الاستشراق الجديد
د. حسين الصديق
الأنا في مرآة الآخر
دراسة في العلاقة بين الاستشراق الجديد والثقافة العربية المعاصرة
تمهيد
هل نحن موجودون على الحقيقة، أم أننا نعيش بغيرنا؟ هذا السؤال ينطبق على الفرد كما على الأمة، وهو سؤال جدير بأن يطرح باستمرار.
إن الحديث عن الاستشراق ما هو في الحقيقة إلا حديث عن الذات، لأن الشرق العربي والإسلامي ما برح يرى نفسه في مرآة الغرب التي صنعها له بوساطة الاستشراق، وأراد له أن يكون على هواه، وأن يصنعه على عينه ليستطيع أن يضمن بقاء سيطرته على المنطقة العربية والإسلامية. وما هذا إلا استمرار لعداء تاريخي قديم وطويل، زاد من حدته خلق دولة اسرائيل في فلسطين، وأسفر عن عدائه بعد الزواجُ الأخير بين الصليبية العالمية والصهيونية الذي تمثل بالمحافظين الجدد في الغرب الأمريكي، حتى أننا نستطيع أن نقول إن الاستشراق الجديد يعبر عن نفسه بكل طلاقة في خطابات بوش ورامسفيلد التي تعد الثقافة الإسلامية مسؤولة عما جرى في الحادي عشر من سبتمبر عام 2001 ، وأنها تشكل خطراً على الإنسانية لكونها رجعية ومعادية للتقدم والتطور الاجتماعيين.
إن كل عمل يقوم به الإنسان لا قيمة له إن لم يكن له وظيفة أو هدف، وأنطلق في مقولتي هذه من النظرية المعرفية العربية الإسلامية التي تقوم على نفي العبثية في الوجود الإنساني، فالحياة مسؤولية حملك الله إياها، وعليك أن تقوم بها كما أرادك أن تفعل.
وفي كتب التاريخ، حينما كانت دولة تدخل في حرب، فإنها تكرس كل طاقاتها لكسب هذه الحرب، وأمتنا اليوم تعيش حرباً غير معلنة، فرضها عليها أعداؤها لما رأوا من وضعها المخلخل ما يمكنهم من كسب هذه الحرب بدون كبير تكلفة، ولذلك فنحن بحاجة إلى إعلان الحرب أو على الأقل إلى إعلان المقاومة، وهذا يعني تحويل كل طاقات أمتنا العربية والإسلامية لخدمة هذه المقاومة، والانتصار فيها، وهذا ما تفعله كل الأمم عبر التاريخ في لحظات الشدة، وإن لم تفعل فإنها تحكم على مصيرها بالزوال. وأمتنا العربية الإسلامية لا تفعل شيئاً وبخاصة على المستوى الرسمي، بل إن معظم من يتولى أمرها من الحكام وظلهم من المثقفين يسعى إلى مقاومة المقاومة وخنقها، أو التضييق عليها، لأنهم صنعوا على صورة الغرب، فهم تابعوه وظله في الحاضر والمستقبل.
قراءة الاستشراق هي، اذن، وعي أننا نرى الذات في مرآة الغرب، إنها اكتشاف التغريب السياسي والثقافي الذي يمارسه الغرب ضدنا بأيدينا، إنها أيضاً دعوة لمعرفة من نحن، ودعوة إلى العودة إلى الذات، ولكن ليس إلى ذات مبهمة أو مشوهة، فالذات العربية منذ بداية القرن العشرين أصبحت مشوهة، فلم تعد شرقية ولا غربية.
تهدف هذه الدراسة إلى تصويب المرايا المقعرة والمحدبة بل والمهشمة التي نرى فيها أنفسنا، ونقيم من خلالها وجودنا ونرسم بملامحها سلوكنا ومواقفنا من الآخر والكون والله. وقد اقتضى منهج البحث أن تقسم على قسمين: الأول يبحث في مفهوم الاستشراق، ويبين مراحله، ويفرق بين قديمه وجديده، ليضع الاستشراق الجديد في إطاره التاريخي، ثم يعرض الفرق بين القديم والجديد. ويدرس القسم الثاني مفهوم الثقافة العربية وأسسها المعرفية، ويوضح أثر الاستشراق الجديد فيها من خلال دراسة قضيتين: الأولى، مفهوم المصطلحات وواقعه في الثقافة العربية المعاصرة، وأثره في الذات العربية، والثانية هي الأسس المعرفية التي يقوم عليها نظام التعليم في الوطن العربي، وأثر الاستشراق الجديد فيه، وما ترتب على ذلك من خلل في الهوية العربية. وسوف تقدم الدراسة في خاتمتها اقتراحات نظرية وعملية لمعالجة الإشكاليات المطروحة.
تعريف الاستشراق ومراحله:
لقد ساعد الاستشراق عبر التاريخ على تحديد صورة الشرق كما هو الآن، فقد كان هذا الشرق في الاستشراق من إبداع الغرب، إنه قرينه ونقيضه ومنافسه، وهو في الوقت نفسه تجسيد لمخاوفه وبعث لمشاعره بالتفوق. ولكن الخطاب الاستشراقي بالمقابل شكل عاملاً أساسياً في تحديد صورة الشرق في أذهان الشرقيين من خلال رسم هذه الصورة والدفاع عنها ومسح تلك الأذهان لتصبح جاهزة لقبول تلك الصورة وتبنيها والانطلاق في التعامل مع الغرب من خلالها.
لم يظهر مصطلح الاستشراق إلا في وقت متأخر من نهاية القرن الثامن عشر، على الرغم من أن بداياته تعود إلى تاريخ أقدم، فقد ظهرت كلمة orientaliste، مستشرق في إنجلترا عام /1779، وظهرت في الفرنسية عام /1799، وأدرجت كلمة orientalisme، الاستشراق في قاموس الأكاديمية الفرنسية عام 1838 .
تعريف الاستشراق و يعرف معجم لاروس الاستشراق L’orientalisme بأنه: “مجموعة المعارف المتعلقة بالشعوب الشرقية ولغاتها وتاريخها وحضارتها…” ، وهو تعريف عام، يشمل الشعوب الشرقية كلها بالنسبة إلى القارة الأوربية بما فيها إفريقيا. والمستشرق هو من يقوم بدراسة الشرق، أو تدريسه، أو الكتابة عنه مهما كان تخصصه، وما يقوم به هو استشراق. إلا أن المفكر العربي إدوارد سعيد في كتابه “الاستشراق” يقدم تعريفا أنثروبولوجياً ثقافياً يجسد حالة الاستشراق كمؤسسة مشتركة للتعامل مع الشرق، وأسلوب غربي للسيطرة عليه، وامتلاك خيراته وإخضاعه. وكتاب سعيد يعلمنا عن الغرب أكثر مما يعلمنا عن الشرق، ويوضح لنا آلية تفكير الغرب، وكيف يعمل ليسيطر على الشرق ويستعبده. ويعلمنا أمراً هاماً جداً غاب من أكثر الدراسات التي وضعها عرب عن الاستشراق: وهو أنه ينبغي على المرء ألا يفترض أن ما يقوله الاستشراق عن الشرق ما هو إلا أكاذيب وأساطير ستذهب أدراج الرياح، وأنه يجب إهمالها وعدم الاكتراث بها، وعدها صادرة عن عدو جاهل بالحقائق، فالاستشراق علامة على القوة الأطلسية، تبين آلية تلك القوة في السيطرة. ولكي نفهم كيف تعمل هذه الآلية علينا أن ندرس الاستشراق بالطريقة التي قام بها إدوارد سعيد، وأن نطرح الأسئلة ذاتها التي سيكون التأمل في إيجاد جواب لها على درجة قصوى من الأهمية للمفكرين العرب المعاصرين. إلاّ أن السؤال الأول في تلك الأسئلة، والأهم في الترتيب، هو مشكلة وعي الذات، أي وعي الشرق لنفسه من خلال تصور الغرب له. فإذا لم يُعِدْ المفكرون العرب المعاصرون النظر في ذلك السؤال فإن كل إجاباتهم عن الأسئلة الأخرى ستكون مخترقة وغير صحيحة،
ويضيف إدوارد سعيد أن الاستشراق هو أسلوب من الفكر القائم على تمييز وجودي ومعرفي بين الشرق والغرب، فهو مؤسسة مشتركة للتعامل مع الشرق بإصدار تقريرات حوله وإجازة الآراء فيه وإقرارها، وبوصفه وتدريسه والاستقرار فيه وحكمه: وبإيجاز “الاستشراق أسلوب غربي للسيطرة على الشرق، واستبنائه وامتلاك السيادة عليه” .
لدينا إذن تعريفان للاستشراق: في الأول يمكن وصف الاستشراق بأنه حركة علمية نفذها رجال سموا بالمستشرقين، موضوع بحثها أو اهتمامها هو الشرق عامة، والعربي – الإسلامي خاصة. أما في التعريف الثاني فهو حركة سياسية استعمارية نفذتها الدول الغربية الاستعمارية وعلى رأسها فرنسا وبريطانيا، والولايات المتحدة الأمريكية في العصر الحديث بعد عام 1945.
وما يهمنا في دراستنا هذه هو الاستشراق الذي اتخذ من الشرق العربي والإسلامي مجالاً، وهذا ما فعلته الدراسات العربية عن الاستشراق بما فيها كتاب إدوارد سعيد. وعلى الرغم من اختلاط التعريفين فإننا نستطيع القول بأن كتاب إدوارد سعيد يهتم بالاستشراق في تعريفه الثاني، على حين أن باقي المؤلفات تهتم به في تعريفه الأول.
مراحل الاستشراق:
لقد مر الاستشراق بثلاث مراحل:
1- المرحلة الأولى وهي مرحلة البدايات والتأسيس، وتمتد من قرار مجمع فيينا الكنسي في عام /1312 إلى نهاية القرن الثامن عشر.
2- المرحلة الثانية مرحلة الازدهار من خلال ارتباط الاستشراق بالتوسع الاستعماري الغربي الأوروبي، وتمتد من بداية القرن الثامن عشر إلى نهاية الحرب العالمية الثانية عام /1945.
3- أما المرحلة الثالثة فهي مرحلة الاستشراق الجديد، وهي الأهم، وتبدأ بعد الحرب العالمية الثانية إلى اليوم.
كان الجهد في المرحلة الأولى فردياً يقوم به الرهبان، ويظن أنه كان نتيجة، أو ولد تحت تأثير الحروب الصليبية وبداية التهديد السلجوقي للقسطنطينية، أما في المرحلة الثانية فقد أصبح مؤسساتياً تدعمه الدولة، وكان ضرورة استحباراتية لازمة بالنسبة إلى الاستعمار الأوروبي الذي سيطر على 80% من الأرض، وبما أن فرنسا وبريطانيا كانتا الدولتين الأكثر استعماراً، فقد كان يطغى على الاستشراق في تلك المرحلة الاستشراق الفرنسي والانكليزي، ويأتي بعده الألماني. وإذا كانت المرحلة الثالثة هي مرحلة الاستشراق الجديد فإن الثانية هي مرحلة الاستشراق الحديث، أما الأولى فهي مرحلة التأسيس والبدايات. ومن الواضح أن آثار هذه المراحل مجتمعة تبين أن أخطرها وأكثرها تأثيراً في واقع العرب والمسلمين إنما هي المرحلة الثالثة.
أهم الفروقات بين هذه المراحل هو أنا كنا نجد في المرحلتين الأولى والثانية خدمات جلى، بغض النظر عن أن الاستشراق وضع أساساً لخدمة الاستعمار، فقد كان المستشرقون يُلحقون بوزارات الخارجية، ويصبحون مستشارين سياسيين للقادة العسكريين أو الغزاة أو الذين يحكمون الشرق. وقد كانوا يترجمون كل البيانات التي يصدرها هؤلاء إلى العربية. وعلى الرغم من هذا فقد قدم الاستشراق خدمات كبيرة للثقافة العربية الإسلامية من خلال الدراسات القيمة التي أصدرها، وتحقيق المخطوطات وطباعتها ونشرها، وتأليف الموسوعات ودوائر المعارف الإسلامية. وقد غابت هذه الخدمات في الاستشراق الجديد كلياً.
كما إن الاستشراق في المرحلتين الأولى والثانيةكان تقليدياً، أما في المرحلة الثالثة فقد كان يستفيد من نتائج العلوم الإنسانية التي بدأت تعطي ثمارها في القرن التاسع عشر في الغرب، كعلم النفس والاقتصاد وعلم الأعراق البشرية وغيرها من العلوم في دراسة الشرق المسلم، وقد سيطر في هذه المرحلة الاستشراق الأمريكي، نظراً للسيطرة الأمريكية بعد انهيار الكتلة الشيوعية في أواخر القرن العشرين.
كان الاستشراق القديم يقوم على دراسات أكاديمية، وكان يهتم أولاً بالثقافة العالمة، أي بكل ما هو مكتوب، على حين أن الاستشراق الجديد يهتم بالثقافة غير العالمة، والحياة اليومية المعيشة، أي أن الأمة في ثقافتها المحركة لها في حياتها اليومية كانت هي موضوع الدراسة، وهذا يعني أن الجهود التي كان يقوم بها الاستشراق التقليدي كانت تنصب على ثقافة نائمة أو ميتة، أما الاستشراق الجديد فيهتم بالثقافة الحية المنتشرة بين الناس، وهذا فرق خطير بين الاستشراق القديم والجديد، فالثقافة في تعريفها الأنثروبولوجي هي هوية الأمة، وتتشكل من مجموع ما ينتجه المجتمع، ويحكمه، من قيم وعادات وتقاليد وأخلاق ومفهومات تظهر في سلوك الفرد اليومي، من خلال علاقته مع الآخر والمجتمع، وفي شتى المجالات من الأحزان والأفراح والأعياد والزواج والطلاق والمناسبات الدينية والاجتماعية. وهذه العناصر التي تشكل الثقافة غير العالمة/الشعبية تختلف أو تتفق مع الثقافة العالمة، فالثقافة العالمة المكتوبة في المؤلفات ثقافة نظرية لا وجود لها في الواقع بين الناس إلا بشكل نسبي، لذلك فإن المستشرقين القدامى لم يتمكنوا من عرفوا آلية التفكير لدى المسلم من خلال دراسة الثقافة العالمة المكتوبة، ولكنهم م يعرفوا كيف يفكر ويتصرف من خلال الثقافة غير العالمة، وتمكن من ذلك الاستشراق الجديد. وحين نعرف أن من سمات الثقافة غير العالمة أنها تنبُّئِية، أي أن من يدرسها يتوقع طبيعة ردود الأفعال عند أصحابها، فإننا ندرك كيف يمكن لهذا الدارس أن يجعل هؤلاء يتصرفون كما يشاء من خلال وضعهم أما أفعال ينتج عنها بالضرورة ردود أفعال يريدها هو، لتخدم مصالحه، وهذا لا يمكن معرفته إلا من خلال دراسة الثقافة الشعبية/غير العالمة.
لقد امتلك الاستشراق القديم ناصية المثقفين، وصاغهم على شاكلته، ومارس سيطرته مباشرة، أو من خلال السياسيين والمثقفين الذين أحسن إنشاءهم، أما الاستشراق الجديد، منذ منتصف القرن العشرين إلى اليوم، فهو لم يعد يهتم بالمثقفين لأنهم ملكه، وإنما أصبح يهتم بالثقافة غير العالمة، ويمارس تأثيره عليها من خلال وسائل الإعلام والاتصالات الحديثة وعلى رأسها المحطات الفضائية وشبكة الأنترنت، بالإضافة إلى تدخله لتغيير مناهج التعليم في كل مراحله في البلاد العربية والإسلامية على السواء، لأن هذه الثقافة تمثل القوة النائمة في أعماق الأمة، وهي هويتها المرتبطة بالقرآن أساساً، وبالثقافة العربية الإسلامية بشكل عام. ووجد هذا الاستشراق أن هذه القوة خطرة على الرغم من كونها مهمشة من قبل الساسة والمثقفين العرب، لأنها قد تصحو في يوم من الأيام. هذه الثقافة النائمة هي كالنار تحت الرماد، وعندما يقيض الله لها قائداً حكيماً مخلصاً لأمته يتمكن من إعادة الوهج لها، فسوف تطضرم، وتحرق أعداء هذه الأمة. والاستعمار الغربي، من خلال الاستشراق الجديد يريد أن يقضي على هذه الجذوة النائمة، حتى إذا ما جاء رجل كصلاح الدين أو نور الدين زنكي لم يجد الظروف مهيأة لإحياء الأمة، كما فعلا في زمن الحروب الصليبية.
الغرب المستعمر لا يقرأ تاريخنا من أجل مصلحتنا، وإنما ليسيطر علينا بطريقة أفضل، والاستشراق الجديد يهدف إلى تدمير البنية الثقافية الاجتماعية أو الثقافة غير العالمة، أو على الأقل زرع الخلل في تلك البنية، والشك في هذه الثقافة، ولكنه على علم أنه لن يتمكن على الإطلاق من أن يقتلع هذه الثقافة لأن جذورها تعود إلى القرآن الكريم الذي لا يمكن محو تأثيره من حياة المسلمين عامة، ولذلك فإن كل ما يسعى إليه هو إشاعة عدم الثقة بين الأمة وثقافتها من خلال وصفها بأنها سبب تخلفها، وأنه عليها، إن أرادت التطور، أن نتخلى عن هويتها.
ويصوغ الاستشراق الجديد العلاقة بين الشرق والغرب من خلال تلك الصور التي يقدمها للغرب عن الشرق، ولعل هذا كان ضئيلاً في المرحلة الأولى والثانية، أما في المرحلة الثالثة فقد أضحى الأمر أخطر من ذلك، والسبب في هذا هو أننا، بالإضافة إلى العداء الصليبي التاريخي وتحوله إلى عداء ثقافي، نجد أن زرع الكيان الصهيوني في فلسطين، والحرص على استمراره، ووجود العالم العربي الإسلامي على مقربة من الغرب الأوربي وامتلاكه للمصادر الأولية للتكنولوجيا والصناعات الغربية وفي طليعتها البترول، دفع الغرب الأوربي والأمريكي مستعيناً بكل ما يملك من طاقات إعلامية وتبشيرية وثقافية وبخاصة السينما والتلفاز والأنترنت مؤخراً، إلى تقديم صورة قبيحة للعربي المسلم، وللثقافة الإسلامية، أمام شعوبهم رغبة منه في إن يعطي لنفسه مسوغاً أخلاقياً لكل ما يقوم به ساسته من ممارسات لاإنسانية ضد البلاد العربية والإسلامية، وقد وصل الأمر حداً أصبحت فيه هذه الممارسات دفاعاً عن الحضارة ضد الهمجية والتخلف وتصوير اسرائيل على أنها الدولة الحضارية الوحيدة في المنطقة يحيط بها عالم همجي متوحش بربري، وكل ما تفعله اسرائيل ومدعومة من الغرب عمل مشروع. ويأتي احتلال افغانستان والعراق وما يجري في السودان والصومال، وما يجسده هذا الاحتلال من أعمال بربرية ووحشية ضد السكان العرب والمسلمين ومجمل الأعمال التي تدمر كل ما بنوه في القرن الماضي ليصبح دليلاً على ما تقدم، وليبرهن على أن الاستشراق القديم مهد للجديد في ما تفعله الحكومات الغربية مما يمكن تسميته بكل بساطة بالحملة الصليبة التاسعة. فهو يخاطب العقلية الغربية ويتدخل في ثقافتها ليعيد تشكيلها وخاصة فيما يتعلق منها بالشرق المسلم، كما يعمل على تغيير أسسها المسيحية لتصبح مسيحية توراتية، مزيلاً بذلك العداء التاريخي الديني بين المسيحيين واليهود.
لا يصوغ الاستشراق الجديد العلاقة بين الشرق والغرب فقط، بل إنه، والأخطر من ذلك، يصوغ العلاقة بين الشرقي ونفسه، وبينه وبين حضارته. فالاستشراق الجديد، من خلال طبقة من المثقفين العرب، والذين يسميهم إدوارد سعيد “جواسيس الغرب غير المعلنين”، الذين يركعون عند أقدام سادتهم من المستشرقين ليسفهوا حكمة الشرق، هذا الاستشراق هو الذي شكل لنا صورتنا عن أنفسنا، فنحن نرى أنفسنا من خلال مرآة صنعها لنا الغرب. ولكن العرب والمسلمين اليوم بدأت لديهم صحوة في رفض قبول هذه الصورة التي زُرعت في أنفسنا عن أنفسنا، وهي صورة رسمها الاستشراق الجديد لنا، وبشر بها أتباعه من المثقفين العرب. وقد بُنيت الصحوة على النتائج التي وصلت إليها الأمة بعد أن سارت طويلاً على الدرب الذي رسمه لها الغرب. وأدركت أنه قد آن لنا اليوم أن ننظر في مرآة ذاكرتنا، في مرآة هويتنا، وأن نرفض أن نرى أنفسنا في مرآة مشوهة محدبة أو مقعرة صنعها الاستشراق لنا، وأن نعود إلى أنفسنا، بعد نوم طويل على أرصفة شوارع الغرب، نرضى بالعيش على ما يرضاه لنا.
يقول إدوارد سعيد نقلاً عن كتاب (الإسلام) لإيميت تيريل الصادر في الولايات المتحدة الأمريكية عام 1970: “بدأ الدين الإسلامي المسمى بالإسلام في القرن السابع، وقد بدأ به رجل أعمال ثري من شبه الجزيرة العربية يدعى (محمد) ادعى النبوة ووجد أتباعاً بين العرب الآخرين وأخبرهم بأنهم اختيروا ليحكموا العالم بعد موت محمد بقليل، وقد سجلت تعاليمه في كتاب يدعى (القرآن) وصار الكتاب المقدس للإسلام” .
ومن المستشرقين اليهود ( فون غرونباوم) وهو مستشرق ألماني عاش في الولايات المتحدة، وله سلطة كبيرة على الاستشراق، وله كتابات هامة جداً فيما يتعلق بالاستشراق، أظهر فيها أن الإسلام ضد- إنساني، وهو عاجز عن التطور ومعرفة الذات والموضوعية، وهو عقيدة عقيمة غير خلاقة، لا علمي، وسلطوي وهو يرى أن الإسلام لن يستطيع أن يحدث نفسه إلا من خلال إعادة تفسير الذات من وجهة نظر غربية، الأمر الذي يظنه (غرونباوم) عملية مستحيلة. ويردد مثل هذا الكلام عدد كبير من المثقفين العرب، خاصة في القرن العشرين، وفي النصف الثاني منه، وهو ليس لهم، بل لساداتهم من المستشرقين.
ويجسد العربي والمسلم في الخطاب الاستشراقي الجديد كل نوازع الشر اللا إنسانية، فالعرب والمسلمون عاجزون، يؤمنون بالقدر، ويقضون أوقاتهم في معاشرة النساء، فهم جنسيون، وليس لهم من تسلية إلا مخادع الحريم، ولا قيمة للوقت عندهم، والشرق مكان لإشباع الملذات، والنساء تعيش في مجتمع عدواني زاخر بالجرائم، وهنّ أكثر نساء الأرض مكراً، فهن متعجرفات، غادرات، فاجرات، يقضين أوقاتهن بالإعداد للجنس، وهنَّ سحاقيات. وقد ظهرت هذه الصورة بشكل أكثر وضوحاً بعد عام 1973 في الوقت الذي كان الغرب فيه يعاني من أزمة النفط، فأصبح العربي في الإعلام الأمريكي في صورة شيخ عربي يقف وراء محطة بنزين، وهو السبب في كل ما يعانيه الغرب المتحضر من ضيق في الحياة المادية.
يقول إدوارد سعيد: “إذا كان العربي يحتل مكاناً يكفي لجذب الانتباه، فإنه يحتله كقيمة سلبية. فهو يعاين كمخرب لوجود إسرائيل والغرب”، وهو لا يملك أي مؤهلات أخلاقية لامتلاك هذا الاحتياطي النفطي الهائل، والسؤال الذي يطرح في الأغلب والأعم هو “لماذا يمتلك يشر كهؤلاء العرب حق إبقاء العالم المتطور، الحر، الديمقراطي الأخلاقي، مهدداً؟ ومن أسئلة كهذه ينبع الاقتراح بأن تقوم قوات الجيش البحرية الأمريكية بغزو حقول النفط العربية” .
ويرتبط العربي المسلم في السينما ووسائل الإعلام المختلفة بالفسق والغدر والخديعة المتعطشة للدماء، “ويظهر منحلاً، ذا طاقة جنسية مفرطة، قديراً، دون شك، على المكيدة البارعة المراوغة، لكنه جوهرياً ساديٌّ خؤون، منحط، تاجر رقيق، راكب جمال، صراف، وغد متعدد الظلال … وخلف هذه الصور جميعاً يتربص خطر الجهاد المهدد. والعاقبة: الخوف من أن المسلمين أو العرب سوف يسيطرون يحتلون العالم” على العالم، ويملؤونه بالظلم والظلام.
الاستشراق الجديد والثقافة العربية:
صياغة الشرق على هوى الغرب:
عندما أقول لشخص ما : “أنا أعرف حقيقتك”، فهذا لا يعني أنني لا أعرف فقط معارفك وقيمك الذاتية ونقاط ضعفك وقوتك، وإنما يعني أيضاً إنشاء علاقة بين ال(أنا) وال(أنت)، هي علاقة سيطرة وهيمنة. وليس مصادفة أن يكون هناك استشراق، ولا يكون خطاب استغرابي، فالمعرفة التي يملكها الغرب عن الشرق تمكنه من السيطرة عليه وهي في الوقت نفسه نتيجة هذه السيطرة، ومرافقة لها.
لقد استطاع الغرب أن يملك معرفة عن الشرق المسلم، واكتشف نقاط ضعفه ومصدر قوته، ورأى أن هذه القوة تكمن في عقيدته، وفي تراثه المتجسد في ثقافته غير العالمة، فعمل على تعزيز نقاط الضعف، وفي الوقت نفسه جهد في فصمه عن مصدر قوته. وذلك من خلال الحرب الصليبية الثقافية التي قادها منذ بداية القرن العشرين واشتد أوارها مع الاستشراق الجديد الذي ترافق مع الاستعمار الجديد الذي يركز جهده الأساسي على الغزو الثقافي لتدجين الأمم التي يستعمرها فلا تفكر يوما بالخروج على إرادته. وقد استطاع الغرب من خلال توصيات الاستشراق الجديد أن يمتلك ناصية السياسيين العرب والمسلمين، والمثقفين الذين يدورون في فلكهم. وكانت نتيجة هذا الجهد ظهور انفصام في الشخصية العربية-الإسلامية، من حيث الثقافة والولاء ونظم الحياة الاجتماعية. والسؤال المهم في هذا المجال هو كيف استطاع الاستعمار الجديد أن يفعل هذا؟ لقد قام الاستشراق الجديد بجهد كبير في هذا المجال على مستويين: فهو من جهة يصور الشرق العربي والإسلامي صورة قبيحة ومشوهة ويربط التخلف بهذه الصورة، واستطاع أن يقنع غالبية العرب والمسلمين بهذا، مستعيناً بالسلطة السياسية ومثقفي البلاط، الذين صنعهم على عينه. وهو من جهة أخرى كان يعمل بمساعدة هؤلاء أيضاً على تقديم البديل المجاني من خلال الدعوة إلى تقليده والنهج على منهجه في التقدم والتطور. وقد تجلى المستويان في عديد من السبل كان من أهمها في اعتقادنا هو قضية المفهومات والمصطلحات، ومناهج التعليم في البلاد العربية والإسلامية.
عندما خرج نابليون بونابرت من مصر عائداً إلى فرنسا، وعين الجنرال (كليبر) بدلاً عنه؛ فإن هذا الأخير أرسل له رسالة يقول فيها: أنا لا أعرف ما أفعل، ونحن نُهزم، فنصحه نابليون بناء على توجيه المستشرق الفرنسي فانتور برسالة موجودة في أرشيف وزارة الخارجية الفرنسية، يقول له فيها: اختر خمسمائة شاب من المماليك، وأرسلهم إلينا إلى باريس، ” فإذا ما وصل هؤلاء إلى فرنسا يحتجزون مدة سنة أو سنتين، يشاهدون في أثنائها عظمة الأمة الفرنسية، ويعتادون على تقاليدنا ولغتنا، ولمّا يعودون إلى مصر يكون لنا منهم حزب يُضم إليه غيرهم” ، وقد عمل كليبر بهذه النصيحة، وحين خرج الفرنسيون من مصر، عادوا إليها من خلال هؤلاء الشباب، كما عادوا إلى كل البلاد التي كانوا يحتلونها عسكرياً. ويقرر كرومر واضع السياسة التي جرى عليها الاحتلال الإنجليزي في مصر، في كتابه مصر الحديثة، أن الإسلام بطبيعة تعاليمه عدو للحضارة الأوربية وأن “المسلم غير المتخلق بأخلاق الأوربيين لايقوى على حكم مصر في هذه الأيام. لذلك سيكون المستقبل الوزاري للمصريين المتربين تربية أوربية”
إن الغرب لا يستطيع أن يحاربنا وجهاً لوجه، وإنما يفعل هذا من خلال أشخاص منا هم المثقفون والسياسيون الذين رباهم على هواه، وعندما خرج الاستعمار من الأرض العربية والإسلامية لم يستلم الحكم فيها أبناء المقاومة وأبطال التحرير، بل سلمه لأشخاص درسوا في مدارس تبشيرية، ونالوا أعلى الدرجات والشهادات في جامعاته، وبذلك نجد أن الاستعمار قد خرج من الباب، ولكنه عاد بشكل أخطر من الشباك.
مسألة المفهومات والمصطلحات.
المفهوم هو قضية ذهنية عقلية يعبر عنها بالمصطلح، كالخير والجمال والعدل والحق والحب والصداقة والإخلاص، وغيرها من المصطلحات التي تدل على مفهومات توجه الإنسان في حياته اليومية، وتحكمه في مختلف أنوا سلوكه وعلاقاته مع الآخر والمجتمع والله. والأصل أن الذي يضع هذه المفهومات ومصطلحاتها هو المجتمع من خلال التراكم المعرفي الممتد في التراث الذي ينتمي إليه.، فكل المفهومات التي كانت منتشرة في المجتمعات العربية والإسلامية _حتى قدوم الغزو الثقافي الأوروبي_ كانت مفهومات تنتمي إلى الثقافة الإسلامية وعقيدتها. ولكن حين أراد الاستشراق السيطرة على هذه المجتمعات، فإنه صنع لها مفهوماتها من خلال المثقفين وبرعاية السياسيين. وتحديد المفهوم هو السلاح الأهم في سبيل امتلاك الآخر والسيطرة عليه وإخضاعه، وجعله تابعاًُ لمن يحدد المفهوم. فتحديد المفهوم يحول الآخر إلى شيء أو موضوع مسلوب الإرادة إزاء المفهوم، فهو تابع له، وخاضع، يكيف وجوده بحسبه. والذي يعي ذاته ويعرف معنى وجوده يرفض قبول المفهومات الغريبة التي تُفرض على ثقافته من خارجها، وتتعارض مع نظرية المعرفة التي تحكمها. ولا يمكن تصور مجتمع من غير مفهومات، فالحياة الإنسانية قائمة على مجموعة كبيرة منها. وتحديد هذه المفهومات للآخرين هو اعتداء عليهم، وفعل عنف ضدهم، وسلب لوجودهم.
لقد حرص الاستشراق الجديد من بداية القرن الماضي على وقد قامت النهضة العربية على أساس تقليد الغرب في كل المجالات: في المجال السياسي كانت أنظمة الحكم مستمدة من النظام الغربي في النظام البرلماني أو العسكري أو الدكتاتوري. وفي المجال الاقتصادي أخذنا أنظمة البنوك والفائدة، ومفهوم السوق، أو ما يعرف بنظام التسويق بكل ما فيه من استبعاد للإنسانية، وكذلك مفهوم الماركسية والرأسمالية والاشتراكية. وفي المجال الاجتماعي نرى ذلك الاستيراد للمفاهيم في علاقة الرجل بالمرأة، وفي مفهوم الحب والزواج والأسرة، والأعياد غير الدينية ومنها عيد الحب والاحتفال برأس السنة. وكل هذا من المفهومات الجديدة التي ما كانت تعرفها أمتنا من قبل. وفي المجال الثقافي حدث ولا حرج عن المفهومات الكثيرة التي صاغها الاستشراق، فالمثقف هو الذي يعرف عن ديكارت وأينشتاين وسارتر أكثر مما يعرف عن الغزالي أو ابن عربي، لدينا أيضاً مفهوم الحرية والجمال والعقل، ومفهوم المعرفة أو الأدب، والمدارس الأدبية والنقدية الغربية: الرواية والمسرحية والقصة القصيرة، ومفاهيم الشعر الحديث، والأدوات النقدية التي جاءت من المدارس الرومانتيكية والانطباعية والرمزية والتكعيبية، مفهوم الفن للفن، حتى الدراسات ومناهج التعليم في مدارسنا جاءت من الغرب، ففقدنا مرجعيتنا الصافية، وما عدنا قادرين على التمييز بين ما هو جوهري وأصيل وبين ما هو هجين ومستورد ومفروض علينا من قبل الاستشراق وتلامذته من المثقفين العرب.
ولكن هذا الكلام لا يعني على الإطلاق أننا نرفض الاستفادة من الثقافات الأخرى، ولكن أن تكون الثقافة الأم هي الأصل، وأن يعرض عليها كل ما عند الآخرين. ولماذا الغرب وحده؟ ألا يوجد في الحضارة الصينية أو اليابانية أو الهندية مفهومات ثقافية جمالية؟ ألا يوجد أدب؟ ألا توجد ثقافة؟ لماذا نقتصر على الثقافة الأوروبية؟ والحقيقة أننا لا نلحق بها، وإنما هي التي ألحقتنا، وذلك من خلال نص لكرومر، وفحواه أن على السياسيين في مصر عام 1932 أن يتنبهوا على كل من يسير في اتجاه إسلامي، وأن يستبعد من كل المناطق الحساسة، لأنه يعادي التيار القومي، ويجب أن يحتل هذه الأماكن كل من هو على الثقافة الغربية، لأنه يخدم المصلحة الأوروبية.
وقد نقل محمد حسين تساؤلاً للورانس العربي، يقول: هل تتغلب القومية ذات يوم على النزعة الدينية؟ وهل يغلب الاعتقاد الوطني الاعتقادَ الديني؟ وبمعنى أوضح: هل تَحُلُّ المشاكل العليا السياسية محل الوحي والإلهام، وتستبدل سورية مثلها الأعلى الديني بمثلها الأعلى الوطني؟” ويضيف: إن الإنكليز انصرفوا إلى فيصل ابن الشريف حسين لأنه كان يفهم المسألة العربية فهماً إسلامياً، وكانت رسائل الشريف حسين إلى فيصل_ كما يقول محمد محمد حسين_ تفيض بالشتائم والسباب والاتهام بالخيانة، لأنه كان متأثراً بالمفهوم الأوروبي للوطنية والقومية، وكان يشارك فيصل في هذا الفهم القومي معظم ضباط الجيش العربي السوريين والعراقيين الذين كان يحتضنهم لورانس وينفذ رغباته عن طريقهم، والذين كراهيتهم للملك حسين أظهر من أن تخفى، وكان يشارك الملك حسين فهم القضية فهماً إسلامياً عدد من زعماء العرب ومفكريهم في العراق والشام ومصر، ولكن هؤلاء ما كان يرضى عنهم الإنكليز الذين دعموا التيار الأول لأنه يتفق وما يريدون في المنطقة.
ويتنافس الفرنسيون والإنكليز في احتضان فكرة القومية وفي السيطرة عليها وتوجيهها وحماية أنصارها وعقد المؤتمرات لها في باريس. لقد كانت الثورة العربية ثورة أجيال الحجاز والعراق والشام، وبعد تنفيذ اتفاقية (سايكس بيكو) أصبح مفهوم القومية والوطنية أضيق مما كان عليه أيام الثورة العربية، فقد أصبح لكل بلدٍ من تلك البلاد وطنية مستقلة، وأصبح كل مواطن مطالب بأن يمنح انتماءه وإخلاصه للقطعة الصغيرة التي حددها له الاحتلال الأوروبي وسماها دولة وطنية مستقلة، فالشام وحدها قسمت على أربع دويلات، ولعل الغرب اليوم يعجب من أن الشعور العربي إلى اليوم في عموميته هو نفسه شعور ما قبل الثورة وتقسيم الوطن العربي باسم القومية الوطنية، وإلا فكيف يتألم العراقي لما يجري في فلسطين؟ أو يتألم المغربي لما يجري في العراق؟ إن كل الجهود التي قام بها الاستعمار الغربي من خلال الاستشراق وأذنابه من المثقفين العرب لم تفلح إلا في النصف الثاني من القرن العشرين، ولكنها في العقدين الأخيرين بدأت تؤدي إلى ردود فعل عنيفة جداً، وهي ما نراه اليوم في الساحة.
“أعانت الدول المحتلة على تزعيم قداسة هذه الأرض الجديدة في نفوس الناس من خلال أسلوب علمي منظم، وذلك بمساعدتها على إحياء التاريخ القديم لكل قطر من هذه الأقطار، فنشط البحث في آثار هذه الحضارات السابقة على الإسلام في كل من لبنان وسورية والعراق وفلسطين وشرقي الأردن ومصر، فاستيقظت العصبيات القومية الضيقة، وراح كل بلد يفاخر بمجده العريق من حضارات البابليين والكلدانيين والآشوريين والفينيقيين والفراعنة”.
ويكتب (جيم) في كتابه: (إلى أين يتجه الإسلام): “وقد كان من أهم مظاهر فرنجة العالم الإسلامي تنمية الاهتمام ببعث الحضارات القديمة التي ازدهرت في البلاد المختلفة التي يحتلها المسلمون الآن ، وقد تكون أهميتها محصورة الآن في تنمية الشعور بالعداء لأوروبة من خلال ظهور النزعة القومية ولكن من أن تلعب في المستقبل دوراً مهماً في تقوية الشعوبية وتدعيم مقوماتها”. إن ما يقوله (جيم) يتحقق الآن في العراق، والسؤال الأهم: والآن، بعد قرن من الزمان على دخول مفهوم القومية والوطنية، فأين نحن من هذين المفهومين؟ وأين هي منا؟
الثقافة والتعليم
يقول (إدوارد سعيد): “العالم العربي اليوم كوكبٌ تابعٌ فكرياً وسياسياً وثقافياً للولايات المتحدة الأمريكية، الجامعات في العالم العربي تدار بشكل عام تبعاً لنسق ما موروث عن أو مفروض مباشرة من قوة مستعمرة سابقة، وتجعل الظروف الجديدة وواقعيات المنهج الدراسي قبيحة حتى الرعب تقريباً: صفوف يحتشد فيها مئات الطلبة، جهاز تدريسي مدرب تدريباً سيئاً، ومرهق بالعمل، ويتلقى رواتب سيئة، …… سياسية، والغياب شبه المطلق للأبحاث المتقدمة ولوسائل البحث العلمي. وفيما كانت فرنسا وبريطانيا قد سيطرتا على الآفاق الفكرية في الشرق، فإن الولايات المتحدة هي التي تحتل هذه المكانة اليوم”.
ويقول (كرومر) في كتابه( عباس الثاني): “إن المسلم غير المتخلق بأخلاق أوروبة لا يصلح لحكم مصر” كما يؤكد على أن المستقبل الوزاري سيكون للمصريين المتربين تربية أوروبية، وليس غريباً أن نجد المستعمر يرعى هؤلاء المثقفين ويشجعهم، ويعدُّهم لاستلام المناصب والسلطة منذ خروجه إلى اليوم، وهذا ما حصل ولا يزال يحصل إلى اليوم. ويشير (اللورد لويس) إلى ما بذله (كرومر) من جهد في إصلاح الأزهر إصلاحاً ينبع من داخله، ويصف هذه الجهود بأنها تدل على رجاحة تفكير (كرومر)، وبعد نظره، ثم يقول: “إن أهمية الأزهر بوصفه مركزاً من مراكز الدعاية المادية لبريطانيا متعددة الإمكانيات، وقد أدرك الوطنيون ذلك، فحاولوا استغلاله لتأييد مآربهم، وترتب على ذلك نمو روح المعارضة الشديدة لسيطرة الإنكليز على التعليم. إن التعليم الوطني عندما قدم الإنكليز إلى مصر كان في قبضة الجامعة الأزهرية الشديدة التمسك بالدين، والتي كانت أساليبها الجافة القديمة تقف في طريق أي إصلاح تعليمي، وكان الطلبة الذين يتخرجون في هذه الجامعة يحملون معهم قدراً عظيماً من غرور التعصب الدينين ولا يصيبون إلا قدراً ضئيلاً من مرونة التفكير والتقدير، فلو أمكن تطوير الأزهر عن طريق حركة تنبعث من داخله، لكانت هذه خطوة جليلة الخطر، فليس من اليسير أن نتصور أي تقدم طالما ظل الأزهر متمسكاً بأساليبه الجافة، ولكن إذا بدا أن مثل هذا الأمر غير متيسر تحقيقه فحينئذ يصبح الأمل محصوراً في تصليح التعليم اللا ديني الذي ينافس الأزهر حتى يتاح له الانتشار والنجاح، وهذا ما حدث”.
ويقول (بير كيلر) عن المعاهدة الفرنسية في لبنان: “التربية الوطنية التي كانت بكاملها تقريباً في أيدينا وفي بداية حرب 1914_1918م كان أكثر من اثنين وخمسين ألف تلميذ يتلقون دروسهم في مدارسنا، وكان بين هؤلاء فتيان وفتيات ينتمون إلى عائلات إسلامية عريقة، مما جعل الجمعية المركزية السورية التي تألفت في باريس أن تعلن عام 1917 أن جميع ميول السوريين وعواطفهم تتجه نحو فرنسا، بعد أن تعلموا لغتها، وخبروها على مر الأجيال، وتأكدوا من إخلاصها وتجردها. إن كلية عين طورا في لبنان وهي وسط ممتد للدعاية الفرنسية. إن مؤسساتنا تعمل بلا ملل لتغذية النفوذ الفرنسي، مثل معهد الدراسات العبرية في القدس، ومعهد الدراسات الإسلامية في القاهرة، والمدرسة الإكليريكية الدوميناكية في الموصل”، كما يقول: “إن انتشار لغتنا وإشعاع ثقافتنا وعملنا الإنساني وعظمة الأفكار والعبقرية الفرنسية هي الأعمال المكملة لها، ولن نهملها أبداً”.
نشرت إحدى
المجلات بياناً لأحد المجاهدين الطرابلسيين يبدأ بترجمة بعض فقرات من نشيد كان ينشده الجنود الإيطاليون القادمون من روما إلى طرابلس، يقولون فيه: “يا أماه، أتمي صلاتكن ولا تبكِ، بل اضحكي وتأملي، ألا تعلمين أن إيطاليا تدعوني، وأنا ذاهب إلى طرابلس فرحاً مسروراً لأبذل مدي لسحق الأمة الملعونة، ولأحارب الديانة الإسلامية التي تجيز البنات الأبكار للسلاطين، سأقاتل بكل قوتي لأمحو القرآن”.
ويعقب المجاهد الطرابلسي على هذا النشيد، فيقول: “أيها المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها، اقرؤوا هذه الأنشودة، اقرؤوها ألف مرة، بل اقرؤوها حتى ترسخ في أذهانكم، وتنتقش أدمغتكم انتقاشاً لا تمحوه عوادي الأيام. أيها المسلمون أينما كنتم، أناشدكم الله أن تقرؤوا هذه الأغنية، أغنية الفاشيز، وتمعنوا بمعانيها، وبعدئذٍ تستعرضون في مخيلتكم جيوش الطليان الجرارة تسير في طرق طرابلس الإسلامية مدججة بالسلاح، تترنم بهذه الأنشودة بصوتٍ واحد تخاله الرعد القاصف، تصوروا حالة إخوانكم المسلمين وهم يسمعون بآذانهم عبارات الهزء والسخرية من دينهم وقرآنهم وهويتهم وعروبتهم. مدوا أياديكم إلى أولئك المجاهدين الذين يناضلون القوى في البر والبحر في سبيل صيانة دين هو دينكم، وكتابٍ هو كتابكم”.
أفلا يصح هذا النشيد لو قرأته على أساس أن الجنود الأمريكيين اليوم ينشدونه في العراق؟ ألا ترون أن الواقع لم يتغير من حيث عداء الغرب للشرق؟
وفي النهاية أسوق كلاماً لإقبال، يقول: “إن الشباب المثقف فارغ الأكواب، ظمآن الشفتين، مصقول الوجه، مظلم الروح، مستنير العقل، كليل البصر، ضعيف اليقين، كثير اليأس، لم يشاهد في هذا العالم شيئاً، هؤلاء الشبان أشباه الرجال ولا رجال، ينكرون نفوسهم، ويؤمنون بغيرهم، يبني الأجانب من ترابهم الإسلامي كنائس وأديارا، شباب ناعم رخو رقيق كالحرير، يموت الأمل في مهده في صدورهم، ولا يستطيعون أن يفكروا في الحرية، إن المدرسة قد نزعت منهم العاطفة الدينية، وأصبحوا خبر كان. أجهل الناس لنفوسهم، وأبعدهم من شخصياتهم. شغفتهم الحضارة الغربية، فيمدون أكفهم إلى الأجانب ليتصدقوا عليهم بخبز الشعير، ويبيعون أرواحهم في سبيل ذلك. إن المعلم لا يعرفهم بشخصياتهم، مؤمنون لكن لا يعرفون سر الموت، ولا يؤمنون بأنه لا غالب إلا الله. يشترون من الإفرنج اللات والمناة. مسلمون، لكن عقولهم تطوف حول الأصنام. لا أستغرب أيها الشباب المتعلم انك حييٌّ جبان، فإن قلبك بارد لا لوعة فيه ولا حرارة، ونظرك غير عفيف، إن الشباب المثقف الذي استنارت عينه بنور الإفرنج قد يكون لبقاً في الحديث، متشدقاً في الكلام، ولكن عينه لا تعرف الدموع، وقلبه لا يعرف الخشوع.
أشكو إليك يا رب من ولاة التعليم الحديث، إنهم يربون فراخَ الصقور تربية بغاث الطيور، وأشبالَ الأسود تربية الخروف!”
المصدر: http://asseddik.com/cms/%D8%A7%D9%84%D8%A7%D8%B3%D8%AA%D8%B4%D8%B1%D8%A7...