العالِم والسياسي

د.حسين الصديق

 

قراءة في مشروعية السلخ
عماد الدين النسيمي نموذجاً (771هـ_820هـ)

إشكالية البحث:

إن إشكالية البحث تتلخص في فهم الحاضر على ضوء قراءة الماضي، لأننا لا نستطيع أن نعرف أنفسنا إلا عندما نعود إلى ذاكرتنا المشتركة بين أبناء الحضارة العربية الإسلامية، والعالم العربي بدأ منذ بداية عصر النهضة يتجه اتجاهاً استغرابياً يسيطر عليه الاستعمار وأذياله من المثقفين والسياسيين، ونسوا الشرق.
وأنا أحيّي السلطة السياسية والثقافية في بلدنا الكبير سورية على اتجاههما هذا الاتجاه المبارك نحو الشرق نحو إيران، تركيا، أذربيجان، ونحو باقي العالم العربي الإسلامي، لأنه هو عمقنا التاريخي والثقافي والاستراتيجي والمعرفي.

1. الأسس المعرفية للدراسة:
• تحديد العالِم والسياسي والعلاقة بينهما.
• ما المقصود بالسلخ؟
2.قراءة الحدث في ضوء الأسس المعرفية

1. الأسس المعرفية:

تحديد العالم والسياسي والعلاقة بينهما:

العالم أو المثقف المبدع بشكل خاص، هو الذي يسعى إلى امتلاك قوة التأثير في المجتمع مستخدماً سلطة العلم والثقافة من خلال الإقناع والحوار.
أما السياسي فهو الذي يشارك في صراعاتٍ هدفها احتكارُ قوةِ التأثير في الدولة والمجتمع مستخدماً سلطة العنف والقهر والإجبار. والدولةُ غيرُ المجتمع، إلا أنها تقوم فيه وتعتمد عليه، والدولة، كما يعرّفها ماكس ويبر الفيلسوف الألماني، هي المؤسسة الوحيدة التي تمتلك حق استخدام العنف المشروع.
إن المشتَرَك بين العالم والسياسي هو المجتمع، ويسعى كلٌّ منهما إلى التأثير فيه مع اختلاف الأداة المستخدمة، ورغبة السياسي تتجه إلى احتكار قوة التأثير وتوجيهها أساساً نحو الدولة، وسعيُ الأول، أي المثقف أو العالم، إلى امتلاك التأثير يعني التنازعَ مع السياسي، والدخولَ في لعبة السياسة والدولة، لأن المشترك بينهما هو المجتمع، وهو ما يثير حفيظة السياسي إن لم يكن هذا التأثير لمصلحة هيمنته على الدولة أو كان معادياً له أو يهدد تأثيره.
إن تاريخ الإنسانية يؤكد أن كل سلطة هي مصدر تنازع على اختلاف أشكالها، ونحن هنا أمام سلطتين: سياسية وثقافية والعلاقة بينهما جدلية، إذ إن كل سلطة منهما تؤثر في الأخرى، ولا بد منهما معاً لقيام أي مجتمع كان.
إن العلاقة بين العالم/ المثقف المبدع والسياسي/ رجل الدولة علاقة تنازع على التأثير، ومن يملك القوة السياسية لا يسمح لمنافسيه بأخذها منه، كما أنه لا يتهاون مع من يهدد هذه القوة.
ومن قراءة التاريخ الإنساني نستنبط أن هذه العلاقة هي مقياس تخلّف المجتمع أو تقدمه، فإذا كانت العلاقة متوازنة كان المجتمع متطوراً متقدماً، وإذا كانت تعاني خللاً، فالمجتمع متخلف، والصراعات الداخلية فيه عنيفة بحسب نسبة هذا الخلل.

ما المقصود بالسلخ؟:

السلخ أنواع، ونوع السلخ الذي تعرض له النسيمي مادي، ولكنه ليس أخطر أنواعه، فالسلخ المعنوي هو الذي نراه يُمارس كل يوم في أكثر بقاع الأرض، وبخاصةٍ في معظم دول العالم العربي الإسلامي.

2. قراءة الحدث:

ليست القضية مسألة قتل النسيمي أو سلخه، وإنما هي مسألة العلاقة بين العالم والسياسي ومن بينهما، وهي بذلك قضية إنسانية موجودة في كل زمان ومكان، وما الحلاج والسهروردي والنسيمي إلا نماذج إنسانية لهذه العلاقة بين السياسي والثقافي.
هل المشكلة في النسيمي العالِم؟ أم في السياسي (السلطان المؤيد أبو نصر شيخ المحمودي سلطان المماليك في القاهرة) ونائبه (يشبك اليوسفي) في حلب؟ أم هي في طرف ثالث هو مجموعة الفقهاء في عصر النسيمي في حلب، وعلى رأسهم (ابن الشنقشي) والشيخ (شهاب الدين بن هلال)؟
السلطان (المؤيد أبو نصر شيخ المحمودي) سلطان المماليك في القاهرة لم يسمع لا بالحروفية ولا بالنسيمي، فهو منشغل بهموم احتفاظه بالسلطة ودفاعه عنها ضد طامعين كُثُر، ولا يملك الاهتمام ولا الوقت ليعرف أكان النسيمي على حق أم على باطل، ونائب السلطان (يشبك اليوسفي) يخاف أن يأتي بخطأ يحاسبه عليه السلطان، أو يقوم بعمل يثير قلاقل اجتماعية في حلب، وهو ما لا يحبه السلطان أو يريده، ولذلك فقد كان سلبياً لا يتصرف إلا منتظراً أوامر السلطان في القاهرة ورغباته، أما النسيمي فهو عالم جليل جاء إلى حلب بعد عام 803هـ على الأرجح، تسبقه سمعته الطيبة، فهو عالم ومتصوف وشاعر، استقبله أهل حلب وعلماؤها، ونزل ضيفاً على آل الخاجكي، وهم من سادة المدينة وأكابرها وأشرافها، وأقام في مسجد يؤمُّه هؤلاء، وأصبح هناك زاوية باسمه، وكثر أتباعه ومريدوه وتلامذته، فقد كان يلقي الدرس بعد كل صبح، وينشد الأشعار بالعربية، مبشراً بقداسة الإنسان ومكانته الرفيعة في الوجود، باثّاً في تلامذته لطف مبادئ الحروفية وهي الطريقة التي كان يتبعها، وكانت آن ذاك فلسفة تقدمية بالنسبة إلى غيرها، لأنها كانت تدعو إلى تحرر الإنسان من خلال عبوديته المطلقة لله، فهي تمزج الفلسفة بالعرفان بالعقيدة.
كان تأثير النسيمي كبيراً إذ كان يستقطب الناس منافساً بذلك، عن غير قصدٍ، غيرَه من المتصوفة ورجال الدين الذين كان الشيخ (ابن الشنقشي) وهو من أعداء الحروفية يحارب أنصارها ويحاول خفض مكانة النسيمي، وتشويه صورته باتهامه بالزندقة لأنه يثير العامة ويفسد عقائدهم، وهو ما صوره لنائب السلطان في حلب على أنه يشكل خطراً اجتماعياً يهدد سلطة السلطان المؤيد وينازعه التأثير في المجتمع.
إنه عالم التنافس المهني الذي لا يليق بالعلماء وخاصة عندما يدفع بعضَهم إلى الكيد بمن لا يتفق معهم في الرأي أو بمن يستقطب منهم طلابهم، فيصورونه عند السلطان على أنه يشكل خطراً على الاستقرار الاجتماعي ويثير القلاقل والاضطرابات، وهو ما لا يحبه السلطان الذي لديه ما يكفيه من القضايا التي تهدد وجوده.

المحاكمة:

إن خبر المحاكمة يكشف المزيد من العلاقة بين العالم والسياسي، يذكر راغب الطباخ في كتابه أعلام النبلاءفي أخبار سنة 820هـ أن المحكمة كانت مؤلفة من أربعة قضاة هم ممثلو المذاهب الأربعة، وكان ممثل الادعاء فيها هو (ابن الشنقشي)، والمتَّهم هو (النسيمي)، وقد حضر جلسة المحاكمة (يشبك اليوسفي) نائب السلطان المؤيد في حلب.
كان ادعاء (ابن الشنقشي) على النسيمي هو اتهامه له بالزندقة والكفر والإلحاد مستشهداً بأقوال نسبها للنسيمي وأفعاله، مظهراً أن هذا يفسد عقائد العامة، ويوقع الناس في الفتنة بين مؤيدٍ ومخالف، وردَّ النسيميُّ التَّهم، ولم يستطع أحد من المُدَّعين أن يثبت عليه شيئاً، فقد أفحمهم في المناظرة والدفاع عن نفسه.
تدخل نائب السلطان في مجريات المحاكمة، وطلب من المدعي إثبات تهمه، وإلا فإن مصيره القتل، وإزاء ذلك سحب (الشنقشي) اتهاماته، عندها دخل مجلس المحاكمة فاعل آخر هو الشيخ (شهاب الدين بن هلال) الشافعي الصوفي صاحب الخرافات والأباطيل والادعاءت الكاذبة الذي كان يهوّل بها على أتباعه، وكان يرى النسيميَّ المفكرَ الكبيرَ والشاعرَ المبدعَ يقلّل من صورته أمام أتباعه، ويُظهِر جهله أمام الناس، فكان كالشنقشي يريد التخلص منه بإيغار قلب السلطان عليه.
وهنا يستغلّ العالمُ السياسيَّ في التخلص من خصومه عن طريق إصدار فتوى يفتي فيها بقتل النسيمي لأنه زنديق ولا تُقبَل توبته، ثم لا يتردد عن كتابتها بعد طلب (يشبك اليوسفي) ذلك منه. إن نائب السلطان السياسي (يشبك) وقع في حيرة من أمره، فهو يخاف إن امتنع عن تنفيذ الفتوى أن يصل الأمر إلى السلطان فيغضب، ويخاف إن أنفذها أن يعترض على ذلك السلطان فيغضب أيضاً، فما كان منه إلا أن حول الفتوى إلى القاهرة لينظر فيها السلطان (المؤيد) بنفسه بعد أن رفضها الفقهاء في المحاكمة.
لم يكن السلطان المؤيد ليهتم بمعرفة من منهم على حق، كما أنه لا يملك الوقت ليتأكد من صحة الاتهام الصادر عن عالم أيضاً، فأرواح الناس هينة عليه، وخاصة عندما يتعلق الأمر باحتفاظه بالسلطة، فإنه قد يقتل أقرب الناس إليه، فمن هو هذا الصوفي الذي يفسد عقائد الناس، ويثير البلبلة الاجتماعية التي هو بغنى عنها؟ لذلك يأتي الأمر بقتله بطريقة وحشية جداً نكتشف فيها مدى غضب السلطان وخوفه من العالِم الذي قد يثير قلاقل اجتماعية تهدد سلطته، فيُسلخ النسيمي حيّاً، وتُقطَّع أوصاله، وتُعلَّق جثته سبعة أيام، حتى يكون عبرة لغيره، فلا يفكرنَّ عالِم آخر بالإقدام على عمل ينافس فيه السلطان السياسي في سلطته وهيمنته على الدولة والمجتمع.
لم يكن السلخ لأن الجرم كبير، بل لأن حقد السلطان على العالِم كبير، حرَّضه عليه حاقدٌ كبير، ولكن من الذي قتل النسيمي رحمه الله؟ فالمحرض على القتل أكثر إجراماً من القاتل نفسه، فالمؤيد اعتمد على فتوى شرعية لإصدار أمر القتل، وهذا يدل على أنه في جانب من جوانب وجوده السياسي ما يزال يخشى الله، ويؤيد هذا الكلام موقف نائبه في حلب أيضاً.
ليس المقتول هو النسيمي، إنه الإبداع والتفرد، ومن القاتل؟ إنه الحقد والحسد والمنافسة غير الشريفة التي تدل على صغر النفس.
لو أن النسيمي كان يعيش في زماننا لأصبح مشهوراً تدعمه اليونسكو وينال الجوائز، ولكنه كان يعيش في دولة دينية ولهذا فإن الاتهام فيها هو الزندقة، أما اليوم فإن أسس الدولة المعرفية هي التي تقرر نوعية الاتهام، فالاتهام الخطير اليوم أن تتهم بأنك معادٍ للتقدمية أو للخط الفكري الذي يتبناه السياسي.
وستظل هذه العلاقة قائمة بين السياسي والعالِم وستزداد اضطراماً إذا كان هذا العالم حراً مبدعاً يغار منه أنداده، ويحقدون عليه، ويسعون إلى القضاء على أفكاره، لأنه يكشف عَوَرهم، ويُفسِد عليهم طلابهم.
مهما تكن العلاقة، ومهما يكن نتاجها، فإن خصوم النسيمي والذي أفتوا بقتله وكذلك من أفتى بقتل كل من السهروردي والحلاج، ومن عادى ابن حزم وابن عربي من أهل عصرهم لا يعرفهم أحد، على حين أن أسماء المبدعين الذين قامت الحضارة الإنسانية على فكرهم وتطورت بفضل عطاءاتهم ما تزال محفورة في قلب الكثيرين اليوم.

المراجع :

  • رواس قلعجي، عبد الفتاح: ياقوتة حلب، عماد الدين النسيمي، منشورات اتحاد الكتاب العرب، دمشق، 1991م.
  • الطباخ، محمد راغب: أعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء، ج3، دار القلم العربي، حلب، ط2، 1988م.
  • المصدر: http://asseddik.com/cms/%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%A7%D9%84%D9%90%D9%85-%D9%8...
أنواع أخرى: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك