التجديد مفهومه وضوابطه

حسن بن محمد شبالة

 

التجديد موضوع كبير أفرزته الثقافة الإسلامية المعاصرة ودخل فيه أناس لا يتقنون فنه فضلا عن التكلم فيه، وقد اتخذ في الآونة الأخيرة – بحسن نية أو بسوء نية - مطية لتحريف أصول الدين وقواعده، ودفع أعداء الإسلام لذلك مجموعة من المرتزقة للحديث عنه واتخاذه مطعناً يطعن به الإسلام، فكان لا بد من كشف اللثام وبيان الحقيقة بين هذا الادعاء وذلك التأصيل، بصورة تأصيلية شرعية مع التفريق بين التجديد عند المسلمين بضوابطه وشروطه وبين التجديد المدَّعى عند أرباب الأقلام والثقافة وغيرهم من المدسوسين؟

التجديد له مفهومان: مفهوم شرعي دعا إليه الإسلام وطلب من المسلمين أن يباشروه وأن يسعوا إلى تحقيقه بضوابطه وشروطه، ومفهوم آخر اتخذه بعض المغرضين وسيلة للنيل من الإسلام ودس السم في العسل - كما يقال -، ولذلك تنطلق الثقافة المعاصرة اليوم تحت مسميات متعددة وشعارات مختلفة ظاهرها فيها الرحمة وباطنها من قبله العذاب، شعارات ومسميات براقة تخدع السامعين وتجعلهم يسيرون في ركابها ثم يتبين أنها سراب، أو أنها سموم القصد منها إفساد الدين والإسلام والمسلمين.!

فما هو التجديد؟

التجديد في اللغة: من جعل الشيء القديم جديداً، وأما في الاصطلاح: فعندنا اصطلاحان، الأول: الاصطلاح الشرعي المضبوط، الذي شرع في الإسلام وحث الإسلام عليه ودعا إليه وهو يحتوي على ثلاث نقاط مهمة، فالتجديد في الاصطلاح الشرعي: هو إعادة رونق الدين وجماله وصفائه وإحياء ما اندرس منه ونشره بين الناس، فهذه ثلاثة محاور للتجديد الشرعي المضبوط المستحب، ومطلوب من الناس أن يشاركوا فيها.

وأما التجديد بالمفهوم الآخر: فمعناه الانقضاض على أصول الدين وثوابته وكلياته، وهدمها وبناؤها بناءً جديداً، بنفسية المهزوم.. لموافقة ما تدعوا إليه الحضارات المسيطرة على الإسلام والمسلمين، بمعنى أن الإسلام صار بالياً وقديماً فلا بد من إيجاد مفاهيم وقواعد وأحكام جديدة في الدين بحيث تتناسب وتتماشى مع الحضارة العالمية الغربية المعاصرة التي فيها العلو والاستكبار والهزيمة والذل للمسلمين، فإذاً شتان بين نوعي التجديد فالأول تجديد للبناء والثاني تجديد للهدم والإزالة.

والأصل في مشروعية التجديد قول النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الذي رواه أبو هريرة وأخرجه أبو داوود والحاكم والترمذي وسنده صحيح "إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها". وتجديد دينها يضمن لها الثلاثة المحاور التي اصطلح عليها علماء الشريعة، فإما أن يكون التجديد في محور إزالة تراكمات الانحرافات التي وقعت على تعاليم الإسلام بفعل سلوكيات المسلمين، أو أن يكون التجديد بإزالة البدع والخرافات التي ابتدعت في هذا الدين وخيمت عليه بسبب سوء الفهم مثلا، أو أن يكون التجديد في نشر محاسن الإسلام في باب العقائد وباب الأحكام وباب الأخلاق وباب المعاملات وفي سائر جوانب الشريعة ودعوة الناس للعمل به وامتثاله!

ومن المعلوم أن الدين الإسلامي جاء ليقطع جوانب المحدثات التي تزيل جمال الدين وتشوه منظره ورونقه قال - صلى الله عليه وسلم - "كل بدعة ضلالة"، وقال: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد"، فإذاً الإسلام يجب أن يظل صافياً نقياً يأخذه الناس كما أخذه الصحابة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - اعتقاداً وسلوكاً ومعاملة.

فالدين يجب أن يبقى نظيفاً جديداً مثله في ذلك مثل الثوب النظيف الجديد، وقد أشار القرآن إلى هذا المعنى في قوله - تعالى -: "وثيابك فطهر"، وقال - صلى الله عليه وسلم -: "تركتم على المحجة البيضاء "، ولهذا شاء الله - تعالى -أن يوجد المجددون لهذه الأمة الذين ينقون الدين مما علق به من إحداث المحدثين وشبه المبطلين.

ومسألة التجديد في هذا الدين مسألة شرعية؛ لأن الله - تعالى - قد ختم بنبيه الرسالة وجعله خاتم الأنبياء والمرسلين، فلا يوجد بعده نبي ليجدد للناس دينهم كما كانت الأنبياء تبعث في بني إسرائيل لتجدد لها أمر دينها حيثما يحصل فيها انحراف، ولكن النبي - صلى الله عليه وسلم - خاتم الأنبياء وشريعته صالحة لكل زمان ومكان إذاً لا بد من وسائل لتظل الشريعة صافية نقية، ومن هذه الوسائل الوقائية: تولي الله الرسالة بحفظ الكتاب الكريم حفظا للدين: "إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون"، ومنها ما منِّ الله - سبحانه - به على هذه الأمة من خصيصة الإسناد وحماية الشريعة من الوضاعين والكذابين على صاحبها - عليه الصلاة والسلام -، ومنها وجود العلماء الذين ينافحون عن هذا الدين ويبينون الحق من الزائف فيه دون أن ينقطع تسلسلهم عبر العصور، ومنها مسألة التجديد في هذا الدين لتكون أيضاً وسيلة لتنقية وتصفية ما يحدث في الدين من انحراف أو بدع أو خرافات ليرجع إلى ما كان عليه نقياً صافياً.

والمحور الثاني من التجديد هو إحياء ما اندرس منه، واندراس الشيء خفاؤه، واندراس الدين خفاء السنن وضياع الأحكام بسبب الجهل أو إحداث البدع، ولهذا قيل ما أحدثت بدعة إلا غطت سنة، فهذا الاندراس يحتاج إلى بيان وإحياء وإظهار، لذلك لا بد أن ينظر إلى كثير من العبادات التي ربما اندرست على كثير من الناس بسبب بعدهم عن العلم والعلماء، وبسبب حدوث البدع والخرافات التي غطت عليها.

ونشاهد اليوم اندراس مجموعة من قضايا الشرع والدين، فمثلاً، يظن كثير من أهل البدع أن ألإيمان مجرد النطق بالشهادتين وإخراج العمل عن مسمى الإيمان، مما أدى إلى اندراس مفهوم الإيمان الصحيح في أذهان الناس بسبب بدعة المرجئة هذه، وأمثلة أخرى: مفهوم الولاء والبراء، مفهوم العبادة، مفهوم الحكم والتحاكم، مفهوم الجهاد، مفهوم الأخوة، مفهوم التوكل، مفهوم النصر، مفاهيم كثيرة جداً ضاعت من أذهان المسلمين وغابت عنهم وصارت مغلوطة لديهم، غير صحيحة.

أما المحور الثالث وهو نشر هذا الدين بين الناس، بعد أن يصفو وينقى وتعاد إليه نضارته ورونقه وجماله، كما أنزله الله وكما بلغه النبي - صلى الله عليه وسلم -، وبعد أن بين ما اندرس منه وصححت المفاهيم المغلوطة حوله، عندها يحتاج إلى نشره بين الناس ليفهموه ويقوموا به كما أمرهم الله - سبحانه وتعالى -.

وتبرز أهمية هذا المحور حينما تخلت الدول والحكومات عن قضية تبليغ الدين وجعلته أمراً هامشياً في حياتها العملية، فكان لا بد من إيجاد جماعات الاحتساب وعلماء مجددين يبلغون هذا الدين للناس وينشرونه، وإذا رجعنا إلى مهام الخلافة الإسلامية في الشرع وعند علماء الإسلام قديماً وحديثاً سنجد أن أبرز مهامها حفظ الدين وسياسة الدنيا به ونشره بين الناس!!

وعلى هذا فإننا من خلال هذا التعريف الشرعي للتجديد عند علماء المسلمين نعرف ما هو الواجب علينا نحو هذا الدين من خلال هذا المفهوم الصحيح ثم بعد ذلك تتنوع مجالات التجديد في الإسلام، وذلك لأن التجديد علاج لما يحدث من انحراف في حياة الناس فقد يكون الانحراف في جانب الاعتقاد فنحتاج إلى تجديد في جانب الاعتقاد، وقد يكون الانحراف في الأمة في جانب السلوك فنحتاج إلى تجديد في جانب السلوك والأخلاق، وقد يكون في الحكم والسياسة أو النظر والاستدلال أو في المفاهيم والتصورات التي يقدمها أعداء الإسلام عن الإسلام.. فنحتاج إلى تجديد في مجال فضح الاتجاهات والمناهج والسبل المخالفة للإسلام، وهكذا.. يحتاج كل جانب من الدين تجديداً بحسبه، وهكذا تتنوع مجالات التجديد ضمن التجديد المنضبط بالشرع تبعاً للانحراف أو للضعف والركود الذي يحصل في جانب من جوانب الإسلام.

وإذا كنا نشاهد اليوم الدين الإسلامي قد أصيب بانحراف أو خلل عند المسلمين في سائر هذه الجوانب، فإذاً ما أحوجنا إلى التجديد الكلي في سائر الجوانب الشرعية، ولا يعني ذلك أن الانحراف الذي وقع في سلوك المسلمين أثر على منهج الإسلام لا..! منهج الإسلام محفوظ بحفظ الله وإنما الانحراف حصل في التطبيق العلمي للإسلام من خلال المسلمين، ففرق بين الإسلام وبين حياة المسلمين.

شروط التجديد:

1- أن يكون المجدد من الفرقة الناجية: بمعنى ألا يكون المجدد من فرقة ضالة منحرفة، لأنه سيجدد على ضوء انحرافه وابتعاده عن الدين فربما أصاب الدين بالفساد والانحراف تبعاً لتصرفاته وعقيدته المنحرفة.

وقد جاءت الأحاديث وأقوال السلف موضحة لصفات الفرقة الناجية.. وليس المجال مجال سردها، فليرجع إلى مضانها!

2- أن يكون لدى المجدد من العلم الشرعي الحد الكافي، وبعض أهل العلم اشترط أن يكون مجتهداً ويمكن أن يضبط هذا الشرط ويقال: إن كان التجديد كلياً فيجب أن يكون الشخص المجدد مجتهداً مطلقاً وإن كان التجديد جزئياً فيكفي أن يكون المجدد مجتهداً في المسألة والقضية التي سيجدد فيها وهذا أقرب الأقوال إلى الصواب في مسألة هذا الشرط.

3- أن يكون المجدد صاحب همة عالية: كما مر في الحديث " إن الله يبعث... " فكلمة يبعث يدل على أن المجدد ليس كسولاً ولا خاملاً ولا صاحب مصالح دنيوية دنيئة، بل هو صاحب همة عالية وإرادة وعزيمة قوية يسهر الليل ويتعب في النهار ويحقق في المسائل ويبذل جهده وماله ووقته من أجل أن يجدد شيئاً من دين هذه الأمة فهو صاحب نشاط وعمل وحيوية وابتكار وإبداع. فما أبعد التجديد عن الكسالى والخاملين!

هذه الشروط التي اتفق عليها العلماء لتكون من شروط المجدد، وهناك شروط مختلف فيما بين أهل العلم.

هل وجد التجديد عملياً في أمة الإسلام؟

نعم، وجد التجديد واقعاً عملياً في أمة الإسلام كما في الحديث، يوجد على رأس كل مائة سنة مجدد، والآن نحن في القرن الخامس عشر وقد مضت 1400عام فمعنى ذلك أن يكون في أمة الإسلام أربعة عشر مجدداً، إذا قلنا بالتجديد الانفرادي لكل مائة سنة، وأكثر من ذلك إذا قلنا بالتجديد الجزئي أو الجماعي أو المتخصص الذي توزع فيه خصائص التجديد، وكمثال اتفق العلماء على كونه مجددا على رأس المائة الأولى: الخليفة عمر بن عبد العزيز - رحمه الله تعالى -.

وهل حدث انحراف في المائة الأولى؟ نعم حدث، لكنه كان انحرافاً جزئياً، ولو تتبعنا أحوال المسلمين في القرن الأول بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - من السنة العاشرة إلى سنة أربعين للهجرة لوجدنا أن الأمة كانت تمشي على وفق هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - في جميع مجالات الحياة، وهذه تسمى فترة الخلافة الراشدة التي انتهت في شهر ربيع الأول من سنة41هجرية حينما تنازل الحسن بن علي بالخلافة لمعاوية رضي الله عن الجميع، فانتهت الأربعين السنة بما فيها فترة الخلافة الراشدة، وقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال "الخلافة الراشدة فيكم ثلاثون عاماً"، وبتولي معاوية - رضي الله عنه - الحكم كان أول ملوك الإسلام وأحسنهم عدلاً وأفضلهم سيرة وصلاحاً، ثم من بعده بدأ الانحراف في هذا الباب -الحكم والسياسة- فبعث الله - تعالى -وقيظ لهذه الأمة وأخرج لها -في سنة 99هجرية قبل انتهاء المائة الأولى- خليفة راشدا جدد لها في الحكم والسياسة، وهو عمر بن عبد العزيز حيث أعاد الحكم شورى وولى الولاية لمن يستحقها ويقدر عليها وأعاد الأمر إلى نصابه ونشر العلم ودون السنة وألغى الضرائب وانتشر الخير في خلافته خلال سنتين أو ثلاث من عام 99إلى عام 101هجرية حيث توفي فيه.

لقد بدا أن الأمة قد رجعت في عهد الخليفة عمر بن عبد العزيز إلى عهد الخلافة الراشدة في الحكم والسياسة والقضاء والإدارة!! بعد ما طرأ عليها، حتى لقد تحولت القضية الاقتصادية في زمنه من فقر إلى ثراء عظيم، فقد كان يأمر - رحمه الله - الولاة بتوزيع الصدقات على المسلمين فلا يجدون محتاجاً مع مناداتهم عليها، فيقول الناس: لا نحتاج قد أغنانا الله! فترجع إلى بيت المال!

هذا جانب عملي للتجديد، وهو تجديد فردي، في جزء وجانب من جوانب الدين حينما يحدث فيه نوع من الخلل والانحراف.

ونضيف -هنا- مثلاًً آخر للتجديد الذي وقع في هذه الأمة حينما استمر الناس في العلم واستنباط الأحكام، وظهرت المذاهب الفقهية وحصل عند الناس نوع من التعصب وأخذ الدين دون تبصرة، فحصل انحراف في باب النظر والاستدلال فإذا الأمة محتاجة إلى مجدد في هذا الباب فكان على رأس المائة الثانية محمد بن إدريس الشافعي وهو أول من أصل أصول الفقه في كتابه "الرسالة"، فكان المجدد في عصره. ثم اختلف أهل العلم - بعد الشافعي - هل المجدد فرد أم جماعة؟

والذي يظهر من استقراء الواقع الفكري للأمة وانحرافاتها أن التجديد صار بعد الشافعي تجديد جماعي، وصار لكل جانب من يجدد فيه، ويمكن أن يجتمع في القرن الواحد عدة مجددين كل منهم يجدد جانباً من الحياة.

وفي القرن السادس الهجري برز نوع جديد من التجديد بعد إصابة الأمة بالهزيمة وسقوط بغداد في عهد التتار وهو التجديد الجهادي، برز بآراء وحكمة وتربية محمود زنكي ثم من بعد تلميذه صلاح الدين الأيوبي، الذي أحيا روح الجهاد بعد أن ماتت في الأمة أو ضعفت، ووحد صفوفها بعد فرقة وشتات وانحراف، ثم عاد بالأمة مجاهدة قوية واستعاد القدس بعد أن كانت تحت أيدي الصليبين عدة سنوات فكان هذا مثالاً للتجديد في ذلك العصر.

وفي العصر الحديث برزت حركة الشيخ محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله تعالى -كحركة تجديدية في العقيدة، استطاعت إقامة دولة على وفق الكتاب والسنة، وبرزت أيضاً حركة أخرى على مستوى التنشئة والتنظيم والتربية للأجيال هي حركة الإمام حسن البنا - رحمه الله تعالى -، وكانت تمثل رافدا من روافد التجديد للفكر والتربية والإعداد. ويمكن أن نجد أمثلة كثيرة في هذا العصر مع كثرة الانحرافات التي حصلت للأمة ففي الجانب الجهادي، تكون الجماعات الجهادية المعاصرة تمثل جانباً من التجديد كحركة طالبان وحركة حماس وحركات المقاومة الإسلامية للاستعمار والاحتلال.

وفيما الأمة محتاجة إلى مجددين في سائر الجوانب، ظهر أصحاب المفهوم الثاني للتجديد -غير المنضبط، الذين ينعق به مجموعة من المهزومين فكرياً وعقدياً وسياسياً- بمجموعة من الأطروحات المعاصرة في حين اشتد الضغط الغربي والعولمة الثقافية على العالم الإسلامي، وانطلقوا بمجموعة من الشعارات البراقة دُعمت دعماً قوياً من منظمات عالمية مشبوهة، والغريب أن بعضهم قد يكون اشتراكيا أو مستشرقا أو باطنيا أو غير ذلك من المذاهب الهدامة، ثم هو يتحدث عن التجديد الإسلامي!! ويتساءل: لماذا لا نعيد التجديد؟ ألا يوجد تجديد في هذه الأمة؟

وهذه كلمة حق يراد بها باطل، لأنهم ينطلقون من منطلقات سيئة ذات أفكار قديمة يقيسون الإسلام بها على النصرانية، ويقولون: لم تفلح أوروبا ولم تصبح حضارة وتنطلق إلى التكنولوجيا والعلم والتقدم الحضاري إلا حينما جددت أفكارها وتصوراتها. فما هو التجديد عند الأوروبيين والغرب؟ قالوا: أزاحوا الكنيسة والدين والأفكار القديمة البالية وأتوا بأفكار جديدة، مستنيرة انطلقوا بها، فركنوا الدين جانباً!.

وهذا ظلم للإسلام، فالإسلام ليس كالنصرانية والديانات الوضعية، الإسلام دين رباني صالح لكل زمان ومكان لا يقف أمام العلم والتقدم التكنولوجي بل يدعمه ويشجعه ويدل عليه، وهل استفادت أوروبا في عصور الظلام إلا من المسلمين؟ وهل وقف الإسلام في يوم من الأيام أمام الاختراعات العلمية والإبداعات الحضارية إذا كانت منضبطة مع الشرع؟ لكنه الانهزام النفسي!

لذلك انطلقت مجموعة تطلب التجديد في باب "أصول الفقه"، و"أصول الفقه" قواعد كلية كتبها العلماء منذ 14 قرناً ضبطوا بها منهج الفقه والنظر والاستدلال، في العبادة والمعاملات والأخلاق! ويقولون: ما الداعي لهذه القواعد والضوابط؟ لماذا لا يكون إعادة التجديد في أصول الفقه ضمن المعطيات المعاصرة، ويقصدون بذلك الانهزام والتبعية للعولمة الثقافية وسيطرة الغرب. وجاء آخرون دعوا إلى تجديد أصول التفسير، وآخرون إلى تجديد أصول الحكم والسياسة. ولعل القراء الكرام اطلعوا على كتاب "الحكم الإسلامي" لعلي عبد الرزاق الذي كان يوماً ما من أساطين اليساريين، ثم تحول إلى أن يكون مفكراً إسلامياً يقدم للأمة الإسلامية نظرية جديدة في الحكم والسياسة!!

وقد كان لدعوى التجديد في باب الحكم والسياسة أكبر الأثر على حياة الأمة وواقعها، فإذا نظرت إلى الدساتير المعتمدة اليوم لدى كثير من الدول الإسلامية وجدتها تنص في فحواها على أن القرآن والسنة ليس لهما الصبغة القانونية، وذلك تجديدا للأحكام بما يلائم العصر، والمقصود به إبعاد النصوص والأحكام الشرعية وحكم الله - تعالى -عن التأثير في الحياة، وإعطاء السلطة والحكم لمشرعين بشر ينسون ويجهلون ويقصرون ويخطئون! كل حين! ولأن هذه الدساتير وتلك القوانين من خزعبلات أفكار المشرعين من الشعوب تتبدل وتتغير بين الحين والأخرى، فتجد تعديل الدستور والقوانين عادة متبعة وسنة لا ثبات لها! لأن المشرعون بطبيعتهم بشر يشرعون على وفق معلوماتهم القاصرة ونظراتهم الضيقة!

وعلى ذلك انطلق هؤلاء تحت مسوغ أن كل قديم فهو رجعي يجب إزالته، وأنه لا قداسة للتراث، والعجب أن الذي يتابع واقع الثقافة لهؤلاء يجد أنهم كاذبون يكيلون بمكيالين، فعندما يمس الأمر الدين يكون القديم رجعي وتجب إزالته، ثم نجدهم أثناء التطبيق العملي، يبحثون عن شيء أقدم من القديم: فتراهم يستشهدون بالديانات والحضارات الجاهلية قبل الإسلام؟ ويؤلفون في الفرعونية والسبئية والآشورية!! وينشئون لها المنظمات، ويخصصون لها الأقسام الدراسية والبحثية!! وتقدم كنموذج لما يسمونه بالتراث وثقافة ما قبل التاريخ!! داعين إلى استخراج الكنوز منها والحفاظ على مخلفاتها!! وعدم المساس بهذه الثروات الإنسانية!

وقد طالت صرخات التجديد الثقافة والأدب، فما هو التجديد الثقافي والأدبي لدى هؤلاء؟ إنه إبعاد التأصيل والقواعد والخيانة العلمية وتحويل القضايا الأصيلة إلى قضايا مهزوزة، حتى الشعر العربي لم يسلم منها، فنشأ ما عرف بالحداثة والتجديد في الشعر، وكان مبتدؤها الشعر الحر الذي ليس له قافية ولا وزن من أوزان الشعر المعروفة، ثم لم يلبث أن دخلت عليه رموز وطلاسم يقصد بها إهانة المقدسات وهدم الثوابت!

وطالت صرخات التجديد تجديد العقل المسلم وتشكيله بعيدا عن الهدى الرباني، فهم لا يريدون شيئاً صحيحاً يبقى في عقول المسلمين، يريدون تغيير الموازين والمقاييس والتصورات، حتى تصبح هذه العقول تائهة وغير قادرة على الفهم والإدراك طالما تستند إلى الظنون!!

ومن التجديد المطروح أيضا الدعوة إلى إعادة قراءة التاريخ الإسلامي من جديد؛ والمناداة بضرورة صياغته من جديد؟ في ضوء المعارف اليقينية، ودون اعتماد الروايات والأخذ بدراسة الأسانيد، ويتساءلون: لماذا نعتمد على تاريخ الطبري؟ مثلاً، لماذا نعتمد على تاريخ ابن الجوزي؟ أو تاريخ ابن كثير؟ أو على التواريخ القديمة لعلماء السلف - رحمهم الله تعالى أجمعين -؟ فربما ألف هذه التواريخ أناس كانت لهم مصالح مادية أو ميول سياسية أو مذهبية أو.. الخ؟!

وهذا طعن في مدونات التاريخ الإسلامي، التي حَفظت وحُفظت، وإذا كنا لن نعتمد على التاريخ الإسلامي المسطر بالرواية المدونة في القرن الثاني والثالث الهجري -مثلا- فهل سندون تاريخ الـ 14 قرناً الماضية بمعلومة سطحية ونظريات لم تثبت صحتها وإن ثبتت فقد يكون سير التاريخ بخلافها!!

ثم هم رغم هذه الدعاوى إلى إعادة كتابة التاريخ الإسلامي وفق مصادر سليمة ونظريات منهجية، لا يتناولون في التاريخ إلا جوانب الخلاف بين المسلمين؛ مثلهم كمثل الذباب لا يقع إلا على الجرح! ليس هذا فحسب بل و يعتمدون في دراساتهم وبحوثهم للتاريخ الإسلامي على كتب لم يعتمدها علماء الإسلام ولم يوثقوا مؤلفها، ككتاب "الأغاني" لأبي الفرج الأصفهاني، وهو كتاب حذر منه علماء المسلمين قديماً وحديثاً! لما فيه من الدس والكذب! وفيما يتركون أيضا المصادر الأصلية والشرعية للتاريخ الإسلامي يعتمدون على ما يكتبه المستشرقون اليوم!! قائلين للناس: هذا تاريخكم المليء بالانحرافات نحتاج إلى تجديده وتطويره؟!

إنهم لا يبرزون الشخصيات الإسلامية المجددة التي نفع الله بها الإسلام والمسلمين، لكنهم ينشغلون بإبراز شخصيات مقدوحة في التاريخ كـ: واصل بن عطاء، والجعد بن درهم، وعبد الله بن سبأ، والأسود العنسي، ومسيلمة الكذاب، ويقدمونهم على أنهم ثوار ومجددون!

إذاً فهذه المصطلحات والشعارات التضليلية تنطلق للإفساد تحت مسمى التجديد، وهناك نقطة مهمة ينطلق منها هؤلاء الذين يريدون التجديد، إنها قضية "لماذا يحتكر أناس مخصوصون فهم الإسلام دون بقية المسلمين؟ "

ومن المعلوم عند المسلمين بأنه لا يوجد لدينا في الإسلام رجال دين ولا كهنوت، هذا كلام صحيح، لكن يوجد عندنا علماء وعوام، وإلا فما معنى قول الله - تعالى -: فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون، وهذا طبيعي في أي علم وثقافة أن يكون فيها مختصون بها يعلمون دقائقها وتفاصيلها.

لكن هؤلاء بهذا المنطلق يريدون أن يصبح الإسلام خصب المرتع لكل من أراد أن يتكلم فيه، بمعنى أنهم لا يريدون التخصص في الإسلام ما دام أننا مسلمون جميعاً؛ دعونا نتصدر للفتوى والتعليم، ونتخصص في البحث والمناظرة، بدون سابق تعلم أو دراسة أو خبرة أو شهادة، وكأن الإسلام مرتع يتصدر فيه من شاء!

إن الأمة الآن مع المدنية والتقدم انطلقت فيما يسمى بالتخصص الجزئي حتى على مستوى قضايا عادية، الطب توزع إلى عشرات من التخصصات، واللغة تفرعت إلى تخصصات، والآداب، والعلوم الإنسانية! فلماذا يؤمنون بالتخصص في العلوم الطبيعية والإنسانية؟ ولا يؤمنوا بالتخصص في العلوم الشرعية؟! فيصبح الجاهل والعالم عندهم سواء! كل من أراد أن يتحدث باسم الإسلام يتحدث!

إنهم يطالبون علماء الشريعة باحترام التخصص، فيما يبيحون لأنفسهم أقدس التخصصات!! انظروا إلى الملفات التي تنتشر في الصحف الثقافية، تحت هذا المنطلق: الخباز والبقال والمهندس والمكانيك والطبيب يتكلم في الفتوى، كل من هب ودب مستعد أن يفتي في الإسلام، هذا حلال وهذا حرام!! هذا جائز وهذا غير جائز!! إن هذا والشرك سواء: وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا * وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون الآية.

وإذا رُد عليهم، قالوا: تحتكرون الإسلام عليكم فقط! إن القضية هي بذل الجهد والوقت في تعلم الإسلام ودراسته على يد من تلقوه تعلما وعملا، ثم الباب مفتوح لمن أراد أن يفتي ويعلم ويعظ ويوجه ويرشد ويؤلف، أما يعلم هؤلاء بأن الإسلام سمح بالتعلم، لكنه لم يسمح بالقول والفتيا بغير علم!

إن الهجمة الشرسة من هؤلاء الذين يدعون التجديد على علماء الإسلام على عقيدة الإسلام. لماذا لا يهجمون على التخصصات الطبية؟ والهندسية؟ والفلكية؟

إن القضية خطيرة وهي تنطلق في أوساط المسلمين، من قوم يتكلمون بألسنتنا، ومن بني جلدتنا، لكنهم عملاء وأذناب للأفكار المنحرفة وللغرب المادي الملحد، إنهم يريدون أن ننحرف كما انحرف الغرب في أخلاقه وسياسته واقتصاده واجتماعياته وأسره وأفراده، يريدون أن تنحرف الأمة تحت مسمى الإبداع والتجديد حتى يغرر بها ويسهل قيادها!..

المصدر: http://islamselect.net/mat/80417

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك