقاصد المسار السياسيّ هي نشر الإسلام ورفع راية التّوحيد وتحويل المواطنين إلى مسلمين يلتزمون بتعاليمه ويطبقون مبادئه. فالشريعة سبيل الفريق الأوّل لتلك المقاصد. أمّا الشرعيّة، فسبيل الفريق الثاني لتحقيق نفس الغايات. ويختزل مصطلح الشريعة الإسلاميّة كلّ أحلام الأصوليين الذين سعوا إلى أن يستنسخوا أجهزة الحكم القديمة وأحكامها التشريعية. واتّخذوا من الخليفة أعلى سلطة سياسيّة يحتكم إلى أمره المنتمون إلى ما سمّي بالدولة الإسلاميّة في العراق والشام. ثمّ إنّهم بدؤوا بتطبيق مبدأ الأسلمة وجمع الأنصار المقاتلين من كلّ حدب وصوب. وقد كانت توحّدهم عقيدة مشتركة أساسها الولاء لله والبراء ممن عاداه. ولذلك، فقد مثّلت الدولة الإسلاميّة فسيفساء بشريّة اجتمع فيها المسلمون/ المقاتلون من دول كثيرة. وقد كانت العرب أكثر الأجناس حضورا في تلك الدولة. فقد استغلّ التنظيم كلّ شبكات التواصل التي صارت متاحة بفضل التقدّم التكنولوجي. وهيّأت له كثير من الفضائيات شبابا متحمّسا لتطبيق شرع الله في أرضه، يقاوم الحكّام الطواغيت وينشر الإسلام في بلاد الله الواسعة، وينتقم من الغرب الكافر بعد أن يستقيم أمر الدّولة ويشتدّ عودها.

لقد كانت كلّ تلك الأسس بمثابة ألغام ضمنت القوّة للتنظيم ولكنّها سرعان ما تحوّلت إلى وبال عليه. فالولاء للخليفة الواحد جعل التنظيم سفينة في مهب العلاقات الدوليّة وموازين القوى العظمى لا يخضع لمجرّد رؤية فكريّة، وإنّما يخضع لقرارات زعمائه، وهم بدورهم يأتمرون بإمرة الدّول الدّاعمة؛ فالأطراف التي كانت تقدّم العون لذلك التنظيم كانت تفرض مسارات محدّدة لكتائبه، وتجعل مصالحها أولويّة لا يمكن خرقها أو تجاوزها. ولذلك كان من أولويّات التّنظيم العنف ضدّ مسلمين يؤوّل اختلافهم تكفيرا مثل قتال الشيعة في العراق[3] والجيش النظاميّ السّوري. ولئن مكّنت هذه السّياسة من اكتساب المجال الذي أقامت عليه دولتها، إلاّ أنّ ذلك المجال قد كان نتيجة دعم خارجيّ وضعف داخلي. ولذلك، فقد أقامت تلك الدولة بنيانها على أساس شرعيّة القوّة التي تفترض أنّ تغيير موازين القوّة يقوم على توازنات عالميّة تتحكّم فيها الدّول العظمى. فتدخّل القوات الروسيّة في الأزمة السوريّة مثلا أدّى إلى انقلاب سحر العنف على السّاحر وتراجع قوّة التنظيم في المنطقة. فبعد أن تحولت أولويّة التدخّل الأمريكي في سوريا من الإطاحة بنظام الأسد إلى حماية الأكراد، باعتبارهم الورقة الأهم في المنطقة، وتغيّر الوقف التركي من الأزمة السوريّة بعد الانقلاب العسكريّ الفاشل، فقد انحسر المدّ الدّاعشي وصارت أوضاع مقاتليه تسير من سيء إلى أسوأ. وبدأت المدن التي استولى عليها تسقط الواحدة تلو الأخرى.

فمثلما اكتسب داعش كيانه السياسيّ من شرعيّة القوّة وإيهام المنتمين إليه بمبدأ الشريعة، فإنّه قد حكم على نفسه بأن ينهار بنفس الطريقة التي اكتسب بها قوته. فالتعويل على القوّة يفتح باب الصّراع الدوليّ بين قوى عظمى في منطقة تتغيّر فيها الأحلاف بسرعة كبيرة وتعدّل فيها بوصلة الكبار بحسب مصالحهم. وشعار الشريعة الذي استغلّ موجة الفوضى التي اجتاحت دول الربيع العربي لاستيراد المقاتلين وتجنيدهم خبت جذوته في ظلّ تراجع الفوضى في كثير من الدول المزوّدة بالذخيرة البشريّة وانكشاف المسالك للرأي العام العالمي وتحوّل الإرهاب إلى أوروبا ذاتها وقد كانت تتصوّر أنّ خطر الإرهاب بعيد عن حدودها.

لقد كان تنظيم الدّولة الإسلاميّة رقعة شطرنج امتدّت إليها أياد كثيرة، ووراء كلّ داعم مقاصد يحاول تحقيقها. ولكن لا أحد ممّن أنفق بسخاء على التنظيم كان يفكّر في مصلحة الشعوب التي يفترض أنّ الدولة قامت من أجلها[4]. فالأزمة الحقيقيّة تكمن في أنّ مقاصد الدّاعمين تختلف عن مقاصد التنظيم، وهي أيضا تختلف عمّا تطمح إليه الشعوب التي قامت بثورات لتتحرّر، فإذا بها تستبدل دكتاتوريّة الزعيم بدكتاتوريّة الجماعة المؤمنة بقانون التوحّش.

إنّه لمن "المؤلم القول إنّ سرد انتهاكات داعش لحقوق الإنسان والبيئة والتراث يعدّ عملا عبثيّا؛ لأنّ هذه الجماعة جعلت من بثّ انتهاكاتها وسيلة ترهيب وتمكين وسيطرة ورعب لكلّ من يخالفها الرأي. داعش توثّق لاغتيالاتها الكرامة الإنسانيّة عبر إعلامها معتبرة الجريمة فضيلة والتوحّش جهادا والعدوانيّة واجبا وقتل الآخر ضرورة لإقامة حكم الله في الأرض. ويتكفّل إعلام التشفّي والكراهيّة بالبحث عن المسوّغات والمبررات في عملية تجميل تقبح وجه أصحابها."[5]

لقد نجحت الولايات المتحدة في تطبيق مشروع الفوضى في الشرق الأوسط ولكنها فشلت كعادتها في أن تحولها إلى فعل خلاّق، وكانت داعش التجسيد المثاليّ للفوضى، إلاّ أنها كانت مدمّرة بدل أن تكون خلاّقة.

لو تبنّت داعش منهج التنظيمات الإرهابيّة التي تتعمّد التخّفي بدل التجلّي، ولم تعمد إلى الإعلان عن نفسها كيانا سياسيّا له أجهزته الظاهرة وزعيمه المعلن لكان بقاؤها في ساحة الصراع السياسيّ أطول ولكانت ضرباتها أنجع، لكنّها ارتكبت خطأ براقش[6] حين علا صوتها المنابر الإعلاميّة وصارت تتصدّر نشرات الأنباء في جميع أرجاء العالم، بل إنها اختزلت مفهوم الشّر الأقصى الذي يستوجب علاجا عاجلا. وقد تفاقم الوعي العالمي بخطورة التنظيم بعد أن امتدّت يده إلى أوروبا يهددّ أمنها ويقتل مواطنيها بكل الأشكال اللامتوقعة للعنف الأعمى الذي لا يفرق بين صغير وكبير، ولا بين شيخ ورضيع.

إنّ سرّ نجاح الدّولة في عصرنا يكمن في قدرتها على الالتزام بالمواثيق الدولية وإحكام العلاقات الخارجية التي تضمن لها أسباب التواصل مع الدول الأخرى وتُعطيها الشرعيّة الدوليّة من خلال التزامها بمنظومة القوانين الدوليّة. أمّا داعش، فقد كانت تتقن خرق كلّ شروط الانتماء إلى المجموعة الدّوليّة. وليست المعضلة في إعلان الدولة الإسلاميّة، فكثير من الدول المنتشرة في الكرة الأرضيّة تحمل هذا المسمّى، ولكنّ خطأ داعش كبراقش في كثرة النباح الذي تصوّرت أنها سترهب الآخرين به ولكنّها دلّت بنباحها عن موضعها، فألّبت عليها أعداءها وعجّلت بفنائها وهلاك قومها.

وبعد فما الذي نتعلّمه من الدّرس الدّاعشي؟

3- دروس داعش:

مضت داعش كإعصار مدمّر أهلك الحرث والنسل، وخلّف جراحا قد لا تندمل بسرعة ولكن وراء كلّ محنة تمرّ بها الأمم دروس لابدّ من والوقوف عندها لكي لا تتكرّر مآسينا وتتبدّد أحلامنا على صخور الظلاميّة والعنف المقدّس الذي يرفع شعار "لا يدخلنّ علينا من لم يكن مسلما عنيفا"[7].

يكمن الدّرس الأول في وهم الاعتقاد بأنّه يمكن للعنف أن يكون سبيلا لبناء نهضة منشودة؛ فالعنف وبال على الضعفاء ومن يتوّقّع أنّه باستعراض التوحّش سيرهب العالم[8] فواهم لأنّه لا يتقن التوحّش إلاّ من امتلك أسلحة تخوّل له السيطرة في البرّ والبحر والجوّ. أمّا الحروب بالوكالة والتنظيمات السّريعة المعدّة على طريقة "الفاست فود" فمآلها أنّها ستسدّ رمق صنّاعها ولكنّها وبال على الشعوب التي رُوّجت فيها. ومن الوهم الاعتقاد في كونها تقدّم الحلّ الناجع للواقع وإن كان مأزوما.

الدّرس الثاني، يكمن في وهم التنظيمات الأصوليّة التي روّجت طوال عقود من الزمن بأنّ الإسلام هو الحلّ، ومن جملة مقاصدها أنّ الإسلام صنم لا تتغيّر صورته وأحكام إلهيّة لا تبديل لها وشريعة أبديّة لا تغيير لقوانينها.

قد يكون من الشّرعي الاعتقاد أنّ الإسلام هو الحلّ، ولكن تصوّر الإسلام انغلاقا لاهوتيّا يجعله مشكلا بدل أن يكون حلاّ.

الدرس الثالث، هو أنّ كلّ دولة تؤسّس كيانها على أساس طائفي سيكون مآلها الفشل، فحين يعامل المنتمون إلى الوطن الواحد على أساس انتماءاتهم الطائفيّة وباستعمال العنف، فإنّ العقد الاجتماعيّ الذي يؤسّس السلم في المجتمع سيكون غائبا وستفتح أبواب العنف والانتقام والتشفّي. ولذلك، فالفشل في الواقع مزدوج: فشل الدولة التي تأسّست على الطائفيّة وفشل الأحزاب التي تأسست على أساس أنها سنّية، وما هي في النّهاية سوى حركة ردّ فعل على واقع مأساويّ لا يمكن أن يرتقي إلى مستوى تأسيس كيان سياسي متوازن.

الدرس الرابع، موجّه للأنظمة التي لا تزال تتصوّر أن الشعوب يجب أن تقاد بالاستبداد، وهو موجّه أيضا إلى الأحزاب المعارضة التي تتصوّر الديمقراطيّة القادمة على ظهور الدبابات أو بواسطة "الناتو" يمكن أن تكون الحل السحريّ لكلّ الأزمات[9]. فالحلّ الحقيقيّ يكمن في إيجاد نظام ديمقراطيّ وطنيّ يفوّت على القوى العظمى تدخّلها في الدّول العربيّة الإسلاميّة، ويقيم عدالة اجتماعيّة وتنمية شاملة ومشاركة سياسيّة لكلّ الأحزاب دون إقصاء أو تهميش.

لقد أضحى الحلم باستعادة الشكل التقليدي للدولة الإسلاميّة أمرا شبه مستحيل. فكثير من الحدود التي يصرّ المنتمون إلى التنظيمات الجهاديّة فرضها صارت غير مقبولة دوليّا. وشكل الخليفة الآمر الناهي دون قيد أو شرط ما عاد ينسجم مع انتشار الوعي بالمواطنة وحقوق الإنسان وهبوب رياح الحرية الإنسانيّة بدل منطق الدفاع عن المقدسات وإحلال سلطة نواب السماء في الأرض. وليس المعنى الحقيقي لدولة الإسلام سوى تفضيل مذهب على حساب آخر أو قيام دولة على أساس مذهبيّ أو طائفيّ والأمثلة منتشرة في كثير من الدول التي تنتسب إلى الإسلام. ولذلك، فمن مفارقات الدّولة التي يصطلح عليها إسلاميّة أن يكون أعداؤها من المسلمين، وهذا دليل على أنّها لا تمتلك تمثيليّة كافية تمنحها شرعيّة الرضا والقبول. ولذلك، فالحلول التي قدّمها "روسو" حول التعاقد الاجتماعي تظلّ الأنجع من أجل حسم خلافات الفرق المتناحرة وغلق الباب أمام العنف والعنف المضاد المبرّر بالدفاع عن مصلحة الفرقة الناجية التي تتصور نفسها الممثّل الرسمي للحقيقة الدينية والشرعية السياسيّة.

الدرس الخامس، هو أنّ داعش تنظيم لا يُدين المسلمين بالإرهاب فحسب، وإنما يدين الغرب بالإفراط في النفعيّة والانتهازيّة انطلاقا من سياساته المدمّرة التي عصفت بتوازن منطقة الشرق الأوسط وصولا إلى بثّه الفوضى في العالم وتلك مفارقة تستحقّ النظر. فكيف يمكن لمن كان راعيا للحريّة وحقوق الإنسان أن يكون ماردا يستنزف بقوّته العسكريّة ثروات الشعوب ويسفك دماءها بكل وحشيّة؟

لا تزال تلك الأرض المتجعّدة المغبار في الشرق الأوسط وشبه الجزيرة العربيّة قادرة على إنجاب تنظيمات أخرى من أخوات داعش مثلما كانت في الأزمنة الغابرة مهدا للرسل والأنبياء. فالتفكير الأعمى في ثروات المنطقة قبل التفكير في شعوبها سيقود دوما إلى قيام حروب ضدّ الظلم والاستبداد ونهم الأنظمة الرأسماليّة والشركات متعدّدة الجنسيّات. فمن يزرع الشوك يجني الجراح. والصمت الدولي إزاء القضيّة الفلسطينيّة، والتدخّل العسكري في منطقة الشرق الأوسط قادا المنطقة إلى دائرة مفرغة من العنف وعطّلا الحياة في دول كانت تعاني من الدكتاتوريّة ولكنها رغم كلّ مساوئها أقلّ وطأة من مآسي الفوضى المدمّرة وممارسات التنظيمات الإرهابيّة. وإنّه لمن وجوه الالتزام بالمبادئ التي أسّس عليها الغرب دساتيره ومنظومته القانونيّة أن يكون مجسّدا لها خارج حدوده. فلا تكون حقوق الإنسان والحرية شعارات يقدّسها الغرب داخليا ويتنكّر لها خارجيّا خصوصا إذا تعلّق الأمر بمصالحه. ففي العراق مثلا "كثرت التكتيكات الدافعة في اتجاه التخلّص من الشعب، وحيث قامت الشركات الاحتكاريّة أوّلا بجلب الأيدي العاملة الرخيصة من كلّ بقاع الأرض لتعمل في العراق بينما يعاني ابن البلد البطالة والفقر، وبلغت نسبة الفقر ما يزيد عن ثلث عدد السكان فضلا عن شحّ الأساسيات من الماء الصالح للشراب والكهرباء والدواء إذ كشفت منظمة أوكسفام البريطانية للإغاثة عن أرقام مخيفة تتعلّق بسوء الأوضاع الإنسانيّة في العراق، أرقام ستترسخ في ذاكرة الشعب: 8 ملايين عراقي معرّض للجوع، وأكثر من 4 ملايين مهجّرا قسرا في داخل العراق وخارجه. ومن هو في الداخل يعامل بشكل أسوأ ممّن هو في الخارج، وتضاعفت نسبة سوء تغذية الأطفال، و70٪ من البيوت من دون ماء صالح للشراب."[10] ويصحّ القول على الوضع في سوريا إذ تفاقم عدد اللاجئين ليتجاوز خمسة ملايين لاجئ حسب آخر الإحصائيّات[11]. وكثر عدد المشردين. ودمّرت بعض المدن بشكل كامل حتى أضحى العيش فيها مستحيلا. وعلى طريقة الأفلام الأمريكيّة في "هوليود" صار إخراج "الشّرير" من المدينة يتطلّب تدميرها بالكامل مع اختزال البطولة في سلامة الجنديّ الأمريكي.

لقد كانت مراكز الأبحاث الاستراتيجيّة في أمريكا بارعة في إرشاد الدولة إلى فرائسها السياسيّة والاقتصاديّة وتعليمها من أين تؤكل الكتف ولكنها كثيرا ما تتغافل عمّا قد تسبّبه تلك السّياسات من وبال على الشعوب الأخرى وعن أفضل السبل لإقامة سلم عالميّة وتنمية متكافئة توزّع خيرات العالم على الشعوب، فلا تشتكي الشعوب ولا يجوع الذئب الأمريكيّ...

ـــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] يقول جاسم سلطان: "لقد ولّدت فكرة الحاكميّة تصوّرات مختلفة، وأهمّها ميلاد الحركات الإسلاميّة، وهم من يريدون العودة إلى الإسلام عقيدة وشريعة، وهو مطلب لا يختلف عليه المسلمون بحكم عقيدتهم –هذا في المجمل- ولكنهم سيختلفون في الطريقة التي يكيّف بها هذا الفصيل أو ذاك فكرة العقيدة والشريعة." أزمة التنظيمات الإسلاميّة، الإخوان نموذجا، ط1، بيروت، الشبكة العربيّة لأبحاث والنشر، 2015، ص 45

[2] "مثل الدّين فإنّ الإرهاب كلمة صعبة التعريف، وهناك عدد كبير من الصيغ المتعارضة والمتنافسة، والتي بحسب أحد الباحثين، تجعل من الكلمة محاطة بحالة من التشوّش المفهوميّ واحدة من المشاكل هي أنّها مفردة انفعاليّة ومشحونة عاطفيّا، فهي إحدى أكثر الكلمات قوّة في وصف العمل المسيء في اللغة الإنكليزية، وهي الطريقة الأفضل لإسباغ صفة العيب والخطأ على أيّ فعل عنيف. كما أنّها كلمة لا نستعملها لوصف أيّ شيء نقوم به نحن، إلاّ في بعض حالات الاعتراف والتوبة، وهي كلمة تشير ولا تصرّح، وترفض باستمرار أن تكشف عن دلالتها، خاصّة حينما يستعملها كلا طرفي الصراع لإلقاء التهم ذاتها كلّ على الطرف الآخر وبالدرجة ذاتها من العاطفة. إنّ فحوى هذه الكلمة هو اتّهام الخصم أكثر ممّا هو توضيح الطبيعة الأساسيّة للصراع." كارين آرمسترونغ، حقول الدم، الدين وتاريخ العنف، (ترجمة أسامة غاوجي)، ط1، بيروت، الشبكة العربيّة للأبحاث والنشر، 2016، ص 514

[3] يقول عبد الباري عطوان: "بعد ما يقارب الست سنوات من الاحتلال الأمريكي كان من المفترض أن يتحوّل العراق إلى دولة ديمقراطيّة قويّة تقوم على المؤسّسات والعدالة الاجتماعيّة والازدهار الاقتصاديّ، حيث يمتلك احتياطات نفطيّة تقدّر بـــ120 مليار برميل. ولكن إدارة السيد المالكي الديكتاتورية الفاشلة المحكومة بأجنداته الطائفيّة الإقصائيّة أدّت إلى العكس تماما، ووفّرت البيئة الحاضنة للدولة الإسلاميّة التي كانت تتمنّاها وتسعى من أجلها." الدولة الإسلاميّة، الجذور، التوحّش، المستقبل، ط1، بيروت، دار الساقي، 2015، ص 85

[4] "لم يتمكن أيٌّ من الأحزاب الدينية التي تولت السلطة، سواء في العراق في عام 2005 أو في مصر في عام 2012، من توطيد سلطتها . يبحث المتمردون في كل مكان عن دعم من العدو الخارجي للحكومة التي يحاولون الإطاحة بها. ولا يمكن للمعارضة السورية إلاّ أن تعبّر عن سياسات وانقسامات الذين يرعونها. فقد تمّت عسكرة المقاومة ضد الدولة بسرعة كبيرة جداً، الأمر الذي لم يسمح للحركات المعارضة بتطوير خبرة قيادية وطنية وبرنامج سياسي." باتريك كوكبيرن، داعش عودة الجهاديين (ترجمة ميشلين حبيب)، ط1، بيروت، دار السّاقي، 2015، ص 120

[5] هيثم مناع، خلافة داعش، ط1، جينيف، منشورات المعهد الإسكندنافي لحقوق الإنسان، 2014، ص 73

[6] كان لقبيلة من العرب كلبة اسمها براقش. وكانت تنبح دائما عندما تحسّ بقدوم أعداء. فيردّون العدوّ عنهم؛ ويوما ما أحس أفراد القبيلة بقدوم عدو خطير. فتركوا منازلهم وهربوا. واختبؤوا في بعض الوديان. وانتظروا هادئين خائفين. لكن براقش لم تهدأ مثلهم، بل أخذت تنبح بشدة، وتجري إلى الأماكن التي يختبئون فيها، وتعلو بالنباح. فاستدل الأعداء بصوتها على قومها وهجموا عليهم وقتلوهم. ومنذ ذلك اليوم يضرب هذا المثل على كل إنسان ثرثار يجلب الشر بلسانه وثرثرته فيصيب نفسه ويصيب من حوله.

[7] يقول أبو بكر ناجي: "وفي هذا ننبه على أننا نعتبر جهادنا في هذه المرحلة جهاد أمة، لذلك كل فرد أو مجموعة أو جماعة ثبت لها حكم الإسلام، ودخلت في الجهاد وتبادلت معنا الولاء على أساس ( الدم الدم والهدم الهدم)؛ فهي جزء من الحركة المجاهدة حتى لو خالفت المنهج الصواب في أمور علمية أو عملية ما دامت هذه المخالفة عن تأول لا عن تعمد - معرفة ذلك تترجح من قرائن الأحوال -مع عدم إقرارهم على أية مخالفة يقومون بالمجاهرة بها." إدارة التوحّش، أخطر مرحلة ستمر بها الأمّة، ص 34

[8] يقول أبو بكر ناجي: "إن دور الشدة والغلظة على الكافرين في المعارك القتالية والإعلامية لا يفهمه الكثيرون ممن لم يخوضوا حروباً في حياتهم، وأن مرحلة تدجين المسلمين التي مرت عليهم كان لها أثرها، إن هذا الدور يجب أن يأخذ حقه من التوضيح بين الشباب الذي يريد أن يجاهد، فهم يفترقون عن العرب وقت البعثة، فالعرب كانوا محاربين ويعرفون طبيعة الحروب. إننا إن لم نكن أشداء في جهادنا وتملكتنا الرخاوة كان ذلك عاملاً رئيسا في فقدان عنصر البأس الذي هو من أعمدة أمة الرسالة، فإن الأمة ذات البأس هي الأمة التي تستطيع أن تحافظ على ما تكتسبه من مواقع، وهي الأمة التي تخوض الأهوال وهي ثابتة ثبات الجبال وهذه المعاني فقدناها في هذا الزمن." المرجع نفسه، ص31

[9] "الفوضى الخلاّقة أو البنّاءة ..الدمار الخلاّق.. الثورات الملوّنة.. وكما تقدّم لها مصطلحات خرجت من معامل تفريخ خطط واستراتيجيات الهيمنة الأمريكيّة، في العقود الأخيرة، دون أن ينتبه إليها العالم في البداية، وهي في طورها النّظريّ. ولكن سرعان ما تحوّلت هذه الخطط والاستراتيجيات إلى واقع ملموس على الأرض، فاختفت أنظمة وظهرت أخرى وكانت الشعوب في النهاية هي التي دفعت الثمن، ولم تجن من كلّ ذلك إلاّ تغيير الوجوه وثبات الأنظمة التي ثارت أصلا من أجل القضاء عليها." مجدي كامل، الفوضى البنّاءة، الدّمار الخلاّق والثورات الملونة والشرق الأوسط الجديد الذي تريده أمريكا، ط1، مصر، دار الكتاب العربي، 2014، ص 9

[10] ناصيف ياسين، الإرهاب الأمريكي المعولم، ط1، بيروت، دار الفارابي، (دت)، ص 255

[11] انظر مثلا: http://www.alhayat.com/Articles/13638574