أثر الخوارج في الفكر الإسلامي المعاصر

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليمًا كثيرًا.
أمــــا بعــد:
فإن الفكر الإنساني موصول الحلقات، لا تنفصل حلقة من حلقاته عن تاليتها، والجماعات الإنسانية لا تعيش بأفكار معزولة عما سبقها من الأفكار، وإنما يؤثر السابق في اللاحق، ويتأثر اللاحق بالسابق.
وأي جماعة إنسانية تجمعها رابطة معينة فإن أفكارها عبر امتداد الزمن إنما هي امتداد طبيعي لأفكارها في أول نشأتها، يختلف هذا الامتداد قوة وضعفا لكن يظل هناك خيطا يربط بين الأفكار أولاً وآخراً، فما الظن إذا كانت هذه الجماعة ترتبط برباط ديني عقائدي، الذي هو أقوى الروابط التي تجمع بين الناس؛ لأن عقائد أي أمة من الأمم إنما هي روحها، يسلمها جيل إلى جيل مع تغير الظروف والأزمان.
والأمة الإسلامية في هذا شأن أي جماعة إنسانية، ترتبط بعقيدة توحدها عبر امتداد الزمان والمكان، تؤلف بين قلوب أبنائها رغم تباعد ما بين أوائل هذه الأمة وأواخرها، فعقائد الأمة واحدة في أول نشأتها وأواخر أمرها.
وأي خلاف عقائدي، أو سياسي، أو فقهي، حدث بين الفرق الإسلامية في القرون الأولى لا بد أن تنسحب آثاره على المدارس الفكرية بعد ذلك بصورة أو بأخرى.
فالمدرسة العقلية مثلا – ممثلة فقهيا في الأحناف وعقائديا في المعتزلة – ما زالت آثارها تمتد في العصر الحاضر في صورة من صور الفكر الإسلامي المعاصر، وكذلك مدرسة الأثر – ممثلة في أهل الحجاز –لا يزال لها صور تطبيقية – تقل أو تكثر– في العصر الحديث.
والخوارج من الفرق الإسلامية التي كان لها دور فكري وسياسي في القرون الأولى لا يمكن إغفاله أو إهماله، وكان لآرائها في ذلك العهد صدي بعيد.
لذلك فإنني قد رأيت أن تكون رسالة التخصص "الماجستير" بعنوان: [أثر آراء الخوارج في الفكر الإسلامي المعاصر]، وقد دفعني إلى اختيار هذا الموضوع جملة من الأسباب منها ما يلي:-
أولا: أن الأمة الإسلامية مرت في عصرها الحاضر – وخصوصا في العقدين الأخيرين بجملة من الأحداث والفتن أثرت على مسارها، وأعاقت حركتها، وعرضتها لفتن عديدة، كان من الممكن أن تتجنـب الأمة ذلك كله بأن تتبع مسار تاريخها الفكري، لأن فتن العصر الحاضر هي صورة متكررة لفتن العهد الأول، والقرآن الكريم حين يعرض آراء مخالفة ويرد عليها فإنما يتوجه الحديث إلى المسلمين جميعا عبر امتداد الزمان، وكما يقول ولي الله الدهلوي: "لا ينبغي أن يظن عند تلاوة القرآن الكريم أن جداله ومحاجته كانا مع أناس قد انتهوا وانقضوا، كلا، بل إنه بحكم ما جاء في الحديث: «لتتبعن سنن من كان قبلكم»( )، ليست هناك من فتنة في عهد الرسالة صلى الله على صاحبها وسلم إلا ولها نماذج وأمثلة في عصرنا هذا"( ).
ثانياً: أن أحدا لم يتطرق - فيما أحسب – إلى تأثر الفكر الإسلامي المعاصر بآراء الخوارج جملة، وذلك بأن تدرس آراؤهم، ويتم إسقاطها على الواقع المعاصر، ولم يتعد ما كُتب في هذا الموضوع أن يكون جزئيات، كتأثر فكر "الحاكمية" المعاصر بشعار الخوارج "لا حكم إلا لله"، أو تأثر فتة التكفير في العصر الحديث بنشأته عند الخوارج – كما سأعرض في حديثي بإذن الله تعالى.
فكانت الحاجة ماسة إلى استعراض آراء الخوارج جميعها، وبيان مدى تأثر الفكر المعاصر بها، وهل ثمة تشابه بين الحاضر والماضي، أم أن الأمر لا يعدو أن يكون توافقا في الرؤى أدى إلى توافق في الأحكام والنتائج؟
ثالثا: في يقيني أن أي فكر يحمله فرد أو جماعة يحمل بين ثناياه الصواب والخطأ، فليس الصواب المحض حكرا على فئة معينة، وليس الخطأ المحض صفة لطائفة غيرها، لكن قد يغلب صواب هذا على خطئه، ويتوارى صواب ذاك أمام خطئه، وأن أمثل أسلوب لمواجهة أي فكر هو عرضه بما له من حسنات، وما عليه من سيئات، مع النظرة المحايدة، والنقد البناء، والمنهج الواضح، حتى يتبين للأمة سبيل الصواب فتتبعه، وتعرف سبيل الخطأ فتتنكبه.
لهذه الأسباب اخترت هذا الموضوع، مع قصر باعي وقلة بضاعتي، ومع علمي بما يكتنفه من صعوبات، وما يعترضه من عقبات، وكان أشهر ما واجهني من صعوبات في بحثي هذا:
أولاً: أنه لكي ننسب رأيا للخوارج فلا بد من توخي الدقة في هــذه النسبة، وذلك بأن يرجع لأقوالهم في مصادرها الأصلية، لكن الخوارج لم يؤثر عنهم مؤلفات خاصة بهم كما أثر عن باقي الفرق الإسـلامية، وكما يقول ابن تيمية: "وأقوال الخوارج إنما عرفناها من نقل الناس عنهم، لم نقف لهم على كتاب مصنف كما وقفنا على كتب غيرهم"( ).
فاستعنت في بيان أقوال الخوارج وآرائهم بكتب الفرق التي صنفها علماؤنا القدامى، أمثال الأشعري، والبغدادي، والشهرستاني، وغيرهم، وبما كتب عنهم من دراسات حديثة، لعل أشهرها:
الخوارج والشيعة: ليوليوس فلهوزن، آراء الخوارج: لعمار طالبي، الخوارج والأصول التاريخية لمسألة تكفير المسلم: للدكتور مصطفى حلمي، الخوارج تاريخهم وآراؤهم الاعتقادية: للدكتور غالب بن علي عواجي، وغيرها من الدراسات المعاصرة.
ثانيًا: تكمن الصعوبة الحقيقية للبحث في المراجع التي تحمل الفكر الخارجي في العصر الحديث، بحكم أن كثيراً من التنظيمات الحركية التي تبنت هذا الفكر قد اختفت من الساحة نتيجة الصراع بينها وبين السلطة، أو لأنها غير قادرة على إبداع أفكار جديدة تجعلها قادرة على الاستمرار، ثم إن تداول مثل هذه الأفكار على هيئة كتاب أو مخطوط لا يزال من الأمور المجرمة قانوناً.
وقد كان هذا أكبر المصاعب التي واجهتني، وقد استعنت في تذليل هذه الصعوبة بما يلي:
1) الحصول على بعض هذه المصادر عن طريق الصلات الشخصية.
2) استخراج هذه الأفكار من بعض الكتب التي أرخت لهذا الفكر في هذه الحقبـة والتي عرضت أهم وثائقه وأفكاره، ومنها – على سبيل المثال:-
تنظيمات الغضب الإسلامي في السبعينات. للدكتور رفعت سيد أحمد، ظاهرة الغلو في الدين في حياة المسلمين المعاصرة. للدكتور: عبد الرحمن بن معلا اللويحق، التكفير والهجرة وجها لوجه. لرجب مدكور، الحكم وقضية تكفير المسلم. للمستشار سالم البهنساوي.
3) عن طريق شبكة المعلومات الدولية "الإنترنت"، فمن خلال مواقع هذه التنظيمات استطعت الحصول على كثير من كتبهم وأدبياتهم التي تعرض فكرهم وآراءهم.
وقد اقتضت طبيعة البحث أن يتم تقسيمه إلى: مقدمة وتمهيد وبابين وخاتمة.
أما المقدمة فقد تكلمت فيها عن أهمية الموضوع، وأسباب اختياره، وأهم الصعوبات التي واجهتني في البحث، ومنهجي فيه .
وأما التمهيد فيشتمل على مسألتين:-
المسألة الأولى: أسباب ظهور الفرق الإسلامية.
المسألة الثانية: أهم مواطن الخلاف بين الفرق الإسلامية.
أما الباب الأول فكان عنوانه
الخوارج النشأة والتاريخ
ويشتمل على ستة فصول:
الفصل الأول: عوامل النشأة والتسمية.
الفصل الثاني: مبادئ الخوارج.
الفصل الثالث: فرق الخوارج وآراؤها.
الفصل الرابع: حركات الخوارج وثوراتهم.
الفصل الخامس: أشهر زعماء الخوارج.
الفصل السادس: الحكم على الخوارج.
والباب الثاني بعنوان
تأثير آراء الخوارج في الفكر الإسلامي المعاصر.
ويشتمل على خمسة فصول:
الفصل الأول: الإمامة وشروطها. ويشتمل على ثلاثة مباحث:-
المبحث الأول: الإمامة عند أهل السنة.
المبحث الثاني: الإمامة عند الخوارج.
المبحث الثالث: أثر رأي الخوارج في الفكر الإسلامي المعاصر.
الفصل الثاني: التكفير. ويشتمل على ثلاثة مباحث:-
المبحث الأول: التكفير عند أهل السنة.
المبحث الثاني: التكفير عند الخوارج.
المبحث الثالث: أثر رأي الخوارج في الفكر الإسلامي المعاصر.
الفصل الثالث: الحاكمية. ويشتمل على ثلاثة مباحث:-
المبحث الأول: مفهوم الحاكمية عند أهل السنة.
المبحث الثاني: مفهوم الحاكمية عند الخوارج.
المبحث الثالث: أثر رأي الخوارج في الفكر الإسلامي المعاصر.
الفصل الرابع: الخروج على الحاكم. ويشتمل على ثلاثة مباحث:-
المبحث الأول: الخروج على الحاكم عند أهل السنة.
المبحث الثاني: الخروج على الحاكم عند الخوارج.
المبحث الثالث: أثر رأي الخوارج في الفكر الإسلامي المعاصر.
الفصل الخامس: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ويشتمل على ثلاثة
مباحث:-
المبحث الأول: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عند أهل السنة.
المبحث الثاني: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عند الخوارج.
المبحث الثالث: أثر رأي الخوارج في الفكر الإسلامي المعاصر.
واشتملت الخاتمة على أهم النتائج المستخلصة من البحث، والتوصيات.
وقد قام عملي في البحث على المنهج التالي:-
1) جمعت مادة البحث من مصادرها الأصلية، واجتهدت في توثيق نسبة كل قول لقائله، وكل مذهب للقائلين به.
2) اجتهدت في تجلية مذهب أهل السنة في المسائل موضع الخلاف بأوضح بيان، وأجلى برهان، لأن آراءهم هي الحاسمة عند الخلاف.
3) تقتضي طبيعة البحث عدم الإطالة في الباب الأول الخاص بالناحية التاريخية، لأنها ليست من مقاصد البحث الرئيسة، وإنما سأعرضها بالصورة التي تبين مذهب الخوارج وآراءهم، وتعرض أفكارهم مع عدم الاستطراد.
4) حرصت عند عرض نظرية أو مفهوم عند أحد القائلين به ألا أتدخل في كلامه وعرضه إلا بالقدر الذي يسمح بعرض فكره ورؤيته الخاصة به.
5) اجتهدت في أن أبدي رأيي في كل مسألة من مسائل البحث، ويكون تعليقي عليها إما في نهاية المسألة، أو بين ثناياها للربط بين أجزائها.
6) المسائل التي تتعدد فيها وجهات النظر، حرصت على أن أعرض كافة الآراء في المسألة، ثم أختار منا ما أراه راجحا مؤيدا ذلك بالدليل.
7) مقصد البحث بيان التأثير والتأثر الحادث بين اللاحقين والسابقين، أيا كانت هذه الأفكار وموقعها من الصحة والخطأ، ولم أتعرض للرد على الآراء المخالفة إلا بقدر يسير، يخدم مقصد البحث وغايته.
8) عزوت الآيات.
9) خرجت الأحاديث من مظانها، فما كان في الصحيحين أو أحدهما اكتفيت بتخريجه منهما، وما كان في غيرهما اجتهدت في تتبعه في مظانه الممكنة مع الحكم على إسناده بما يناسبه من صحة أو حسن أو ضعف.
10) ترجمت للأعلام المذكورين في صلب البحث ترجمة موجزة تكفي للتعريف بهم.
11) عرفت أكثر الفرق الوارد ذكرها في البحث، وخاصة من لهم صلة مباشرة بالبحث.
12) ترجمت للبلدان والأماكن غير المشهورة.
13) قمت بعمل فهارس علمية، وهي:
أ- فهرس الآيات القرآنية. ب- فهرس الأحاديث النبوية.
جـ - فهرس الأعلام المترجم لهم. د- فهرس الفرق.
هـ- فهرس البلدان والأماكن. و- فهرس المصادر والمراجع.
ز- فهرس الموضوعات.( ).
وبعد: فهذا البحث ليس بحثا تاريخيا، وإن كان التاريخ لحمته وسداه، وليس بحثا نقديا، وإن كان النقد مبثوثا في ثناياه، ثم إنه ليس بحثا فلسفيا، وإن كانت له فلسفته ورؤاه، وإنما هو قراءة للأفكار، ورصد للأحداث، وتتبع لمسار فكر يربط بين الماضي والحاضر، وتأصيل لنظرية قد تسهم في فهم الماضي وقراءة الواقع واستشراف المستقبل.
وبعد أيضا: فهذا موضوع متشعب الجوانب، متعدد الآراء، وجهدي جهد متواضع، فلا أدعي أنني قد وفيت الموضوع حقه، واستكملته من جميع جوانبه، ولكن حسبي أنني لم أدخر في سبيل ذلك وسعا، فإن كنت قد أدركت بعض ما أملت وأصبته، فهو محض فضل من الله وحده، وإن كانت الأخرى فمني، وأستغفر الله من سوء عملي، فالكمال لله وحده، والعصمة لرسله عليهم السلام، وإلا فحسبي أنني قد حاولت الخير جهدي، وأسأل الله تعالى لي ولكل مجتهد التوفيق والأجر، وأستغفر الله تعالى من السهو والخطأ والتقصير.
وإنه لقمن بكل واقف على هذا البحث أن يسدد ما به من خلل، وأن يستر ما به من زلل، فلقد علمت الأوائل والأواخر أنـه ليس من النقص أمان، خصوصا إذا صدر الكاتب عن وفاض ليس فيه من العلم إلا القليل، وكتب بقلم كليل.
اللهم لا تعذب يدا كتبت تريد نفي تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين عن دينك، ولا لسانا أراد الذب والدفاع عن شريعتك، ولا تحرمني اللهم بفضلك خير ما عندك بشر ما عندي.
â $oY­/u‘ Ÿw $tRõ‹Ï{#xsè? b) $uZŠÅ¡®S ÷rr& $tRù'sÜ÷zr& 4 $oY­/u‘ Ÿwur ö@ÏJóss?!$uZøŠn=tã #\ô¹Î) $yJx. ¼çmtFù=yJym ’n?t㠚úïÏ%©!$# `ÏB $uZÎ=ö6s% 4 $uZ­/u‘ Ÿwur $oYù=ÏdJysè? $tB Ÿw sps%$sÛ $oYs9 ¾ÏmÎ/ ( ß#ôã$#ur $¨Ytã öÏÿøî$#ur $oYs9!$uZôJymö‘$#ur 4 |MRr& $uZ9s9öqtB $tRöÝÁR$$sù ’n?tã ÏQöqs)ø9$# šúï͍Ïÿ»x6ø9$# á [البقرة: 286].
عبد التواب محمد عثمان

ويشتمل على مسألتين:
المسألة الأولى: أسباب ظهور الفرق الإسلامية.
المسألة الثانية: أهم مواطن الخلاف بين الفرق الإسلامية.

المسألة الأولى
أسباب ظهور الفرق الإسلامية

إن البحث في تاريخ فرقة من الفرق الإسلامية يرجع بنا إلى البحث في نشأة هذه الفرق على العموم، وأسباب الخلاف بينها، وكيف حدث هذا الخلاف.
ويمكننا أن نعود بأسباب هذا الاختلاف إلى سببين رئيسين:
أحدهما: لا كسب للعباد فيه، وهو الراجع إلى ما قُدِّر أزلاً، وهو المراد في قوله تعالى: ⠟wur tbqä9#t“tƒ šúüÏÿÎ=tGøƒèC žwÎ) `tB zMÏm§‘ y7•/u‘ 4 y7Ï9ºs%Î!ur óOßgs)n=yz á( )، وفي قول جماعة من المفسرين أن قوله:{ولذلك خلقهم} معناه: وللاختلاف خلقهم( ).
أما السبب الثاني: فهو مقدور للعباد، وهو مجال حديثنا، ونستطيع أن نحصر أهم أسباب الخلاف والفرقة فيما يلي:-
1- النصوص الشرعية الموهمة للاختلاف:-
إننا لا نجاوز الحقيقة إذا قلنا إن العلوم الإسلامية جميعها تجد لها منطلقا من القرآن الكريم في منهجها وموضوعها، بل حتى في نشأتها( ).
والقرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة كان لهما أثر كبير في نشأة علم الكلام، وفي تحزب رجاله، وانقسام الفرق في بداية ظهورها " فالقرآن الكريم بجانب دعوته إلى التوحيد والنبوة وما إليهما، عرض لأهم الفرق والأديان التي كانت منتشرة في عهد محمد ، فرد عليهم، ونقض قولهم"( ).
إضافة إلى أن القرآن الكريم قد دفع العقول إلى التفكير والتأمل، وحث المسلمين على النظر والتدبر، فقال تعالى: â y7Ï9ºx‹x. ã@Å_ÁxÿçR ÏM»tƒFy$# 5Qöqs)Ï9 tbr㍤6xÿtGtƒ á( ) â ¨bÎ) ’Îû y7Ï9ºsŒ ;M»tƒUy 5Qöqs)Ïj9 tbr㍩3xÿtGtƒ á( )، â ¨bÎ) ’Îû šÏ9ºsŒ ;M»tƒUy 5Qöqs)Ïj9 šcqè=É)÷ètƒ á( ).
فبالنظر في القرآن الكريم وجد الناس ما يهيئ لهم أسباب الخلاف من حيث:
1) بيانه للعقائد الإسلامية في شأن الألوهية والنبوة والبعث واستدلاله عليها.
2) مناقشته للعقائد والأفكار المضادة كالدهرية والوثنية اليهودية.
3) إطلاقه للعقول من قيودها، ودعوته إياها للنظر والتفكير.
4) احتوائه على المحكم والمتشابه من الآيات( ).
فالقرآن الكريم عرض العقيدة مع أدلتها، وأسهب في تقريرها، ورد على مخالفيها، وقد سار المتكلمون على نهج القرآن "فقد نهج القرآن الكريم في نقده نهجا عقليا في اتجاهين رئيسين: نقد عقدي، أي ميتافيزيقي، ونقد أخلاقي، ولذلك اتسمت أبحاث المسلمين وكتبهم المختلفة في العقائد بهذه السمة النقدية"( ).
فالفرق الإسلامية المتعددة تلتمس في القرآن الكريم ما يؤيد آراءها، ويدفع آراء المخالفين، فمن يرى الجبر مثلا يحتج بقول الله تعالى: ⠟wur £`s9qà)s? >äô“($t±Ï9 ’ÎoTÎ) ×@Ïã$sù šÏ9ºsŒ #´‰xî HwÎ) br& uä!$t±o„ ª!$# á( )، ومن يرى الاختيار الإنساني يحتج بقول الله تعالى: â È@è%ur ‘,ysø9$# `ÏB óOä3În/§‘ ( `yJsù uä!$x© `ÏB÷sã‹ù=sù ÆtBur uä!$x© öàÿõ3u‹ù=sù á( ).
وهكذا فإن صاحب كل رأي يلتمس لرأيه من كتاب الله تعالى دليلا وشاهداُ، ففي مشكلة خلق القرآن (في خمسة مواضع من القرآن الكريم آيات تدل ضمنا على أن القرآن مخلوق، وفي موضعين ما يدل على أنه مجعول، والقائلون بقدم القرآن يذكرون في ذلك آيات أخرى)( ).
هذه الآيات، وفهم المتكلمين لها، واستدلالهم بها، ومحاولة إقامة البناء العقدي لآرائهم مستندا على النصوص الشرعية، كـل ذلك يجعلنا نقول:
"أن القرآن والحديث، وبالأخرى لغة القرآن ولغة الحديث سبب ثان يضاف إلى الخلافات السياسية في إيجاد التحزب في الرأي، والتفرق في فهم العقيدة"( ).
لكن ثمة أمر ينبغي أن يكون في الاعتبار، وهو أن آيات القرآن الكريم في حد ذاتها ليست مدعاة للاختلاف بين المتكلمين عند من يأخذها كنسق متكامل، ويفهم الآية في ضوء فهم باقي النصوص الشرعية، وإنما يأتي الخلاف، ويكون القرآن الكريم مثار الجدل، وسبب التفرق عند النظر إلى الآية الكريمة بمعزل عن غيرها من آيات القرآن الكريم " فليست آيات الجبر وآيات الاختيار لتثير فتنة أو بلبلة إلا لدى المبطلين الذين كانوا بغير ذلك يضلون ويعترضون، وإنما هي شحذت العقول، وأثارت التفكير"( ).
2-تطور العقيدة الإسلامية من مرحلة التسليم القلبي إلى مرحلة النظر العقلي.
وعى الصحابة رضوان الله عليهم أن هناك أمورا لا يجوز الخوض فيها، ولا يحيط بها علم الإنسان المحدود، وقد كان النبي  يؤكد لهم على هذا الأمر، حتى يتم الحفاظ على العقيدة بيضاء نقية.
فعن أبي هريرة( )  قال: خرج علينا رسول الله  ونحن نتنازع في القدر، فغضب حتى احمر وجهه، ثم قال: «أبهذا أمرتم؟ أم بهذا أرسلت إليكم؟ إنما هلك من كان قبلكم حين تنازعوا في هذا الأمر، عزمت عليكم ألا تنازعوا»( ).
والتزم الصحابة بهذا، فلم يتحدثوا في متشابه القرآن، ولا في المسائل الكلامية التي أطلت برأسها بعد ذلك، واشتد إنكارهم على من يفعل ذلك،
"فعن سليمان بن يسار( ) أن رجلا يقال له صبيغ( ) قدم المدينة فجعل يسأل عن متشابه القرآن. فأرسل إليه عمر ( )، وقد أعد له عراجين النخل، فقال: من أنت؟ قال: أنا عبد الله بن صبيغ، فأخذ عرجونا من تلك العراجين فضربه حتى دمى رأسه، ثم تركه حتى برئ، ثم عاد له، ثم تركه حتى برئ، فدعا به ليعود، فقال: إن كنت تريد قتلي فاقتلني قتلا جميلا، فأذن له إلى أرضه، وكتب إلى أبي موسى الأشعري( ): أن لا يجالسه أحد من المسلمين"( ).
ومن هذه الحادثة أخذ الإمام الشافعي( )  قوله: "حكمي في أهل الكلام أن يضربوا بالجريد، ويحملوا على الإبل، ويطاف بهم في العشائر والقبائل، وينادى عليهم: هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة وأقبل على الكلام"( ).
فالسلف الصالح رضوان الله عليهم التزموا أن يكونوا ممن قال تعالى عنهم: â tbqã‚Å™º§9$#ur ’Îû ÉOù=Ïèø9$# tbqä9qà)tƒ $¨ZtB#uä ¾ÏmÎ/ @@ä. ô`ÏiB ωZÏã $uZÎn/u‘ 3 $tBur ㍩.¤‹tƒ HwÎ) (#qä9'ré& É=»t6ø9F{$# á( ). لذلك وردت آثار كثيرة عن السلف تنهى عن الخوض في المسائل الاعتقادية التي لم يتكلم فيها السابقون، والتي سكت عنها النبي  وأصحابه الكرام( ).
وهذه هي العقيدة الصافية التي مثلها الصحابة رضوان الله عليهم وحملها عنهم السلف الصالح، والذي يمثلها أصدق تمثيل قول الإمام مالك( )  لما سئل عن الاستواء: " الاستـواء معلوم، والكيفية مجهولة، والسؤال بدعة، والإيمان بالاستواء واجب"( ).لكن تأتي فترة قد تضعف هذه الفطرة في النفوس، ويدخل في أمور العقيدة مؤثرات خارجية، ومشكلات داخلية "فالدين – أي دين - لا بد أن ينتقل المؤمنون به إلى مرحلة ثانية، فيها بحث ونظر، وصياغة فلسفية للعقائد الدينية"( ).
وحينئذ يبدأ البحث في المسائل المسكوت عنها، مثل الصفات، وأفعال العباد، ومشكلة خلق القرآن، ورؤية الله تعالى، وتتعدد الأقوال والآراء في كل مسألة، ويتعصب صاحب كل رأي لرأيه، وينتصر له أشياعه، فتتكون المذاهب والفرق المتعددة "فموقف الجماعة الإسلامية من عقيدة اعتقدتها يتمثل دائما في مظهرين متواليين: في مظهر الإيمان القوي، ثم مظهر التفهم والتعقل، وكلما خفت حرارة الإيمان في القلوب كلما برزت ناحية التفهم للعقيدة في الأذهان، وبالأحرى كلما برزت ناحية الاختلاف في فهمها"( ).
3- ظهور مشكلات جديدة على الساحة الفكرية الإسلامية:-
كان المسلمون الأوائل إذا التبس عليهم أمر من الأمور رجعوا سريعا للنبي ، فكانت كلمته مرجعا يرجع إليه المختلفون، فلا يبقى مجال للنزاع والاختلاف، وكذلك كان الحال مع كبار الصحابة رضوان الله عليهم، حتى إذا ما بَعُد عهد الناس بالنبوة، بدأت تظهر مشكلات جديدة على الساحة، لا يستطيع الناس أن يصلوا إلى قول فصل فيها، أو بالأحرى تتفاوت أفهامهم حولها، فتتعدد الآراء وتتشعب.
وعلى سبيل المثال، لما حدث الخلاف بين علي( )ومعاوية( ) رضوان الله عليهما حول الخلافة، تعددت الآراء بين قائل: إن الخلافة تثبت بالنص، وقائل: إنها تثبت بالتعيين، وبالرأي الأول قال الشيعة( )، وبالرأي الثاني قال أهل السنة.
وفي شروط الإمامة أيضا، برز رأيان على الساحة، بين من يحصرها في قريش، ومن يجعلها عامة بين المسلمين جميعا، والتفاضل بالتقوى، فقال بالرأي الأول أهل السنة، وإلى الثاني جنح المعتزلة.
ولما ظهرت مشكلة مرتكب الكبيرة والحكم على فاعلها، تشعبت فيها الآراء أيضا، فقائل: إنه لا يضر مع الإيمان معصية، كما لا ينفع مع الكفر طاعة، وأن فاعل الكبيرة مؤمن، وأنها لا تتنافى مع الإيمان الذي في قلبه، وهذا قول المرجئة( )، على حين ذهب المعتزلة( ) إلى أنه في منزلة بين الإيمان والكفر، وقال الخوارج: إنه فاسق كافر.
وعندما ظهر من ينادي بالجبر، وأن الإنسان مجبور على فعله، ظهر في المقابل من يقول بالاختيار، ومسئولية الإنسان على أفعاله.
فالمشكلات الجديدة التي استحدثت في العالم الإسلامي، استدعت إبداء الرأي فيها، مما أحدث جوا فكريا تنمو معه المذاهب والفرق، الصحيح والسقيم، حيث يقبل المجتمع الصحيح، وتطوي الأيام السقيم.
4- العصبية القبلية:-
حرم الإسلام التعصب للجنس أو اللون أو القبيلة، وأبطل كل دعاوى العصبية، حيث خاطب الناس جميعا خطابا واحدا â $pkš‰r'¯»tƒ â¨$¨Z9$# $¯RÎ) /ä3»oYø)n=yz `ÏiB 9x.sŒ 4Ós\Ré&ur öNä3»oYù=yèy_ur $\/qãèä© Ÿ@ͬ!$t7s%ur (#þqèùu‘$yètGÏ9 4 ¨bÎ) ö/ä3tBtò2r& y‰YÏã «!$# öNä39s)ø?r& á( ).
وعظمت عناية النبي  بوحدة الأمة وارتباطها، وعد الدعوة إلى العصبية ربما تخرج من الإيمان فقال : «ليس منا من دعا على عصبية، ليس منا من قاتل على عصبية، ليس منا من مات على العصبية» ( ).
وظل المجتمع الإسلامي على هذه الصورة المثالية فترة من الزمن، لكن سرعان ما شبت نار العصبية في المجتمع مرة أخرى، عادت أول ما عادت مع حركة الردة، لما تنبأ مسيلمة الكذاب( ) اتبعه الناس على العصبية، حتى قال قائلهم: "أشهد أنك كذاب، وأن محمدا صادق، ولكن كذاب ربيعة أحب إلينا من صادق مضر"( ).
واستيقظت العصبية مرة أخرى، واشتد التناحر بين القبائل، كل قبيلة تناصر مذهبا وتتعصب له، وكانت هذه العصبية سببا في نشوء فرق إسلامية، ثم كانت سببا في اختلافها فيما بينها، وكان كل مذهب أو فرقة يعتمد على عشيرة، فالخوارج مثلا (معظمهم من قبيلة تميم)( )، وروي "أن عليًّا كان لا يعدل بربيعة أحدا من الناس، فشق ذلك على مضر، وأظهروا لهم القبيح"( ).
فكانت كل طائفة يعز عليها أن تكون الصدارة لغيرها، فظهر التناحر، واشتدت العداوة، وأدى ذلك إلى نشوء فرق جديدة، ونمـو فرق كانت موجودة.
5- التقاء الإسلام بحضارات جديدة:-
كان التقاء الإسلام بهذه الحضارات يتم عبر عاملين:-
العامل الأول: دخول طوائف كثيرة في الإسلام من الديانات الأخرى، ولا ريب أن بعض هؤلاء لم يعصمه الإسلام من عقائد قديمة تجول في نفسه، يبثها بين المسلمين.
يقول ابن حزم( ): "لما امتحن الفرس بزوال الدولة عنهم على أيدي العرب، وكانت العرب أقل الأمم عند الفرس خطرا، تعاظمهم الأمر، وتضاعفت لديهم المصيبة، وراموا كيد الإسلام بالمحاربة في أوقات كثيرة، ففي كل ذلك كان يظهر الله الحق... فرأوا أن كيده على الحيلة أنجع، فأظهر قوم منهم الإسلام، واستمالوا أهل التشيع"( ).
هذا التغيير الذي حدث في المجتمع، وفي أفراده، استتبعه تغيير في العقائد والأفكار وطرائق الحياة، فتباينت الأفهام، لأنهم "أجناس مختلفة دخلت الإسلام وهي تحمل معها ألوانا من حضارتها الأصلية، وطرائق تفكيرها، وأساليب جدلها الديني، والتحم كل ذلك في بداية الأمر بقصور لغوي حملهم على جهل ما للعربية من مستويات في التعبير، وبدا تعاملهم مع النص القرآني مرتبطا بما ترسموه من آراء"( ).
وبالنظر إلى بعض العقائد الإسلامية التي سادت في هذه الفترة، نلحظ فيها شبهة تأثر بعقائد ديانات سابقة، مثل اليهودية والمسيحية، ويمكن إرجاع بعض آراء الفرق الإسلامية إلى جذور وأصول سابقة عليها، ويمكننا أن نعدد بعض القضايا الفكرية والعقدية التي نوقشت من قبل الفرق الإسلامية وظهر فيها واضحا التأثر بمؤثرات أجنبية زادت من هوة الخلاف بين تلك الفرق، وكانت عاملا له دور لا ينكر في نشأة الفرق وانقسامها (فأفكار الرجعة( )، والبداء( )، والمهدي( ) وغيرها من آراء شيعية غالية يهودية الأصل)( ).
"وما أثاره نفر من المسلمين من نقاش حول الجبر والاختيار، كان بتأثير اللاهوت المسيحي"( ).
فالأثر الخارجي في نشأة علم الكلام عموما، وفي انقسام الفرق الإسلامية خصوصا، لا يمكن إغفاله، أو التغاضي عنه.
العامل الثاني: حركة الترجمة والتعريب:-
عاش المسلمون فترة من الزمن بمنأى عن تأثيرات العلوم العقلية عند الأمم الأخرى، التي كانت تسمى علوم الأوائل "فعلوم الأوائل كانت مهجورة في عصر الأموية"( ).
لكن عدة عوامل ساعدت على إخراج هذه العلوم، لعل أهمها أن الإسلام سوى بين معتنقيه عربا وعجما، وأتاح لهم قدرا من الحرية مكنهم من عرض آرائهم ومعتقداتهم، بل ومناقشة المسلمين في معتقداتهم، فاطلع المسلمون على تراث تلك الأمم، بل يذكر بعض مؤرخي الفكر الكلامي الأول أن بعض المتكلمين الأول من أصحاب واصل بن عطاء( ) طالعوا كتب الفلسفة( ).
فعندما هاجم أعداء الإسلام عقيدة المسلمين التي تجمعهم، وذلك لإبعاد الناس عنها تسلحوا في هجومهم بالقضايا المنطقية، والحقائق الفلسفية، اضطر آنذاك فريق من المسلمين لقراءة الفلسفة للدفاع عن بيضة العقيدة بنفس أسلحة الأعداء، ولكن سرعان ما شعروا بلذة عقلية من دراسة هذه الفلسفة، فبعد أن كانت تطلب من أجل الدفاع عن الدين أصبحت غاية في نفسها تطلب لذاتها( ).
ولقد شجع الأمراء على مطالعة هذه الكتب، بل كان منهم من يأمر بترجمتها، ويعين على ذلك، فخالد بن يزيد بن معاوية( ) أمر بعض العلماء اليونانيين الذين كانوا بالإسكندرية بترجمة الأورجانون( ) من اليونانية إلى العربية( ).
وتتابعت الترجمة بعد ذلك على يد الخلفاء حتى وصلت أزهى عصورها على يد المأمون( )، واتسعت لتشمل التراث الإنساني المتراكم عبر العصور السابقة منذ بداية الفكر الإنساني.
"فلم تكن الفلسفة التي تلقاها العرب هي فلسفة أفلاطون وأرسطو فحسب، بل كانت أيضا تلك الفلسفة التي صيغت خلال عدة قرون على أيدي من واصلوا فلسفتهما وشرحوها"( ).
ولا شك أن هذه الترجمات أشاعت قدرا من الجدل الفكري حول هذا التراث، ما بين رافض له بالجملة، أو متحفظ عليه، أو مشجع لهذا النقل متحمس له، إلى جانب أنها أثرت في طرق التفكير عند بعض الفرق الإسلامية.
هذه أبرز العوامل التي ساعدت على نشأة الفرق الإسلامية المتعددة، وغذت روح الاستقلال الفكري لديها.

المسألة الثانية
أهم مواطن الخلاف بين الفرق الإسلامية

قبل أن نستعرض أهم الخلافات بين الفرق الإسلامية، ينبغي أن ننبه على ما يلي:-
أولاً: أن الخلاف بين المسلمين لم يتناول أصول الدين وعقائده الثابتة، فلم يختلفوا – مثلا – في الوحدانية، ولا في ثبوت رسالة النبي ، ولا في كون القرآن كتاب الله تعالى المعجز، كما لم يختلفوا فيما علم من الدين بالضرورة، كوجوب الصلاة والصيام، وحرمة الزنا والسرقة، فهذه أمور لا يتطرق إليها الخلاف.
ثانياً: أن كل مؤرخي الفرق في الإسلام يُصدِّرون مقالاتهم بحديث النبي : «افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة، وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا فرقة واحدة»( ).
ويعتمدون في تقسيمهم للفرق على هذا العدد الوارد في الحديث( )، ويجتهدون في أن يصلوا بالفرق إلى هذا العدد الوارد، رغم ما على هذا المنهج من ملاحظات( ).
ثالثاً: أن الخلاف قد حدث منذ وفاة النبي  بين الصحابة، وقد عدد مؤلفو كتب الفرق أوائل الخلافات التي حدثت في الأمة كما يلي:-
1) لما قال النبي  في مرضه: «ائتوني بدواة وقرطاس أكتب لكم كتابا
لا تضلوا بعدي»( ).
2) لما قال  في مرضه: «جهزوا جيش أسامة»( ).
3) في موته  لما زعم بعضهم أنه لم يمت، وإنما رفع كما رفع عيسى بن مريم.
4) في موضع دفنه عليه السلام، في مكة أم في المدينة.
5) في الإمامة بين رأي المهاجرين ورأي الأنصار.
6) في أمر فدك( ) والتوارث عن النبي .
7) في قتال مانعي الزكاة( ).
واعتبر الشهرستاني( ) اعتراض المنافقين على النبي  في حياته نوعا من الجدل حول العقائد( ).
لكننا لا يمكن أن نعد هذه الخلافات خلافات عقدية، ولا يمكن أن يبنى عليها آراء لفرقة أو مذهب، لأنها خلافات طبيعية سرعان ما تزول عندما يظهر وجه الحق فيها، ولا يبقى لها امتداد كي تسمى فرقة أو مذهبا، إنما المذهب أو الفرقة رأي يعتنقه أفراد، ويتبلور هذا الرأي، وتطلب له الأدلة، ويصبح معتقدا لهذه الفرقة "ذلك أن الفرقة، وهي اجتماع أناس متفرقين حول موقف ومبدأ وفلسفة ونمط متحد أو متقارب من أنماط التفكير، هي أمر يختلف عن الموقف الذي يتخذه فرد أو أفراد من قضية معينة، ثم يتغير هذا الموقف وتتبدل إزاءه مواقع الأفراد، وهذا هو ما حدث للذين طلبوا الإمارة لسعد بن عبادة( )، وإذا كان بعض الأنصار قد ظل على اعتقاده بأن حالهم وحال المسلمين كان سيصبح أفضل لو وليها سعد بن عباده، ومع ذلك فإن أحدا لا يستطيع، ولا يحق له أن يسمي هذا البعض فرقة أو مذهبا"( ).
رابعاً: أن الاختلاف بين الفرق الإسلامية، الأصل فيه أنه لا ينتج عنه تضاد بينها، بالمعنى الذي يصل إلى التفسيق أو التكفير فيما بينها، لأنه "لا توجد فرق دينية بالمعنى الذي تتشعب به الأمة الإسلامية كما يتشعب نهر النيل في مجراه الأعلى إلى فروع وترع، ويمكن القول بأن هناك مدارس فكرية، أو مذاهب فقهية، أو اختلافات تطبيقية محدودة"( ).
أما أبرز مواطن الخلاف بين الفرق الإسلامية فيمكن إجمالها فيما يلي:-
1- الإمامة:-
وهو أول خلاف حدث في الأمة، وكان تأثيره عظيما، حتى قال عنه الشهرستاني: "وأعظم خلاف بين الأمة خلاف الإمامة، إذ ما سل سيف في الإسلام على قاعدة دينية مثل ما سل على الإمامة في كل زمان"( ).
والخلاف حول الإمامة كان من ناحيتين؛ الأولى: هل الخلافة بالاتفاق والاختيار أم بالنص والتعيين؟ والثانية: شروط الإمامة.
فبينما يرى أهل السنة ومعهم الخوارج والمرجئة والمعتزلة أن الإمامة بالاتفاق والاختيار؛ لأن النبي  لم ينص على من يخلفه من بعده، يرى الشيعة على اختلاف فرقهم أن الإمامة تكون بالنص والتعيين، أي أن النبي  نص على شخص يخلفه من بعده.
ومن يرون أن الخلافة تكون بالاتفاق والاختيار، يختلفون فيما بينهم في بعض الشروط، حيث يرى أهل السنة أن الاختيار منحصر في قريش، ولا يتقيد الخوارج بهذا الشرط، ويجعلونها عامة بين المسلمين جميعا.
ويبقى ثمة خلاف ليس رئيسا، حيث يذهب بعض فرق الخوارج إلى أنه لا حاجة إلى الإمام، وعلى الناس أن يتناصفوا فيما بينهم( ).
2- الحكم على مرتكب الكبيرة:-
برزت هذه المشكلة على الساحة مع تولي الأمويين للخلافة، حيث رأى بعض الناس أنهم ليسوا جديرين بالخلافة، فضلا عن أنهم ارتكبوا في سبيلها بعض الكبائر، كالقتل واغتصاب الأموال، فأعلن الخوارج كفر مرتكب الكبيرة حتى يتسنى لهم بذلك محاربتهم، وذهب فريق من المسلمين – حل بهم اليأس من التخلص من الدولة الأموية وهم المرجئة – إلى أن مرتكب الكبيرة مؤمن، وأن ما يرتكبه من كبائر لا يتنافى مع ما في قلبه من إيمان، ثم ظهر المعتزلة وأعلنوا أن فاعل الكبيرة لا هو مؤمن، ولا هو كافر، بل في منزلة بين المنزلتين، وكان رأي أهل السنة أنه مسلم عاص.
3- مفهوم الإيمان:-
نتج عن الخلاف في حكم مرتكب الكبيرة خلاف آخر حول العمل وموقعه من الإيمان، فذهب بعض أصحاب أبي حنيفة( )  إلى أنه إقرار باللسان وتصديق بالجنان لا يزيد ولا ينقص، وذهب الكرامية( )إلى أن الإيمان هو الإقرار باللسان فقط، وذهب الجهم بن صفوان( ) إلى أن الإيمان هو المعرفة بالقلب.
4- الجبر والاختيار: -
ظهرت هذه المشكلة في المجتمع الإسلامي بعد اختلاطه بالشعوب المختلفة، فأخذوا يبحثون هل للإنسان إرادة مستقلة يدبر بها أمره؟ أم أن الإرادة الإلهية مطلقة فيكون الإنسان مجبورا.
فقال المعتزلة بالقدر، وأن العبد هو الفاعل للخير والشر، والإيمان والكفر، والطاعة والمعصية، وهو المجازى على فعله( ).
وفي الاتجاه المضاد وقفت الجبرية بقولها: إن الإنسان لا يقدر على شئ، ولا يوصف بالاستطاعة، وإنما هو مجبور في أفعاله، لا قدرة له ولا إرادة ولا اختيار( ).
وتوسط أهل السنة بين الطرفين؛ حيث قرروا أن فعل العبد فعل له حقيقة ولكنه مخلوق لله تعالى، وأفعال العباد خلق لله وكسب من العباد، فأثبتوا للعباد فعلا وكسباً، وأضافوا الخلق لله تعالى( ).
5- الذات والصفات:-
لم تبحث هذه المشكلة زمن النبي ، فقد آمن الصحابة رضوان الله عليهم بما جاء في القرآن والسنة متعلقا بالذات والصفات إيمانا لا تشوبه شائبة، فأثبتوا لله تعالى ما أثبته لنفسه بلا تشبيه، ونزهوه تعالى من غير تعطيل، فلما ظهرت هذه المشكلة تباينت بصددها الآراء، فظهر تيار التشبيه والتجسيم على يد الرافضة والكرامية، وهناك فريق من المتكلمين أصحاب الحديث أثبتوا الصفات ولكنهم بالغوا في الإثبات حتى وقعوا في التشبيه والتجسيم، وهو الحشوية، ويأتي على الطرف الآخر فريق ينفي الصفات، بدأ مع جهم بن صفوان، وأخذها عنه المعتزلة.
بينما ذهب أهل السنة إلى إثبات صفات الله تعالى، ولم يتعرضوا للتأويل، ولا للتشبيه، ولا للتجسيم، وهو ما يمثله قول مالك بن أنس لما سئل عن الاستواء فقال: "الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة"( ).
6- الكلام:-
مشكلة كلام الله تعالى من أهم المشكلات التي ظهرت على الساحة الإسلامية حتى سمي العلم بعلم الكلام( )، وقد ظهر في المسألة أقوال كثيرة، منها قول المعتزلة: إن الكلام ليس صفة من صفات الذات، فكلام الله – بما في ذلك القرآن – ليس أزليا، وأن كلام الله تعالى حادث وأكثرهم يسمون كلامه مخلوقا( )، وقول أهل الحديث: إن الله تعالى لم يزل متكلما إذا شاء، ومتى شاء، وكيف شاء، وأن نوع الكلام قديم، وإن لم يكن الصوت المعين قديما( ).
7- مشكلة السمع والعقل:-
ظهرت هذه المشكلة على الساحة الإسلامية لمعرفة مدى موقع العقل مع الشرع. هل يتقدم العقل؟ أم يتقدم الشرع؟ وإلى أي حد يعول على العقل في مجال العقائد والتشريع؟
"وهناك اتجاهات ثلاثة في هذه المشكلة عند متكلمي الإسلام، فالاتجاه الأول يقرر أصحابه أن العقل يتقدم الشرع، وهو اتجاه المعتزلة، والاتجاه الثاني يرى أصحابه تقرير سلطة الشرع وحدها، ولا يجعلون للعقل مدخلا فيما جاء به الشرع، ويمثل هذا الاتجاه بعض الحشوية والظاهرية ومن نحا نحوهم، والاتجاه الثالث يتوسط أصحابه بين هذين الطرفين، فيجعل الشرع متقدما على العقل، ولكنه مع ذلك يجعل للعقل مدخلا في فهم الشرع، وهو اتجاه أهل السنة والجماعة، ومنهم الأشعرية( )"( ).
هذه أبرز المشكلات التي واجهت الفرق الإسلامية، والتي كانت سببا للخلاف بينها، وزادت من هوة التباعد بين أصحابها، فلكل فرقة رأي في هذه المشكلات، تعلنه وتنصره، وتلتمس له الحجج والبراهين، وتفرضه على الناس بالجدال والمناظرة تارة، وبالقوة والإرهاب والسلطان تارة أخرى، ولا سبيل للالتقاء بعد هذا الخلاف.

 
الخوارج (النشأة والتاريخ)
ويشتمل على ستة فصول:-
الفصل الأول: عوامل النشأة والتسمية.
الفصل الثاني: مبادئ الخوارج.
الفصل الثالث: فرق الخوارج وآراؤها.
الفصل الرابع: حركات الخوارج وثوراتهم.
الفصل الخامس: أشهر زعماء الخوارج.
الفصل السادس: الحكم على الخوارج.

 
عوامل النشأة والتسمية
ويشتمل علي مبحثين:-
المبحث الأول: عوامل نشأة الخوارج.
المبحث الثاني: أسماء أطلقت عليهم وموقفهم منها.

 
عوامل النشأة والتسمية

 المبحث الأول: عوامل نشأة الخوارج.
 معنى الخوارج: -
الخوارج: جمع تكسير لخارجة؛ لأن فواعل جمع فاعلة، أو فاعل غير عاقل( ).
ولغة: من الخروج، مصدر من:خرج، نقيض الدخول، وخارج كل شىء ظاهره، يقال: خرجت خوارج فلان: إذا ظهرت نجابته، والخارجي: كل ما فاق جنسه ونظائره، والخارجي: من يسود بنفسه من غير أن يكون له قديم، ومنه:
أبا مروان لست بخارجي
وليس قديم مجدك بانتحال( )

ويقال للسحاب أول ما ينشأ: ما أحسن خروجه، وخرج فلان في العلم والصناعة: إذا نبغ( ).
واصطلاحاً: اختلفت الأنظار في تحديد إطار للخوارج تبعا للاختلاف في صفاتهم وأفكارهم وخصائصهم، حيث يضع البعض تعريفا عاما، الشهرستاني، حيث يعرفهم قائلا: "كل من خرج على الإمام الحق الذي اتفقت الجماعة عليه يسمى خارجيا، سواء كان الخروج في أيام الصحابة على الأئمة الراشدين، أو كان بعدهم على التابعين بإحسان، والأئمة في كل زمان"( ).
وهذا تعريف عام، يشمل الفرقة التاريخية المعروفة، ويشمل غيرها من الفرق الأخرى التي تشترك معهم في الخروج على الإمام.
وبعضهم جعل للفرقة تعريفا خاصا بها، وقاصرا عليها، فهم "الذين خرجوا على الإمام علي في حروراء( )، ومن نشأ منهم بعد ذلك"( ).
وهذا تعريف خاص بالفرقة التي خرجت على الإمام علي ، ويضم إليها ما تفرع ونشأ عنها من انقسامات تاريخية مشهورة.
لذلك فإن ابن حجر العسقلاني( )عمم تعريف الخوارج، لكنه جعل للمصطلح أقساما، فقال: "وهم قسمان، الأول: من تقدموا من أهل النهروان، الثاني: من خرج في طلب الملك لا للدعاء إلى معتقده، وهم على قسمين أيضا: قسم خرجوا غضبا للدين من أجل جور الولاة وترك عملهم بالسنة النبوية، فهؤلاء أهل الحق، ومنهم الحسين بن علي( )، وأهل المدينة في الحرة، والقراء الذين خرجوا على الحجاج( )، وقسم خرجوا لطلب الملك فقط، سواء كانت فيهم شبهة أم لا، وهم البغاة "( ).
وعلى هذا فيمكننا أن نقول إن النظرة للتعريف لها وجهتان، الأولى: وجهة لغوية، وتشمل كل من خرج على الإمام قديما وحديثا، ونظرة تاريخية: تشمل الفرقة المعروفة التي خرجت على الإمام علي  وحدثت لها تلك الانقسامات المشهورة.
لكن ليس هناك انفكاك بين النظرة التاريخية والنظرة اللغوية، لأن كل من يطلق عليه لفظ الخوارج باعتبار المعنى اللغوي، إنما ينظر إليه باعتباره يحمل أفكار الفرقة المعروفة، حتى أن من كتب عن أصحاب هذا الفكر في العصر الحاضر إنما سماهم الخوارج، وعليه فإن معاني هذا المصطلح متصلة ولا انفكاك بينها.
 أصل الخوارج: -
يجتهد الباحثون في بيان نسبة الخوارج إلى أصلها الأول، وهناك آراء كثيرة حول هذه التسمية، لا يمكن الجزم بواحد منها، لأن أي رأي منها قد وجه إليه اعتراضات، لكن اجتماع هذه الآراء قد يلقي ضوءاً حول أصل الخوارج، ونسبتهم الأولى.
 الرأي الأول: رجوع النسبة إلى عهد النبي .
يحاول الكثير من مؤرخي الفرق الرجوع بأصول مذاهبهم إلى أيام النبي ( ). من هذه المحاولات إثبات أن بعض الأحاديث الواردة، والتي أخبر فيها النبي  عن طوائف ستظهر أن هذه الأحاديث تتحدث عن أصول الخوارج، وأنهم كان لهم وجود، أو بالأحرى كان لأصلهم وجود على عهد النبي .
وتشير الأحاديث التي ورد فيها ذكر الخوارج إلى أوصافهم والأمر بقتالهم وذمهم، وقد صحت هذه الأحاديث بأوجه عديدة بلغت عشرة أوجه( )، وهو ما يلحظ فيه جانب الإعجاز في إخبار النبي ( ).
ومن هذه الأحاديث: عن أبي سعيد( ) قال: بعث علي  بذهيبة، فقسمها بين الأربعة: الأقرع بن حابس الحنبلي ثم المجاشعي( )، وعيينة بن حصن الفزاري( ). وزيد الطائي ثم أحد بني نبهان( )، وعلقمة بن علاثة العامري أحد بني كلاب( )، فغضبت قريش والأنصار قالوا: يعطي صناديد أهل نجد ويدعنا، قال: إنما أتألفهم. فأقبل رجل غائر العينين، مشرف الوجنتين، ناتئ الجبين، كث اللحية محلوق، فقال: اتق الله يا محمد، فقال: «من يطع الله إذا عصيت؟ أيأمنني الله على أهل الأرض ولا تأمنوني؟!» فسأل رجل قتله –أحسبه خالد بن الوليد( ) – فمنعه، فلما ولى قال: «إن من ضئضئ هذا، أو في عقب هذا قوم يقرءون القرآن، لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الدين مروق السهم من الرمية، يقتلون أهل الإسلام، ويدعون أهل الأوثان، لئن أنا أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد» ( ).
وللحديث روايات كثيرة صحيحة، وإن كان يوليوس فلهوزن( ) يرى أن "هذه القصة عن السلف القديم للخوارج قصة أسطورية، ولكن من الصحيح أن محمدًا كان يتصرف في الغنائم والأموال العامة حسبما يتراءى له، كما كان هذا شأن عثمان( )، وخلفه علي، وأن ما أخذ على ذاك يمكن أن يؤخذ بالدرجة عينها على النبي، وما يعنيني هنا قبل كل شئ هو نقد الخوارج الصائب هاهنا، فالتشدد في مبادئ الإسلام يفضي بهم إلى أن يتجاوزوا بنقدهم على النبي نفسه"( ).
وهذا الحديث يؤخذ منه بعض صفات الخوارج، وهي كثرة العبادة، مع عدم الفهم «يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم»، وأنهم يتعاملون مع خصومهم من أهل الإسلام تعامل تكفير واستحلال للدم «يقتلون أهل الإسلام، ويدعون أهل الأوثان»، وقد يفسر هذا قصة أهل النهروان مع عبد الله بن خباب بن الأرت( ).
ورغم الارتباط بين الحديث وبين الخوارج، إلا أن ظهور الخوارج الفعلي كان متأخرا عن الحديث بفترة طويلة، غاية الأمر أن الخوارج امتداد لهذا المعترض على رسول الله  في تجرئه على الشرع في شخص النبي ، وفي سطحيته في فهم الدين وأحكامه، خاصة إذا علمنا أن كثيرا من الخوارج كان من بني تميم( )، التي ينتسب إليها ذلك المعترض.
الرأي الثاني: الخلاف حول التحكيم:-
يذهب كثير من مؤرخي الفرق إلى أن التحكيم كان السبب الرئيسي في ظهور الخوارج على الساحة الإسلامية، وتتلخص قصة التحكيم في أنه لما اشتد القتال في صفين( )، قال عمرو بن العاص( ) لمعاوية: هل لك في أمر أعرضه عليك لا يزيدنا إلا اجتماعا، ولا يزيدهم إلا فرقة؟ قال: نعم، قال: نرفع المصاحف، ثم نقول: ما فيها حكم بيننا وبينكم، فإن أبى بعضهم أن يقبلها، وجدت فيهم من يقول: بلى ينبغي أن نقبل، فتكون فرقة تقع بينهم، وإن قالوا: بلى نقبل ما فيها، رفعنا هذه الحرب إلى أجل أو إلى حين( ).
وقد حدث ذلك فعلا، حيث انقسم أهل العراق إزاء هذا الأمر. فقد علم علي  ما في الأمر من خديعة، وحاول تحذير قومه وتنبيههم إلى أن ذلك خدعة ومكرا، وأنه أعلم بالقوم منهم، وأنهم "ما رفعوها إلا خديعة ودهاء ومكرا"( )، فثار عليه القوم في عصابة من القراء الذين صاروا بعد ذلك خوارج وقالوا: يا علي أجب إلى كتاب الله إذا دعيت إليه، وإلا دفعناك برمتك إلى القوم، أو نفعل بك ما فعلنا بابن عفان، إنه غلبنا أن يعمل بكتاب الله فقتلناه، والله لتفعلنها أو لنفعلنها بك. قال: فاحفظوا عني نهيي إياكم، واحفظوا مقالتكم لي( ).
وبهذا دبت الفرقة في جيش الإمام علي، لأنه لما كتب كتاب التحكيم، وخرج الأشعث بن قيس( ) يقرأ الكتاب على الناس، ويعرضه عليهم، مر على طائفة من بني تميم فيهم عروة بن أدية( ) فقرأه عليهم، فقال عروة: تحكمون في أمر الله  الرجال، لا حكم إلا لله، ثم شد بسيفه فضرب به عجز دابته( ).
ولما قال هذه الكلمة انتشرت في أرجاء جيش العراق، وأقبل الناس إلى الحرب مرة أخرى، حتى طالبوا الإمام علي باستئناف القتال، لكنه  رفض التزاما بما اتفق عليه الطرفان.
وعند رجوع جيش العراق إلى الكوفة( ) كان على غير الحالة التي ذهب بها، فقد دبت الفرقة في صفوفه، واختلف الناس "خرجوا مع علي وهم متوادون أحباء، فرجعوا متباغضين أعداء، ما برحوا من معسكرهم بصفين حتى فشا فيهم التحكيم، ولقد أقبلوا يتدافعون الطريق كله، ويضطربون بالسياط، يقول الخوارج: يا أعداء الله، في أمر الله  حكمتم، وقال الآخرون: فارقتم إمامنا وفرقتم جماعتنا"( ).
ولما دخل علي  الكوفة اعتزل عدد من جيشه إلى مكان يقال له حروراء، وقد نادوا أن "لا حكم إلا لله"، وكان ذلك بداية لظهور الفرقة التاريخية المعروفة "فبعد أن كان المسلمون فريقين: أهل العراق يقودهم علي، وأهل الشام يقودهم معاوية، ظهر الفريق الثالث وهم المحكمة"( ).
والملاحظ هنا هو اضطراب رأي الخوارج، وسرعة تغيير مواقفهم، فبعد أن حملوا الإمام عليّ على قبول التحكيم، رغم معارضته لذلك، عادوا فرفضوا التحكيم، وأعلنوا مبدأهم "لا حكم إلا لله" معترفين أنهم أخطأوا وأذنبوا ثم تابوا من هذا الذنب، ويدعون الإمام عليّ إلى التوبة أيضا، لكنه قال: "ما هو ذنب، ولكنه عجز من الرأي، وضعف من العقل، وقد تقدمت إليكم فيما كان منه ونهيتكم عنه"( ).
وعلى هذا فإن حادثة التحكيم كان لها أثر كبير في ظهور فرقة الخوارج، أو على الأقل في ظهور شكل هذه الفرقة، وإعلانها لآرائها، وانحيازها إلى مكان معين، لكننا لا يمكن أن نعتبرها السبب الرئيسي في تكوين هذا الحزب "إذ لا يمكن أن يكون هذا الحزب قد تكون دفعة واحدة، بل لا بد أن فكرة هذا الحزب التي تكونت حولها مبادؤه الأولى كانت منتشرة في فئة من المسلمين، أو أنها تتفق مع أغراض أو أفكار أخرى كانت تشغل بال المسلمين قبل التحكيم"( ).
الرأي الثالث: طبقة القراء:-
تتباين مواقف المؤرخين والمستشرقين إزاء انتساب الخوارج لطبقة القراء.
يرى برنوف( ) أن طبقة القراء لم يكونوا نواة للخوارج، حيث لا يمكن أن يكون القراء الذين حاربوا في الحروب الإسلامية، وأبلوا فيها بلاءً حسنا، حتى حروبهم مع علي ، لا يمكن أن يكونوا هم من طالبوا عليًّا  بوقف القتال، ولا يمكن أن يبدلوا مواقفهم بهذه السرعة "حيث إن التحول المفاجئ لدى الجماعة نفسها أمر غير ممكن، فهو يرى أن يوزع هذه الأعمال المتناقضة على جماعات مختلفة لا جماعة واحدة هي جماعة القراء، فالقراء أوقفوا القتال، ثم احتج الخوارج بعد ذلك على وقف القتال"( ).
بينما يرى فلهوزن أن من الممكن أن يكون هؤلاء القراء هم نواة الخوارج، ولا حاجة إلى توزيع أدوار الموافقة والرفض على فريقين مختلفين " أمن الضروري توكيد وجود هوة بين جماعة القراء وجماعة الخوارج من أجل أن نوزع دور السقوط ودور النهوض على فريقين مختلفين... لقد أخطأوا، وبعد خطيئتهم رجعوا عن باطلهم، وأيقنوا بما بان لهم أنه جوهر الإيمان، وعدوا أن الحيرة الطارئة التي ألمت بهم كانت ذنبا عظيما، فوطنوا العزم على بذل أقصى المجهود في الكفارة عنه فالباعث إذن على ظهور الخوارج، وعلى كيفية سلوكهم هو التوبة"( ).
فالقراء وافقوا على التحكيم أول الأمر لما فيه من حقن دماء المسلمين، ثم عدلوا عن موقفهم عندما شعروا أنهم خدعوا، وجعلوا ذلك ذنبا عظيما تابوا منه، وطلبوا من علي  أن يتوب منه أيضا "لقد دعا القراء لقبول التحكيم لأن عمرو بن العاص رفع القرآن على أسنة الرماح، ثم دعوه إلى رفض التحكيم لأن آية من القرآن قد حكمت في موضوع التحكيم"( ).
ومن الممكن أن يقال: إن فريقا من هؤلاء القراء كانوا من الذين رفضوا التحكيم، وأصروا على ذلك، بحكم مواقفهم السابقة، وشدة اقتناعهم بآرائهم، لكن لا يمكن القول إن طبقة القراء كانت كلها على هذا الموقف، أو أنهم كانوا نواة لفرقة الخوارج.
الرأي الرابع: الخوارج والسبئية: -
يذهب بعض كتاب الفرق والمؤرخين إلى أن أصول الخوارج تعود إلى السبئية بزعامة عبد الله بن سبأ( )، ويستندون إلى روايات أوردها الطبري أن بعضا من زعماء الخوارج اشتركوا في مقتل عثمان ( )، وكثير ممن كان مع عليّ  في موقعة الجمل بذلوا جهودا مكثفة لعدم عقد الصلح بين الطرفين حتى لا يُؤاخذوا على اشتراكهم في مقتل عثمان  ( ).
واستنادا إلى هذه الروايات يرى البعض أن بعض زعماء الخوارج كان من السبئية.
وقد رد فلهوزن على هذا الرأي بأن "التلقيب بالسبئية إنما كان يطلق على الشيعة وحدهم، واستعماله الدقيق ينطبق على غلاة الشيعة فحسب... والخوارج أنفسهم كانوا ينعتون خصومهم الشيعة في الكوفة بنعت السبئية تحقيرا وذما لهم... ولم يكن الخوارج فرقة صغيرة مغمورة في الظلام، ولم يأتوا بأمر غريب أو مستنكر، بل كانوا ظاهرين علنا على أساس واسع كأوسع ما يكون الأساس، ولم يكونوا يلجؤون إلى المؤامرات، ولا إلى تكوين الشعب المنتشرة في مختلف المواطن، ولم يسيطر على شئونهم تنظيم سري معقد، إنما كانت لهم مبادئ"( ).
الرأي الخامس: عرب البادية: -
يرى برنوف أن أكثرية الخوارج كانوا من البدو الخلص، ومما يؤيد ذلك "أن النزعة الديمقراطية التي سادت حركتهم، وقولهم بالانتخاب الحر غير المقيد، فإنها لم تلق قبولا كبيرا من الموالي، ذلك لأن النزعة البدوية المتبلورة في الاعتداد بالنفس، وتصغير شأن الآخرين كان مانعا من دخول الموالي في حركتهم"( ).
ومما يرجح بداوتهم أيضا بعض خصالهم التي امتازوا بها، والتي هي أقرب ما تكون إلى خصال البدو وعاداتهم "فهم مطبوعون إلى درجة كبيرة بالصبغة البدوية في محاسنها ومساوئها، فهم كثيرو الخلاف على الرؤساء، محدودو النظر، ضيقوا الفكر، وهم مع ذلك شجعان إلى أقصى حدود الشجاعة، صرحاء في أقوالهم وأفعالهم"( ).
لكن فلهوزن يرفض هذا الرأي أيضا، وينفي أن تكون أصول الخوارج من العرب البدو الخلص، فهو يقرر أن "عرب الكوفة والبصرة كانوا جميعا تقريبا من البدو، بمعنى أنهم جاءوا من قبائل تقيم بالبادية، ولكن هذا لا يدل على شىء بالنسبة إلى الخوارج؛ لأن رابطتهم بقبائل البادية كانت قد انخلعت منذ هجرتهم، أعني منذ ارتحالهم إلى مدائن الجيوش... أما البدو الخلص الذين احتفظوا بطباعهم الأصيلة فقد ظلوا بعيدين عن الحركات والأحزاب الدينية السياسية"( ).
فهو يرى أن انتقالهم من البادية إلى المدن التي أقاموا بها قد قطع صلتهم بالبادية التي خرجوا منها، وانحلت الرابطة التي كانت تربطهم بها ومن أقام بالبادية ولم يهاجر إلى تلك المدن فإنه ظل بعيدا عن الثورات والحركات السياسية وسائر الفرق والمذاهب التي ظهرت وقت ذاك.
لكن يمكن الجمع بين الرأيين بأن أولئك البدو المهاجرين حملوا معهم الصفات البدوية، والخصائص التي يتميز بها مجتمع البدو "لأن الواقع أن سكان البصرة والكوفة كانوا بأكثريتهم من العرب البدو الذين اشتركوا في الحروب الفارسية، ونقلوا معهم إلى المدينتين جميع الفضائل والمساوئ التي ينعم بها البدو"( ).
هذه العوامل مجتمعة كان لها دور في ظهور تيار الخوارج، يتفاوت هذا الدور من عامل لآخر، لكن لا يمكن الجزم أن عاملا منها وحده كان سببا في ظهور الخوارج على مسرح الأحداث.
يضاف إلى ذلك أن هذه طبيعة أي منهج يلتزم به مجموعة من الأفراد، لا بد أن تتباين رغباتهم وأفكارهم، وتتنوع مشاربهم، وعلى هذا يمكن القول أن من أسباب ظهور الخوارج وجود "علة نفسية جبلية، وهي أن النفوس البشرية لا تنضبط دائما على المنهج العدل الوسط، بل تجنح عنه ذات اليمين أو ذات الشمال، إما الإيغال المهلك، وإما التفريط المسرف، وقد وقعت الخوارج في الأول، كما وقعت المرجئة في الآخر"( ).

المبحث الثاني: أسماء أطلقت عليهم وموقفهم منها
تتعدد الأسماء التي تطلق على فرقة من الفرق الإسلامية، منها ما يكون في معرض المدح، ومنها ما يكون في معرض الذم. بعض هذه الأسماء يطلقها أنصار الفرقة عليها، وبعض آخر يطلقه عليها الخصوم، خاصة إذا "كانت التسميات والأسماء هي الأخرى أسلحة في الصراع!... وحتى بعد أن استقرت وغلبت على أصحابها ظلت التفسيرات لها والتخريجات لمعانيها تبحث عن السبل التي تجعلها فاعلة ومؤثرة في هذا الصراع"( ).
وقد أطلق على الخوارج أسماء عدة منها: -
1- الخوارج:-
وهو أشهر أسماء هذه الفرقة والذي به عُرفت، وهو جمع خارج، وهم الذين خرجوا على الإمام عليّ في حروراء ومن نشأ منهم بعد ذلك( ).
ونظرة المدح في هذا الاسم تستند إلى أنه مصطلح ورد في القرآن الكريم، واستعمل في الخروج في سبيل الله تعالى ونصرة دينه، قال تعالى: â `tBur öÅ_$pkç‰ ’Îû È@‹Î6y™ «!$# ô‰Ågs† ’Îû ÇÚö‘F{$# $VJxîºtãB #ZŽÏWx. Zpyèy™ur 4 `tBur ólãøƒs†.`ÏB ¾ÏmÏF÷t/ #•Å_$ygãB ’n<Î) «!$# ¾Ï&Î!qߙu‘ur §NèO çmø.͑ô‰ãƒ ßNöqpRùQ$# ô‰s)sù yìs%ur ¼çnãô_r& ’n?tã «!$# 3 tb%x.ur ª!$# #Y‘qàÿxî $VJŠÏm§‘ á( )، وورد مرة أخرى في قول الله تعالى: â öqs9ur (#rߊ#u‘r& ylrãã‚ø9$# (#r‘‰tãV{ ¼ã&s! Zo£‰ãã á( )، فهم يزعمون أن خروجهم إنما هو لله تعالى وفي سبيله.
"والخروج يعني الثورة في العرف اللغوي، فلما شاع هذا الاسم قبلوه، وقالوا: إن خروجهم إنما هو على أئمة الجور والفسق والضعف، ومن ثم فإنه هو الموقف الإسلامي الوحيد الذي يرضاه الإسلام، وقالوا: إن الخروج عن الدين مروق يسمى أصحابه المارقة، أما الخروج إلى الدين فإن أصحابه هم الذين يسمون الخوارج والخارجة، لأن خروجهم هو إلى الجهاد في سبيل الله"( ).
فهم يعدون هذا الاسم شرفا لهم، وعنوانا على جهادهم في سبيل الله تعالى ونصرة دينه في مقابل أئمة الجور والفساد.
أما نظرة الذم في هذا الاسم، فإن خصومهم يفسرون الاسم تفسيرا يلحق بهم الذم، فيرون أن "الخروج هو عصيان الإمام الحق، والتأليب عليه، وخلع طاعته، والخروج عن جماعة المسلمين"( ).
وقد وردت هذه التسمية في شعر الخوارج كثيرا، من ذلك قول عيسى بن فاتك( ):
أألفا مؤمن فيما زعمتم
ويقتلهم بآسك أربعونا

كذبتم ليس ذاك كما زعمتم
ولكن الخوارج مؤمنونا

هم الفئة القليلة غير شـك
على الفئة الكثيرة ينصرونا( )

وكتب قطري بن الفجاءة( ) – وكان من شعرائهم – لأبي خالد القناني، وكان من قعدة الخوارج، يحثه على الخروج:
أبا خالد انفر فلست بخالد
وما جعل الرحمن عذرا لقاعد

أتزعم أن الخارجي على الهدى
وأنت مقيم بين لص وجاحـد

فكتب إليه أبو خالد:
لقد زاد الحياة إلىّ حبا
بناتي إنهن من الضعــاف

أتزعم أن الخارجي على الهدى
وأن يشربن رنقا بعد صاف

وأن يعرين إن كسي الجواري
فتنبو العين عن كرم عجاف

ولولا ذاك قد سوقت مهـري
وفي الرحمن للضعفاء كاف

أبانا من لنا إن غبت عنـا
وصار الحي بعدك في اختلاف

وهذا خلاف ما قاله عمران بن حطان( ):-
لقد زاد الحياة إلى بغضا
وحبا للخـروج أبـو بلال

أحاذر أن أموت على فراشي
وأرجو الموت تحت ذوي العوالي

ولو أني علمت بأن حتفي
كحتف أبي بلال لم أبالي

فمن يك همه الدنيا فإني
لها والله رب البيت قالي( )

2- الشراة: -
جمع شار، وهذا الاسم ينظر له الخوارج على أنه مدح أيضا، فيرون أن الشاري اسم فاعل من الشراء، لأنهم باعوا أنفسهم لله تعالى، وقيل: سموا بذلك لقولهم: إنا شرينا أنفسنا في طاعة الله، أي بعناها بالجنة، ويتمسكون بالآية الكريمة ⠚ÆÏBur Ĩ$¨Y9$# `tB “̍ô±o„ çm|¡øÿtR uä!$tóÏGö/$# ÉV$|ÊósD «!$# 3 ª!$#ur 8$râäu‘ ϊ$t6Ïèø9$$Î/ á( ).
"وشرى الشئ يشريه واشتراه: باعه، والعرب تقول لكل من ترك شيئا وتمسك بغيره قد اشتراه"( ).
وقد أطلق الاسم على من خرج على الإمام بعد ذلك، ومن ذلك حديث ابن عمر أنه جمع بنيه حين أشرى أهل المدينة مع ابن الزبير وخلعوا بيعة يزيد، أي صاروا كالشراة في فعلهم، وهم الخوارج( ).
فصار الاسم يراد به مطلق من خرج على الإمام وأعلن عصيانه من الخوارج أم من غيرهم.
أما الخصوم فلهم تخريج للاسم يلحق بأصحابه المذمة "فالشاري: اسم فاعل من شرى الشر: إذا استطار وزاد وتفاقم، وقالوا: شرى الرجل كرضي إذا غضب ولج في الخصومة"( ).
"والشاري شديد الالحاح، فهو مشتق من الرجل إذا ألح، وهم شديدو الإلحاح على ما يطلبون"( ).
وقد ورد هذا الاسم في شعر الخوارج كثيرا، فمنه قول القائل:
سلام على من بايع الله شاريا
وليس على الحزب المقيم سلام( )

وفيهم يقول عمران بن حطان:-
إني أدين بما دان الشراة به
يوم النخيلة عند الجوسق الخرب( )

ويقول شاعرهم الطرماح بن حكيم( ) رافعا من شأن المذهب:-
لله در الشراة إنهم
إذا الكرى مال بالطلا أرقوا

يُرجّعون الحنين آونة
وإن علا ساعة بينهم شهقوا

خوفا تبيت القلوب واجفـة
تكاد منها الصــدور تنفلق

كيف أُرجِّي الحياة بعدهـم
وقد مضى مؤنسي فانطلقوا

قوم شجاع على اعتقادهم
بالفوز مما يخاف قد وثقـوا( )

وورد في قول شاعرهم صالح بن مخراق( ):
إني لمذك للشراة نارها
ومانع ممن أتاها دارها

وغاسل بالطعن عنها عارها( )

3- الحرورية:-
بعد رجوع عليّ  من صفين إلى الكوفة انحاز الخوارج إلى حروراء، وسموا حرورية لذلك( ).
وفي بعض الروايات أن الذي سماهم بذلك الإمام عليّ  لما تجمعوا بحروراء قال لهم: ما نسميكم؟ ثم قال: أنتم الحرورية؛ لاجتماعكم بحروراء( ).
وقد وردت هذه التسمية على لسان السيدة عائشة رضي الله عنها في الحديث عن معاذة بنت عبد الله أن امرأة قالت لعائشة: أتجزي إحدانا صلاتها إذا طهرت؟ فقال: أحرورية أنت؟! كنا نحيض مع النبي  فلا يأمرنا به، أو قالت: فلا نفعله( ).
وبهذا الاسم أشار إليهم الصلتان العبدي( )في قوله:
أرى أمة قد شهرت سيفها
وقد زيد في سيفها الأصبحي

فملتنا أننــا المسلمـون
على دين صدِّيقنا والنــبي( )

وقد ورد أيضا في شعر خصومهم، في قول القعقاع بن عطية الباهلي( ):
أقاتلهم وليس عليّ بعــث
نشاطا ليس هذا بالنشــاط

أكر على الحروريين مهري
لأحملهم على وضح الصراط( )

4- المحكمة: -
وإنما سموا محكمة لانكارهم التحكيم، وقولهم "لا حكم إلا لله"، وقد سموا: الحكمية.وقد أجمعت كل فرق الخوارج على إنكار التحكيم ولم يخالف منهم أحد.
5- النواصب: -
والنواصب قوم يتدينون ببغضة علي عليه السلام( )، وهو من" ناصبت لفلان: عاديته نصبا، ومنه: الناصبية والنواصب، وأهل النَّصب: الذين ينصبون لعلي كرم الله تعالى وجهه"( ).
6- المارقة: -
وهو من مرق السهم من الرمية: خرج من الجانب الآخر، والمروق: الخروج من شىء من غير مدخله، والمارقة: الذين مرقوا من الدين لغلوهم فيه، ومنه سميت الخوارج مارقة( ).
وجدير بالذكر أن الخوارج يرضون بهذه الألقاب كلها إلا المارقة، فإنهم ينكرون أن يكونوا مارقة من الدين( ).
هذه الأسماء أطلقت على الخوارج، وما يوافق عليها الخوارج منها يفسرونه تفسيرا يُعلي قدرهم، ويرفع شأنهم، على حين يفسره الخصوم تفسيرا يلحق بهم المذمة ويجعل الاسم عنوانا على مبادئهم وآرائهم.

 
مبادئ الخوارج

يختلف مؤرخو الفرق كثيرا في الآراء التي يجمع عليها الخوارج، فيرى الإسفراييني( )، والرازي( )، أنهم متفقون على أمرين":
أحدهما: زعمهم أن عليًّا وعثمان وأصحاب الجمل والحكمين وكل من رضي بالحكمين كفروا.
والثاني: أنهم يزعمون أن كل من أذنب ذنبا من أمة محمد فهو كافر" ( ).
وحكى البغدادي( )عن الكعبي( )أن الذي يجمع الخوارج إكفار
علي وعثمان والحكمين وأصحاب الجمل وكل من رضي بتحكيم الحكمين، والإكفار بارتكاب الذنوب، ووجوب الخروج على الحاكم( )، ووافقه الشهرستاني( ).
وعند الأشعري( ) والبغدادي أن الذي يجمعهم إكفار علي وعثمان وأصحاب الجمل والحكمين، ومن رضي بالتحكيم أو صوب الحكمين أو أحدهما، والخروج على السلطان الجائر( ).
والحق أنه ليس للخوارج إجماع على هذه الآراء سوى على إكفار علي  وأصحابه ومن رضي بالتحكيم، وسوف أعرض آراء الخوارج في هذه
المبادئ، ومدى إجماعهم عليها وهل خالف فيها أحد منهم:-
أولاً: تكفير مرتكب الكبيرة: -
ذهب أكثر الخوارج إلى أن كل كبيرة كفر، قال الشهرستاني:
(ويكفرون بالكبائر) ( )، وخالف في ذلك بعض فرقهم، فالنجدات( ) لا تقول إن كل كبيرة كفر( )، وقالت طائفة من الخوارج "إن ما كان من الأعمال عليه حد واقع فلا يتعدى بأهله الاسم الذي لزمهم به الحد، وليس يكفر بشىء ليس أهله به كافرا كالزنا والقذف، وهم قذفة وزناة، وما كان من الأعمال ليس عليه حد كترك الصلاة والصيام فهو كافر، وأزالوا اسم الإيمان في الوجهين جميعا" ( ).
ويرى بعضهم أن إطلاق الكفر على مرتكب الكبيرة ليس مرادا على الحقيقة، وإنما هو كفر نعمة "كل كبيرة فهي كفر نعمة لا كفر شرك، ومرتكبي الكبائر في النار خالدون مخلدون فيها" ( ).
فأصل المبدأ – كفر مرتكب الكبيرة – عند الفرقة قد خالف فيه البعض، وعده البعض من كفر النعمة لا كفر الشرك، لكنه علامة عليهم، لأن الكل متفق أن مرتكب الكبيرة خالد في النار.
ويرى بعض الباحثين أن إطلاق الخوارج لفظ الكفر على مرتكب الكبيرة عموما –من خلال النصوص التي ورد فيها اللفظ– ليس المراد به كفر الشرك، وإنما المقصود كفر النعمة، كما كان شائعا استعمال اللفظ في البيئة الإسلامية وفي النصوص الشرعية للدلالة على
المعصية( ) "إذا فاستعمال معارضي التحكيم هذا الاصطلاح تعبيرا عن الذنب والخطيئة أمر مقبول شرعا ولا غضاضة فيه، وهذا ما يعبر عنه بكفر النعمة، أو ما يسميه بعض العلماء كفر دون كفر، وما يسميه آخرون بالكفر العملي أو الكفر الأصغر" ( ).
لكن هذا الكلام تعارضه النصوص الصريحة الواردة عن الخوارج، والتي تطلق الكفر وتريد به الكفر الأكبر المخرج عن الملة، كما ورد في كلام نافع بن الأزرق( ): "الدار دار كفر-يقصد دار المخالفين- إلا من أظهر إيمانه، ولا يحل أكل ذبائحهم، ولا تناكحهم، ولا توارثهم، ومتى جاء منهم من جاء فعلينا أن نمتحنه، وهم ككفار العرب، لا نقبل منهم إلا الإسلام أو السيف، والقعد بمنزلتهم، والتقية لا تحل" ( ).
ثانياً: الإمامة وشروطها:-
من المبادئ العامة عند الخوارج جواز أن تكون الإمامة في غير قريش، وأن الإمام إن غير السيرة وعدل عن الحق وجب عزله أو قتله، فلا يرون إمامة الجائر مطلقا، ويقولون بالسيف.
لكن ورد عن بعض طوائفهم مخالفة لهذا المبدأ، فالنجدات مثلا قالوا: " لا حاجة للناس إلى إمام قط، وإنما عليهم أن يتناصفوا فيما بينهم، فإن رأوا أن ذلك لا يتم إلا بإمام يحملهم عليه فأقاموه جاز" ( ).
وجوزت الحمزية منهم وجود إمامين في عصر واحد ما لم تجتمع الكلمة أو تقهر الأعداء( ).
فالخلاف قائم في شروط من يشغل منصب الإمام، وكذلك في الموقف من الإمام، فمنهم من يرى أن "الإمام إذا كفر كفرت الرعية الغائب منهم والشاهد" ( )، وهم العوفية، وطائفة من البهيسية.
وخالف في ذلك الميمونية فقالوا: "بوجوب قتل السلطان وحده ومن رضي بحكمه، فأما من أنكره فلا يجوز قتاله إلا إذا أعان عليه، أو طعن في دين الخوارج، أو صار دليلا للسلطان" ( ).
ثالثاً: استحلال أموال المخالفين: -
من النظريات المشهورة عند الخوارج نظرية الاستحلال، بمعنى أن قتل مخالفيهم في المذهب حلال، وأن أمواله حلال أيضـا، وكذلك الأمر بالنسبة للنساء والأطفال، لا حرمة لهم.
لكن خلافا حدث حول إقرار هذا المبدأ، ثم حول تطبيقه، فقد قال بهذا الرأي الأزارقة، فهم يرون أن:( دار مخالفيهم دار كفر، ويجوز فيها قتل الأطفال والنساء) ( )، واستحل النجدات دماء أهل العهد والذمة وأموالهم في دار التقية( )، وذهبت البهيسية من فرق الخوارج إلى قتل أهل القبلة وأخذ الأموال، واستحلت القتل والسبي على كل حال( ).
لكن حدث خلاف في تقرير هذا المبدأ عند بعض فرقهم، فالصفرية "لا يبيحون قتل نساء مخالفيهم ولا أطفالهم" ( ).
وحدث خلاف أيضا حول تطبيق هذا المبدأ واقعيا، فبينما يرى بعضهم أن هذا المبدأ عام يطبق في السر والعلن، وأن أخذ المال واستحلاله جائز في كل حال، يرى آخرون أن هذا المبدأ له شروط ينبغي تحقيقها ومراعاتها قبل تطبيقه " فالإباضية يرون أن غنيمة أموال المخالفين من السلاح والكراع عند الحرب حلال، وما سواه حرام، وحرام قتلهم وسبيهم في السر غيلة، إلا بعد نصب القتال وإقامة الحجة" ( ). ويذهب آخرون إلى أن شرط استحلال المال هو قتل صاحبه، فإذا قتل صاحب المال حل ماله، أما إذا لم يقتل فلا يحل أخذ ماله "فإن لم يجدوا صاحب المال لم يتناولوا من ذلك المال شيئا دون أن يظهر صاحبه فيقتلوه، فإذا قتلوه حينئذ استحلوا ماله" ( ).
وتبلغ الجرأة عند بعضهم حدا يجعلهم يستحلون هذه الأموال والدماء في العلانية، أما في السر فلا يرون أنها تحل لهم، حيث "ذهبت الأخنسية والشمراخية وغيرهم إلى أن قتل المخالفين في السر حرام، وحلال في العلانية"( ).
وهكذا فإن هذا المبدأ تارة يرفض بالجملة، وتارة يخضع للتفصيل، حيث تختلف النظرة والتطبيق العملي من فرقة لأخرى.
رابعاً: رفض التحكيم:-
يكاد يتفق مؤرخو الفرق الإسلامية قديما وحديثا أن مسألة التحكيم من العوامل الرئيسية في ظهور الفرقة على مسرح الأحداث، وانتشار آرائها "وأيا كانت الطريقة التي جرى بها التحكيم فالثابت أنها أفرخت أول حزب سياسي هو الخوارج" ( ).
وسبب اعتزال أهل النهروان للإمام عليّ هو رفضهم لفكرة التحكيم، رغم أنهم أجبروا الإمام عليّ على قبولها، طلبا لحقن دماء المسلمين، كما قال لهم الإمام عليّ بعد ذلك: "أنشدكم الله أتعلمون أنهم حيث رفعوا المصاحف وقلتم نجيبهم، قلت لكم: إني أعلم بالقوم منكم، إنهم ليسوا بأصحاب دين؟ وذكر ما كان قاله لهم" ( ).
فرفض التحكيم إذا مبدأ عام عند الخوارج، وتأصيلا على هذا المبدأ حكموا بتكفير الإمام عليّ ومعاوية رضي الله عنما، والحكمين ومن رضي بالتحكيم، بناءً على أنه معصية يجب على الجميع أن يتوب منها.
لكن ما ترتب على هذا المبدأ تفاوتت فيه أنظار طوائفهم، فبينما يرى عامتهم تكفير من شارك في التحكيم ورضي به، فإنه "يحكى عن الجازمية أنهم يتوقفون في أمر عليّ ، ولا يصرحون بالبراءة منه، ويصرحون بالبراءة في حق غيره" ( ).
خامساً: آراء الخوارج الكلامية:-
يوافق الخوارج المعتزلة في أكثر آرائهم الكلامية( )، فقد قالوا جميعا بخلق القرآن، ووافق أكثرهم المعتزلة على القول بالقدر، وقولهم في الوعيد واحد، وبالجملة فآراؤهم الكلامية تشترك مع المعتزلة في أكثرها.
تعقيب :
يمكن من خلال عرض آراء الخوارج أن أسجل بعض الملاحظات حول مبادئهم، واختلافها فيما بينها:-
أولاً: أن الخوارج في بداية أمرهم لم تكن لهم نظرية عامة حول ما أثاروه من مشكلات، وما اعتقدوه من آراء، وأن هذه النظرية أخذت تتبلور شيئا فشيئا حتى ظهرت كآراء متكاملة في سياق المذهب، لكن هذه النظرية كانت عرضة للطعن والنقد في أي وقت من الخوارج أنفسهم، بل إن هذه الآراء نفسها يمكن أن يقال: إنها كانت سببا في تفرق الخوارج إلى فرق وأحزاب صغيرة، نظرا لكثرة الخلاف حولها.
ثانيا: أن من الطبيعي أن يحدث خلاف داخل الفرقة – أي فرقة – حول الآراء التي تعتنقها، ويظل هذا الخلاف داخل نطاق المذهب الواحد دون أن تحدث فُرقة، أو ينشأ حزب صغير من داخل الفرقة، ولكن نظرا لطبيعة الخوارج التي سيطرت عليهم، وهي اعتقادهم أن ما هم عليه هو الحق والصواب، وأن كل ما عداه فهو خطأ أيا كان قائله أو معتنقه، كل ذلك دفعهم إلى أن يخلق الخلاف في الرأي خلافا في الوجهة، ويحدث نزاع وقتال حول تقرير هذا الرأي أو عدمه، وتكثر الآراء، ولكل رأي من ينادي به، ويتعصب من أجله.
ثالثاً: أن هذا الخلاف بين الخوارج ما حدث إلا لبعدهم عن منهــج الكتاب والسنة، فهم أصحاب بدعة، وأصحاب البدع لبعدهم عن المنهج القويم يتخبطون، وتكثر اختلافاتهم وانشقاقاتهم، لأنه ليس هناك ضابط يحمي من الخلاف، كما هو حال أهل السنة والجماعة الذين لديهم مرجع يحميهم من أن يتحول الخلاف إلى تمزق وتشتت وعداوات فيما بينهم.
رابعاً: أن الخوارج كانوا ينظرون إلى آرائهم نظرة تختلف عن نظرتهم لآراء غيرهم من المخالفين لهم، حتى وإن بدت متوافقة، فآراؤهم مقبولة دائما، وآراء غيرهم مرفوضة دائما، من ذلك مثلا: أن الشبيبية من الخوارج أجازوا إمامة المرأة إذا خرجت على مخالفيها، ولم يروا في ذلك شيئا يستحق النقد والاعتراض، بل طبقوا هذا المبدأ واقعا عندما قرروا إمامة غزالة زوج شبيب، مع أنهم اعترضوا على السيدة عائشة رضي الله عنها لما خرجت إلى البصرة، وزعموا أنها كفرت بذلك.
يقول البغدادي: "يقال لهم: أنكرتم على أم المؤمنين عائشة خروجها إلى البصرة مع جندها الذي كل واحد منهم محرم لها، لأنها أم جميع المؤمنين في القرآن، وزعمتم أنها كفرت بذلك، وتلوتم عليها قول الله تعالى: â tbös%ur ’Îû £`ä3Ï?qã‹ç/ á( )، فهلا تلوتم هـذه الآية علـى غزالة زوج شبيب، وهلا قلتم بكفرها وكفر من خرجن معها من نساء الخوارج إلى قتال جيوش الحجـاج" ( ).
ولكن كما يقول القائل:
وعين الرضا عن كل عيب كليلة
كما أن عين السخط تبدي المساويا

خامساً: أن الخوارج لم تكن فرقة كلامية تعنى بتقرير أصول مذهبها وآرائها، ولم تكن لهم عناية بصياغة آرائهم صياغة كلامية أو منطقية شأن سائر الفرق الكلامية الأخرى، بل كانوا مذهب سياسي، كما هم مذهب كلامي، بل كانوا في الجانب السياسي أقوى وأكثر أثرا، فقد كان همهم الأول إقامة مبادئهم واقعيا على الأرض بالسيف والخروج والثورة، دون سعي إلى تقريرها نظريا بين الناس.

 
فرق الخوارج وآراؤها

:
الفرق الإسلامية على عمومها يتفق أفرادها على أصول المذهب، ثم تتعدد الآراء داخل الفرقة الواحدة، وتتباين المواقف بين رجالها فتكون الانقسامات داخل كل فرقة، مع التزام كل طائفة بالأصول العامة.
والخوارج في هذا شأنهم شأن سائر الفرق الإسلامية – بل أكثر – حيث تعددت انقساماتهم وكثرت اختلافاتهم "كانوا كثيري الخلاف، يشجر الخلاف بينهم لأصغر الأمور، وربما كان هذا هو السر في كثير من انهزاماتهم مع قوة شكيمتهم في القتال" ( ).
فالخوارج يختلفون كثيرا فيما بينهم، لأنهم اعتادوا على عرض آرائهم بحرية تامة مهما كانت غرابتها، والوقوف في وجه زعمائهم، والاعتراض عليهم، فإنهم كثيرا ما خالفوا زعماءهم، وانشقوا عليهم لأسباب تبدو تافهة " فزعيم مثل نجدة بن عامر، يكرمه قومه ويلقبونه بأمير المؤمنين، ويسمون الفرقة باسمه " النجدات "، ثم لا يلبثون أن يتصيدوا له ذنبا فيقتلوه، يقتله رجل من طائفته...، وإذا كان أبناء الفريق الواحد يتحاربون ويتقاتلون هكذا، فليس من شك في أنه قد جرت حروب واشتباكات بين أنصار الفرقتين المختلفتين داخل نطـاق المذهب الخارجي، وكان أيسر شئ لديهم أن يكفر هذا الفريق ذاك الفريق الآخر" ( ).
ولعل ذلك يرجع – إلى جانب الحرية في عرض الآراء – إلى الأخذ بظواهر النصوص الواردة دون نظر إلى مراميها أو مقاصدها، ودون جمعها مع غيرها من النصوص الواردة، والسطحية في فهم النص تدفع إلى اتخاذ مواقف غير سديدة، فقد كان من صفاتهم أنهم ضيقوا النظر، محدودوا الأفق في تعاملهم مع مخالفيهم، أو مع بعضهم البعض، فيصل الأمر بهم إلى المخالفة وتكفير الأئمة داخل الفرقة الواحدة.
وقد تباينت أقوال مؤرخي الفرق في تعداد فرق الخوارج، فالأشعري جعل أصول الخوارج أربع فرق، لكنه وصل بتعدادهم إلى حوالي ست وثلاثين فرقة( ) وجعل الشهرستاني كبار فرق الخوارج ستة لكنها تصل بالانقسامات داخلها إلى ست وعشرين فرقة( ) وذكر البغدادي أن الخوارج عشرون فرقة، لكنه تجاوز هذا العدد بالانقسامات
داخل كل فرقة( ) وعدهم الملطي الشافعي خمسا وعشرين فرقة( ) وبلغ
تعدادهم عند الرازي إحدى وعشرين فرقة( )، وجعلهم الإمام الاسفراييني عشرين فرقة( ).
لكن القدر المتفق عليه بين الجميع أن كبار فرق الخوارج لا يتجاوز ست فرق، وأن هذه الأعداد إنما نشأت من تعدد وانقسام داخل كل فرقة من هذه الفرق، وسوف أذكر أشهر هذه الفرق بشىء من التفصيل، وأكتفي بالإشارة إلى الباقي إجمالا:-
1- المحكمة الأولى:-
وهم الذين خرجوا على الإمام عليّ  ورفضوا التحكيم، وقالوا: لا حكم إلا لله، وقد اختلف في أول من قال هذه المقالة على أقوال، فروي الأشعري أن أول من حكم عروة بن بلال بن مرداس( ) ويقال: بل أول من حكم يزيد بن عاصم المحاربي، ويقال: بل رجل من بني سعد بن زيد مناه من تميم، ويقال: إن أول من تشرى رجل من بني يشكر( ).
وقد سمى الشهرستاني رجلا من بني سعد بن زيد وهو الحجاج بن عبيد الله، يلقب بالبرك( )، وقيل رجل يقال له سعيد من بني محارب بن خصفة بن قيس بن عيلان بن مضر( ).
"والخوارج يزعمون أن أول من حكم عبد الله بن وهب الراسبي، والصحيح أنه عـروة بن أدية" ( ).
وكان من أمرهم أنهم لما عرفوا اتفاق الطرفين على التحكيم نادوا بأعلى أصواتهم "لا حكم إلا لله" وبعد رجوعهم مع  من صفين إلى الكوفة جاهروا بهذه الكلمة، وكانوا يعارضون بها في المسجد "بينما عليّ في الناس يخطبهم ذات يوم فقال رجل من جانب المسجد "لا حكم إلا لله" فقام آخر فقال مثل ذلك، ثم توالى عدة رجال يحكمون، فقال عليّ: الله أكبر، كلمة حق يراد بها باطل" ( ).
وبينما هو يخطب ذات مرة إذ جاءه أحدهم وقال: â ô‰s)s9ur zÓÇrré& y7ø‹s9Î) ’n<Î)ur tûïÏ%©!$# `ÏB šÎ=ö6s% ÷ûÈõs9 |Mø.uŽõ°r& £`sÜt6ósu‹s9 y7è=uHxå £`tRqä3tGs9ur z`ÏB z`ƒÎŽÅ£»sƒø:$# á( )، فقال عليّ :
â ÷ŽÉ9ô¹$$sù ¨bÎ) y‰ôãur «!$# ?Yym ( Ÿwur š¨Z¤ÿςtGó¡o„ tûïÏ%©!$# Ÿw šcqãYÏ%qムá ( ) ( ) ثم خرجوا وانحازوا إلى حروراء وكان عدتهم اثني عشر ألف رجل( ).
وبينما هم في خروجهم لقوا رجلا يسوق بامرأة على حمار، فدعوه فانتهروه فأفزعوه، وقالوا له: من أنت، قال: أنا عبد الله بن خباب صاحب رسول الله ، فقالوا له: أفزعناك؟ قال: نعم. قالوا: لا روع عليك، حدثنا عن أبيك حديثا سمعه من رسول الله  تنفعنا به. فقال: حدثني أبي عن رسول الله  أنه قال: «تكون فتنة يموت فيها قلب الرجل كما يموت فيها بدنه، يمسي فيها مؤمنًا ويصبح كافرًا، ويصبح كافرًا ويمسي مؤمنًا»، قالوا: لهذا الحديث سألناك، فما تقول في أبي بكر وعمر؟ فأثنى عليهما خيرا. قالوا:ما تقول في عثمان في أول خلافته وفي آخرها؟ قال: إنه كان محقا في أولها وفي آخرها. قالوا: فما تقول في عليّ قبل التحكيم وبعده؟ قال: إنه أعلم بالله منكم، وأشد توقيا عليه وأنفذ بصيرة، فقالوا: إنك تتبع الهوى وتوالي الرجال على أسمائها لا على أفعالها، والله لنقتلنك قتلة ما قتلناها أحداً، فأخذوه فكتفوه، ثم أقبلوا به وبامرأته وهي حبلى متم، حتى نزلوا تحت نخل مواقير فسقطت منه رطبة فأخذها أحدهم فتركها في فيه، فقال آخر: أخذتها بغير حلها وبغير ثمن، فألقاها، ثم مر بهم خنزير لأهل الذمة فضربه أحدهم بسيفه، فقالوا: هذا فساد في الأرض، فلقي صاحب الخنزير فأرضاه، فلما رأى ذلك منهم ابن خباب قال: لئن كنتم صادقين فيما أرى فما عليَّ منكم من بأس، إني مسلم ما أحدثت في الإسلام حدثا، ولقد أمنتموني، قلتم: لا روع عليك. فأضجعوه فذبحوه فسال دمه في الماء، وأقبلوا إلى المرأة فقالت: أنا امرأة ألا تتقون الله؟! فبقروا بطنها، وقتلوا ثلاث نسوة من طيئ( ).
وقد كانت هذه الحادثة دلالة على سلوك المحكمة الذي ساروا عليه بعد ذلك من الاستعراض والتكفير «يقتلون أهل الإسلام، ويدعون أهل الأوثان»، وقد كانت سنة سيئة مضى على نهجها كثير ممن جاء بعد ذلك من الخوارج.
ولما خرجوا أمّروا عليهم عبد الله بن وهب الراسبي( )، وحدثت في ذلك الوقت المناظرة المشهورة بين ابن عباس والخوارج، ثم حدث لقتال في النهروان، وانتهى بهزيمتهم، ولم يبق منهم بعد ذلك إلا عدد يسير.
هذه قصة المحكمة الأولى، وكان من دينهم إكفار على وعثمان وأصحاب الجمل ومعاوية وأصحابه والحكمين ومن رضي بالتحكيم , وإكفار كل ذي ذنب ومعصية( ).
وقد ذكر الشهرستاني أن خروجهم في الزمن الأول على أمرين:
أحدهما: بدعتهم في الإمامة، إذ جوزوا أن تكون الإمامة في غير قريش
الثانية: أنهم قالوا: أخطأ علي في التحكيم، إذ حكم الرجال، لا حكم إلا لله تعالى( ).
هذا ما كان من أمر المحكمة الأولى، التي كان على يديها نشأة الفرقة، وظلت هذه مبادؤها، ولم تحدث فيها انقسامات حتى عام 65هـ بخروج نافع بن الأزرق، ثم توالت بعد ذلك الانقسامات داخل الفرقة.
2- الأزارقة:-
وهو أتباع نافع بن الأزرق، وقد كانوا أول خلاف حدث داخل الفرقة بعد أن كان أمرها واحدا " ولم تكن للخوارج قط فرقة أكثر عددا، ولا أشد منهم شوكة" ( ).
وقد أحدث نافع بعض أمور لم تكن موجودة عند من تقدم من المحكمة الأولى، انفرد بها عمن تقدمه، وقد أغرق بهذه الأمور في الغلو وبدع الأزارقة ثمانية: -
1) أنه كفر عليًّا  ، وصوب عبد الله بن ملجم لعنه الله.
2) تكفير القعدة، وكفر من لم يهاجر إليه.
3) إباحة قتل أطفال المخالفين والنسوان.
4) إسقاط الرجم عن الزاني، وإسقاط القذف على من قذف المحصنين من الرجال، مع وجوبه على من قذف المحصنات من النساء.
5) حكم بأن أطفال المشركين في النار.
6) أن التقية غير جائزة في قول ولا عمل.
7) تجويزه أن يبعث الله نبيا يعلم أنه يكفر بعد نبوته، أو كان كافرا قبل البعثة.
8) من ارتكب كبيرة كَفَر كُفْر ملة خرج به عن الإسلام، ويخلد في النار مع سائر الكفار( ).
ويظهر في هذه الآراء الغلو الذي ساد آراء هذه الفرقة، والذي أصبح السمة الرئيسة لها بعد ذلك.
وتظهر لنا بوضوح أفكار نافع بن الأزرق ومعتقداته من خلال رسالته التي رد بها على نجدة بن عامر، وسوف أورد نصها كاملا لأنها تمثل خلاصة آرائه التي كان يدعو إليها، ويتبرأ ممن يخالفها.
يقول: "بسم الله الرحمن الرحيم. أما بعد: فقد أتاني كتابك تعظني فيه وتذكرني، وتنصح لي وتزجرني، وتصف ما كنت عليه من الحق، وما كنت أوثره من الصواب، وأنا أسأل الله  أن يجعلني من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وعبت عليّ ما دنت به من إكفار القعدة وقتل الأطفال واستحلال الأمانة، فسأفسر لك لم ذلك إن شاء الله، أما هؤلاء القعدة فليسوا كمن ذكرت ممن كان بعهد رسول الله لأنهم كانوا مقهورين محصورين لا يجدون إلى الهرب سبيلاً، ولا إلى الاتصال بالمسلمين طريقاً، وهؤلاء قد فقهوا في الدين وقرأوا القرآن، والطريق لهم نهج واضح، وقد عرفت ما قال الله  فيمن كان مثلهم إذ قالوا: â $¨Zä. tûüÏÿyèôÒtGó¡ãB ’Îû ÇÚö‘F{$# á( ) فيقال لهم: â öNs9r& ô`ä3s? ÞÚö‘r& «!$# Zpyèřºur (#rãÅ_$pkçJsù $pkŽÏù á، وقال: â yy̍sù šcqàÿ¯=y‚ßJø9$# öNÏdωyèø)yJÎ/ y#»n=Åz ÉAqߙu‘ «!$# á ( ).
وقال: â uä!%y`ur tbrâ‘Éj‹yèßJø9$# šÆÏB É>#{ôãF{$# tbsŒ÷sã‹Ï9 öNçlm; á( ). فخبـر بتعزيرهم وأنهم كذبوا الله ورسوله، وقال: â Ü=ŠÅÁãy™ tûïÏ%©!$# (#rãxÿŸ2 öNåk÷]ÏB ë>#x‹tã ÒOŠÏ9r& á( )، فانظر إلى أسمائهم وسماتهم.
أما أمر الأطفال فإن نبي الله نوحا عليه السلام كان أعلم بالله – يا نجدة – مني ومنك، فقال: â Éb>§‘ Ÿw ö‘x‹s? ’n?tã ÇÚö‘F{$# z`ÏB tûï͍Ïÿ»s3ø9$# #•‘$­ƒyŠ y7¨RÎ) bÎ) öNèdö‘x‹s? (#q=ÅÒムš‚yŠ$t6Ï㠟wur (#ÿrà$Î#tƒ žwÎ) #\Å_$sù #Y‘$¤ÿŸ2 á( ) فسماهم بالكفر وهم أطفال وقبل أن يولدوا، فكيف كان ذلك في قوم نوح ولا نكون نقوله في قومنا، والله يقول:
â ö/ä.â‘$¤ÿä.r& ׎öyz ô`ÏiB ö/ä3Í´¯»s9'ré& ôQr& /ä3s9 ×ouä!#tt/ ’Îû ̍ç/–“9$# á( )، وهؤلاء كمشركي العرب لا تقبل منهم جزية، وليس بيننا وبينهم إلا السيف أو الإسلام، وأما استحلال أمانات من خالفنا، فإن الله  أحل لنا أموالهم كما أحل لنا دماءهم، فدماؤهم حلال طلق، وأموالهم فئ للمسلمين، فاتق الله وراجع نفسك، فإنه لا عذر لك إلا بالتوبة، ولن يسعك خذلاننا والقعود عنا، وترك ما نهجناه لك من طريقتنا ومقالتنا، والسلام على من أقر بالحق وعمل به" ( ).
ومن هذا النص يتبين لنا منهج ابن الأزرق حيال المخالفين، فهو يرى تشريكهم، ووجوب الهجرة من دارهم، وتحريم مناكحتهم وموارثتهم، واستحلال أماناتهم وسبيهم، وجواز قتل أطفالهم ونسائهم وغنيمة أموالهم وعدم العذر لمن قعد عن القتال مع الأزارقة.
وهذه الآراء أشد آراء قيلت حتى ذلك الوقت بين صفوف الخوارج، حتى إنها فتحت بابا لفتنة لم يغلق بعد ذلك، وأماتت أي فرصة أمام الخوارج للعودة إلى صفوف الجماعة مرة أخرى، وتتابع الباقون في السير على هذا النهج بعد ذلك، وظل نافع أميراً للأزارقة حتى قتل في موقعة دولاب( ) وبايعوا قطري بن الفجاءة من بعده( ).
3- النجدات:-
أتباع نجدة بن عامر الحنفي، كان باليمامة وخرج يريد نافع ومن معه فاستقبله أناس وأخبروه بما أحدثه نافع من إكفار القعدة( ) وبايعوه وسموه
أميرا للمؤمنين( ).
لكن كعادة الخوارج في الاختلاف على أئمتهم، وتصيد الأخطاء لهم، نقموا على نجدة عدة أمور، منها: أنه بعث بعثا واستعمل عليهم ابنه، فقتل وسبى وغنم، فأخذوا النساء وقوموها على أنفسهم وقالوا: إن صارت قيمهن في حصصنا فذاك، وإلا رددنا الفضل، ونكحوهن قبل القسمة، فلما رجعوا إلى نجدة وقالوا: لم نعلم أنه لا يسعنا، عذرهم بجهالتهم، فاختلف أصحابه عليه في ذلك( ).
وقال النجدات: الدين أمران، أحدهما: معرفة الله تعالى ومعرفة رسله عليهم السلام، وتحريم دماء المسلمين – يعني موافقيهم – والإقرار بما جاء من عند الله جملة، فهذا واجب على الجميع، والجهل به لا يعذر فيه. الثاني: ما سوى ذلك فالناس معذورون فيه إلى أن تقوم عليهم الحجة في الحلال والحرام( ).
وهنا يلحظ خلاف بين الأزارقة والنجدات، فالأزارقة جعلوا الإيمان قولا وعملا، بينما جعله النجدات معرفة وإقراراً.
وقد تفرد النجدات بآراء خالفوا بها المذهب منها:
من ثقل عن هجرتهم فهو منافق، وتولوا أصحاب الحدود والجنايات من موافقيهم، وأجمعوا أنه لا حاجة للناس إلى إمام وأن عليهم أن يتناصفوا فيما بينهم، فإن رأوا أن ذلك لا يتم إلا بإمام يحملهم عليه فأقاموه جاز، وأسقط حد الخمر، وزعم أن من نظر نظرة صغيرة، أو كذب كذبة صغيرة وأصر عليها فهو مشرك، ومن زنى وسرق وشرب الخمر غير مصر عليه فهو مسلم إذا كان من موافقيه على دينه( ).
لذلك فإن أتباعه استتابوه ثم خلعوه وأقاموا مكانه أبا فديك( )، ووثب أبو فديك على نجدة فقتله.
وفي هذا صورة واضحة لما كان عليه الخوارج من اختلاف، وخروج على أئمتهم، وتكفير لهم، بل يصل الأمر إلى القتل إذا خرجوا عن المبادئ التي قرروها.
4- الصفرية:-
هم أتباع زياد بن الأصفر( )، وعلى هذا فاشتقاق الاسم من رئيس الفرقة، وقيل إن " نسبتهم إلى عبد الله بن صفار، وقال قوم: إنما سموا بصفرة علتهم، وتصديق ذلك قول ابن عاصم الليثي، وكان يرى رأي الخوارج فتركه وصار مرجئا:
فارقت نجدة والذين تزرقـوا
وابن الزبير وشيعة الكذاب

والصفر الآذان الذين تخيروا
دينا بلا ثقة ولا بكتاب( )

وقد ذكر الأشعري أن نسبتهم إلى عبيدة، وكان ممن خالف نجدة ورجع من اليمامة( )، ومن العجيب أن ينسبهم الملطي إلى المهلب بن أبي صفرة( )، وهذا خطأ بين؛ لأن المهلب كان من أعداء الخوارج، وخاض ضدهم حروبا كثيرة.
وجملة قولهم كقول الأزارقة، غير أنهم لا يرون قتل أطفال مخالفيهم ونساءهم( ).
وهذا تطور في آراء الخوارج، وتخفيف من غلو الأزارقة الواضح، فآراؤهم تجنح إلى التخفيف من غلواء التطرف الذي اتسمت به آراء الأزارقة(وقد كفل لهم ذلك معايشة الجماعة الإسلامية بدلا من إشهار عدائهم لها، الأمر الذي أتاح لهم القدرة على الدعوة السرية المنظمة لكنهم كانوا أشد تطرفا من الإباضية في موقفهم من مرتكبي الكبيرة، ومن ثم مسألة الكفر والإيمان، فبينما رأي الإباضية أنهم موحدون، قال الصفرية بتكفيرهم" ( ).
لكن هذا اللين في آرائهم لا يمنع تشددهم في جوانب أخرى، فأصل الغلو الخارجي موجود، وإن كان أقل حدة عن غيرهم من الفرق الأخرى، غاية الأمر أنهم خالفوا سابقيهم في بعض الأمور، وإلا فإن عبيدة وهو من مؤسسي الفرقة قال: " بجملة مذهب الخوارج من أن مخالفيهم مشركون، السيرة فيهم السيرة في أهل حرب رسول الله  الذين حاربوه من المشركين" ( ).
إذا فتسامحهم، أو معايشتهم للجماعة المسلمة أمر نسبي بالنسبة لغيرهم من الفرق الأخرى الغالية، أما الخط العام فلا يتجاوز أصول المذهب الخارجي إلا قليلا.
وقد ذكر البغدادي أن الصفرية صارت ثلاث فرق:
الأولى: تزعم أن صاحب كل ذنب مشرك كما قالت الأزارقة.
الثانية: تزعم أن اسم الكفر واقع على كل صاحب ذنب ليس فيه حد،
والمحدود في ذنبه خارج عن الإيمان، وغير داخل في الكفر.
الثالثة: تزعم أن اسم الكفر يقع على صاحب الذنب إذا حده الوالي على
ذنبه( ).
5- الإباضية:-
ينتسب الإباضية إلى عبد الله بن إباض الذي خرج في أيام مروان بن محمد( ) فوجه إليه عبد الملك بن محمد بن عطية فقاتله( ).
والإباضية يعودون بأصولهم إلى جماعة من التابعين وتابعي التابعين، كجابر بن زيد( )، وأبو عبيدة مسلم بن أبي كريمة( )، والربيع بن حبيب( ) وغيرهم.
وهم ينكرون ارتباطهم بالخوارج، ويرفضون أن يتم تصنيفهم ضمن فرق الخوارج الغالية، وإن كان عبد الله بن إباض يعتبر نفسه امتدادا للمحكمة الأولى( )، ثم هم يخالفون سائر الطوائف الأخرى في أقوالهم.
ويفسر البعض ذلك بأن حركة الخوارج كانت تضم تيارات متعددة، وأن سلفهم الأول كانوا يمثلون تيارا معتدلا داخل تلك الحركة، وأن ذلك التيار كان يمثله مرداس بن أدية وعبد الله بن إباض، وعلينا أن لا نحمل هذا التيار تبعة ما قام به الخوارج من أعمال متطرفة( ).
لكن الذي ينبغي مراعاته حقا هو قياس آراء الإباضية، وهل تمثل حقا تيارا معتدلا يغاير تيار الغلو داخل المذهب الخارجي؟
ينسب كتاب الفرق والمؤرخون إلى الإباضية آراء غالية ومتطرفة، رغم اعترافهم أن الإباضية أكثر الفرق الخارجية اعتدالا واقترابا من منهج أهل السنة، فنسبوا إليهم القول بأن كفار هذه الأمة – يعنون مخالفيهم – براء من الشرك والإيمان، وأنهم ليسوا مؤمنين ولا مشركين، ولكنهم كفار، وأجازوا شهادتهم، وحرموا دماءهم في السر وأحلوها في العلانية، وصححوا مناكحاتهم والتوارث منهم( ).
وقالوا: إن دار مخالفيهم من أهل الإسلام دار توحيد إلا معسكر السلطان فإنه دار بغي( ).
وقد اعترض الإباضية المعاصرون على قول الإباضية إن المخالفين كفار، وقالوا: إن المقصود كفر نعمة لا كفر اعتقاد، وان كلمة كفر بهذا المعنى لا يطلقها الإباضية على من خالفهم فحسب، بل هي مصطلح يستخدمونه حتى بالنسبة للعصاة منهم، فهم إذن لا يفرقون بين مخالفيهم وجماعتهم، بل يعتبرون العصاة من الفريقين كفارا أو عصاة لتقصيرهم في جنب الله( ).
من خلال ذلك يتبين أن الإباضية على رأي المحكمة الأولى قبل أن يدخل تيار التشدد الغالي على يد نافع بن الأزرق، بل إن الخوارج نفسهم يتبرؤون من الإباضية "برئت الخوارج من الإباضية لأنهم حرموا الاستعراض إذا خرجوا، وحرموا دماء مخالفيهم حتى يدعوهم إلى دينهم" ( ).
 هذه أهم فرق الخوارج، والتي تفرع عنها باقي فرقها الأخرى، وسوف أذكر باقي فرقهم إجمالا:-
الحفصية: أمامهم حفص بن أبي المقدام، ذكر كتاب الفرق أنها فرقة من الإباضية، لكن الإباضية برئت منهم.
الحارثية: أصحاب حارث بن يزيد الإباضي، من فرق الإباضية، لكن الإباضية برئت منهم، لمخالفتهم لآرائهم.
اليزيدية: أصحاب يزيد بن أبي أنيسة الخارجي، له آراء خرج بها عن شريعة الإسلام، فتبرأ منه الإباضية.
العجاردة: أصحاب عبد الكريم بن عجرد، تفرد بأقوال عديدة داخل المذهب، وقد انقسمت الفرقة إلى فرق صغيرة كثيرة.
الصلتية: أصحاب عثمان بن أبي الصلت.
الحمزية: أصحاب حمزة بن أدرك، انفرد ببعض الآراء، منها: جواز إمامين في عصر واحد ما لم تجتمع الكلمة أو تقهر الأعداء.
الخلفية: أصحاب خلف الخارجي، عاد إلى مذهب أهل السنة في كثير من
أقواله.
الميمونية: أصحاب ميمون بن خالد، كان من العجاردة لكنه تفرد بأقوال
أخرجته من الإسلام، كجواز نكاح بنات البنات، وإنكار كون سورة يوسف من القرآن الكريم.
الثعالبة: أتباع ثعلبة بن مشكان، كان من أتباع عبد الكريم بن عجرد، لكنه خالفه في بعض الآراء.
الأخنسية:أتباع الأخنس ين قيس، كان من الثعالبة، ثم خالفهم.
المعبدية: قالوا بإمامة معبد بعد ثعلبة، وتفرد بآراء أخرجتهم عن الثعالبة.
الشيبانية: أصحاب شيبان بن سلمة، كانوا من الثعالبة فخرجوا عنهم.
المكرمية: أصحاب أبي مكرم بن عبد الله العجلي، من الثعالبة لكنهم
خالفوهم في بعض آرائهم.
الخازمية: أصحاب حازم بن علي، قالوا في بعض أقوالهم بمذهب أهل السنة، مما جعلهم أقرب إلى أهل السنة من الخوارج.
الشعيبية: أصحاب شعيب بن محمد، كانوا من جملة العجاردة، ويوافقون
أهل السنة في بعض أقوالهم.
الشبيبية: أتباع شبيب بن يزيد الشيباني، من أشهر أقوالهم: جواز إمامة المرأة.
البهيسية: أصحاب أبي بهيس الهيصم بن جابر، تفردوا بعدة آراء خالفوا بها عامة الخوارج.
الشمراخية: أصحاب عبد الله بن شمراخ( ).
هذه أبرز الانقسامات التي حدثت داخل إطار المذهب الخارجي، والتي كانت سببا في أن يصل تعداد فرق الخوارج إلى هذا العدد الكبير.
تعقيب:
من خلال هذا العرض لأشهر فرق الخوارج، وما حدث بينها من خلافات وانقسامات، تظهر لنا بعض الملاحظات على أسلوبهم ومنهجهم، من هذه الملاحظات:-
أولاً: أن أسباب الخلاف بين فرق الخوارج تبدو أسبابا غير مؤثرة في جوهر المذهب، ولكن لأن الخوارج قد غلبت عليهم فكرة الولاء والبراء وتمكنت عندهم طبقوها داخل صفوفهم، فكانوا يتولون موافقيهم، ويتبرأون من مخالفيهم داخل إطار الفرقة الواحدة، وكانوا يتصيدون لأئمتهم الأخطاء الصغيرة ليثوروا عليهم، وربما يرجع ذلك إلى بساطة تفكيرهم، والسذاجة التي يتعاملون بها مع النصوص الواردة، حتى إنهم ليرون الرأي ثم يرجعون عنه، وهم في كل مرة يعتقدون أن رأيهم هو الصواب الذي لا محيد عنه.
يروى أن أصحاب نجدة استتابوه على أمور أحدثها، فأظهر التوية، فتركوا النقمة عليه والتعرض له، وندمت طائفة على هذه الاستتابة، وقالوا: أخطأنا وما كان لنا أن نستتيب الإمام، وما كان له أن يستتيب باستتابتنا إياه، فتابوا عن ذلك وأظهروا الخطأ، وقالوا له: تب عن توبتك وإلا نابذناك، فتاب من توبته( ).
فالمبدأ الذي يعتقدونه -مهما كان صغيرا – فهو عقيدة يعتنقونها، ويحملون الناس عليها، حتى ولو كان الأمير.
ثانياً: أن هناك خطا عاما يجمع الفرقة، وتظهر فيه أصول المذهب الخارجي، وتقترب كل فرقة من هذا الخط أو تبتعد عنه بمدى غلوها أو تساهلها في آرائها، فمنهم المتشدد الغالي كالأزارقة، ومنهم المتساهل في آرائه كالإباضية، لكن أصل المذهب يجمع هذه الفرق كلها.
ثالثاً: يوجد تياران داخل فكر الخوارج، فبينما كانت النشأة الأولى على يد المحكمة الأولى، بما عرف عنها من اعتدال نسبي في آرائها، كانت النشأة الثانية للخوارج عام 65هـ على يد نافع بن الأزرق بغلوه الواضح، ونهجه المتشدد الذي خالف به من سلفه في الفرقة، وظل التياران داخل الفرقة، لكل منهما رؤاه المختلفة، وأحكامه المتباينة.
رابعاً: من السمات البارزة عند الخوارج: الإخلاص الشديد للمذهب، والتفاني في سبيل تقرير الحق الذي يعتنقوه، فهم أصحاب مبدأ يقاتلون من أجله، ولم يكونوا أصحاب دنيا ولا طلاب جاه، وإنما كان همهم الأكبر نصرة مبادئهم حتى لو فنوا جميعا في سبيل إحيائها، وهذا ما أكسبهم القوة والشكيمة في معاركهم.
خامساً: هذه الانقسامات المتعددة قد أضعفت الخوارج – خاصة مع تطور هذه الخلافات إلى قتال فيما بينهم – الأمر الذي كان سببا رئيسا في انهيارهم، رغم إيمانهم بآرائهم وثباتهم عليها، وربما لو كان الخوارج يدا واحدة، ولم يختلفوا فيما بينهم لتغير أمرهم كثيرا عما صاروا إليه، لكن الواقع أنهم كانوا لا يحاربون في جبهة واحدة، ولا يجتمعون تحت لواء واحد، مما عجل بالقضاء عليهم.

 
حركات الخوارج وثوراتهم

لم تنقطع حركات الخوارج في وقت من الأوقات إلا من أجل تنظيم صفوفهم، وإعادة الكرة مرة أخرى، حتى إن جميع ما يروى عن الخوارج في كتب الفرق والتاريخ لا يعدو أحد أمرين: إما حديث عن ثورة وخروج على الدولة، وإما حديث عن خلافاتهم وتمزقهم وتحزبهم فرقا صغيرة، وهكذا كانت تمضي مسيرة الخوارج.
وقد بدأت هذه الحركات مبكرا بعد حرب النهروان مباشرة، حيث خرجوا على الإمام عليّ قبل مقتله، واستمر خروجهم حتى العصر العباسي.
وسوف أستعرض هذه الحركات بإيجاز، لأن مقصد البحث ليس التأريخ للحركة، وإنما بيان موقف الخوارج، وآرائهم حيال الأئمة، وموقفهم من الخروج على الحاكم.
أولاً: ثورات الخوارج على الإمام عليّ:-
بعد حرب النهروان مباشرة بدأت حركات الخوارج ضد الإمام عليّ ، ففي سنة ثمان وثلاثين خرج أشرس بن عوف الشيباني على عليّ  في مائتين من أصحابه، فوجه إليه علي ثلاثمائة رجل فقاتلوهم.
ثم خرج هلال بن علفة في أكثر من مائتين فوجه إليهم جيشا قاتلهم في جمادى الأولى.
ثم خرج الأشهب بن بشر في مائة وثمانين رجلا، فوجه إليهم عليّ بعض أصحابه فقتلوهم في جمادى الآخرة.
ثم خرج سعيد بن قفل التيمي، ومعه مائتا رجل فخرج إليهم أصحاب عليّ فقتلوهم في رجب.
ثم خرج أبو مريم السعدي التيمي ومعه مائتا رجل أو أربعمائة، لم يكن معه من العرب غير ستة نفر هو أحدهم، فخرج إليهم عليّ  بنفسه فقاتلهم، ولم يسلم منهم غير خمسين رجلا استأمنوا فأمنهم عليّ، وداوى الجرحى منهم وعددهم أربعون، وذلك في رمضان سنة ثلاث وثلاثين( ).
ثانياً: ثورات الخوارج في العصر الأموي:-
كان الخوارج من أشد الناس بغضا لمعاوية، لأنهم في الأصل كانوا من شيعة عليّ، ثم إنهم يرون أن معاوية قد اغتصب الخلافة بالتحكيم، وهو الذي أضعف وحدة المسلمين، لذلك لم تهدأ ثورات الخوارج على الأمويين كلما ظهر منهم عدد يسمح بالخروج أو الثورة، ووقفوا في وجه الدولة الأموية وقفة شجاعة، مما أقض مضاجعهم، وصرفوا جهودهم إلى محاربتهم، حتى كانوا من أقوى عوامل انهيار الدولة بعد أن استنفذت جهدها في محاربتهم، مما مكن للعباسيين بعد ذلك أن يستولوا على الخلافة.
وسوف أذكر أشهر ثوراتهم ضد الأمويين، ليس على سبيل الإحصاء،ولكن بالقدر الذي يبين موقفهم من الدولة وصراعهم معها .
ما أن تنازل الحسن بن علي ( ) عن الخلافة إلى معاوية، حتى خرجت طائفة ممن اعتزلت يوم النهروان بقيادة فروة بن نوفل الأشجعي، وخرجوا إلى الكوفة، فأرسل إليهم معاوية جيشا فقاتلوه، فحرض عليهم أهل الكوفة فاستجابوا له وقاتلوهم( ).
وفي العام التالي تجمع منهم أربعمائة نفر بقيادة حيان بن ظبيان السلمي، وولوا عليهم المستورد بن علفة التيمي، وتواعدوا على الخروج غرة شعبان سنة 43هـ، وعاملهم المغيرة بن شعبة( ) – عامل معاوية على الكوفة آنذاك – بلطف، لأنه كان يكره إراقة الدماء، لكنه لما علم بخروجهم قبض عليهم وأودعهم السجون، وجهز لمن بقي منهم جيشا قوامه ثلاثة آلاف فأبادهم عن آخرهم( ).
ولماشعر معاوية بخطر الخوارج استعمل على الكوفة زياد بن أبيه( )، وكانت هذه مرحلة جديدة في الصراع مع الخوارج، حيث لم يستعمل معهم اللين، وإنما اتبع معهم سياسة الحزم والشدة حتى انتهى عهد الخوارج في الكوفة.
لكن ينبغي الإشارة إلى أمر، وهو أن الخوارج ما كانوا يتوقعون من خصومهم لينا في المعاملة، ولا كان يعنيهم سلوك الخصوم من شدة أو مسامحة، فهمهم الأول هو الخروج والثورة ولو كان في ذلك فناؤهم. ويرجع ذلك لشجاعتهم من جهة، واستعدادهم للفناء من أجل نصرة مذهبهم من جهة أخرى.
أما في البصرة فقد بدأ خروجهم فيها سنة إحدى وأربعين بخروج سهم بن غالب في سبعين رجلا من أصحابه.
وتوالى خروجهم بعد ذلك، ففي سنة50 هـ خرج قريب الأزدي وزحاف الطائي بالبصرة، فاشتد عليهم زياد فقتلهم، ثم خرج زياد بن خراش في ثلاثمائة فارس فسير إليهم زياد جيشا فقتلهم، وفي سنة 58هـ خرج طواف بن غلاق مع سبعين رجلا قاتلهم شرط عبيد الله بن زياد( )حتى أفنوهم عن آخرهم وصلبوا طوافا.
ومن أشهر ثورات الخوارج في البصرة خروج أبي بلال مرداس بن أدية في أربعين من أصحابه سنة ثمان وخمسين من الهجرة، وسبب خروجه أن عبيد الله بن زياد قتل في هذه السنة جماعة كثيرة، منهم عروة بن أدية أخو مرداس، فحز ذلك في نفسه، إضافة إلى مشاهدته مصرع البثجاء( ) فقال: "أهذه أطيب نفسا بالموت منك يا مرداس؟! ما ميتة أموتها أحب إلى من ميتة البثجاء"،وخرج في أربعين من أصحابه فهزموا جيشا عدته ألفا مقاتل أنفذه لهم ابن زياد( ).
لكن عبيد الله بن زياد أرسل لهم ثلاثة آلاف مقاتل فقتلوه هو وأكثر أصحابه عام61هـ ( )
ولما اشتد عبيد الله بن زياد عليهم قدموا على عبد الله بن الزبير( ) في مكة ليقاتلوا معه أهل الشام، فلما وضعت الحرب أوزارها أرادوا معرفة موقف ابن الزبير، هل هو على رأيهم أم يخالفهم؟ فلما علموا مخالفته لهم فارقوه ورحلوا من عنده( ).
ولهذا الموقف دلالة عميقة على سلوك الخوارج، فهم لا يبغون من وراء حروبهم كسبا ماديا، وإنما قتالهم من أجل مبدأ اعتنقوه، وآمنوا به، واستعدوا أن يموتوا من أجله،فمع كونهم منتصرين مع ابن الزبير، ويحاربون عـدوا مشتركا، إلا أنهم عندما علموا أنه ليس على رأيهم فارقوه، ورحلوا عنه.
وكان ممن فارقه إلى البصرة نافع بن الأزرق، ثم لحق بالأهواز( ) واستولى عليها، وأخذ الفزع يشتد في قلوب أهل البصرة حتى طلبوا من الأحنف بن قيس( ) أن يتولى حربهم، فأشار عليهم بالمهلب بن أبي صفرة لشجاعته وإقدامه، فدارت بين الفريقين معارك طاحنة تبادلوا فيها النصر والهزيمة،حتى انتهت بهزيمة الخوارج( ).وممن فارق نافع نجدة بن عامر،فسار إلى اليمامة( )، ثم خرج بأصحابه إلى البحرين( ) فاستولى عليها وأقام بها، وحج بالناس سنة ثمان وستين،وفي هذا العام وقفت بعرفات أربعة ألوية: ابن الحنفية( ) في لواء، وابن الزبير في لواء، ونجدة في لواء، ولواء بني أمية( ).
وفي سنة ثمان وستين بايع الخوارج قطري بن الفجاءة أميرا للمؤمنين، وحدث بينه وبين جيوش الخلافة بقيادة المهلب بن أبي صفرة معارك طاحنة حتى دب الخلاف بين اتباع قطري فاعتزلوه وولوا عبد ربه الكبير عليهم، وبايع قطريا منهم عصابة حتى خرج إلى طبرستان( ) فوجه إليه الحجاج جيشا عظيما من أهل الشام، وقتل قطري سنة سبع وسبعين( ).
وبمقتل قطري انقرضت فرقة الأزارقة، وكان أول رؤسائهم نافع بن الأزرق، وآخرهم قطري بن الفجاءة.
ومن ثورات الخوارج في العصر الأموي خروج صالح بن مسرح سنة 76هـ، وكان رجلا ناسكا مصفر الوجه صاحب عبادة، له أصحاب يُقرؤهم القرآن ويفقههم ويقص عليهم، خرج في عدة من أصحابه تبلغ تسعين رجلا حتى قتل، فبايع أصحابه بعده شبيب الخارجي( ).
وقد كان شبيب ذا قوة وبأس، خاض حروبا كثيرة حتى هزم لبني أمية أكثر من عشرين جيشا في خلال سنتين( )، ويذكر الشهرستاني أنه قتل من جيش الحجاج أربعة وعشرين أميرا من أمراء الجيوش( )، وكانت وفاته غريقا في الستة السابعة والسبعين من الهجرة.
وفي عهد عمر بن عبد العزيز( )لم يشأ أن يعاملهم بالشدة والقسوة كما عاملهم سائر الخلفاء، بل اتبع معهم سبيل الإقناع والحجة، وجرت بينه وبينهم مناظرات طويلة استمال بها بعضهم إليه، لكن المنية لم تلبث أن وافته أثناء ذلك( ).
وفي عام 127هـ خرج الضحاك بن قيس الشيباني وزحف إلى الكوفة مع أنصاره الذين بلغوا تعدادا عظيما، فأرسل مروان بن محمد ولده لحربهم، ثم لحق به فقضى عليهم عام 128 هـ( ).
وفي عام 129هـ خرج أبو حمزة الخارجي بعد أن تحالف مع عبد الله بن يحيى طالب الحق ( )، وبايعه على الخلافة، ودخل المدينة في صفر عام 130هـ وأقام بها ثلاثة أشهر، ثم سار إلى الشام فأرسل إليه مروان بن محمد جيشا التقى معه، فقتل أبو حمزة وكثير من أصحابه( ).
وكانت هذه الحركة هي نهاية حركات الخوارج في العصر الأموي، حيث ضعف شأنهم بعد ذلك، ووهنت عزائمهم، وكلّت هممهم، لكنهم مع ذلك أضعفوا الدولة الأموية، وكانوا عاملا قويا من عوامل انهيارها، فلم تلبث إلا قليلا حتى قامت الدولة العباسية سنة 132هـ.
ثالثا: ثورات الخوارج في العصر العباسي:-
نالت الدولة الأموية من الخوارج قدر ما نالوا منها، فخرجوا من صراعهم مع الأمويين منهكي القوى واهني العزيمة، فهم وإن واصلوا صراعهم مع العباسيين إلا أنه كان أقل خطورة عن ذي قبل، حتى وصفوا بأنهم ( كانوا في حالة تشبه الاحتضار، وحركاتهم التي أتوا بها في العهد العباسي تشبه حركات المذبوح)( ).
هذا الضعف في صفوف الخوارج جعل العباسيين في موقف القوة، فما أن يخرج منهم خارج إلا ويجد من قوة الخلافة ما يصده، فلم يهددوهم كما هددوا الأمويين، وسوف أذكر أشهر ثوراتهم ضد العباسيين.
كان أول خروج في العصر العباسي هو خروج الجلندي بن مسعود، حيث أراد منع جيش الخليفة السفاح( ) من دخول عمان( )، ووقع بينهم قتال شديد حتى قتل منهم عشرة آلاف( ).
وفي سنة 137هـ خرج ملبد بن حرملة الشيباني، وكان شجاعا جريئا هزم جيوشا كثيرة للخلافة، حتى بعد معركة طويلة هزم فيها جيشه البالغ ثمانية آلاف مقاتل( ).
وتوالى خروجهم في العصر العباسي، لكنهم لم يكونوا بالقوة التي كانوا عليها، فلم تكن جيوشهم تصمد كثيرا أمام جيوش الخلافة حتى قضي عليهم تماما ولم يعد لهم وجود على الساحة.
تعقيب:
من خلال هذه الثورات المتعددة للخوارج يمكن أن نرصد بعض الجوانب التالية:-
أولاً: تميز الخوارج بالشجاعة الفائقة، والبسالة النادرة، حتى إن العدد القليل منهم يهزم جيشا خمسين ضعفا للخوارج( ).
وقد كان هذا أمرا بارزا عند الخوارج، حيث شاع عندهم الرغبة في الموت وحب الاستشهاد، فكانوا يواجهون المخاطر بفدائية عجيبة، ويثبتون في الساعات الحرجة ثباتا لا نظير له، ويستهينون بزخرف الدنيا دفاعا عن المبدأ الذي اعتقدوه.
ذكر الطبري أنهم لما كسروا سجن الكوفة وخرجوا منه بعد وفاة المغيرة بن شعبة اجتمعوا فخطبهم زعيمهم حيان بن ظبيان – رغم قلة عددهم – فدعاهم: أن تعالوا على الموت، أخرجوا أنفسكم من الفتن، هلموا إلى جنة الخلد، فأطاعوه( ).
ويمثل شجاعتهم خبر تمثيل قول قطري بن الفجاءة:-
أقول لها وقد طارت شـعاعا

من الأبطال ويحك لن تراعـي

فإنك لو سألت بقاء يــــوم
عن الأجل الذي لك لن تطاعي

فصبرا في مجال الموت صبرا

فمـــا نيل الخلود بمستطاع

ولا ثوب البقاء بثوب عـــز
فيطوى عن أخي الخنع اليراع

سبيل الموت غاية كل حــي
فــداعية لأهل الأرض داع( )

وقد امتدت هذه الشجاعة لنساء الخوارج، فقد كن على درجة عالية من الشجاعة والثبات، وخير مثال لذلك: غزالة التي دخلت الكوفة في مائتين من نساء الخوارج قد اعتقلن الرماح وتقلدن السيوف، وقصدت المسجد الجامع فصلت فيه، وقد صبر الحجاج في بيته ولم يخرج( ).
ومنهن أم حكيم الخارجية، كانت من أشجع الناس، وأجملهم وجها، وأحسنهم بالدين تمسكا، وخطبها جماعة منهم فردتهم ولم تجبهم
فأخبر من شاهدها في الحرب أنها كانت تحمل على الناس، وترتجز فتقول:
أحمل رأسا قد سئمت حمله
وقد مللت دهنه وغسله

ألا فتى يحمل عني ثقله

والخوارج يفدونها بالآباء والأمهات، فما رأينا قبلها ولا بعدها مثلها( ).
بل إنهن كن يسارعن إلى الخوارج مما يقلق الأمويين، حتى ظفر زياد بامرأة منهم فقتلها، ثم عرَّاها، فلم تخرج النساء بعد على يزيد، وكن إذا دعين إلى الخروج قالوا: لولا التعرية لسارعنا( ).
وكانوا يربون أبناءهم على هذه الشجاعة، ومما يروى عنهم في ذلك أن أحدهم – وكان بارا بأمه – أراد الخروج فقال لها: يا أمة لولا مكانك لخرجت. فقالت: يا بني قد وهبتك لله( ).
ثانياً: أن شجاعة الخوارج كانت متهورة، لا تعرف حقاً لكبير أو صغير أو امرأة، وربما دفعهم تهورهم واندفاعهم إلى ارتكاب أمور يعجز المرء عن فهمها.
خرجوا ذات مرة فرأوا رجلا اسمه سماك بن يزيد ومعه بنت له، فأخذوها ليقتلوها، فقالت لهم: يا أهل الإسلام إن أبي مصاب فلا تقتلوه، وأما أنا فجارية، والله ما أتيت فاحشة قط، ولا آذيت جارة لي، ولا تطلعت ولا تشوفت قط، فلما أرادوا قتلها سقطت ميتة، فقطعوها بأسيافهم( ).
فقد كانوا يعاملون مخالفيهم بشدة وقسوة، ولا تأخذهم بهم رأفة ولا رحمة، أخذوا امرأة فقتلوا أباها بين يديها، وكانت جميلة، ثم أرادوا قتلها، فقالت: أتقتلون من ينشأ في الحلية وهو في الخصام غير مبين. فقال قائل منهم: دعوها. فقالوا: قد فتنتك، ثم قدموها فقتلوها( ). فهم حتى لم يقبلوا شفاعة واحد منهم فيها، لأنهم جبلوا على قسوة القلب، والخشونة في التعامل.
ثالثاً: أن الخوارج ما كانوا يقاتلون في سبيل متاع دنيوي، بل من أجل مبدأ يرون أن إقامته فرض عليهم، ومن أجل ذلك فارقوا عبد الله بن الزبير مع أنهم كانوا يقاتلون عدوا مشتركا، وفي سبيلهم للنصر، لكن لما علموا أنه على غير رأيهم فارقوه غير نادمين.
يروى أن شبيبا حاصر إحدى المدن فندب من أصحابه من يأتيه برأس عاملها، فساروا حتى أتوا دار العامل ونادوا: أجيبوا الأمير.
فقالوا: أي الأمراء؟ قالوا: أمير خرج من قبل الحجاج يريد هذا الفاسق شبيبا، فاغتر العامل بذك وخرج إليهم فضربوا عنقه، وقبضوا على ما كان في دار الإمارة من مال، ولحقوا بشبيب، فلما انتهوا إليه قال: ما الذي أتيتمونا به؟ قالوا: جئناك برأس الفاسق وما وجدنا من مال، والمال على دابة في بدرة. فقال شبيب: أتيتمونا بفتنة للمسلمين. هلم الحربة يا غلام! فخرق بها البدرة وأمر فنخس بالدابة والمال يتناثر من البدرة حتى وردت الصراة، فقال: إن بقي شئ فاقذفه في الماء( ).
وإذا كانوا بهذه الصورة فإن قتالهم يكون عنيفا، لأن غرضهم أحد أمرين: نصرة مذهبهم، أو الشهادة.

الفصل الخامس
أشهر زعماء
الخوارج

لكل فرقة وطائفة زعماؤها، يصدر القوم عن رأيهم، ويأتمرون بأمرهم، ويسترشدون بقولهم، ولهؤلاء الزعماء مزايا منها: قوة الأخذ بالمذهب، والدعوة إليه، وحمل الناس عليه، والشجاعة الفائقة.
وما كان الخوارج ببدع من الأمر في ذلك، فكان منهم الزعماء الذين يشار إليهم بالبنان، وقد تميز مذهبهم بجماعة من الزعماء كانوا المثل الأعلى في الأخذ بالمذهب، وكانوا يلهبون حماس الأتباع، بل أن ذكراهم بعد مماتهم كانت دافعا لأتباعهم للسير على نهجهم، والأخذ بآرائهم.
وسوف أعرض في هذه الصفحات سيرة بعض من هؤلاء القادة، ليظهر لنا كيف كان أخذهم بالمذهب، وكيف أسهموا في دعوة الناس إليه، ومدى تضحياتهم في سبيل المبدأ الذي اعتنقوه، ومن أشهر هؤلاء الزعماء: -
1- عبد الله بن وهب الراسبي:-
من بني راسب، شهد فتوح العراق مع سعد بن أبي وقاص( ).
لما بعث  أبا موسى لإنفاذ الحكومة، اجتمع الخوارج في منزل عبد الله ابن وهب، فخطبهم خطبة بليغة، زهدهم في الله، اعتزل الفتنة، توفي عام 55هـ.
الدنيا ورغبهم في الآخرة والجنة، وحثهم على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ثم قال: اخرجوا بنا إخواننا من هذه القرية الظالم أهلها إلى جانب هذا السواد على بعض كور الجبال، أو بعض هذه المدائن منكرين لهذه الأحكام الجائرة( ).
وبعد هذه الخطبة أرادوا تولية أمير عليهم، فامتنع كثير منهم، حتى عرضوها عليه فقبلها وقال: والله ما أقبلها رغبة في الدنيا، ولا أدعها فرقا من الموت.وكانت هذه البيعة لعشر بقين من شوال سنة سبع وثلاثين، وذكر بعض المؤرخين أنهم سموا بعد هذه البيعة الراسبية( ).
وبعد أن اعتزلوا في النهروان خرج إليهم سيدنا عليّ وطالبهم بقتلة عبد الله بن خباب، فأبوا، وناظرهم فرجع منهم عدد كثير، ولم يبق مع عبد الله بن وهب إلا ألف أو أقل، فكف عنهم علي حتى يبدأوهم بالقتال، فبدأوا فقاتلهم علي وأصحابه، وقتل عبد الله بن وهب لسبع خلون من صفر سنة ثمان وثلاثين من الهجرة( ).
وكان عجبا في كثرة العبادة، حتى لُقِّبَ بذي الثفنات، لكثرة سجوده صار في يديه وركبتيه كثفنات البعير( ).
ولأبي بلال مرداس بن حدير شعرا في عبد الله بن وهب يمدح خروجه:-
أبعد ابن وهب ذي النزاهة والتقى
ومن خاض في تلك الحروب المهالكا

أحب بقاءً أو أرجي سلامـــة
وقد قتلوا زيد بن حصن ومالكـــا

فيا رب سلم نيتي وبصيرتــي
وهب لي التقى حتى ألاقي أولئكــا( )

2- أبو بلال مرداس بن حدير:-
من بني ربيعة بن حنظلة من بني تميم، ويقال: ابن أدية، وأدية جدة له جاهلية( )، كان ناسكا تعظمه الخوارج، وكان كثير الصواب مجتهدا، وهو تابعي( ).
كان كثير العبادة، دائم البكاء من خشية الله تعالى، مر بأعرابي قد طلى بعيرا له بالقطران فسقط مغشيا عليه، فظن الأعرابي أنه قد صرع فقرأ في أذنه، فلما أفاق قال له الأعرابي:قرأت في أذنك.
فقال له مرداس: ليس بي ما خفته علي، ولكني رأيت بعيرك قد هرج من القطران، فذكرت به قطران جهنم فأصابني ما رأيت، ثم تلا قول الله تعالى:
â Oßgè=‹Î/#ty™ `ÏiB 5b#tÏÜs% 4Óy´øós?ur ãNßgydqã_ãr â‘$¨Y9$# á ( ).
وهو كعادة الخوارج في التعامل مع الولاة، يواجههم بما يعتقد أنه الحق، لا يصرفه عن كلمة الحق صارف ولو كان في ذلك حتفه. خطب عبيد الله بن زياد على المنبر فقال: والله لآخذن المحسن منكم بالمسيء، والحاضر منكم بالغائب، والصحيح بالسقيم، والمطيع بالعاصي، فقام إليه مرداس فقال: قد سمعنا ما قلت أيها الإنسان، وما هكذا ذكر الله  عن نبيه إبراهيم عليه السلام إذ يقول: â zOŠÏdºtö/Î)ur “Ï%©!$# #’®ûur žwr& â‘Ì“s? ×ou‘Η#ur u‘ø—Ír 3“t÷zé& br&ur }§øŠ©9 Ç`»|¡SM~Ï9 žwÎ) $tB 4Ótëy™ ¨br&ur ¼çmuŠ÷èy™ t$ôqy™ 3“tãƒ §NèO çm1t“øgä† uä!#t“yfø9$# 4’nû÷rF{$# á( ) وأنت تزعم أنك تأخذ المطيع بالعاصي، ثم تركه وخرج( ).
وهو إلى جانب هذا صاحب خلق وديانة، يصدق في حديثه، ويلتزم بعهده، حتى إن التزامه يفضي به إلى الهلاك، سجنه عبيد الله بن زياد، فكان السجان يرى عبادته واجتهاده فكان يأذن له في الليل
فينصرف إلى أهله، فإذا طلع الفجر أتاه حتى يدخل السجن، فذكر ابن زياد الخوارج يوما وعزم على أن يقتل من بالسجن منهم في الصباح، ووصل الخبر إلى مرداس، فبات صاحب السجن بليلة سوء إشفاقا من أن يعلم مرداس بالخبر فلا يرجع، فعلم مرداس بالخبر، ولما كان الوقت الذي يرجع فيه إذا به قد طلع. فقال له السجان: هل بلغك ما عزم عليه الأمير؟ قال: نعم. قال: ثم غدوت! قال: نعم، ولم يكن جزاؤك مع إحسانك أن تعاقب بسببي، فاستوهبه السجان من ابن زياد بعد أن قص عليه القصة فوهبه له وأطلق سراحه( ).
خرج في أربعين من أصحابه فهزم جيشا للخلافة عدته ألفا مقاتل، ثم قتل بعد ان أرسل له ابن زياد بجيش قوامه ثلاثة آلاف مقاتل
وقد صار مرداس رمزا للتضحية والفداء عند الفرق كلها، حتى أن جماعة من أهل الأهواء تنتحله، فالمعتزلة تنتحله وتزعم أنه خرج منكرا لجور السلطان داعيا على الحق، وتنتحله الشيعة وتزعم أنه كتب إلى الحسين بن علي: أما أني لست أرى رأي الخوارج، وما أنا إلا على دين أبيك( ).
3- عروة بن حدير:-
أخو مرداس بن حدير، من أوائل الخوارج، قيل: إنه أول من
حكم ونادى بقوله: لا حكم إلا لله، وذلك حين مر الأشعث بن قيس بكتاب التحكيم يقرؤه على الناس، فقال له: أتحكمون في أمر الله  الرجال، لا حكم إلا لله، ثم شد بسيفه فضرب عجز دابته ضربة خفيفة فاندفعت الدابة وكادت تحدث فتنة( ).
حضر معركة النهروان، وكان ممن نجا منها، وظل باقيا مدة خلافة معاوية حتى زمن زياد بن أبيه لما خرج يوما في رهان له، وجلس ينتظر الخيل، واجتمع الناس وفيهم عروة بن أدية، فأقبل على ابن زياد فقال: خمس كن في الأمم قبلنا قد صرن فينا â tbqãZö6s?r& Èe@ä3Î/ ?ìƒÍ‘ Zptƒ#uä tbqèWt6÷ès? tbrä‹Ï‚­Gs?ur yìÏR$|ÁtB öNä3ª=yès9 tbrà$é#øƒrB #sŒÎ)ur OçGô±sÜt/ óOçFô±sÜt/ tûï͑$¬7y_ á( ) وخصلتين لم يحفظهما الراوي، فلما قال ذلك ظن ابن زياد أنه لم يجترئ على ذلك إلا ومعه جماعة من أصحابه، فقام وركب وترك رهانه، فقيل لعروة: ما صنعت، والله ليقتلنك، فتوارى( ). واختفى عروة في الكوفة حتى أُخذ فأتي به زيادا ومعه مولى له، فسأله زياد عن أبي بكر وعمر فقال خيرا، ثم سأله فقال: ما تقول في أمير المؤمنين عثمان بن عفان وأبي تراب علي بن أبي طالب؟ فتولى عثمان ست سنين من خلافته ثم شهد عليه بالكفر، وفعل في أمر عليّ مثل ذلك إلى أن حكم ثم شهد عليه بالكفر. ثم سأله عن معاوية فسبه سبا قبيحا. ثم سأله عن نفسه، فقال: أولك لزنية وآخرك لدعوى( )، وأنت بعد عاص لربك. ثم أمر به فقطعت يداه ورجلاه، ثم دعا به فقال: كيف ترى؟ قال: أرى أنك أفسدتَ دنياي وأفسدتُ آخرتك. فضرب عنقه، ثم دعا موله فقال له: صف لي أموره. فقال: أأطنب أم أختصر؟ فقال: بل اختصر. فقال: ما أتيته بطعام بنهار قط، ولا فرشت له فراشا بليل قط( ).
فقد كان في العبادة على جانب عظيم، صائم بالنهار قائم بالليل، ثم إنه يقول الحق لا يخاف في الله لومة لائم حتى في أحرج الأوقات، حتى بعد أن قطعت يداه ورجلاه وينتظر الموت.
4- عمران بن حطان:-
عمران بن حطان بن ظبيان بن لوزان بن الحارث( )، كنيته: أبو شهاب، وقيل: أبو سماك، وقيل: أبو دلان، والأشهر الأول( ).
رأى عددا من الصحابة وحدث عنهم، روى عنه عدد من التابعين، وثقه العجلي وابن حبان( ).
كان على مذهب جماعة المسلمين، ومبدأ خروجه أن ابنة عم له رأت رأي الخوارج فتزوجها ليردها عن ذلك، فصرفته إلى مذهبها( ).
صار من كبار الخوارج، وهو شاعر مجيد، أثنى عليه الفرزدق( )، وأبياته في مدح ابن ملجم قاتل عليّ  مشهورة.
ولأنه انتسب إلى المذهب كبير السن، فلذا كان لا يباشر القتال، وإنما كان من القعدة الذين يحسنون لغيرهم الخروج ولا يباشرون القتال، ومن أبياته في تحسين الخروج قوله بعد قتل أبي بلال:-
لقد زاد الحياة إلىّ بغضــا

وحبا للخروج أبـــــو بلال

أحاذر أن أموت على فراشي
وأرجو الموت تحت ذرى العوالى

ولو أني علمت بأن حتــفي
كحتف أبي بلال لم أبالــــي

فمن يك همه الدنيا فإنــي
لها والله رب البيت قــــال( )
ساند عمران الخوارج بشعره، ومدح فعالهم، ورثى قتلاهم، ودعا الناس إلى مذهبهم، استشهد البخاري به، ووثقه أبو داود؛ لأن الخوارج لا يكذبون في حديثهم، توفي سنة أربع وثمانين.
5- نافع بن الأزرق:-
نافع بن الأزرق الحنفي، كان من رءوس الخوارج، وإليه تنسب طائفة الأزارقة، وكان شجاعا مقدما في فقه الخوارج( ).
كان يطلب العلم، وسمع من عبد الله بن عباس، وله معه أسئلة في تفسير كثير من كلمات القرآن، وقد أخرج الطبراني جزءاً منها في مسند ابن عباس( ).
كان يفتي بأن الدار –دار المخالفين– دار كفر، وأنهم جميعا في النار، وكل من فيها كافر، ولا يحل لهم أن يأكلوا من ذبائحهم، ولا أن يناكحوهم، ولا يتوارث الخارجي وغيره، وهم مثل كفار العرب وعبدة الأوثان، لا يقبل منهم إلا الإسلام أو السيف...الخ.وقد خرج عنه نجدة بن عامر، وبينهما مراسلات في أوجه الخلاف بينهما( ).
وعندما تولى عبد الله بن الزبير التف عليه جماعة من الخوارج منهم نافع بن الأزرق، فلما استقر أمره في الخلافة قالوا: إنكم قد أخطأتم لأنكم قاتلتم مع الرجل ولم تعلموا رأيه في عثمان، فسألوه– وكانوا ينتقصون عثمان–فأجابهم بما يسوؤهم، وعند ذلك نفروا عنه( ).
وأقام نافع في أصحابه بالأهواز يستعرض الناس، ويقتل الأطفال، ويأخذ الأموال، ويجبي الخراج، وفشا عماله بالسواد، فارتاع لذلك أهل البصرة وسألوا الأحنف أن يؤمر عليهم من يحميهم من الخوارج فأمر عليهم مسلم بن عبيس بن كريز( )، فتقاتل مع نافع وأصحابه في "دولاب" قتالا شديدا، فقُتل ابن عبيس وقُتل نافع بن الأزرق( ).
6- قطري بن الفجاءة: -
هو أبو نعامة قطري بن الفجاءة التميمي المازني، واسم الفجاءة: جعونة بن مازن( ).
كان من الشجعان المشاهير، وله شعر بليغ وخطب فصيحة، وقد آل إليه أمر طائفة الأزارقة بعد قتل الزبير بن عليّ، فأرادوا تولية عبيدة بن هلال، فقال: أدلكم على من هو خير لكم مني، من يُطاعن في قُبُل، ويحمي في دُبُر، عليكم بقطري بن الفجاءة، فبايعوه( ).
خرج بمن معه إلى الأهواز وما حولها، فحاربوا وابلوا بلاءً حسنا، وكان المهلب بن أبي صفرة هو القائد الذي انتدب لقتالهم، وظل ثمانية عشر شهرا لا يصل معهم إلى شئ، حتى قال: إني منتظر بهم إحدى ثلاث: موت ذريع، أو جوع مُضر، أو اختلاف بين أهوائهم( ).
وقد تحققت له الثالثة، فدب الخلاف بينهم–كعادتهم– حتى فارقوا قطري، ولم يبق معه إلا عدد قليل، فضعف أمره، وخرج إلى طبرستان، فوجه إليه الحجاج جيشا فلحقه وقد تفرق عنه أصحابه فقًتل( ).
وقد ظل قطري يحارب نيف عشرة سنة، ويُسلَّم عليه بالخلافة، وكانت وفاته سنة سبع وسبعين على الراجح، ولم يعقب( ).
7- شبيب بن يزيد:-
شبيب بن يزيد بن نعيم بن قيس بن عمرو بن الصلت بن قيس بن شراحيل الشيباني( ).
كان فارسا عديم النظير، ومن صفاته الجسمية أنه طويل أشمط جعد آدم( )، وزوجته غزالة لم ير من النساء أشجع منها.
كان بداية خروجه استجابة لصالح بن مسرح في دعوته للخروج، ولما اكتمل عددهم مائة وعشرة أنفس شدوا على خيل لمروان بن محمد فأخذوها، فسير جيشا لحربهم، فهزموه، ثم توفي صالح سنة ست وتسعين( ).
عُهِد بالأمر بعده إلى شبيب، فهزم جيوش الحجاج مرات حتى إن غزالة دخلت الكوفة وصلت في مسجدها مع مائتين من نساء الخوارج وفاءً لنذر عليها.
جمع الحجاج له خمسين ألفا وخرج لقتاله؛ فكانت وقعة شديدة قتل فيها أخو شبيب وغزالة، وتقهقر شبيب إلى الأهواز، فلما وصل إلى جسر دجيل نفر به فرسه وعليه الحديد الثقيل من درع ومغفر، فقال: â y7Ï9ºsŒ ㍃ωø)s? ͓ƒÍ•yèø9$# ÉOŠÎ=yèø9$# á( )، وألقي به إلى الساحل ميتا، وذلك سنة سبع وسبعين( ).
قال ابن كثير: (ولولا أن الله تعالى قهره بما قهره به من الغرق لنال الخلافة إن شاء الله، ولما قدر عليه أحد)( ).
8- نجدة بن عامر:-
ويقال: نجدة بن عويمر الحنفي، من كبار قادة الخوارج، شارك في الدفاع عن الكعبة مع عبد الله بن الزبير عام أربعة وستين من الهجرة، وكان قد خرج من اليمامة يريد الأزارقة، أتباع نافع، فاستقبله نفر من أهل عسكر نافع وأخبروه ومن معه بما فعله نافع من استحلاف قتل الأطفال والنساء والمخالفين، والبراءة من القاعدين عن القتال وإن كانوا على رأيه، فخرج عليه، وراسله وبين له أخطاءه، ورد عليه نافع في رسائل متبادلة فيما بينهما( ).
بُويع بالخلافة وسمي أمير المؤمنين، وعظم أمره، واستولى على أماكن كثيرة، وحج بالناس سنة ست وستين من الهجرة( ).
لم يزل قويا إلى أن اختلف عليه أصحابه بسبب أمور نقموها عليه، فلما علم بتآمرهم عليه استخفى، حتى زوجته ليعهد إليها، فعلم الفديكية به فقاتلوه، وكان يقاتلهم بشجاعة حتى قتل في السنة الثانية والسبعين من الهجرة( ).
تعقيب: من خلال دراسة هذه التراجم، يمكننا أن نستنتج ما يلي:-
أولاً: أن زعماء الخوارج امتازوا بالشجاعة المفرطة التي تصل إلى حد التهور، وقول الحق الذي يعتقدونه صوابا، مهما يكن من أمر المخالف وقوة بأسه، وقد نقلوا هذه الشجاعة لأتباعهم، فكانوا –أي الفرقة – خير مثال على الشجاعة، لكنها شجاعة غير واعية، وليست مسئولة.
ثانياً: أنهم قد بلغوا في العبادة مبلغا عظيما، وهذا تصديق لكلام النبي : «يحقر أحدكم صلاته إلى صلاتهم، وصيامه إلى صيامهم»، ومن أوضح الأمثلة على ذلك ما وصف به أبو حمزة الشاري أصحابه في خطبته لأهل المدينة لما قال: (يا أهل المدينة: بلغني أنكم تنتقصون أصحابي، قلتم: هم شباب أحداث، وأعراب جفاة. ويحكم يا أهل المدينة، وهل كان أصحاب رسول الله  إلا شبابا أحداثا، نعم والله إن أصحابي لشباب مكتهلون في شبابهم، غضيضة عن الشر أعينهم، ثقيلة عن الباطل أقدامهم، قد باعوا أنفسا تموت غدا بأنفس لا تموت أبدا، وقد خلطوا كلامهم بكلالهم، وقيام ليلهم بصيام نهارهم، محنية أصلابهم على أجزاء القرآن، كلما مروا بآية خوف شهقوا خوفا من النار، وكلما مروا بآية رجاء شهقوا شوقا إلى الجنة، وإذا نظروا إلى السيوف وقد انتُضيت، وإلى الرماح وقد أُشرعت، وإلى السهام وقد فُوِّقَت، وأرعدت الكتيبة بصواعق الموت، استخفوا وعيدها عند وعيد الله، وانغمسوا فيها، فطوبى لهم وحسن مآب، فكم من عين في منقار طائر بكى بها صاحبها من خشية الله، وكم من يد قد أبينت عن ساعدها طالما اعتمد عليها صاحبها راكعا وساجدا في طاعة الله، أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم)( ). وإنها لخطبة بليغة حقا، تبين حال الخوارج أوضح بيان، وتصف عبادتهم، وما كانوا عليه من الطاعة، والشوق إلى لقاء الله تعالى.
ثالثاً: أن زعماء الخوارج كانت لديهم روح الزعامة والجذب لأتباعهم بما امتازوا به من خصال نادرة ومزايا عديدة، وما عندهم من صفات القيادة التي جعلتهم في مقدمة الصفوف حتى ضربوا لأتباعهم المثل الأعلى والقدوة العليا في الأخذ بالمذهب، اقتدى بهم الأتباع وساروا على نهجهم، حتى بعد وفاتهم كانت ذكراهم تلهب حماس أتباعهم، وتكون مثالا يحتذون به، كما حدث مع أبي بلال مرداس بن أدية الذي صار معظما عند كل من جاء بعده، وكما ذكرت فإن كثيرا من الفرق قد انتحلته، وادعت نسبتها إليه، حتى قال عنه يوليوس فلهوزن: (صار عند الخوارج القديس الحقيقي، وإن لم يتمثلوه هم في رقة نفسه ودماثة طبعه، فأثار استشهاده أبلغ الحفيظة في نفوسهم )( ).
رابعاً: أن الخوارج مع تعظيمهم لزعمائهم واتخاذهم قدوة، كانوا لا يلبثون قليلا إلا وينقلبوا عليهم إذا رأوا منهم خروجا على مبادئهم، وهذا من غرائب مذهب الخوارج – وما أكثرها – ويلاحظ هذا الأمر كثيرا، كما اختلفوا مع قطري وحاربوه لمدة شهر، بل قد يصل الأمر إلى القتل كما حدث مع نجدة بن عامر لما قتلوه اعتراضا عليه.
وترجع أسباب ذلك –في رأيي– إلى أن الخوارج كانوا من ضيق الأفق وعدم المرونة على جانب عظيم، تحدث الفُرقة بينهم لخلاف ساذج فيتصورونه مقياسا للولاء والبراء، ثم لا يلبث هذا الخلاف أن يكون سببا للقتال. إضافة إلى أنهم قد أشربوا روح التمرد والثورة، فقد كانت عنصرا أصيلا في تكوينهم الفكري، فمن وسعه أن يخرج على الحاكم لجوره، يسعه أن يخرج على أميره إذا رأى منه ما يكره.
ثم إنهم فرقة مبتدعة، ليس لها أصول ثابتة يرجع إليها عند الاختلاف، وليست على صراط مستقيم، وكل ما ليس على الصراط المستقيم تزيغ به الأهواء، وتضل به الأفئدة، وتتفرق به السبل: â ¨br&ur #x‹»yd ‘ÏÛºuŽÅÀ $VJŠÉ)tGó¡ãB çnqãèÎ7¨?$$sù ( Ÿwur (#qãèÎ7­Fs? Ÿ@ç6¡9$# s-§xÿtGsù öNä3Î/ `tã ¾Ï&Î#‹Î7y™ á( ).

الفصل السادس
الحكم
على الخوارج
لم يُجمع العلماء على رأي واحد في الحكم على الخوارج، فقد جنح بعضهم إلى أقصى اليمين، ومال البعض إلى أقصى اليسار، فتباينت آراؤهم بين قائل بالتكفير، ومن يرفض التكفير، حتى قال عنها القاضي عياض( ): ( كادت هذه المسألة تكون أشد إشكالا عند المتكلمين من غيرها، حتى سأل الفقيه عبد الحق الإمام أبا المعالي( ) عنها، فاعتذر بأن إدخال كافر في الملة وإخراج مسلم عنها عظيم في الدين)( ).
وترجع صعوبة هذا الحكم إلى أمور عدة، أبرزها:-
أولاً: خفاء أمر الخوارج، فهم من الفرق التي لا يبين أمرها للباحث، لأن تصانيفهم لم تصل إلينا، وإنما نأخذ أقوالهم من كتب خصومهم، بجانب أنها قد تتعرض للتبديل، حتى ينكر بعضهم نسبة بعـض الآراء إليهم – كالإباضية - ومن ناحية أخرى فإنهم ربما أخذوا برأي ثم يعدلون عنه، ويتبرأون ممن قال به.
ثانياً: تعدد فرق الخوارج، وانقساماتها الشهيرة – كما مر في الفصل الثالث – يجعل الحكم العام على الفرقة غير ممكن، لأن الحكم على طائفة منهم لا يصح على طائفة أخرى، نظرا لتفاوت الآراء فيما بينهم تفاوتا شديدا بين المغالاة والتشديد، وبين اللين والمسامحة، فيُنظَر لكل فرقة على حدة، ويُحكَم عليها بما يناسب آراءها.
ثالثاً: خطورة أمر التكفير والإسراع فيه، فلا يجوز الإقدام عليه إلا بعد وضوح البراهين التي تدعو إليه، لأنه يترتب عليه آثار خطيرة في الدنيا والآخرة، ولذلك حذر النبي  منه في قوله: «إذا قال الرجل لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما»( )، وقال أيضا: «من دعا رجلا بالكفر أو قال عدو الله وليس كذلك إلا حار عليه»( ).
وقبل عرض آراء العلماء في الخوارج، أحرر محل النزاع.
فأقول: اتفق العلماء على كفر بعض فرق الخوارج وخروجها عن الإسلام، نظرا لآرائها الكافرة، وهذه الفرق هي:-
1- اليزيدية:-
أتباع يزيد بن أنيسة الخارجي، ومن آرائه أن الله تعالى سوف يبعث رسولا من العجم، وينزل عليه كتابا من السماء، وينسخ بشريعته شريعة محمد عليه الصلاة والسلام، وكان يتولى من شهد لمحمد  بالنبوة من أهل الكتاب وإن لم يدخل في دينه، وسماهم بذلك مؤمنين( ).
ولا شك أن هذه أقوال تكفر قائلها، وتخرجه من ملة الإسلام، وكما يقول البغدادي: (فليس بجائز أن يعد من فرق الإسلام من يعد اليهود من المسلمين، وكيف يعد من فرق الإسلام من يقول بنسخ شريعة الإسلام)( ).
2- الميمونية:-
أتباع رجل يقال له: ميمون، كان من العجاردة ثم فارقهم، وقد أباح نكاح بنات الأولاد من الأجداد، وبنات أولاد الإخوة والأخوات، وحكى الكرابيسي عن الميمونية أنهم أنكروا أن تكون سورة يوسف من القرآن الكريم( ).
وهذه أيضا أقوال كفر، لأن من ينكر بعض القرآن فكأنما أنكر القرآن كله، وإنكار القرآن خروج من الإسلام، واستحلال بعض المحارم هو دين المجوس، فمن استحلهم فهو في حكم المجوس.
هاتان الفرقتان خارجتان عن دين الإسلام بإجماع العلماء.
أما آراء العلماء في الخوارج، فإنها تدور بين ثلاثة أقوال: التوقف، التكفير، عدم التكفير، وتفصيلها فيما يلي:-
1- التوقف:
وهو قول من لا يقطع برأي في المسألة لأنها لم تحسم عنده، أو لأنه وجد تعارضا بين أدلة التكفير وأدلة عدم التكفير ولم يترجح لديه أحدهما على الآخر. وممن توقف في المسألة أبو المعالي الجويني كما ورد في قول القاضي عياض السابق لما سئل عنها، اعتذر بأن إدخال كافر في الملة، وإخراج مسلم عنها عظيم في الدين( ).
وتوقف في المسألة أيضا القاضي أبو بكر الباقلاني( ) وقال: (لم يصرح القوم بالكفر، وإنما قالوا أقوالا تؤدي إلى الكفر)( ).
ومن هنا التبس أمر الخوارج على الناس في الحكم بتكفيرهم أو عدمه، لأن باب التكفير خطير، كما يقول الغزالي( ): (وينبغي الاحتراز عن التكفير ما وجد إليه سبيلا، فإن استباحة دماء المصلين المقرين بالتوحيد خطأ، والخطأ في ترك ألف كافر في الحياة أهون من الخطأ في سفك دم مسلم واحد)( ).
فَدافِعُ أصحاب هذا الرأي التحرز من تكفير من لا يستحق التكفير، أو عدم تكفير من يستحق التكفير، وإيثار السلامة حتى لا نقع في المحظور، قال القرطبي( ) في المفهم: (وباب التكفير باب خطر، ولا نعدل بالسلامة شيئا)( ).
وقد اضطرب قول كثير من أهل العلم بين القول بالتكفير وعدمه، كما يقول القاضي عياض: (واضطرب آخرون في ذلك، ووقفوا عن القول بالتكفير أو ضده، واختلاف قولي مالك في ذلك، وتوقفه عن إعادة الصلاة خلفهم منه)( )؛ أي من قبيل التوقف في المسألة، وهو قول في المسألة وجيه لمن لم يترجح عنده رأي قاطع فيها، التزاما بجانب الحذر والحيطة في الأحكام.
2- القول بتكفير الخوارج:-
وهو قول بعض العلماء، ومستندهم في ذلك ما ورد من أحاديث تذكر بعض صفاتهم، ومنها أنهم مارقون من الدين، ومن هذه الأحاديث:-
أ– حديث علي رضي الله عنه: إذا حدثتكم عن رسول الله  حديثا فو الله لأن أخر من السماء أحب إليّ من أن أكذب عليه، وإذا حدثتكم فيما بيني وبينكم فأن الحرب خدعة، وإني سمعت رسول الله  يقول: «سيخرج قوم في آخر الزمان أحداث الأسنان، سفهاء الأحلام، يقولون من قول خير البرية، لا يجاوز إيمانهم حناجرهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، فأينما لقيتموهم فاقتلوهم، فإن في قتلهم أجرا لمن قتلهم يوم القيامة»( ).
ب– حديث أبي سلمة وعطاء بن يسار أنهما أتيا أبا سعيد الخدري فسألاه عن الحرورية: أسمعت النبي ؟ قال: لا أدري ما الحرورية، سمعت النبي  يقول: «يخرج في هذه الأمة – ولم يقل منها – قوم تحقرون صلاتكم مع صلاتهم، يقرأون القرآن لا يجاوز حلوقهم – أو حناجرهم – يمرقون من الدين مروق السهم من الرمية، فينظر الرامي إلى سهمه، إلى نصله، إلى رصافه، فيتمارى في الفوقة هل علق بها من الدم شيء»( ).
جـ- عن عبد الله بن عمر، وذكر الحرورية فقال: قال النبي : «يمرقون من الإسلام مروق السهم من الرمية»( ).
فاستدل بهذه الأحاديث بعض العلماء في القول بتكفيرهم، وهو مقتضى صنيع الإمام البخاري( )، حيث ترجم لهذه الأحاديث بقوله "قتل الخوارج والملحدين بعد إقامة الحجة عليهم "وقول الله تعالى: â $tBur šc%Ÿ2 ª!$# ¨@ÅÒã‹Ï9 $JBöqs% y‰÷èt/ øŒÎ) öNßg1y‰yd á( )، وأفرد للمتأولين منهم بابا ترجم له بقوله " من ترك قتال الخوارج للتأليف وأن لا ينفر الناس عنه"( ).
وممن قال بتكفيرهم من فقهاء الشافعية الشيخ تقي الدين السبكي( )، حيث قال: (احتج من كفر الخوارج وغلاة الروافض بتكفيرهم أعلام الصحابة لتضمنه تكذيب النبي  في شهادته لهم بالجنة. قال: وهو عندي احتجاج صحيح)( ).
وصرح بتكفيرهم بعض فقهاء الحنابلة، كما ذكر ابن تيمية( ): (وصرح جماعة من أصحابنا بكفر الخوارج المعتقدين البراءة من علي وعثمان)( )، وقال أيضا: (تركوا بعض أصول دين الإسلام حتى مرقوا منه كما مرق السهم من الرمية)( ).
لكنه فرق في موضع آخر، حيث فرق بين الأقوال المكفرة، وبين تكفير الشخص المعين، فقال:(وأما تكفيرهم ففيه للعلماء قولان مشهوران، هما روايتان عن أحمد، والقولان في الخوارج والمارقين من الحرورية والرافضة ونحوهم، والصحيح أن هذه الأقوال التي يقولونها التي يعلم أنها مخالفة لما جاء به كفر، وكذلك أفعالهم التي هي من جنس أفعال الكفار بالمسلمين هي كفر أيضا، لكن تكفير الواحد المعين منهم والحكم بتخليده في النار موقوف على ثبوت شروط التكفير وانتفاء موانعه)( ).
وينسب القاضي عياض القول بتكفيرهم إلى أهل الحديث(والقول بتكفيرهم هو قول أكثر المحدثين والفقهاء والمتكلمين في الخوارج والقدرية وأهل الأهواء المضلة وأصحاب البدع المتأولين، وهو قول أحمد بن حنبل( ))( ).
ونسب القول بتكفيرهم إلى أهل الحديث ابن قدامة( ) في المغني فقال: (وذهبت طائفة من أهل الحديث إلى أنهم كفار مرتدون حكمهم حكم المرتدين، وتباح دماؤهم وأموالهم، فإن تحيزوا في مكان وكانت لهم منعة وشوكة صاروا أهل حرب كسائر الكفار، وإن كانوا في قبضة الإمام استتابهم كاستتابة المرتدين، فإن تابوا وإلا ضربت أعناقهم، وكانت أموالهم فيئا لا يرثهم ورثتهم المسلمون)( ).
وصحح القول بتكفيرهم القرطبي في المفهم، فقال: (يؤيد القول بتكفيرهم التمثيل المذكور في حديث أبي سعيد، فإن ظاهر مقصوده أنهم خرجوا من الإسلام، ولم يتعلقوا منه بشىء )( ).
ولم يقتصر القول بتكفيرهم على أهل الحديث والفقهاء، وإنما رأى ذلك بعض كتاب الفرق أيضا، ومنهم الملطي، الذي ادعى إجماع الأمة على ذلك، فقال: (وأنتم بإجماع الأمة مارقون خارجون من دين الله، لا اختلاف بين الأمة في ذلك)( ).
ويترتب على القول بتكفيرهم أنهم يُقاتلون ويُقتلون، وتسبى أموالهم، ولا تجري عليهم أحكام المسلمين؛ فلا يدفن من مات منهم في مقابر المسلمين، ولا يورث، ولا يرث إذا مات مورث له، كما أنه إذا مات على ذلك استوجب الخلود في النار، وهذه هي آثار التكفير الناشئة عن القول بتكفيرهم، ومعاملتهم معاملة المرتدين.
3- القول بعدم التكفير: -
وهو قول كثير من أهل العلم، من الفقهاء وأصحاب الحديث والمتكلمين، وكتاب الفرق، وسوف أنقل بعض مقالات أهل العلم في القول بعدم تكفيرهم، وما استدلوا به من أدلة على ذلك.
قال الحافظ ابن حجر:(وذهب أكثر أهل الأصول من أهل السنة إلى أن الخوارج فساق، وان حكم الإسلام يجري عليهم لتلفظهم بالشهادتين ومواظبتهم على أركان الإسلام، وإنما فسقوا بتكفيرهم المسلمين مستندين إلى تأويل فاسد... وقال الخطابي( ): أجمع علماء المسلمين على أن الخوارج مع ضلالتهم فرقة من فرق المسلمين، وقال ابن بطال( ): ذهب
جمهور العلماء إلى أن الخوارج غير خارجين عن جملة المسلمين)( ).
وقد قال بذلك أيضا فقهاء الأحناف: (ولا يبدؤهم الإمام بالقتال حتى يبدؤوه، لأن قتالهم لدفع شرهم، لا لشر شركهم لأنهم مسلمون، فلما لم يتوجه الشر منهم لا يقاتلهم)( ).
وهو كذلك مذهب الشافعي، حكاه النووي( ) فقال: ( ومذهب الشافعي وجماهير أصحابه العلماء أن الخوارج لا يكفرون، وقال الشافعي رحمه الله: أقبل شهادة أهل الأهواء إلا الخطابية( ))( ).
وهو كذلك رواية عند الحنابلة في قول ابن قدامة ( ظاهر قول الفقهاء من أصحابنا المتأخرين أنهم بغاة، حكمهم حكمهم، وهو قول أبي حنيفة والشافعي وجمهور الفقهاء، وكثير من أهل الحديث لا يرون تكفيرهم)( ).
وقد رد ابن المنذر( ) على أصحاب الحديث القائلين بتكفير الخوارج، فقال: (لا أعلم أحدا وافق أهل الحديث على تكفيرهم وجعلهم كالمرتدين)( ).
وقد قوى الشاطبي( ) في الاعتصام القول بعدم تكفيرهم مدللا على ذلك بفعل السلف الصالح، فقال: (والذي يقوى في النظر وبحسب الأثر عدم القطع بتكفيرهم، والدليل عليه عمل السلف الصالح فيهم، ألا ترى إلى صنع عليّ  في الخوارج، وكونه عاملهم في قتالهم معاملة أهل الإسلام، وكذلك عمر بن عبد العزيز لم يعاملهم معاملة المرتدين)( ).
ورجح ابن تيمية القول بذلك في أكثر من موضع في كتابه" منهاج السنة "، فقال: (ما زالت سيرة المسلمين على هذا، ما جعلوهم مرتدين كالذين قاتلهم الصديق )( ).
وأصحاب هذا القول يستدلون بعدة أدلة على عدم تكفيرهم، من هذه الأدلة:
1- عدم تكفير الصحابة رضوان الله عليهم لهم، من ذلك أن الإمام عليّ  لما سئل عن أهل النهروان أكفار هم؟ قال: من الكفر فروا. قيل: أفمنافقون؟ قال: إن المنافقين لا يذكرون الله إلا قليلا. قيل: أمؤمنون؟ قال: لو كانوا مؤمنين ما حاربناهم. قيل: فما هم؟ قال: إخواننا بالأمس بغوا علينا فحاربناهم حتى يفيئوا إلى أمر الله تعالى( ).
وقد أقر الصحابة سيدنا علي  على هذا فصار كالإجماع منهم، وقد ورد عنه  أنه قال: (لم نقاتل أهل النهروان على الشرك)( ).
2-أن لهم تأويلا وشبهة في آرائهم تمنع من القول بتكفيرهم، وقد ورد هذا الجواب عن الحسن البصري( ) لما أتاه رجل فقال: يا أبا سعيـد إن هؤلاء استنفروني لأقاتل الخوارج، فما ترى؟ قال: إن هؤلاء أخرجتهم ذنوب هؤلاء، وإن هؤلاء يرسلونك تقاتل دونهم، فلا تكن القتيل منهم، فإن القوم أهل خصومة يوم القيامة( ).
وأكثر من لم يكفرهم رأى أن لهم تأويلا يمنع من ذلك، يقول ابن تيمية: (فتصريح أئمتنا في الخوارج بأنهم لا يكفرون وإن كفرونا، لأنه بتأويل فلهم فيه شبهة غير قطعية البطلان)( )، ويقول: (وجميع البدع كبدع الخوارج والشيعة والمرجئة والقدرية لها شبهة في نصوص الأنبياء)( ).
وفي صدد مقارنته بين الخوارج وبين غيرها من الفرق الضالة، ذكر أن بدعة الخوارج لها تأويل، بخلاف بدعة غيرهم فإنها ( ليست من ابتداع المتأولين مثل قول الخوارج والمرجئة والقدرية، فإن هذه الآراء ابتدعها قوم مسلمون بجهلهم، قصدوا بها طاعة الله فوقعوا في معصيته، ولم يقصدوا بها مخالفة الرسول  ولا محادته)( ).
3- أن في حديث المروق ما يشير إلى أن لهم في الإسلام حظا ونصيبا، قال ابن عبد البر: (في الحديث الذي رويناه قوله " يتمارى في الفوق" يدل على أنه لم يكفرهم، لأنهم علقوا من الإسلام بشئ بحيث يشك في خروجهم منه)( ).
4- أن الصحابة رضوان الله عليهم كانوا يصلون خلفهم، ويعاملونهم معاملة المسلمين (ومما يدل على أن الصحابة لم يكفروا الخوارج أنهم كانوا يصلون خلفهم، وكان عبد الله بن عمر  وغيره من الصحابة يصلون خلف نجدة الحروري)( ).
وفي خلاصة هذه الآراء يمكن أن نستخلص منها ما يلي: -
1- أن في الخوارج فرقا لا يشك في كفرها نظرا لأقوالها الخارجة عن الإسلام، كاليزيدية والميمونية، فإنها فرق لا تنتسب للإسلام، لمخالفتها ما هو معلوم من الدين بالضرورة.
2- أن الخوارج فرق متعددة، لا يمكن أن تنتظم جميعها في حكم واحد يعمها، لأن منهم الغالي المتشدد، ومنهم المتساهل اللين، فينبغي أن ينظر إلى كل طائفة على حدة، ويحكم عليها بما يناسب آراءها ومنهجها، ومدى قربها وبعدها عن الدين.
3- أن لهم شبهة وتأويلا يمنعان من إطلاق القول بتكفيرهم، هذه الشبهة قد يلتمس معها تبرئة لهم، وهذا ما أشار إليه البخاري في صحيحه، حيث ترجم بابا بعنوان " فيما إذا كفر أخاه متعمدا غير متأول فهو كما قال" وأعقبه بباب "من لم ير إكفار من قال ذلك متأولا أو جاهلا"( ).
4- أن الأقوال التي يقولونها، والأفعال التي يفعلونها من جنس أفعال الكفار، لكن كما ذكر ابن تيمية ( أن تكفير الواحد المعين منهم، والحكم بتخليده في النار موقوف على ثبوت شروط التكفير، وانتفاء موانعه )( ).

الباب الثاني
تأثير آراء الخوارج في الفكر الإسلامي المعاصر
وفيه فصول:
الفصل الأول: الإمامة.
الفصل الثاني: التكفير.
الفصل الثالث: الحاكمية.
الفصل الرابع: الخروج على الحاكم.
الفصل الخامس: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

:
قبل أن أبدأ في الحديث في الباب الثاني، أُمَهِّد بذكر ما يلي:-
أولاً: الآراء والأفكار ليست مرهونة بزمان أو مكان، بل تتعدى الحواجز فتتلاقى أفكار الأولين والآخرين، والذين يرون آراء الخوارج في الفكر الحديث لا يعني أنهم بالضرورة يعتنقون هذا الفكر بجملته، أو ينحازون إليه، أو يدعون له، ومن ثمة فلا يمكن لباحث منصف أن يصنفهم في طائفة الخوارج، أو أنهم يؤيدونهم في كل ما يذهبون إليه غاية ما يفيده ذلك أنه إعجاب ببعض آراء الخوارج ورؤية التطبيق العملي لروح الإسلام فيها، أو أن اجتهادهم أدى إلى رأي مماثل لآراء الخوارج دون أن يكونوا مؤيدين لجملة آرائهم.
مع كل ذلك لا يمكننا القول إن المتأثرين بآراء الخوارج – إعجابا أو اجتهادا – امتداد لهم كتكوين جماعي، أو امتداد للفرقة في العصر الحديث، وإنما هو امتداد للآراء والأفكار بصورة أو بأخرى، مع قطع النظر عن مدى صحتها أو خطئها.
ثانياً: ليس مقصدي في هذا البحث إحصاء كل من قال برأي اعتنقه الخوارج قبل ذلك، فذلك مدعاة لطول البحث، وإنما المقصد بيان مدى أثر هذه الآراء في الفكر الإسلامي المعاصر، وصدى هذه الآراء عنـد المفكرين والعلماء، فأورد من أقوال المعاصرين وآرائهم ما يكفي للدلالة على وجود ذلك الأثر والصدى، فبعض آراء الخوارج كان صداها كبيرا حتى قال به كثير من المعاصرين – أفرادا وجماعات –، وبعضها الآخر لم يبلغ ذلك الأثر، وإنما انحصرت دائرة القائلين به في فئة قليلة.
ثالثاً: إن هذه الآراء –أو كثير منها– مما يخالف أقوال أهل السنة والجماعة، وعليها ردود من علماء السلف والخلف عليهم رضوان الله، بيد أني تعمدت عدم الإطالة في الرد على الآراء المخالفة؛ لأن في تجلية مذهب أهل السنة أبلغ رد عليهم، ثم إن غرض البحث ليس الرد على الآراء المخالفة، وإنما عرض تأثير هذه الآراء في الفكر الإسلامي المعاصر، ومدى الامتداد الفكري لها بين المعاصرين، مقبولة كانت تلك الآراء أو مردودة.
رابعا: التزمت في هذا البحث أن آخذ من آراء الخوارج ما أجمع عليه غالب فرقهم للنظر في آثارهم في الفكر المعاصر، ولم أتتبع ما تفردت به طائفة من طوائفهم المتعددة؛ فلم آخذ في مبحث الإمامة مثلا برأي الشبيبية القائلين بجواز إمامة المرأة، لأنهم تفردوا بهذا القول؛ فلم يوافقهم أحد من الخوارج، وبالتالي فإن ما أجمعوا عليه –أو غالبهم– هو الجدير بأن ينظر في آثاره، وامتداده الفكري.
خامساً: منهجي في هذا الباب؛ أن أقسم كل فصل فيه إلى مباحث ثلاثة:-
المبحث الأول: رأي أهل السنة في المسألة موضع البحث.
المبحث الثاني: رأي الخوارج، وبيان مدى مخالفته لرأي أهل السنة.
المبحث الثالث: أثر رأي الخوارج في الفكر الإسلامي المعاصر.

الفصل الأول
الإمامة
ويشتمل على مباحث ثلاثة:-
المبحث الأول: الإمامة عند أهل السنة.
المبحث الثاني: الإمامة عند الخوارج.
المبحث الثالث: أثر رأي الخوارج في الفكر الإسلامي المعاصر.

المبحث الأول
الإمامة عند أهل السنة
الإمامة من أهم الموضوعات وأعظمها، لأنها الحارس لهذا الدين، واليد التي تحميه من عبث العابثين، وتدفع عنه تطاول المتطاولين، لهذا كان لدراستها نصيب كبير من اجتهاد العلماء من أول عصر هذه الأمة حتى يومنا هذا، وسوف أتناول الإمامة من خلال المطالب التالية:-
المطلب الأول: تعريف الإمامة:-
تعددت تعاريف العلماء للإمامة، وإن دارت كلها حول معان متقاربة، وسوف أورد بعض هذه التعاريف للدلالة على نظرة أهل السنة للإمامة، ووظيفة الإمام، والسلطة المنوطة به.
1- تعريف الماوردي:-
الإمامة موضوعة لخلافة النبوة في حراسة الدين وسياسة الدنيا( ).
2- تعريف الإمام الجويني:-
الإمامة رياسة تامة، وزعامة عامة تتعلق بالخاصة والعامة في مهمات الدين والدنيا( ).
3- تعريف ابن خلدون( ):-
حمل الكافة على مقتضى النظر الشرعي في مصالحهم الأخروية والدنيوية الراجعة إليها.. فهي في الحقيقة خلافة عن صاحب الشرع في حراسة الدين وسياسة الدنيا به( ).
والتعريفات الثلاثة تدور حول معنى واحد تقريبا، وهو رعاية الإمام لمصالح الناس الدينية والدنيوية، فكلاهما من اختصاص الإمام، فهو يسوس الناس في مصالحهم، ومصالح الناس لا تخلو عن أمرين: إما أمر يتعلق بدينهم يحتاجون إلى من يقودهم فيه، وإما أمر يتعلق بمعاشهم وطرائق حياتهم، والإمام مقيد في ذلك كله بأن يتبع الشرع ويوافقه.
المطلب الثاني: حكم الإمامة: -
اتفق جمهور علماء المسلمين ممن يعتد بقولهم على وجوب نصب الإمام( )، وهذه بعض النصوص التي تبين ذلك:-
قال الإمام الجويني: (فنصب الإمام عند الإمكان واجب... ولا يرتاب من معه مسكة من عقل أن الذب عن الحوزة والنضال دون حفظ البيضة محتوم شرعا)( ).
وقال الماوردي:(وعقدها لمن يقوم بها في الأمة واجب بالإحماع)( ).
وقال ابن حزم: (اتفق جميع أهل السنة وجميع المرجئة وجميع الشيعة وجميع الخوارج على وجوب الإمامة، وأن الأمة واجب عليها الانقياد لإمام عادل يقيم فيهم أحكام الله، حاشا النجدات من الخوارج)( ).
وقال ابن تيمية: (ويجب أن يعرف أن ولاية أمر الناس من أعظم واجبات الدين، بل لا قيام للدين ولا للدنيا إلا بها، فالواجب اتخاذ الإمارة دينا وقربة يتقرب بها إلى الله)( ).
وقد قال بذلك المعتزلة أيضا( ).
فجمهور العلماء على أنه لا بد للمسلمين من إمام يقيم الشعائر ويسوس الناس بالشريعة التي أتى بها النبي ، ويقيم الدعوة بالحجة والبرهان وبالسيف والسنان، وينتصف للمظلومين من الظالمين، ويحفظ ديار الإسلام.
وقد استدل الموجبون للإمامة بأدلة كثيرة منها: -
الأدلة القرآنية:
قال الله تعالى:            ( ).
قال الطبري في تفسير الآية: ( وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال: هم الأمراء والولاة لصحة الأخبار عن رسول الله  بالأمر بطاعة الأئمة والولاة فيما كان لله طاعة وللمسلمين مصلحة( ). والآيات التي بينت أحكام الشريعة ومقادير الحدود والقصاص لا بد للقيام بها من وجود إمام يقوم بتنفيذها.
أدلة السنة:- الأحاديث المروية عن النبي  في وجوب نصب الإمام كثيرة منها:-
«من مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية»( ).
وقد عدها الرسول  من عرى الإسلام وقواعده، فقال: «لينقضن الإسلام عروة عروة، فكلما انتقضت عروة تشبث بالتي تليها، وأولهن نقضا الحكم وآخرهن الصلاة»( ).
وإذا كان الإسلام قد شرع الإمارة في الاجتماع القليل بين الناس لسفر أو لغيره، فوجوبها فيما هو أعظم من ذلك – وهو أمر جماعة المسلمين – آكد وأوجب، قال : «لا يحل لثلاثة يكونون بفلاة من الأرض إلا أمَّروا أحدهم»( ).
ويدل على وجوبها انشغال الصحابة بتعيين خليفة للنبي  عن تجهيزه ودفنه، لِمَا يرون أن نصب الإمام من أوجب واجبات ذلك الوقت، ويؤكد ذلك قول الإمام علي : (لا بد للناس من إمارة برة كانت أو فاجرة. قيل له: هذه البرة قد عرفناها فما بال الفاجرة؟ قال: يؤمن بها السبيل، ويقام بها الحدود، ويجاهد بها العدو، ويقسم بها الفيء)( ).
المطلب الثالث: شروط الإمام:-
الإمام أو الخليفة هو أعلى منصب في الدولة الإسلامية، فلا بد أن تكون هناك شروطا معينة يجب توفرها عند اختياره؛ لما سيُلقى على عاتقه من مسئولية جسيمة ينبغي أن يكون مهيئا لها، وسوف أتحدث عن هذه الشروط بإيجاز:-
1- الإسلام:-
وهو شرط في كل ولاية صغيرة كانت أو كبيرة، فمن باب أولى أن يكون شرطا للإمامة العظمى، والآيات الدالة على ذلك كثيرة، منها:-
قال تعالى:         ( ).
وقال أيضا:        •   ( ).
وقال تعالى:        ( ).
قال ابن المنذر: (أجمع كل من يحفظ عنه من أهل العلم أن الكافر لا ولاية له على مسلم)( ).
فلا يجوز توليته ابتداءََ، ولا يجوز إدامة ولايته إن طرأ عليه الكفر.
2- البلوغ: -
وهو من شروط الصحة فلا بد من توفره، قال الإمام الغزالي: (فلا تنعقد الإمامة لصبي لم يبلغ)( )، وحديث رسول الله  يرفع التكليف عن الصغير: «إن القلم رفع عن ثلاثة: عن المجنون حتى يفيق، وعن الصبي حتى يدرك، وعن النائم حتى يستيقظ»( )، فكيف يلي أمر غيره، ويُسأل عنه.

4- العقل:-
وهو من شروط الإمارة أيضا، لأن المجنون لا يدبر أمر نفسه، فكيف يصرف أمر المسلمين، والحديث السابق دال على ذلك.
4- الحرية:-
وهو من شروط الإمارة التي لا تنعقد إلا بها، قال النووي: (ولا يجوز ابتداء عقد الولاية له – أي للعبد – مع الاختيار، بل شرطها الحرية )( ).
وذلك لأن العبد عاجز عن إصلاح أمر نفسه، فكيف يتولى إصلاح أمر أمة المسلمين، وكما يقول الغزالي: (فلا تنعقد الإمامة لرقيق؛ فإن منصب الإمامة يستدعي استغراق الأوقات في مهمات الخلق فكيف ينتدب لها من هو كالمفقود في حق نفسه الموجود لمالك يتصرف تحت تدبيره وتسخيره)( ).
5- الذكورة: -
وهي من الشروط الواجبة في الإمام، فلا يجوز تولية امرأة منصب الإمامة العامة، قال ابن حزم: (وجميع فرق أهل القبلة ليس منهم أحد يجيز إمامة المرأة)( )، ولما بلغ النبي  أن فارسا ملكوا ابنة كسرى قال: «لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة»( ).
وذلك لأن الصفات التي يجب توافرها في الإمام ليست المرأة محلا لها، مـن النجدة والكفاية والشجاعة والقيام بأمـور الخلق( فلا تنعقد الإمامة لامرأة وإن اتصفت بجميع خلال الكمال وصفات الاستقلال، وكيف تترشح امرأة لمنصب الإمامة وليس لها منصب القضاء ولا منصب الشهادة في أكثر الحكومات)( ).
6- العلم: -
يشترط في الإمام أن يكون عنده من العلم ما يدبر به الأمور، ويسوس به الناس، وقد بين القرآن أن هذا من شروط الملك، فقال تعالى:  •                         •         ( )، وقال تعالى في حديثه عن سليمان عليه السلام:        ( ).
وقد اشترط البعض للإمام بلوغ درجة الاجتهاد في العلم، قال الشاطبي: ( إن العلماء نقلوا الاتفاق على أن الإمامة الكبرى لا تنعقد إلا لمن نال رتبة الاجتهاد والفتوى في علوم الشرع)( ).
وقال ابن خلدون: ( فأما اشتراط العلم فظاهر؛ لأنه إنما يكون منفذا لأحكام الله تعالى إذا كان عالما بها، وما لم يعلمها لا يصح تقديمه لها، ولا يكفي من العلم إلا أن يكون مجتهدا؛ لأن التقليد نقص، والإمامة تستدعي الكمال في الأوصاف والأحوال)( ).
ونفى الإمام الجويني الخلاف على ذلك فقال: (فالشرط أن يكون الإمام مجتهدا بالغا مبلغ المجتهدين مستجمعا صفات المفتين، ولم يؤثر في اشتراط ذلك خلاف)( ).
لكن فريقا من العلماء لم يشترط بلوغ درجة الاجتهاد، ورأى أنه يكفي أن يكون على قدر من العلم يمكنه من القيام بمهام الإمامة مع الاستعانة بأهل الاجتهاد عند النوازل.
قال ابن حزم: ( ثم يستحب أن يكون عالما بما يخصه من أمور الدين من العبادات والسياسة والأحكام)( ).
وقال الإمام الغزالي: (وليست رتبة الاجتهاد مما لا بد منه في الإمامة ضرورة، بل الورع الداعي إلى مراجعة أهل العلم فيه كاف، فإذا كان المقصود ترتيب الإمامة على وفق الشرع فأي فرق بين أن يعرف حكم الشرع بنظره، أو يعرفه باتباع أفضل أهل زمانه)( ).
فهو يرى أن الأولى بالاشتراط في الإمام أن يكون ممن يرجعون إلى أهل العلم والفتوى، ولعل الرأي الثاني هو الأولى بالاعتبار؛ خاصة مع توفر باقي الشروط في الخليفة، لأنه من الممكن أن يستعين بأهل العلم والاجتهاد في الفتوى عند النوازل.
7- العدالة:-
وهي ملكة نفسية تحمل الإنسان على اجتناب الكبائر، والترفع عن الصغائر والمباحات وخوارم المروءة، فمن به نقص في عدالته لا يجوز توليته، قال الإيجي: (عدلا لئلا يجور)( ).
ولأن اشتراط العدالة مطلوب في سائر الولايات التي هي تابعة للإمامة العظمى ( لأنه منصب ديني ينظر في سائر المناصب التي هي شرط فيها، فكان أولى باشتراطها فيه)( ).
وقد استدل العلماء على اشتراط العدالة في الإمام بقول الله تعالى:            ••             ( ).
عن مجاهد( ) قال: (أراد أن الظالم لا يكون إماما، فلا يجوز أن يكون الظالم نبيا ولا خليفة لنبي ولا قاضيا، ولا من يلزم الناس قبول قوله في أمور الدين)( ).
8- الكفاءة النفسية:-
ومما ينبغي توفره في الإمام أن يكون حسن التدبير في رعاية مصالح المسلمين، شجاعا بصيرا بالأمور، عالما بمواطن السياسة حتى يكون قادرا على رعاية مصالح الأمة الدينية والدنيوية، قال الماوردي: (الخامس – أي من شروط الإمام -: الرأي المفضي إلى سياسة الرعية وتدبير المصالح. السادس: الشجاعة والنجدة المؤدية إلى حماية البيضة وجهاد العدو)( ).
واشترط الإمام الجويني: (توقد الرأي في عظائم الأمور، والنظر في مغبات العواقب)( ).
فلا بد أن يكون الإمام قادرا على تدبير أمور المسلمين، وحسن اختيار ما يصلح أحوالهم، عنده من الدهاء والحكمة ما يقوى به على معاناة أمور السياسة، ويعينه على إقامة الدين، ورعاية المصالح.
9- الكفاءة الجسمية: -
ويقصد بها سلامة الحواس والأعضاء من أي قصور يؤدي إلى خلل في الرأي، أو ضعف لهيبة الإمام عند الرعية، وهذا الشرط مأخوذ من قول الله تعالى:  •          ( ).
قال الماوردي: ( الثالث – أي من شروط الإمام-: سلامة الحواس من السمع والبصر واللسان؛ ليصح معها مباشرة ما يدرك به، والرابع: سلامة الأعضاء من نقص يمنع عن استيفاء الحركة وسرعة النهوض)( ).
ورأى بعض الفقهاء أن هذا الشرط غير لازم؛ لأنه لا يؤثر على كفاية الإمام، ولا على أدائه لمهامه، قال ابن حزم: (ولا يضر الإمام أن يكون في خلقه عيب كالأعمى والأصم والأجدع والأجزم والأحدب، والذي لا يدان له ولا رجلان، ومن بلغ الهرم ما دام يعقل ولو أنه ابن مائة عام، ومن يعرض له الصرع ثم يفيق، فكل هؤلاء إمامتهم جائزة؛ إذ لم يمنع منها نص قرآن ولا سنة ولا إجماع ولا نظر ولا دليل أصلا)( ).
والأصح – في رأيي – القول بأن كل نقص في الحواس والأعضاء يؤثر على الكفاية، ويضعف من القدرة على أداء المهام؛ فهو مانع من تولي منصب الإمامة، أما النقص الذي لا يؤثر على رعاية مصالح المسلمين، والنهوض بحمايتهم، وإقامة الأحكام المنوطة به، فهذا لا يمنع من تولي المنصب، والله أعلم.
10 – القرشية: -
من شروط أهل السنة في الإمام أن يكون قرشيا؛ لأن الإجماع قد انعقد على ذلك بين العلماء، وقد حكى غير واحد من العلماء الإجماع على ذلك( ).
قال القاضي عياض: (اشتراط كونه قرشيا هو مذهب العلماء كافة، قال: وقد احتج به أبو بكر وعمر رضي الله عنهما على الأنصار يوم السقيفة فلم ينكره أحد، وقد عدها العلماء من مسائل الإجماع، ولم ينقل عن أحد من السلف فيها قول ولا فعل يخالف ما ذكرناه، وكذلك من بعدهم في جميع الأعصار)( ).
والأحاديث في هذا الشرط كثيرة، نكتفي منها بما يلي:-
1- عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي  قال: «لا يزال هذا الأمر في قريش ما بقي منهم اثنان»( ).
2- وفي حديث معاوية قال: سمعت رسول الله  يقول: «إن هذا الأمر في قريش لا يعاديهم أحد إلا كبه الله في النار على وجهه ما أقاموا الدين»( ).
3- وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله : «الناس تبع لقريش في هذا الشأن، مسلمهم لمسلمهم وكافرهم لكافرهم»( ).
4- وأخرج البيهقي عن أنس بن مالك قال: دخل علينا رسول الله  ونحن في بيت فيه نفر من المهاجرين قال: فجعل كل رجل منا يوسع له يرجو أن يجلس إلى جنبه، فقام على باب البيت فقال: الأئمة من قريش، ولي عليكم حق عظيم، ولهم مثله ما فعلوا ثلاثا: إذا استرحموا رحموا، وحكموا فعدلوا، وعاهدوا فوفوا، فمن لم يفعل ذلك منهم فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين)( ).
لكن هذا الاختصاص – كما هو واضح من النصوص – منوط بأمرين:-
أ – بقاء قريش؛ كما في الحديث الأول.
ب- قيامها بحق الله عليها؛ كما في الحديثين الثاني والرابع.
وقد قال الحافظ ابن حجر عن الحديث الأخير: ( قد جمعت طرقه عن نحو أربعين صحابيا لما بلغني أن بعض فضلاء العصر ذكر أنه لم يرد إلا عن أبي بكر الصديق)( ).
والأحاديث في هذا الباب كثيرة تؤكد اشتراط النسب القرشي في الإمام، لذلك قال الماوردي: (وليس مع هذا النص المسلم شبهة لمنازع فيه ولا قول لمخالف له)( ).
وقد انتصر لهذا الشرط كثير من المعاصرين( ).
هذه هي الشروط الواردة في منصب الإمام عند جمهور أهل السنة قديما وحديثا، وهي شروط تؤيدها الأدلة الشرعية من كتاب وسنة
صحيحة، وتبقى راجحة على غيرها، وخاصة شرط القرشية، الذي تقويه الأدلة الشرعية، فلا يبقى مجال للحديث عن كونه من الشروط الخلافية ( فمن علم هذا لا يلتفت إلى ما يذكره بعض أهل هذا العصر من تأويل تلك الأحاديث والبحث في أسانيد بعضها، أو من أن شرط القرشية من الشروط الخلافية )( ).
هذا مذهب أهل السنة في الإمامة: حكمها وشروطها، وقد خالف الخوارج في بعض هذه الأحكام، وخاصة شرط القرشية، وهو حديث المبحث الثاني إن شاء الله تعالى.

المبحث الثالث
الإمامة عند الخوارج
المطلب الأول: حكم الإمامة: -
يوافق أغلب الخوارج جمهور أهل السنة في وجوب نصب الإمام، قال الأشعري: (قال الناس كلهم إلا الأصم: لا بد من إمام)( ).
وقال ابن حزم: (اتفق جميع أهل السنة وجميع المرجئة وجميع المعتزلة وجميع الشيعة وجميع الخوارج على وجوب الإمامة، وأن الأمة فرض واجب عليها الانقياد لإمام عادل يقيم فيهم أحكام الله، ويسوسهم بأحكام الشريعة التي أتى بها رسول الله ، حاشا النجدات من الخوارج)( ).
ولم يخالف من طوائف الخوارج في هذا إلا النجدات حيث قالوا بعدم وجوب تعيين الإمام (لا يحتاجون إلى إمام، وإنما عليهم أن يعلموا كتاب الله سبحانه فيما بينهم)( ).
ونسب الشهرستاني إلى المحكمة الأولى أنهم جوزوا أن لا يكون في العالم إمام أصلا( ).
لكن ينقض هذا الرأي عن النجدات أنهم أنفسهم قد بايعوا نجدة أميرا لهم، فخالف رأيهم واقعهم، وهو ما دفع البعض إلى القول إنه (يمكن أن يكون أصحابه – أصحاب نجدة – هم الذين أحدثوه من بعده، ولعلهم أولوا قول المحكمة الأولى "لا حكم إلا لله" وفهموا منه أنه لا حاجة إلى إمام ولا إلى حاكم)( ).
وهذا الخلاف لا اعتبار له، لأن سائر فرق الخوارج ترى وجوب نصب الإمام.
المطلب الثاني: شروط الخليفة:-
تكاد تتفق نظرة الخوارج ونظرة أهل السنة في الشروط الواجبة في الإمام إلا في شرط النسب، فالخوارج – جميعهم – لا يحصرون الخلافة في قريش، بل جوزوا أن يتولاها أي مسلم صالح توفرت فيه شروطها.
قال الشهرستاني: (وإنما خروجهم في الزمن الأول على أمرين: أحدهما: إذ جوزوا أن تكون الإمامة في غير قريش، وكل من ينصبونه برأيهم وعاشر الناس على ما مثلوا له من العدل واجتناب الجور كان إماما)( ).
وقال الأشعري: (ويرون أن الإمامة في قريش وغيرهم إذا كان القائم بها مستحقا لذلك، ولا يرون إمامة الجائر)( ).
فهم يرون أن الإمامة حق من حقوق الجماعة المسلمة لا يستأثر بها فرد أو طبقة أو بيت معين، بل كل من كان أهلا لها يجوز تنصيبه، يستوي في ذلك القرشي مع غيره (بما أن الإمامة حق مشاع بين المسلمين، وصالحة في كل مؤمن من الناس، ويستحقها أكثرهم قياما بالكتاب والسنة وأوسعهم علما بها، فإن الموالي والعجم من المسلمين يكونون أكثر ميلا إلى هذه النزعة الجمهورية ما دامت يتساوى فيها المسلمون جميعا)( ).
فلا عبرة في اختيار الخليفة بالنسب بل يقدم (أبصرهم بالحرب وأفقههم في الدين وأشدهم اضطلاعا بما حمل)( ).
لذلك لم يكن أحد من أئمتهم – على كثرتهم – من قريش؛ لأن اعتبار الكفاءة يستوي فيه عند الاختيار القرشي مع غيره من عموم الناس.
وقد عدد الدكتور: محمد عمارة( ) أمراءهم وخلفاءهم وليس فيهم قرشي واحد، فمنهم:-
عبد الله بن وهب الراسبي [ 38هـ -658م ] وهو من الأزد.
حوثرة بن وداع بن مسعود [ 41هـ - 661م ] وهو من أسد.
المستورد بن علفة [ 43هـ - 663م ] وهو من تيم الرباب.
زحاف الطائي [50 هـ - 670 م ] وهو من طيئ.
قريب بن مرة [ 50هـ - 670 م ] وهو من الأزد.
حيان بن ظبيان السمي [ 59هـ - 678 م ].
أبو بلال مرداس بن حدير [ 61هـ -680 ] وهو من تميم.
نافع بن الأزرق الحنفي [ 65هـ - 685م ] وهو من بكر بن وائل.
عبيد الله بن بشير بن الماخور [68هـ - 687م ] وهو من تميم.
الزبير بن علي السليطي [ 68هـ - 687 م ] وهو من تميم.
نجدة بن عامر[36: 69 هـ- 656 م 688م]وهو من بكر بن وائل.
ثابت التمار: بويع له بعد نجدة وهو من الموالي.
أبو فديك: [73هـ - 692م].
أبو الضحاك شبيب بن يزيد الشيباني[ 26:77هـ - 647: 696م].
قطري بن الفجاءة [ 78هـ - 697] وهو من تميم.
عبد ربه الصغير الذي انشق على قطري، أحد موالي قيس بن ثعلبة.
عمران بن حطان السدوسي الشيباني الوائلي [84هـ - 703م ].
عبد الله بن يحيى (130 هـ - 748م] وهو كندي.
وجميعهم ليسوا قرشيين، وهذا تطبيق للمبدأ الذي اعتنقوه، وعاشوا من أجل إعلائه، لكنهم مع ندائهم بهذه الشعارات البراقة في ظاهرها، فإنهم جميعا كانوا في غاية العصبية للعروبة، وكانت تلك العصبية ظاهرة فيهم، فإن تولى أحد الموالي ولاية، فذلك إنما لحالة طارئة ريثما يتم تعيين إمام مكانه؛ كما وقع مع أبي طالوت وثابت التمار.
وقد شذ بعض طوائف الخوارج وأوردوا كلاما حول تعدد الأئمة؛ فقالت الحمزية: (وجوز حمزة إمامين في عصر واحد ما لم تجتمع الكلمة أو تقهر الأعداء)( ).
وجوز الشبيبية – أتباع شبيب بن يزيد – إمامة النساء إذا قمن بأمر الرعية كما ينبغي وخرجن على مخالفيهم( ).
لكن هذين الرأيان لا اعتبار لهما؛ لأنهما لا يعبران عن رأي الخوارج وأفكارهم، وإنما يعبران عن طائفة محدودة داخل الفرقة لا يُبنى عليها حكم عام للفرقة كاملة.
وبهذا خالف الخوارج أهل السنة في هذا الشرط مخالفة تامة، لكن مذهب أهل السنة أقوى وأرجح؛ لأن الأدلة تؤيده، وقد وقع عليه إجماع بين العلماء، فلا مجال لمخالفة الخوارج لهم، أو القول بخلاف ذلك.
وقد وُجد لرأي الخوارج امتداد في الفكر المعاصر، فقال به كثير من العلماء المعاصرين لأسباب متعددة، نعرضها إن شاء الله في المبحث الثالث.

المبحث الثالث
أثر رأي الخوارج في الفكر الإسلامي المعاصر
إن القول بعدم اشتراط النسب القرشي في الخليفة عند الخوارج له صدى كبير في الفكر الإسلامي المعاصر، ويعد هذا القول من أكثر آراء الخوارج انتشارا بين العلماء؛ وإن اختلفت مشاربهم في عرض هذا الرأي وبيان الحكمة منه، وسوف أعرض آراء العلماء في ذلك.
ففريق من العلماء يرى أن الأحاديث الواردة في هذا الشرط غير صحيحة( )، ويحاول أن يلتمس أدلة على وضعها ليؤيد بها وجهة نظره.
فالأستاذ عمر أبو النصر في كتابه " الخوارج في الإسلام " يؤيد القول بعدم صحة هذه الأحاديث فيقول: ( أما مسألة قريش وكون الخلافة فيهم، فلم يفطن لها الخوارج أول أمرهم، وهذا يدل على أن ما يقال من وجود حديث بهذا المعنى لا أساس له من الصحة كما يظهر، لأن هؤلاء القوم كانوا في عقائدهم أقرب إلى مسايرة الدين والسنة منهم إلى مخالفتها، فلو كان هناك نص صريح بهذا المعنى لما أنكروه ولا خالفوه، ولا عادوا فبحثوه بعد ذلك)( ).
وهو في غير موضع من كتابه يمجد هذه النظرية عند الخوارج( ).
ويرمي الأستاذ على حسني الخربوطلي الأحاديث الواردة بالوضع وعدم الصحة فيقول: (هناك بعض أحاديث نبوية تتناول الخلافة... ومن المستحيل أن نحدد الزمن الحقيقي الذي ظهرت فيه هذه الأحاديث، ولكن مما لا شك فيه أنها ظهرت لتبرير النظم السياسية التي سادت في القرنين الأول والثاني والتي حازت رضا غالبية المسلمين)( ).
ثم يورد الأحاديث الدالة على كون الخلافة في قريش، ويعلق عليها قائلا: (ولكننا نرى أن معظم هذه الأحاديث موضوع أو مدسوس على الرسول ، ونرى أنه كما أن ليس في القرآن نص على الخلافة والإمامة؛ فكذلك لا يوجد في الأحاديث النبوية نص يعترف بوجود الخلافة أو الإمامة العظمى بمعنى النيابة عن رسول الله  والقيام مقامه من المسلمين)( ).
ويكرر القول بعدم اشتراط القرشية حتى مع اشتراط العدل وإقامة الدين، فيقول: (وإن كان بعض الفقهاء يحتمون كون الخليفة قرشي النسب، فإن بعضهم يضع لذلك شروطا مستندين إلى أحاديث نبوية معظمها موضوعة وليست صحيحة، منها «الأئمة من قريش ما حكموا فعدلوا، ووعدوا فوفوا، واسترحموا فرحموا»، ومما أيد تلك الأحاديث الموضوعة عن ضرورة انتساب الخليفة إلى قريش أن هذا الشرط كان مرعيا كل الرعاية في سائر أحوال الدولة الإسلامية، والخلافة لم يتطلبها غير القرشيين فقط)( ).
ويرى أن الأصل في الخلافة أن تكون عامة بين المسلمين جميعا دون تفضيل لبيت من البيوت، ويتفاضل الناس فيها بمدى استعدادهم للقيام بما يناط بها من أعباء (وفي رأينا أن كل مسلم يستطيع أن يكون خليفة إذا توافرت فيه الشروط الأربعة التي ذكرناها آنفا، وهي: العلم، والعدالة، والكفاية، وسلامة الحواس والأعضاء، وقرر المسلمون انتخابه، والإسلام الدين المتواضع( ) أبعد الأديان عن التحيز وتفضيل جماعة على أخرى من المسلمين، والإسلام لا ينوط أمر الخلافة بفرد من الأفراد أو بيت من البيوتات أو طبقة من الطبقات، بل يفوض أمرها إلى جميع أفراد المجتمع الذي يؤمن بالمبادئ الأساسية، ويظهر كفاءته واستعداده للقيام بكل ما
تنطوي عليه كلمة الخلافة وتقتضيه)( ).
ويحاول أن يستند إلى وقائع تاريخية تؤيده فيما ذهب إليه من وضع الحديث، فيرى في حادث السقيفة من كلام الصحابة رضوان الله عليهم ما يؤيد وجهة نظره، فيقول: ( لو كان هذا الحديث يعرفه سعد بن عبادة سيد الأنصار( ) لما تجاسر على أن يخطب هذه الخطبة، كما تدل موافقة قومه على كلامه على أن أحدا منهم لم يعرف الحديث( )، ولو كان النبي  قاله وكان قصده أن تكون الخلافة في قريش لكان الأولى بإلقائه إليهم هؤلاء الأنصار الذين لا يتطاول إلى الخلافة مع قريش غيرهم، ... والمتأمل في خطبة أبي بكر يرى أنه لم يشر إلى حديث الخلافة في قريش، مع أنه كان أمضى سلاح له في ذلك اليوم
العصيب مما يجعلنا نشك في صحته)( ).
ونفي القول باشتراط القرشية يدفع كثيرا من الكتاب إلى التشكيك في صحة الأحاديث الواردة في ذلك، فالدكتور: محمد عمارة في سبيل الاستدلال على رأيه في عدم اشتراط شرط النسب يرى أن هذه الأحاديث ليست صحيحة، فيقول: (والأمر الجدير بالتنبيه لأهميته القصوى أن جميع المناظرات التي جرت مع هؤلاء الخوارج سواء كانت من علي بن أبي طالب أم من عبد الله بن عباس، وجميع الانتقادات والاتهامات التي وجهت إليهم في ذلك التاريخ لم تشر بالنقد أو التجريح إلى انتخابهم أميرا للمؤمنين غير قرشي( )، ونحن نعتقد أنه لو كانت عبارة " الأئمة من قريش" حديثا نبويا صحيحا لكان في مقدمة الاعتراضات والانتقادات التي وجهت للخوارج يومئذ هو أنهم خارجون على السنة بهذه السابقة التي ارتكبوها عندما انتخبوا غير قرشي لإمارة المؤمنين)( ).
ويُصَوِّب رأي الخوارج في هذه المسألة، ويجعله الأقرب إلى روح الإسلام ومفاهيمه العامة، ويميزهم بهذا الرأي عن باقي الفرق والتيارات الأخرى، فيقول: (يقررون صلاح المسلم الذي تتوافر فيه شروط الإمامة، صلاحه وصلاحيته لتولي هذا المنصب بصرف النظر عن نسبه وجنسه ولونه، وهم يتميزون بذلك عن كثير من فرق الإسلام وتياراته السياسية التي اشترطت النسب القرشي أو العربي لمن يتولى منصب الإمام، والخوارج هنا هم الأقرب إلى روح الإسلام)( ).
والحق أن القول برد تلك الأحاديث؛ لأنها لا توافق ما ذهبوا إليه من اشتراط النسب قول مجانب للصواب، لثبوت تلك الأحاديث بأسانيد صحيحة عن النبي ، وورود بعضها في الصحيحين، نعم قد يقبل الكلام عن تأويل هذه الأحاديث بصورة ما – كما سيأتي بعد قليل – أما ردها على الإطلاق، والتجاسر بالقول إنها موضوعة فهذا تفريط، وافتئات على سنة النبي .
وهناك من يوافق الخوارج في عدم اشتراط النسب القرشي، لكنه يرى أن الأحاديث السابقة أحاديث صحيحة، غير أنها لا تنطبق إلا على عصر صدر الإسلام، أما سائر العصور فلا داعي لهذا الشرط.
فيرى الشيخ عبد الوهاب خلاف( ) أن (النسب القرشي وإن كان مشروطا لذاته، فليست الغاية تقتضيه لأن حراسة الدين وسياسة الدنيا تكون من الكفء القادر أيا كان نسبه، وإن كان مشروطا لِمَا كان لقريش من المنعة والقوة التي يستعين بها الخليفة على أداء واجبه، وجمع الكلمة حوله، فهو شرط زمني مآله اشتراط أن يكون الخليفة من قوم أولي عصبية غالبة، ولا اطراد لاشتراط القرشية)( ).
ويقول الأستاذ: محمد يوسف موسى – بعد أن ذكر الخلاف حول شروط الخليفة، وعرض الآراء، قال: (ولكن نرى أن هذا الشرط غير واجب الآن؛ وذلك لأن الأحكام يجب أن ترد إلى عللها، والحكم كما هو معروف يتبع علته وجودا وعدما، وقد زال منذ قرون طويلة ما كان لقريش من العصبية القوية والنفوذ الغالب، وأصبحت العصبية والنفوذ لغيرها، فلا معنى لاشتراط هذا الشرط الذي زالت علته، ويجب كما ذكر ابن خلدون – بحق – أن يشترط أن يكون القائم بأمور المسلمين من قوم لهم عصبية غالبة على من معها في عصرها؛ وذلك ليكون الناس لهم تبعا، ولتجتمع الكلمة على ما فيه الخير للأمة جميعا في دينهم ودنياهم على السواء، وسيان أن يكون هذا القائم بأمور المسلمين من قريش أو من غيرها)( ).
ويرى أصحاب هذا الرأي أن هذا ليس تشريعا عاما، وإنما هو تشريع خاص بصدر الإسلام فقط لا يتعداه إلى غيره من العصور (فالأحاديث التي سبق ذكرها في هذا المقام، حتى مع افتراض التسليم بصحتها لا تعد تشريعا عاما – أي لا تعد ذات حجية ملزمة لنا في العصر الحديث – ذلك هو شأن السنة المستقلة – أي غير المستندة إلى نص في القرآن – الصادرة في الجزئيات في ميدان الشئون الدستورية كحديث " الأئمة من قريش "، ومن باب أولى يكون كذلك شأن الإجماع الذي يستند إلى مثل تلك السنة المستقلة)( ).
ويرون أن هذا من قبيل السياسة الشرعية التي تتغير بتغير الزمان، ومدى ما فيها من مصلحة أو مفسدة للأمة، وعلى ضوء ذلك فقط يكون التشريع أو عدمه، فيرى البعض: (في هذا الشرط أن يكون الإمام في عصرنا هذا مؤيدا من الجماعة التي لها قوة سياسية وواقعية، ومكانة قيادية في المجتمع...وأما النصوص من الأحاديث النبوية والوقائع التاريخية التي يستند إليها العلماء المسلمون في اشتراط القرشية فهي مـن باب السياسة الشرعية المتغيرة بتغير العوامل والظروف، وليست من المبادئ العامة الثابتة)( ).
ويعللون ذلك بأنه بعد انتشار الإسلام ليست هناك حاجة إلى هذا الشرط؛ لاتساع رقعة البلاد، ولمنع العصبية الناتجة عنه (قد يكون لهذا الشرط دور في بداية الدولة الإسلامية، إلا أنه بعد انتشار الدين من الصين( ) والهند( ) إلى الأندلس( ) أضحى التمسك بهذا الشرط محل نظر؛ إذ الإسلام يقوم على التآخي والمساواة وبغض العصبية... والتمسك بالنسب والعصبية من شانه أن يثير النفوس؛ لا سيما والمسلمون سواسية، وأساس التفاضل بينهم التقوى)( ).
فاشتراط هذا الشرط – عندهم – كان وظيفة مرحلية اقتضتها طبيعة الأمة وأوضاعها السياسية في العصر الأول، حيث كانت الحاجة ماسة إلى مثل هذا الشرط، وقد انتهت الحاجة إليه مع تطور الزمن وتغير المصالح.
يقول الأستاذ: كايد يوسف قرعوش بعد أن عرض الآراء حول اشتراط هذا الشرط وانتهى إلى ترجيح كونه وظيفة مرحلية: (وهكذا ننتهي إلى نتيجة مؤداها أن مصلحة الأمة الإسلامية في العهد الإسلامي الأول كانت تقتضي أن تؤول الزعامة إلى قريش حيث إن وحدة الأمة كانت رهنا بهذه الزعامة، كان ذلك في مجتمع ما زال الوضع القبلي فيه يمثل السحنة السائدة للبنية الاجتماعية، أما وقد تطور المجتمع وتجاوز في تطوره هذا الوضع، فإنه لم يعد هنالك مجال لهذا الشرط، إذا فقد كان هذا الشرط ذا وظيفة مرحلية وقد أدى وظيفته بالشكل الذي مكن من وحدة الصف أولا، وانتشار الإسلام ثانيا، لقد عمل الخلفاء القرشيون هذا كله حيث كان للتقوى مكانها المعتبر في حياتهم، حتى إذا تبخرت من حياتهم تسربت الخلافة منهم إلى غيرهم من بعد)( ).
وفريق من العلماء يوافق على هذا الرأي ولكنه يحصره في طبقة المهاجرين من صحابة رسول الله ، وأن النبي قصد بهذه الأحاديث السابقين الأولين من المهاجرين.
يقول الأستاذ طه حسين( ): (وما أرى إلا أن أبا بكر قـد قصد إلى هذه الطبقة الممتازة من قريش، طبقة الذين سبقوا إلى الإسلام وجاهدوا مع النبي  أثناء الفتنة في مكة، ثم جاهدوا معه وجاهد معهم الأنصار أثناء القوة في المدينة... ومن أحمق الحمق أن يقول قائل: إن أبا بكر وأصحابه فكروا في قرابة قريش من النبي، وجعلوا هذه القرابة مصدر امتياز قريش بالإمامة، فلو قد كان هذا لكان الطلقاء من قريش أحق بالإمامة عن أبي بكر وعمر وأبي عبيدة( ) من الذين آووا ونصروا، ولكن قريشا فهمت قول أبي بكر على غير ما أراده هو، وعلى غير ما فهمه أصحابه في ذلك الوقت، فاستيقنت أن الإمامة حق لها لا يعدوها إلى غيرها، وأنه حق لها لمكانها من النبي ، وقد كانت قريش في هذا الفهم خاطئة متكلفة، ما في ذلك شك)( ).
والبعض يرى أن الأحاديث الدالة على اشتراط القرشية صحيحة، ولا سبيل إلى إنكارها ما دام كبار الأئمة والمحدثين قد أكدوا ثبوت صحتها، لكنه ينظر إلى الأدلة الأخرى الدالة على جواز الخلافة في غير قريش، ويحاول دفع هذا التعارض بين الرأيين، فيقول: (حقيقة الأمر أن هذا الفهم الذي فهمه المتقدمون من أهل السنة ليس هو الفهم الوحيد الذي يمكن أن يفهم من تلك الأحاديث، فهي أولا ليست نصا على وجوب أن تنفرد قريش بهذا الامتياز، وثانيا: يمكن أن تفهم هذه الأحاديث على وجوه أخرى، فمن هذه الوجوه الجائزة أن يقال: إن هذا الحديث المذكور وأمثاله قصد به الإخبار لا إظهار حكم أو إلزام، فلم يكن أكثر من مجرد تقرير للواقع، ومنها: أنه يمكن أن يقال: إن الإشارة بقريش في الأحاديث كانت إلى المهاجرين وحدهم، فإن هذا الاستعمال كان شائعا وكان المعنى الذي يراد به مفهوما كل الفهم، والرسول  قصد أن يخص المهاجرين بهذا الأمر لسبقهم إلى الإسلام، نقول: وهذا هو الوجه الذي نؤثره على غيره)( ).
وفريق آخر من العلماء يوافق الخوارج الرأي بعدم اشتراط القرشية في منصب الإمام، ويذهب في الأحاديث الواردة في ذلك مذهبا مغايرا، وهو أنها قد وردت على سبيل الإخبار بما يحدث؛ لا على سبيل الأمر والإلزام وبيان الحكم.
وممن قال بذلك الأستاذ محمد فريد وجدي( ) في دائرة معارفه، فهو بداية يرفض هذا الشرط قائلا: ( فكيف يعقل أن دينا هـذا شأنه
يحصر أمر خلافة الأرض في قبيلة واحدة قد تدور عليها الأدوار فتصبح أثرا بعد عين كما ترى في هذا العصر)( ).
ثم يحاول أن يصرف الحديث إلى رأيه فيقول: (وأما السنة فلم يرد فيها ما يشير إلى أن الخلافة في أهل بيت النبي  حتى يصح لعلي  أن يقول: "من يطلب هذا الأمر غيرنا"، نعم ورد في السنة حديث عُد في الأحاديث الصحيحة بأن الخلافة في قريش، وهي قبيلة النبي ، فإن صح هذا الحديث وكان لا مناص من الإيمان به وجب حمله على أنه من باب الإخبار بالغيب، لا من باب الأمر باتخاذ الخلفاء من قريش خاصة، أو حمله على أنها في قريش ما دامت قريش أقوى عناصر الأمة الإسلامية وأقدرها على حفظ كرامة الخلافة)( ).
وهو يدافع عن هذا الرأي دفاعا قويا موحيا بعدم صحة حديث "الأئمة من قريش"، فيقول: (لو كان حديث "الخلافة في قريش" يعرفه سعد بن عبادة سيد الأنصار لما تجاسر على أن يخطب هذه الخطبة، وقد دلنا تأمين قومه على كلامه على أن أحدا منهم لم يعرفه، ولو كان النبي  قاله وكان قصده أن تكون الخلافة في قريش، لكان الأولى بإلقائه إليهم هم هؤلاء الأنصار الذين لا يتطاول إلى الخلافة مع قريش غيرهم... ويرى المتأمل في خطبة أبي بكر أنه لم يشر إلى حديث " الخلافة في قريش " مع أنه كان أمضى سلاح له في ذلك اليوم العصيب، الأمر الذي يجعلنا نشك في صحته)( ).
ونتيجة كلامه: أن الحديث لو صح فهو من باب الإخبار بالغيب، ولا إلزام فيه أو أمر يجب اتباعه، فلا ينبني عليه حكم شرعي.
وكذلك يرى هذا الرأي الدكتور: صلاح الدين دبوس، حيث يحاول أن يثبت وقوع التناقض والتضارب بين الأحاديث الصحيحة الواردة في هذا الشرط، وبين الوقائع التاريخية المحفوظة؛ حتى يمكن النظر إلى هذه الأحاديث نظرة جديدة تختلف عن نظرة السابقين لها، كي يصل إلى القول بأنها أخبار محضة لا أمر فيها.
يقول: (مما يؤيد أن هذه الأخبار أخبار محضة أو مجردة، أن وقائع الحياة السياسية تدل على تولي كثيرين من غير قريش أمر الخلافة دون أن يكونوا نوابا عن خلفاء من قريش، وهذه الوقائع التاريخية في تعارضها مع الأخبار السابقة تقودنا إلى واحد من ثلاثة أمور:-
أولها: تكذيب رسول الله ، وهذا ما لا يجوز.
ثانيها: تكذيب هذه الأخبار ورواتها رواة عدول، فهم رواة الصحيحين، ولا يتأتى تكذيبهم دون خروج على قواعد علم الجرح والتعديل.
ثالثها: بطلان هذا النظام وما تم في ظله من تصرفات إسلامية، واعتبار هؤلاء الذين قاموا بالجهاد، وأجروا الحدود، وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر، اعتبار كل هؤلاء مذنبين مخطئين. وكل واحد من هؤلاء الثلاثة غير مقبول)( ).
ثم يدفع هذا التضارب الحادث –في رأيه– بين الأحاديث الصحيحة ووقائع الحياة السياسية والتاريخية، بترجيح أن المراد منها الإخبار لا الإلزام، فيقول: (المعقول أن نعيد النظر إلى هذه النصوص من جديد بعيدا عن تأثيرات التيارات الفكرية والسياسية التي سادت عند هؤلاء الفقهاء الذين نادوا بقرشية الخلافة، لأن في إعادة النظر ما يساعد على تحقيق التطابق بين الواقع والنصوص الصحيحة، بل بين النصوص ذاتها. وموجب هذا النظر الذي يحقق هذا التطابق ويبعدنا عن ذلك التأثير الذي كان سائدا عن دوى قرشية الخليفة أن يكون إخبار رسـول الله  بأن الأمر في قريش مرهون بإقامتهم الدين... ومن كل ما تقدم ننتهي إلى ترجيح الاتجاه الأول في عدم حمل هذه الأحاديث على محمل الأمر واعتبارها أخبارا محضة ومجردة)( ).
فريق آخر من العلماء يذهب إلى أن هذا الشرط غير ملزم، ويستبدله بوجود العصبية والمنعة، فالشيخ محمد أبو زهرة( ) يعرض النصوص المتعارضة في اشتراط النسب، ثم يقول: (فبجمع هذه النصوص مع حديث "إن هذا الأمر في قريش" يتبين أن النصوص في مجموعها لا تستلزم أن تكون الإمامة في قريش... ونقول: إنه معلل بالتقوى في قريش وشوكتهم، فإذا تحققتا في غيرهم ولم يكونا فيهم فإنه بمقتضى منطق الصديق الذي وافقه عليه الصحابة تكون الولاية في غيرهم، لأنه إذا كانت القوة والمنعة والتقوى هي المناط؛ فإن الخلافة تكون حيثما تكون هذه المعاني)( ).
بقي أن كثيرا من المعاصرين يرون رأي الخوارج في عدم اشتراط النسب القرشي في الخليفة دون أن يتعرضوا للأحاديث الواردة في ذلك بالقبول أو الرد.
يقول الأستاذ أبو الأعلى المودودي( ): (الإسلام لا ينوط أمر الخلافة بفرد من الأفراد أو بيت من البيوتات أو طبقة من الطبقات، بل يفوض أمرها إلى جميع أفراد المجتمع الذي يؤمن بالمبادئ الأساسية من التوحيد والرسالة، ويظهر كفاءته واستعداده للقيام بكل ما تنطوي عليه كلمة الخلافة وتقتضيه، فإذا وجد في الدنيا مجتمع متصف بهذه الصفات فلا ريب أنه جدير بالخلافة، وأن هذا هو المقام الذي تنشأ فيه وتبتدئ منه فكرة الجمهورية، فكل واحد من أفراد المجتمع الإسلامي له نصيب في الخلافة، وحق في التمتع بها)( ).
وكثير من العلماء يرى التحلل من هذا الشرط، وأن شريعة الإسلام لا يمكن أن تمايز بين الناس على أساس القبيلة أو المكانة الاجتماعية، فالناس سواسية لا فضل لمجموعة على أخرى إلا بالتقوى والعمل الصالح.
يرى ذلك الأستاذ العقاد( )، فيقول بعد أن يعرض شروط العلماء: (ويرى الكثيرون التحلل من هذا الشرط لأسباب كثيرة، منها: أنه شرط من شروط متعددة فإذا اجتمع أكثرها ولم تكن منها النسبة القرشية كان فيها الكفاية، ومنها أن النبي  قال: «اسمعوا وأطيعوا وإن استعمل عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة»( )، وقول عمر : «لو كان سالم مولى حذيفة حيا لوليته»، ومنها أن النبي لا يدعو إلى عصبية لأنه نهى عنها في أحاديث كثيرة، وبرئ من كل دعوة إلى العصبية، فهو صلوات الله عليه يؤثر الإمام القرشي لصفات القدرة على القيام بالإمامة، لا للعصبية ولو فقدت معها القدرة، وقد كانت قريش أقدر القبائل بمكة عاصمة الجزيرة في عهد الدعوة المحمدية، فكانت إمامتها هناك أرجح إمامة، وظلت كذلك إلى أن قام بالأمر من اجتمعت له شروط الإمامة دونها)( ).
وينفي الأستاذ محمد أسد أن تكون الشريعة قد وضعت شروطا للخليفة غير الإسلام والكفاية، فليست هناك اعتبارات غيرهما، يقول: (فإن اختيار رئيس الدولة لا بد وأن يكون قائما على ما لديه من المزايا فحسب بغض النظر عن اعتبارات الجنس أو القبيلة أو المكانة الاجتماعية السابقة، يقول رسول الله : «اسمعوا وأطيعوا وإن أمر عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة»، فضلا عن ضرورة توفر الشرطين السابقين؛ وهو أن يكون الأمير مسلما، وأن يكون "أتقاكم"، ويعني ذلك أن يكون بطبيعة الحال بالغا حكيما، وصالحا في خلقه وسلوكه، فإن الشريعة لا تضع شروطا أخرى لملء هذا المنصب، ولا تضع نظاما خاصا لانتخابه)( ).
ويقول الدكتور: أحمد حجازي السقا: (نرى تولية الكفء سواء كان قرشيا أو غير قرشي، الكفء المستجمع فيه كل شروط الإمامة غير المختلف فيها)( ).
وبعد عرض هذه الآراء يظهر لنا أن القائلين بهذا الرأي في الفكر الإسلامي المعاصر فئة غير قليلة، حتـى وصل ببعضهم إلى أن
جعل آراء الخوارج هي التطبيق العملي لروح الإسلام السمحة، ومساواته بين الناس جميعا، غير أن تخريج آرائهم يختلف من كاتب لآخر.
والذي نثبته في نهاية هذه الآراء، أن القول برفض اشتراط النسب القرشي نتيجة رد تلك الأحاديث بدعوى أنها غير صحيحة أو موضوعة قول بعيد عن الحقيقة، ومجانب للصواب، لثبوت تلك الأحاديث بروايات صحيحة، فلا مجال لردها.
أما القول بعدم اشتراط النسب؛ مع الاعتراف بصحة الأحاديث الواردة في اشتراطه؛ وذلك بتأويلها وتخريجها مخرجا يتفق مع آرائهم، فإن له وجهاً، خاصة أنني قد ذكرت في هذا الشرط عند أهل السنة أنه منوط بأمرين: الأول: بقاء قريش، والثاني: قيامها بحق الله تعالى، ثم إن بعضاً من العلماء القدامى قد نحا هذا المنحى، فابن خلدون يقرر: (لا بد من المصلحة في اشتراط النسب، وهي المقصودة من مشروعيتها، وهي العصبية التي تكون بها الحماية والمطالبة، ويرتفع الخلاف والفرقة بوجودها لصاحب المنصب، وقريش عصبة مضر وأصلهم، وسائر العرب يعترف لهم بذلك، ويستكينون لغلبهم، فلو جعل الأمر في سواهم لتوقع افتراق الكلمة بمخالفتهم وعدم انقيادهم...
فاشترط النسب القرشي في هذا المنصب، وهـم أهل العصبية القوية ليكون أبلغ في انتظام الملة واتفاق الكلمة.
إذا عُلم ذلك اشترطنا في القائم بأمور المسلمين أن يكون من قوم أولي عصبة قوية غالبة على من معها لعصرها؛ ليستتبعوا من سواهم وتجتمع الكلمة)( ).

الفصل الثاني
التكفير
ويشتمل على ثلاثة مباحث:-
المبحث الأول: التكفير عند أهل السنة.
المبحث الثاني: التكفير عند الخوارج.
المبحث الثالث: أثر رأي الخوارج في الفكر الإسلامي المعاصر.

المبحث الأول
التكفير عند أهل السنة
يدور حديثي في هذا المبحث حول النقاط التالية: -
أولاً: معنى الكفر: -
الكفر لغة: التغطية والستر، والكافر: الزارع لستره البذر بالتراب، والكُفَّار: الزُّرَّاع، ومنه قوله تعالى:        ( )؛ أي: الزُّرَّاع، وكل من ستر شيئا فقد كَفَره وكَفَّره، وأَكْفَرت الرجل: دعوته كافرا، وكفَّر الرجل: نسبه إلى الكفر( ).
اصطلاحاً:-
لأهل العلم في تعريف الكفر أقوال عدة أورد بعضها فيما يلي:-
قال ابن حزم: ( الكفر: صفة من جحد شيئا مما افترض الله تعالى الإيمان به بعد قيام الحجة عليه ببلوغ الحق إليه، بقلبه دون لسانه، أو بلسانه دون قلبه، أو بهما معا، أو عمل عملا جاء النص بأنه مخرج له بذلك عن اسم الإيمان)( ).
وقال صاحب الدر المختار: (الكفر شرعا: تكذيبه  في شيء مما جاء به من الدين ضرورة)( ).
وقال ابن تيمية: (الكفر يكون بتكذيب الرسول  فيما أخبر به، أو الامتناع عن متابعته مع العلم بصدقه، مثل كفر فرعون واليهود ونحوهم)( ).
وقال ابن القيم( ): (الكفر: جحد ما علم أن الرسول جاء به، سواء كان من المسائل التي تسمونها علمية أو عملية، فمن جحد ما جاء به الرسول  بعد معرفته بأنه جاء به، فهو كافر في دق الدين وجله)( ).
وقال السبكي: (التكفير حكم شرعي سببه جحد الربوبية، أو الوحدانية، أو الرسالة، أو قول أو فعل حكم الشارع بأنه كفر وإن لم يكن جحدا)( ).
وجميع هذه التعاريف متقاربة؛ إلا أن بعضها يقتصر على نوع من أنواع الكفر دون ذكر باقي أنواعه، وبعضها يفصل في التعريف فيذكر سائر أنواع الكفر المختلفة، إلا أن الجميع يدور حول معنى متقارب؛ ألا وهو تكذيب النبي  في شيء مما جاء به، أو فِعْلُ ما حكم الشارع بأنه كفر.
ثانياً: الكفر حكم شرعي:-
الكفر من حقوق الله تعالى، فالكافر من كفره الله تعالى أو رسوله الكريم، وليس لأحد من الناس حق التكفير، فلا مجال للعقل فيه.
قال الإمام الغزالي: ( الكفر حكم شرعي كالرق والحرية مثلا؛ إذ معناه إباحة الدم والحكم بالخلود في النار، ومدركه شرعي؛ فيدرك إما بنص، وإما بقياس على منصوص)( ).
ولما تحدث القاضي عياض عما هو من المقالات، وما يتوقف فيه، أو يختلف فيه، قال في مطلع كلامه: (اعلم أن تحقيق هذا الفصل وكشف اللبس فيه مورده الشرع، ولا مجال للعقل فيه)( ).
فالعقل لا يستطيع أن يحكم بالكفر ما دام الشرع لم يقرر ذلك، فليس للعقل استقلال في هذا الحكم، وإنما هو متلقى عن صاحب الشريعة، والعقل قد يُعلم به صواب القول وخطؤه، وليس كل ما كان خطأ في العقل يكون كفرا في الشرع، كما أنه ليس كل ما كان صوابا في العقل تجب في الشرع معرفته.
ثالثاً: خطورة أمر التكفير:-
الأصل بقاء المسلم على إسلامه حتى يقوم الدليل على خلاف ذلك، لما ثبت عن النبي  أنه قال: « من صلى صلاتنا واستقبل قبلتنا وأكل ذبيحتنا فذلك المسلم الذي له ذمة الله وذمة رسوله فلا تخفروا الله في ذمته»( ).
والإيمان والكفر محلهما القلب، ولا يطلع على ما في القلوب غير الله تعالى، وليست كل القرائن الظاهرة تدل يقينا على ما القلب، وقد نهى الله تعالى عن اتباع الظن.
وقد حذر النبي  من الإسراع في التكفير دون بينة وبرهان، فقال : «أيما رجل قال لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما، إن كان كما قال وإلا رجعت عليه»( ).
وقال : «من دعا رجلا بالكفر أو قال عدو الله وليس كذلك إلا حار عليه»( ).
وتواردت أقوال العلماء في التحذير من إطلاق التكفير، قال الغزالي: (والذي ينبغي أن يميل المحصل إليه الاحتراز من التكفير ما وجد إليه سبيلا؛ فإن استباحة الأموال والدماء من المصلين إلى القبلة، المصرحين بقول "لا إله إلا الله محمد رسول الله" خطأ، والخطأ في ترك تكفير ألف كافر في الحياة أهون من الخطأ في سفك محجمة من دم امرئ مسلم)( ).
وقال الإمام الشوكاني: (واعلم أن الحكم على رجل مسلم بخروجه عن دين الإسلام ودخوله في دين الكفر؛ لا ينبغي لمسلم أن يقدم عليه إلا ببرهان أوضح من شمس النهار... ثم أورد عددا من الأحاديث التي تحذر من تكفير المسلم، وقال: ففي هذه الأحاديث وما ورد موردها أعظم زاجر، وأكبر واعظ عن التسرع في التكفير)( ).
وقد أُمر المسلم أن يُحسن الظن بأخيه، ويحمل كلامه محملا حسنا عن كان يحتمل ذلك، فقد قيل: (إذا كان في المسألة وجوه توجب الكفر، ووجه واحد يمنع التكفير، فعلى المفتي أن يميل إلى الوجه الذي يمنع التكفير تحسينا للظن بالمسلم)( ).
فأهل السنة لا يكفرون وإنما يُخَطِّؤون، وأما أهل البدع فيكفرون.
رابعاً: الآثار المترتبة على التكفير:-
تظهر خطورة التكفير واضحة فيما يترتب عليه من آثار، فالحكم بالكفر على شخص في الدنيا يترتب عليه:-
1- أنه لا يحل لزوجته البقاء معه، ويجب أن يفرق بينها وبينه، لأن المسلمة لا يصح أن تكون زوجة لكافر إجماعا.
2- أن أولاده لا يجوز أن يبقوا تحت سلطانه، لأنه لا يؤتمن عليهم، ويُخشى أن يؤثر عليهم بكفره.
3- أنه فقد حق الولاية والنصرة على المجتمع المسلم بعد أن مرق منه وخرج عليه بالكفر الصريح والردة البواح، ولهذا يجب أن يُقاطع ويفرض عليه حصار أدبي من المجتمع حتى يفيق لنفسه ويثوب إلى رشده.
4- أنه يجب أن يحاكم أمام القضاء الإسلامي لينفذ فيه حكم المرتد، بعد أن يُستتاب، وتزال من ذهنه الشبهات، وتقام عليه الحجة.
5- أنه إذا مات لا تجري عليه أحكام المسلمين، فلا يُغسَّل، ولا يُصلى عليه، ولا يدفن في مقابر المسلمين، ولا يورث، كما أنه لا يرث إذا مات مُورِّث له.
6- أنه إذا مات على حالة من الكفر يستوجب لعنة الله وطرده من رحمته والخلود الأبدي في نار جهنم( ).
خامساً: أقسام الكفر:-
ينقسم الكفر إلى نوعين هما:-
النوع الأول: الكفر الأكبر: وهو الذي يوجب الخلود في النار، ويأتي في النصوص مقابلا للإيمان، يقول تعالى:   •   •  ( )، ويقول أيضا:                     ( ).
وهذا الكفر أنواع:-
1- كفر تكذيب: وهو اعتقاد كذب الرسول  فيما يخبر به.
2- كفر إباء واستكبار: مثل إبليس فإنه لم ينكر أمر الله تعالى، لكنه قابله بالإباء والاستكبار.
3- كفر الإعراض: بأن يعرض عن الرسول فلا يصدقه ولا يكذبه، ولا يواليه ولا يعاديه.
4- كفر شك: بأن لا يجزم بصدق النبي ولا كذبه، بل يشك في أمره.
5- كفر نفاق: أن يظهر الإيمان بلسانه ويعتقد بقلبه الكفر( ).
النوع الثاني: الكفر الأصغر:-
ويسمى الكفر العملي، أو كفر دون كفر، وهو الذي يوجب الوعيد دون الخلود في النار، وقد وردت نصوص كثيرة أطلق فيها لفظ الكفر وأريد به المعصية، ومثال ذلك:-
1- قول النبي : «سباب المسلم فسوق وقتاله كفر»( ). فالمراد بالكفر هنا ليس المخرج عن الملة، لأن الله تعالى يقول:       ( ).
قال ابن حجر في تعليقه على الحديث:(لم يرد حقيقة الكفر التي هي الخروج عن الملة، بل أطلق عليه الكفر مبالغة في التحذير)( ).
2- عن أبي هريرة  قال: قال رسول الله : «اثنتان في أمتي هما كفر: الطعن في النسب والنياحة على الميت»( ).
قال النووي: ( فيه أقوال: أصحها أنه معناه: هما من أعمال الكفر وأخلاق الجاهلية، والثاني: أنه يؤدي إلى الكفر، والثالث: أنه كفر)( ).
سادساً: حكم مرتكب الكبيرة:-
من الأصول المقررة عند أهل السنة والجماعة عدم تكفير مرتكب الكبيرة ما لم يستحلها، وهم مجمعون على ذلك.
قال النووي: (اعلم أن مذهب أهل الحق: أنه لا يكفر أحد من أهل القبلة بذنب، ولا يكفر أهل الأهواء والبدع، وأن من جحد ما يعلم من دين الإسلام ضرورة حكم بردته وكفره، إلا أن يكون قريب عهد بالإسلام، أو نشأ ببادية بعيدة ونحوه ممن يخفى عليه فيعرف ذلك، فإن استمر حكم بكفره)( ).
وقد قام الدليل على ذلك من الكتاب والسنة:-
فمن أدلة القرآن الكريم:-
1- قال تعالى:                               •    ( ).
فسماهم الله تعالى مؤمنين مع أنهم بغاة، لذلك قال البخاري: باب "وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما" فسماهم مؤمنين، وقال ابن حجر: (واستدل المؤلف على أن المؤمن إذا ارتكب معصية لا يكفر؛ بأن الله تعالى أبقى عليه اسم المؤمن)( ).
ففي هذا دليل على أنهم لم يرتفع عنهم اسم الإيمان مع كونهم قد ارتكبوا معصية كبيرة، بـل قد وصفهم الله تعالى بالتآخي فقال:      ( ).
2- قال تعالى:  •                     ( ).
في الآية دليل على كون الذنوب سوى الشرك خاضعة لمغفرة الله تعالى، وتحت مشيئته، فلا يكفر العبد بارتكاب ذنب سوى الشرك بالله .
3- أوعد الله تعالى القاتل بالخلود في النار عقوبة له، لكنه مع هذا لم ينف عنه صفة الإيمان، فهو أخ لولي المقتول؛ كما جاء في كتاب الله تعالى:        ( ). والمراد: أخوة الدين.

ومن أدلة السنة النبوية:-
1- عن أبي ذر( )  قال: أتيت النبي  وهو نائم، ثم أتيته وقد استيقظ فجلست إليه فقال: «ما من عبد قال لا إله إلا الله ثم مات على ذلك إلا دخل الجنة» قلت: وإن زنى وإن سرق؟ قال: «وإن زنى وإن سرق». ثلاثا، ثم قال في الرابعة: «على رغم أنف أبي ذر». قال: فخرج وهو يقول: «رغم أنف أبي ذر»( ).
2- حديث عبادة بن الصامت( ) أن رسول الله  قال وحوله عصابة من أصحابه: «بايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئا، ولا تسرقوا، ولا تزنوا، ولا تقتلوا أولادكم، ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم، ولا تعصوا في معروف، فمن وفى منكم فأجره على الله، ومن أصاب من ذلك شيئا فعوقب به في الدنيا فهو كفارة له، ومن أصاب من ذلك شيئا ثم ستره الله فهو إلى الله؛ إن شاء عفا عنه، وإن شاء عاقبه» فبايعناه على ذلك( ).
قال الحافظ ابن حجر في شرح الحديث: (فيه رد على الخوارج الذين يكفرون بالذنوب، ورد على المعتزلة الذين يوجبون تعذيب الفاسق إذا مات بلا توبة، لأن النبي  أخبر بأنه تحت المشيئة ولم يقل لا بد أن يعذبه)( ).
3- روى الإمام أحمد في مسنده أن جابر بن عبد الله( )  سئل يوما: هل كنتم تعدون الذنب شركا؟ قال: معاذ الله( ).
فاستعظم  أن ينسب هذه البدعة إلى أصحاب النبي ، وبين أنها أمر لم يكن على عهدهم، وإنما استحدثه من جاء بعدهم من المبتدعة في الدين.
والأدلة على هذا الفهم كثيرة من كتاب الله تعالى وسنة رسوله ، وفهم الصحابة رضوان الله عليهم، ومن تبعهم وسار على نهجهم من السلف الصالح، وأن ما استحدثه الخوارج في مسألة مرتكب الكبيرة خارج عن أصول أهل السنة والجماعة، وعن الثابت من القرآن والسنة.
سابعاً: التوقف والتبين:-
التوقف حكم شرعي أمر الله تعالى به، فلا يحكم على أحد من الناس بالإسلام أو الكفر إلا بعد معرفة حاله، لكن ذلك يختلف باختلاف المجتمع الذي يحيا فيه الفرد، فالمجتمعات الإنسانية من حيث الحكم على أفرادها بالإسلام أو بالكفر ثلاثة أقسام:-
القسم الأول: مجتمع الأصل فيه الكفر؛ كالمجتمعات الغربية، فهذه المجتمعات إن أريد الحكم على فرد من أفرادها بالإسلام فلا بد من التوقف والتبين حتى يتبين لنا حال ذلك الشخص، لأن الحكم له بالإسلام خروج عن الأصل.
القسم الثاني: مجتمع مختلط؛ فهذا لا بد فيه من التوقف أيضا إذا لم تكن هناك علامة دالة على التمييز بين المسلم والكافر.
القسم الثالث: مجتمع الأصل فيه الإسلام؛ فهذا لا حاجة للتوقف والتبين فيه، لأن الحكم بالأصل لا يحتاج إلى دليل( ).
وعلى هذا فالتوقف نحتاجه للحكم على المسلم الذي يعيش في مجتمع إسلامي للحكم عليه بالكفر والخروج من الملة؛ لأن التكفير لا بد أن يقوم على بينة ودليل وبرهان صالح للحكم به، ولا نحتاج التوقف في الحكم على المسلم الذي يعيش في بلاد الأصل فيها الإسلام كي نحكم له بالإسلام، كما لا نحتاج التوقف أيضا في الحكم على من أظهر لنا الإسلام.
ودليل ذلك حديث أسامة بن زيد( ) قال: بعثنا رسول الله  في سرية فصبحنا الحرقات من جهينة، فأدركت رجلا فقال: لا إله إلا الله. فطعنته، فوقع في نفسي من ذلك؛ فذكرته للنبي  فقال: «أقال لا إله إلا الله وقتلته؟» قال: قلت: يا رسول الله إنما قالها خوفا من السلاح. قال: «أفلا شققت عن قلبه حتى تعلم أقالها أم لا؟» فما زال يكررها عليّ حتى تمنيت أني أسلمت يومئذ( ).
هذا منهج أهل السنة في التكفير، وفي الحكم على مرتكب الكبيرة، وما يترتب عليه من آثار تبين خطورة التكفير، وخطر الإقدام عليه إلا ببينة أوضح من شمس النهار، وهو منهج – كعادة آراء أهل السنة – يستند إلى الكتاب والسنة وفهم الصحابة رضوان الله عليهم.

المبحث الثاني
التكفير عند الخوارج
يرى عامة الخوارج أن الإيمان اعتقاد بالقلب وإقرار باللسان وعمل بكل ما جاء به الشرع، فلا إيمان لمن لم يتحقق فيه واحد من الثلاثة.
قال ابن حزم: ( وذهب سائر الفقهاء وأصحاب الحديث والمعتزلة والشيعة وجميع الخوارج إلى أن الإيمان هو: المعرفة بالقلب بالدين، والإقرار به باللسان، والعمل بالجوارح)( ).
ولم ينفرد الخوارج بهذا الرأي، فهو مذهب كثير ممن ذكرهم ابن حزم، لكنهم انفردوا بما يترتب على ذلك؛ فكل ما انفرد به الخوارج أنهم كفروا من لم يعمل وأقر باللسان، فالإيمان عند الخوارج كل لا يتبعض، فمن ترك ركنا من أركانه فقد سلب منه كله، وبهذا الاعتبار فإن هناك ارتباطا وثيقا عند الخوارج بين الاعتقاد الداخلي وبين السلوك الخارجي الذي يدل عليه، ومن ثم فإن التصديق بالنفس أو القلب وحده غير كاف( ).
وهذه المسألة من مسائل الاتفاق عند الخوارج، لم يخالف فيها إلا بعض طائفة البهيسية، حيث يرى أبـو بهيس رأس الطائفة أن
الإيمان: (هو أن يعلم كل حق من باطل، وأن الإيمان هو العلم بالقلب دون القول والعمل، ويحكى عنه أنه قال: الإيمان هو: الإقرار والعلم، وليس هو أحد الأمرين دون الآخر، وعامة البهيسية على أن العلم والإقرار والعمل كله إيمان)( ).
فعامة البهيسية يخالفونه في مفهوم الإيمان، لكن وافقه على ذلك طائفة الشبيبية (زعموا أن الرجل يكون مسلما إذا شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله، وتولى أولياء الله وتبرأ من أعدائه، وأخذ بما جاء من عند الله جملة، وإن لم يعلم سائر ما افترض الله سبحانه عليه مما سوى ذلك، أفرض هو أم لا؟ فهو مسلم حتى يبتلى بالعمل به فيسأل)( ).
هذا المفهوم للإيمان عند الخوارج دفعهم إلى القول بأن الذي يرتكب مخالفة شرعية أو معصية كبيرة يخرج من الإيمان، فالفرد إما مؤمن وإما كافر، ولا منزلة بينهما، وهذا الموقف عند الخوارج عامة إنما كانت له خلفيات تاريخية مهدت للقول به، وفتحت للخوارج بابا لتعميم هذا الحكم، حيث كانت بداية نشأة هذا القول بداية تاريخية (هذا الموقف الخارجي إنما نشأ إزاء ما وقع من أحداث تاريخية جزئية في عهد الفتنة من قتال المسلم أخاه ومن سبيه لماله، ثم عمموا ذلك في جميع المخالفات أو المعاصي الكبيرة التي يكتسبها الإنسان، أي أن الحكم قد انتقل من سلوك فرد من الأفراد سواء كان خليفة أو واليا إذا ارتكب ما يبدو أنه مخالف للتعاليم القرآنية إلى الحكم على تصور كلي، وهو كل من ارتكب معصية كبيرة، بقطع النظر عن هذا الفرد أو ذاك)( ).
والقول بتكفير مرتكب الكبيرة هو قول عامة الخوارج، فينقل الأشعري أنهم: ( أجمعوا أن كل كبيرة كفر إلا النجدات فإنها لا تقول بذلك)( ).
وقد نقل عنهم ذلك مؤلفو كتب الفرق والمقالات الإسلامية، وإليك آراء بعض فرق الخوارج في هذه المسألة:-
أجمع الأزارقة أن من ارتكب كبيرة من الكبائر كَفَر كُفْر ملة خرج به عن الإسلام جملة، ويكون مخلدا في النار مع سائر الكفار، واستدلوا بكفر إبليس لعنه الله، وقالوا: ما ارتكب إلا كبيرة؛ حيث أُمِر بالسجود لآدم فامتنع، وإلا فهو عارف بوحدانية الله تعالى)( ).
وينقل الأشعري قولهم: إن كل كبيرة كفر، وإن الدار دار كفر – يعنون مخالفيهم – وإن كل مرتكب معصية كبيرة ففي النار خالدا مخلدا، ويكفرون عليا رضوان الله عليه في التحكيم، ويكفرون الحكمين أبا موسى وعمرو بن العاص، ويرون قتل الأطفال( ).
ولم يكن الأزارقة أول من قالوا بذلك، وإنما هو قول المحكمة الأولى أيضا، فهم يكفرون بالذنوب والمعاصي (وكان دينهم إكفار عليّ وعثمان وأصحاب الجمل ومعاوية وأصحابه، والحكمين ومن رضي بالتحكيم، وإكفار كل ذي ذنب ومعصية)( ).
وقد وافق كثير من الخوارج الأزارقة في هذا القول، فالعجاردة مثلا ينقل عنهم الشهرستاني أنهم (يكفرون بالكبائر)( ).
بل قد غالى بعض الخوارج فجعل التكفير لكل ذنب صغيرا كان أم كبيرا؛ كاليزيدية مثلا حيث يرى يزيد بن أبي أنيسة (أن أصحاب الحدود من موافقيه وغيرهم كفار مشركون، وكل ذنب صغير أو كبير فهو شرك)( ).
وتظهر التناقضات عند بعض فرق الخوارج في حكمهم على صاحب الكبيرة؛ فيفرقون بين مرتكب الكبيرة منهم ومرتكبها من غيرهم، فعلى حين أنهم يتولون موافقيهم ويعلنون عدم كفرهم، يتشددون على المخالف ويعدونه كافرا، نجد هذا عند النجدات، حيث أن نجدة بن عامر ( تولى أصحاب الحدود من موافقيه، وقال: لعل الله يعذبهم في غير نار جهنم ثم يدخلهم الجنة، وزعم أن النار يدخلها من خالفه في دينه)( ).
وفرق بعضهم بين الإصرار وعدمه، فالمصر على الذنب الصغير مشرك، وغير المصر ليس بمشرك وإن كان الذنب كبيرة من الكبائر، وقد رُوي هذا عن نجدة حيث قال: (من نظر نظرة صغيرة، أو كذب كذبة صغيرة وأصر عليها فهو مشرك، ومن زنى وسرق وشرب الخمر غير مصر عليه فهو مسلم)( ).
ومع وقوع الإجماع من الخوارج على كفر مرتكب الكبيرة؛ إلا أن توجيه هذا الكفر يختلف من طائفة لأخرى ويتنوع، فالمكرمية مثلا يرون أن مرتكب الكبيرة كافر؛ لا لفعله بل لجهله بالله تعالى وما يجب له حيث ( زعموا أن تارك الصلاة كافر؛ لا لأجل ترك الصلاة لكن لجهله بالله ، وزعموا أن كل ذي ذنب جاهل بالله، والجهل بالله كفر، وذلك أن العارف بالله تعالى وأنه المطلع على سره وعلانيته، والمجازي على طاعته ومعصيته لن يتصور منه الإقدام على المعصية
والاجتراء على المخالفة، ما لم يغفل عن هذه المعرفة ولا يبالي التكليف فيه)( ).
هذا الموقف من الخوارج في حق مرتكب الكبيرة والحكم عليه لم يقف عند هذا الحد؛ بل تعداه إلى نظريات أخرى تنشأ عن هذا القول، فإذا حكموا على مرتكب الكبيرة بأنه كافر، فإن ذاك ينشأ عنه نظرية الولاية والمودة في الدين، والبراءة من المخالف، أيضا يستلزم هذا الموقف الاستعراض للمخالف واستحلال دماء وأموال المخالفين؛ وذلك بناء على ما قرروه من أن الدار دار كفر، وفي ذلك يقول نافع بن الأزرق: ( الدار دار كفر –يقصد دار المخالفين– إلا من أظهر إيمانه، ولا يحل أكل ذبائحهم، ولا تناكحهم، ولا توارثهم، ومتى جاء منهم من جاء فعلينا أن نمتحنه، وهم ككفار العرب لا نقبل منهم إلا الإسلام أو السيف)( ).
هذه النظريات ثابتة عن الخوارج، وهي نتيجة للقول بكفر مرتكب الكبيرة، ومن هذه النظريات: الاستحلال؛ فحكي عن النجدية أنهم استحلوا دماء أهل المقام وأموالهم في دار التقية، وبرئوا ممن حرمها، وذهبت طائفة من البهيسية إلى قتل أهل القبلة وأخذ الأموال، واستحلت القتل والسبي على كل حال، والأزارقة يـرون إباحـة قتل أطفال المخالفين والنسوان، وقال بعضهم باستعراض كل من لقوه من غير أهل معسكرهم، ويقتلونه إذا قال أنا مسلم، ويحرمون قتل من انتمى إلى اليهود أو إلى النصارى أو إلى المجوس، وقالت طائفة من الصفرية بوجوب قتل كل من أمكن قتله من مؤمن عندهم أو كافر( ).
وإذ أثبت ذلك كتاب الفرق؛ فإن شهادة التاريخ ووقائع أحوالهم تؤيد ذلك( ).
ويظهر في هذا الموقف أيضا الازدواجية في الحكم والثنائية في التعامل عند بعضهم، فلا يجوز أخذ مال المخالف ولا قتله سرا، لكنهم يجيزون ذلك في العلانية، فيرى الشمراخية أن دماء قومهم حرام في السر حلال في العلانية، ويرى الحمزية عدم قتال أهل القبلة ولا أخذ المال في السر حتى يبعث الحرب، ولا يرى العجاردة أموال مخالفيهم فيئا إلا بعد قتل صاحبها( ).
ولا يرى بعض الخوارج تكفير المخالف مطلقا، فقالوا بالتوقف، وهو ألا يحكم على من لا يعرف حاله بإيمان ولا بكفر، بل يتوقف في أمره حتى يعلم أمؤمن هو فيواليه، أو كافر فيتبرأ منه، وهو ما عرف عندهم بالتوقف؛ حيث قالت الأخنسية: ( يجب علينا أن نتوقف عن جميع من دار التقية إلا من عرفنا منه إيمانا فنواليه عليه، أو كفرا فبرئنا منه)( ).
ويرى كتاب الفرق أن الجانب المعتدل عند الخوارج في مسألة الحكم على مرتكب الكبيرة يتمثل في الإباضية؛ الذين لا يرون أن مرتكب الكبيرة خارج عن الملة، بل يعد كافرا كفر نعمة ( وأجمعوا أن من ارتكب كبيرة من الكبائر كفر كفر النعمة لا كفر الملة)( ).
لكنهم متفقون على أنه مخلد في النار لا يخرج منها أبدا، فقالوا بأن (جميع ما افترض الله على خلقه إيمان، وأن كل كبيرة فهي كفر نعمة لا كفر شرك، وأن مرتكبي الكبائر في النار خالدون مخلدون فيها)( ).
وعند المقارنة نجد أن الفرق بين القولين يكاد يكون فرقا نظريا، ليس له أي أثر واقعي، فالكل متفقون على أن مرتكب الكبيرة خالد مخلد في النار، مع الاتفاق على كونه كافرا في الدنيا، لكن الخلاف الوحيد هل كفره كفر نعمة أو كفر ملة؟
ومـن مواقفهم المترتبة على القول بالتكفير وجـوب الهجـرة واعتزال المجتمع، والفرار بالدين حتى يستطيعوا أن يقيموا المجتمع الذي ينشدوه، رائدهم في ذلك بعض النصوص القرآنية التي تحض على ترك القرية التي لا يستطيع المسلم أن يقيم فيها دينه، كقول الله تعالى:  •           •                   • ( ).
(ولقد ظهرت الهجرة كعلامة مرتبطة بالتكفير منذ البدايات الأولى لفكر الخوارج، وذلك عقب حادث التحكيم)( ).
وتظهر هذه الصورة واضحة في أول اجتماع حصل للخوارج لما انتخبوا عبد الله بن وهب الراسبي أميرا عليهم فخطبهم، وحثهم على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ثم قال: (فاخرجوا بنا من هذه القرية الظالم أهلها إلى بعض هذه المدائن منكرين لهذه البدعة المضلة والأحكام الجائرة)( ).
هذه النظرة عند الخوارج لمرتكب الكبيرة تجعل تحقق مفهوم الإيمان في الفرد من الصعوبة بمكان، وهو ما قاله الأستاذ عمار طالبي
(يلزم من موقف الخوارج أن يكون الإنسان معصوما حتى ينجو من ارتكاب الكبائر، ويلزم أيضا ألا يوجد في العالم مؤمن يتحقق فيه مفهوم الإيمان الخارجي حتى يستكمل جميع أفعال الطاعة والخير، ويترك جميع أفعال المعصية، ويحافظ على ذلك فيما يستقبل من حياته)( ).
والحق إنه لموقف يصعب تحقيقه، ذلك أنه إذا كان الله تعالى قد كتب على الإنسان أن يخطئ، وبين أن من سعة رحمته تعالى أنه يقبل التائبين، ويتجاوز عن العصاة والمذنبين، فإن موقف الخوارج لا يعطي للفرد إذا وقع في معصية، أو إذا قصر في أداء الطاعة فرصة لاستكمال ما فات، بل يحكم عليه بأن مفهوم الإيمان غير متحقق فيه.
وبهذا العرض يتضح لنا مجمل نظرية الخوارج في الحكم على مرتكب الكبيرة، ومدى التباين الواضح بين منهج أهل السنة السابق، ومنهج الخوارج في المسألة، بحيث لا تظهر نقاط اتفاق بين المنهجين.
وقد كان لرأيهم هذا شيوع وانتشار بين الفرق الإسلامية قديما وحديثا، وعمت به البلوى، وكثر القائلين به أفرادا وجماعات، وهو موضوع المبحث الثالث بإذن الله تعالى.

المبحث الثالث
أثر رأي الخوارج في الفكر الإسلامي المعاصر
لعل من أكثر آراء الخوارج صدى في الفكر المعاصر قولهم بكفر مرتكب الكبيرة وما يترتب على ذلك من أحكام، وفتنة التكفير من أكثر الفتن شيوعا منذ أن بدأت على عهد عليّ  لما كفره الخوارج بعد التحكيم، ومنذ ذلك الحين والخلاف قائم حول حقيقة الإيمان والكفر، وما يستتبعه من التكفير، بل قد زادت حدته بمرور الأيام وتفاقم الخلافات حتى ضلت فيه طوائف كثيرة قديما وحديثا، وقلما سلمت فرقة من تكفير غيرها.
وعند عرضنا لتيارات التكفير في العصر الحديث، نجد أن مبدأ ذلك عندهم أنهم جعلوا العمل من الإيمان، واعتبروا فقد العمل ونقصانه كفر يخرج عن الملة.
يقول صالح سرية( )–مؤسس تنظيم الفنية العسكرية( ) -: (إننا نحكم على الإيمان بثلاثة أركان كما يقول السلف "الإقرار بالجنان والتكلم باللسان والعمل بالأركان، فان اختل ركن واحد من هذه الأركان حكمنا بالكفر، ومع أنه لم يكن هناك خلاف بين السلف في ذلك؛ إلا أننا نجد المتأخرين يغفلون عن هذه القاعدة ويقصرون التكفير على الاعتقاد فقط، ولكنهم يهملون جانب العمل إهمالا كاملا، في حين أننا نخالفهم في ذلك على طول الخط، فالعمل عندنا هو الأساس الذي نعمل بموجبه، أما الاعتقاد فلا نستطيع أن نعلمه؛ لأنه بين الإنسان وربه، والله يحاسبه يوم القيامة... إن العمل عندنا هو المقياس للإيمان والكفر في الدنيا، أما الاعتقاد الداخلي فلا نعلمه والله يتولاه يوم القيامة)( ).
فالإيمان عندهم ثلاثة أركان: اعتقاد، وقول، وعمل، لكن فقد ركن العمل عنده يعتبرا كفرا، مع عدم اشتراط الاستحلال، ويبين في موضع آخر أن المسلم لا يحكم له بالإسلام إلا كما كان على عهد النبي ، وقد كان شرط ذلك على عهده  أن يكون قد: (أعلن كفره بالطاغوت وإيمانه بالله، وتسليمه له وحده، والشهادة بنبوة محمد ، والدخول في طاعته، وإتيان الفرائض التي افترضها الله عليه، والمداومة على ذلك، ولا يأتي بناقض ينقض إسلامه)( ).
ويحمل هذا الفكر من بعده شكري مصطفى( )¬ – مؤسس تنظيم جماعة المسلمين( ) – ويزعم عدم التفريق بين الكفر العملي والكفر القلبين وأن العمل من الإيمان فتاركه كافر، يقول: (لم يحدث أن فرقت الشريعة بين الكفر العملي والكفر القلبي، ولا أن جاء نص واحد يدل أو يشير إلى أن الذين كفروا بسلوكهم غير الذين كفروا بقلوبهم واعتقادهم؛ بل كل النصوص تدل على أن عصيان الله عملا، والكفر به سلوكا وواقعا هو بمفرده سبب العذاب والخلود في النار والحرمان من الجنة نعوذ بالله من ذلك... ونجزم ببطلان ما ادعوه زعما وتخرصا على الله بغير علم من أنها –أي كفر النعمة– كفر لا ينقل عن الملة، ونتحداهم أن يأتوا بنص من كتاب الله يذكر فيه أن كفر الإحسان أو كفر النعمة لا ينقل عن الملة، لا تصريحا، ولا ترجيحا، ولا إشارة)( ).
والحقيقة أن النصوص – من الكتاب والسنة – قد تواردت على التفريق بين الكفر الاعتقادي والكفر العملي، أو الكفر الأكبر والكفر الأصغر، أو ما يسميه البعض كفر دون كفر، وقد أسلفت بيان ذلك عند الحديث عن منهج أهل السنة في التكفير( ).
وينبني على قولهم بإدخال العمل في مسمى الإيمان، وجعله جزءا رئيسيا يذهب الإيمان بفقده، ينبني على هذا أن مرتكب الكبيرة أو المعصية كافر كفرا يخرج عن الملة، ويستوجب الخلود في النار، فلا فرق بين كلمة كافر أو عاصي أو فاسق، فكلها ألفاظ توجب الخروج عن الملة، والخلود في النار، ومن أقوالهم في ذلك: (إن المعاصي شرك بالله تعالى، وكل ما حرمه الله تعالى هو من الكبائر، أي الذنب الكبير)( ).
ويقررون في ذات الموقف أن: (الإصرار على معصية واحدة كفر بالله العظيم، ومحبط لكل أعمال البر وإن كانت كجبال تهامة، والإصرار على المعصية نقض كامل للشهادة بوحدانية الله تعالى، وكفر كامل بوجوب عبادته)( ).
لكن الذي عليه الجمهور أن الذنوب نوعان: كبائر، وصغائر، وليس كل ما حرمه الله تعالى هو من الكبائر.
لذلك فالمرء عندهم إما مؤمن وإما كافر، والمؤمن هو الذي تحقق بجميع خصال الإيمان، والكافر هو من أتى بذنب واحد أو معصية واحدة تخرجه عن مسمى الإيمان إلى مسمى الكفر (إن كلمة عاص هي اسم من أسماء الكافر، وتساوي كلمة كافر تماما، ومرجع ذلك إلى قضية الأسماء، إنه ليس من دين الله أن يسمى المرء في آن واحد مسلما وكافرا)( )، (ومن فعل معصية مرة واحدة ولم يتب من هذه المرة فهو مصر عليها كافر)( ).
فلا يجتمع في عبد إيمان وكفر، ويرون أن نقصان العمل سبب لدخول النار، وان كفر الكافرين إنما جاء من قبل تركهم العمل، وبما كسبت أيديهم، يقول أحدهم:( وقد جاءت النصوص متواترة يصدق بعضها بعضا قرآنا وسنة على أن سبب كفر الكافرين، ودخولهم النار، وخلودهم فيها، وحرمانهم من الجنة هو ما كانوا يعملون، وما كانوا يكسبون، وما كانوا يقترفونه، وما كانوا يجترحونه؛ عامـة ومفصلة في مثل قوله تعالى:       •   ( )، وقوله : «لا يدخل الجنة نمام، لايدخل الجنة قتات»( ) «من ادعى لغير أبيه وهو يعلم أنه غير أبيه فالجنة عليه حرام»( )، «أي عبد أبق من مواليه فقد كفر حتى يرجع إليهم»( )، «اثنتان في أمتي هما بهم كفر: الطعن في النسب والنياحة على الميت»( )، «سباب المسلم فسوق وقتاله كفر»( )، «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن»( )، «لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض»( )، «والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن الذي لا يأمن جاره بوائقه»( )، «ليس منا من ضرب الخدود وشق الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية»( )، «ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم: المسبل، والمنان، والمنفق سلعته بالحلف الكاذب»( ))( ).
مع أن كل هذه النصوص المراد منها كما قرر العلماء ليس الكفر الأكبر الذي يخرج عن الملة، ولهم فيها تأويلات عدة تجمع بين النصوص التي يظن أنها متعارضة، كما سبق الحديث عن ذلك( ).
وهذان الأصلان عندهم – العمل جزء من الإيمان، والمعصية كفر – كانا سببا في تأصيل قاعدة أخرى؛ ألا وهي قاعدة الحد الأدنى من الإسلام، فيقررون أن هناك حدا أدنى في الإسلام من مات على أقل من هذا الحد مات كافرا، وخُلِّد في النار.
وقد تبلورت هذه القاعدة في فكر شكري مصطفى؛ حيث يقول: (إن الحد الأدنى للإسلام الذي لا يصح إسلام بدونه هو مجموع الفرائض التي افترضها الله، والتي ثبت على سبيل القطع أنها فرائض، من ضيع منها فرضا بغير عذر فمات مصرا عليه غير تائب مات على أقل من الحد الأدنى للإسلام، وذلك فضلا عن أنه أمر بديهي عقلا وشرعا؛ فقد جعله الله – أي الحد الأدني – فرضا على عباده، ومعنى أن الله جعله فرضا على عباده أنهم يطيقونه، ويطيقونه كلهم أعلاهم وأدناهم، ويقول سبحانه وتعالى:        ( )، فثبت من ذلك أن الفرائض هي الحد الأدنى الذي يطيقه كل الناس، ثم لم بكتف بذلك؛ بل أمر بقتال من ضيع شيئا منها كما هو ثابت، وهذا أقطع دليل على أن كل أحد من الناس يطيقه، وإلا ما أمر بقتال عليه، وعلى أنه الحد الأدنى من الإسلام، إذ لو كان الحد الأدنى من الإسلام أقل منه لما فرض القتال عليه، إذ كيف تقاتل مسلما لم يزل على قاعدة الإسلام لم يتعداها)( ).
ولما رأى أصحاب فكرة الحد الأدنى للإسلام أن الالتزام بالعمل الظاهر من أصل الدين؛ جعلوه مناطا لثبوت وصف الإسلام، والتزموا ألا يحكموا لأحد بالإسلام إلا بتحقق حد أدنى من العمل الظاهر، وتبعا لذلك حددوا العمل المشروط لثبوت وصف الإسلام للمعين.
فهم يرون أن كل فرض فرضه الله تعالى، وكل تكليف من التكاليف الشرعية وجوده شرط في وجود الإسلام، وغياب واحد منها سبب لغياب الإسلام جملة ( إنه لو كان يفترض لكي تنبت شجرة ما من الأرض عدة فروض، مثل: وجود أرض صالحة للزراعة، ووجود بذرة للنبات صالحة، ووجود ماء صالح للري، ووجود الهواء الذي لا تنبت الشجرة إلا به، هذه كلها لو كانت مثلا فروضا لإحداث عملية الإنبات فإن غياب واحد منها كاف لعدم حدوث الإنبات، أي أن وجود كل هذه الفروض شرط في حدوث عملية الإنبات. وكذلك الفرائض أو التكاليف الشرعية لا بد أن تكون شرطا في وجود الإيمان، وإن غياب فرض واحد كاف لغياب الإيمان كله)( ).
وهذا ناتج من القول بأن الإيمان لا يزيد ولا ينقص، فهذه الشروط إنما هي لاستكمال الإيمان، لا لأصل وجود الإيمان، فالإيمان يزيد في قلب صاحبه بأداء هذه الشروط، لكنه لا يذهب بذهاب بعضها.
وبالنظر إلى ما قرروه يكون تحقق مفهوم الإيمان في الفرد من الصعوبة بمكان؛ لأن التقصير في شرط واحد من شروط الإيمان، أو الوقوع في معصية واحدة – ولو مرة – يخرج الفرد من حظيرة الإيمان، مما ترتب عليه وقوع المجتمع بأسره – في نظرهم – في حظيرة الكفرة، الأمر الذي دفع أصحاب هذا الفكر بوصف المجتمع بكونه مجتمعا جاهليا ( إن جميع المجتمعات التي تزعم الانتساب للإسلام اليوم هي مجتمعات جاهلية لا يستثنى منها واحد)( ).
وفي سياق هذا الوصف للمجتمع يقارن أحد الكتاب بين المجتمع المعاصر وبين المجتمع الجاهلي الذي واجهه النبي  يوم أن جاء الإسلام، فيقول: ( لقد واجه الإسلام يوم جاء للناس في القرن السابع للميلاد مجتمعا جاهليا، وها هو اليوم يواجه مغرب القرن العشرين مجتمعا جاهليا، السمات هي السمات، والصفات هي الصفات) ثم يوضح أن هناك سمة يختلف فيها المجتمعان ( ذلك أن المجتمع الجاهلي الأول كان واضح المعالم، محدد السمات، من حيث موقعه البارز خارج دائرة الإسلام. تلمح فيه للنظرة الأولى سمة الجاهلية وخلقها، لا يزعم الناس فيه أنهم مسلمون. وأما مجتمع الجاهلية الحاضرة الذي يواجهه الإسلام اليوم فهو مجتمع باهت المعالم، مختلط السمات من حيث موقعه المتأرجح عند تخوم الدائرة، لا هو يدخلها فيستقر في قلبها، ولا هو يأبى ألا يقيم بقربها كي يمس حدودها)( ).
وينظر البعض إلى مظاهر العصيان المنتشرة في المجتمع، فيحكم عليه بالجاهلية، بناء على قوله بتكفير مرتكب الكبيرة، يقول صالح سرية: (إن المجتمعات كلها مجتمعات جاهلية، والمظاهر العامة للنساء والرجال، والرقص والبلاجات، وسب الدين والله علنا، والمجاهرة بعدم أداء فرائض الإسلام، ووجود الخمر والزنا والقمار علنا، ونشر الكذب والفسق والخداع والرذيلة؛ كل ذلك وغيره يجعلنا نقول ونحن مطمئنين أن هذه المجتمعات جاهلية)( ).
والقول بجاهلية المجتمعات يدفع إلى القول بكفر الأفراد في هذه المجتمعات؛ من حيث قيامهم بفعل المعصية ورضاهم، وعدم سعيهم في تغيير هذه الجاهلية، وقد تبنى هذا القول طائفة غير يسيرة من الجماعات الإسلامية المعاصرة القائلة بكفر الأفراد في المجتمع.
فعل سبيل المثال أفتى طه السماوي( ) بتكفير المجتمع كنظام جاهلي كافر، وكأفراد كبار ورثوا الرضا والتبعية لهذا النظام الكافـر الكافر، لذلك فالمجتمع كله كافر)( ).
ويقوم فكر الشوقيين( ) على تكفير المجتمع والنظام الحاكم وتجهيله( ).
بل يصل الأمر إلى تكفير عوام الناس ممن ليس لهم صلة، بلا بالجماعات الإسلامية، ولا بالحكومات القائمة، ولم يدخلوا في المعترك القائم فكريا أو جهاديا، ولا يعنيهم الأمر في قليل ولا كثير، يقول أحد أصحاب هذا الفكر؛بعد أن صنف المجتمع إلى أربع طوائف: (الصنف الرابع: ويتكون من عوام الناس، وهم الذين لم يظهروا تأييدا للطاغوت، ولم يدخلوا حزبه؛ لا لأنهم يكفرونه، فالأمر لا يعنيهم، أي أمر الإسلام والكفر، بل هم يعتقدون أن كل الناس مسلمون ومن ضمنهم الطاغوت، ولا كافر عندهم إلا من لم تشهد له وزارة الداخلية في شهادة الميلاد أو البطاقة أو جواز السفر بالإسلام، وهم فقط اليهود والنصارى، ولم يدخلوا أحزاب أرباب الأديان الباطلة ولم يؤيدوها، لا لأنهم يكفرونهم؛ بل الأمر لا يعنيهم كما ذكرت. وكذلك ولنفس السبب لم يدخلوا الجماعات الدينية الفاسدة، ولم يدخلوا جماعة المسلمين ولم يؤيدوها، ولم يتعلموا التوحيد الذي ظنوا بل واعتقدوا أنهم أهله، ولم يدخلوا فيه ويعملوا بـه، واعتقـدوا أن – الناس كل الناس – الذيـن يعيشون في بلاد تقول إنها إسلامية مسلمون عدا اليهود والنصارى، وأحبوهم وارتبطوا بهم بروابط الدم والقوم والوطن، ولم تعنهم مسألة التكفير؛ بل وعادوا من كفر الكافرين ودعاهم إلى الإسلام، فهؤلاء القوم لم يفهموا الإسلام ولم يدخلوا فيه، ولم يعلموا التوحيد ولم يعملوا به، ولم يعرفوا الكفر وأهله ولم يتبرءوا منهم، بل وأحبوهم واعتقدوا أنهم مسلمون، ومن كان هذا حاله فلا يكون إلا من عوام وجهلة الكفار الذين قال الله فيهم:    •                               ( )( ).
ويترتب على قولهم بكفر مرتكب الكبيرة، وأن من يعمل معصية واحدة فقد كفر، واشتراط حد أدنى لا يقبل الإسلام بدونه، وكون المجتمع مجتمعا جاهليا، وتكفير أفراده؛ يترتب على ذلك كله أن قرروا تبعا لذلك أن الدار دار كفر وتعلوها أحكام الكفر بناء على ما فيها من خروج على شرع الله تعالى؛ فيقولون: ( إذا ثبت أن ما يجري في الديار المصرية اليوم مــن قوانين
وأحكام هي قوانين وأحكام الكفر، ما أنزل الله بها من سلطان، وقد ثبت ذلك بالأدلة القاطعة.
وإذا ثبت أن من يحكم مصر اليوم هم طائفة قد بدلت شرع الله تعالى، وسوغت للناس شرعا غير شرع الله ألزمتهم به وقاتلتهم على العمل به.
وإذا ثبت أن الطائفة الحاكمة لا توالي إلا من أيدها ونصرها وكان معها حتى وإن كان من اليهود والنصارى أو المفسدين في الأرض، وأن التقديم عندها لا يقوم على أساس الدين، إنما يقوم على أساس الولاء لحزبهم وإن كان من يواليهم من أشر وأكفر خلق الله.
وإذا كانت علاقاتها الدولية لا تقوم أيضا على أساس الدين؛ بل تقوم على أساس موالاة الكافرين من اليهود والأمريكان وغيرهم بالقدر الذي يحفظ على النظام قوته واستمراره، بل وتحالفت مع هؤلاء الكفار لضرب المسلمين العاملين على نصرة الدين.
إذا ثبت ذلك وقد ثبت، فهي بهذا: تعلوها أحكام الكفر)( ).
والحق أن وجه الشبه بين هذا الكلام، وبين مقولة الخوارج (الدار دار كفر، وهم ككفار العرب لا يقبل منهم إلا الإسلام أو الجزية) واضح لا يحتاج إلى إثبات صلة بين المقولتين.
وإذا كان تكفير مرتكب الكبيرة بناءً على كون العمل من أصول الإيمان يذهب الإيمان بفقده، أصلا نظريا عند هذه الجماعات؛ فقد استتبعه مواقف عملية مترتبة عليه، وناشئة عنه، منها نظرية الاستحلال، ونظرية الهجرة والفرار بالدين.
ففي نظرية الاستحلال يرى بعضهم أن القول بكفر مرتكب المعصية وما نشأ عنه من تكفير المجتمع يلزمه أن يكون مال هؤلاء الأفراد ودماءهم حلال (الكافر أصل الحكم فيه أنه حلال الدم والمال والعرض)( ).
ويؤصل هذا القول نظريا شكري مصطفى فيقول: (والإصرار على المعصية هو نية عدم التوبة منها، وإظهار ذلك هو إعلان نية ألا يتوب قولا أو فعلا، وهذا كفر صريح في اعتبار الجماعة المسلمة يقتضي فلق الهام وقطع الرقاب، فكل من أظهر إصرارا على معصية بينة من معاصي الله بقول أو فعل فإن للجماعة المسلمة حرية أن تستأصله منها وتطهر نفسها منه تطهيرا)( ).
وقد ظهرت هذه النظرية واقعا عمليا في فكر بعض الجماعات المعاصرة؛ كالشوقيين، الذين يرون (استحلال الأموال والدماء والأعراض باعتبار أن المجتمع كافر، ويرون تصفية المنشقين باعتبارهم خارجين عن الجماعة)( ).
فواجبهم تجاه المجتمع لا يتمثل في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا محاولة إصلاح ما فيه من مفاسد وإعادة الناس إلى الجادة، وإنما محاولة فضح هذا المجتمع، وكشف ما فيه من فساد وعوار، وذلك يكون بتخريب هذا المجتمع، مع اعتبار ذلك واجبا شرعيا (ولهذا يشتغل بعض هؤلاء بإتلاف ما أمكن من الأموال العامة، وإيقاع المظالم بمن خرج عن جماعتهم ومحاربتهم في أرزاقهم، وإيذائهم بشتى أنواع الإيذاء، ويعدون ذلك من الإيمان)( ).
وبمقارنة هذا الكلام بما حدث من الخوارج مع سيدنا عبد الله بن خباب، وغيرها من الحوادث التي كانوا يستحلون فيها دماء وأموال المخالفين يظهر لنا أن الأفكار هي الأفكار، وإن ظهر عليها التغير بفعل تطور الزمن، وتغير الحوادث.
ووفقا لتصور أصحاب فكر التكفير عن المجتمع وتكفير أفراده، اتخذوا موقفا تجاه المجتمع بأسره، وأعلنوا المفاصلة التامة بينهم وبين أفراده وسائر مؤسساته، واقتنعوا بفكرة اعتزال المجتمع والفرار بالدين من الجاهلية المحيطة بهم حتى يتيسر لهم إقامة المجتمع المسلم– على حد زعمهم -.
فرأوا (أن تسكن الجماعة في قرية منعزلة في الصحراء بعيدا عن الجاهلية كي يعبدوا الله وحده حتى يتيسر لهم الهجرة بعد ذلك على أرض الله الواسعة فرارا من سلطان الجاهلية)( ).
وحددوا لذلك مكانا في بعض صحاري مصر، ومنها صحراء مديرية التحرير( ).
ويرى شكري مصطفى أن واجب الجماعة المسلمة في هذا الوقت هو الاعتزال بعيدا عن صراع القوى الكافرة حتى تُفني بعضها بعضا، وما علينا سوى انتظار هذا الوقت المحتوم حتى يُؤذن لنا بالظهور، فيقول:(هل هناك فرصة للحركة الإسلامية اليوم أعظم من أن تكون وافرة متربصة فـي نجوة مـن الأرض تعبد الله وتنتظر كيف تحطم الدول الكافرة نفسها، وبإذن الله تسع سنوات مثلا؛ بل وأقل من ذلك بكثير حسب ما تقرره قوة القنابل والصواريخ، وما اخترع المكر الشيطاني في القرن العشرين).
ويحدد دور الجماعة المسلمة في هذا الوقت ( وفيه يتفرغ المسلمون في نجوة من الأرض لعبادة ربهم والتقرب إليه زلفى بعمل الصالحات وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، وتطهير أثوابهم مما علق بها وأشربتها من نجس الجاهلية وأوبئتها، وحينئذ للفجر أن ينفجر..وإنما على المسلمين أن ينتظروا ويعتبروا ويصبروا ويسجدوا ويركعوا، ويسيروا على مواقع القدر من خلال الواقع حتى يؤذن لهم في حمل السيف المنصور، والمعول المزخور لتدمير البقية بعد قدر الله من الكفار)( ).
ويبرر شكري مصطفى خطته في اعتزال المجتمع وتحريم العمل في مؤسساته، وترك المدارس والجامعات، وترك التعامل مع المؤسسات الحكومية قائلا: ( إنني أقول للطاغوت أنا لا أشكل عقبة في طريق خطتك، فحجبي للنساء عن الجامعات والمدارس أقول للطاغوت ها أنذا أريحك من مشاكل تعليمهم وانتقالاتهم، وهجرتي لا تشكل خطرا انقلابيا عليك، وأساهم بذلك في تخفيف مشاكل الإسكان، وبترك الوظائف أريحك من المرتبات التي تدفع لنا)( ).
وقد بلغ الغلو مداه عند بعض أصحاب هذا الفكر فزعموا أنه لا يمكن الحكم لإنسان بالإسلام بمجرد أداء الشهادتين والشعائر الإسلامية الظاهرة؛ بل لا بد من التوقف قبل الحكم عليه بالإسلام، واشتهر هؤلاء باسم [جماعة التوقف والتبيين]( )، وقد بنوا زعمهم ذلك على أن أمر الناس مختلط لا يمكن الحكم عليه (فأمر الناس الآن مختلط، ولا يمكن التمييز بين مسلمهم وكافرهم لمجرد كلمة لا إله إلا الله، التي لا تضع حدا فاصلا بين الكافر والمسلم، ومن ثم فلا بد من ضابط آخر للتبين، وهو لزوم جماعة المسلمين)( ).
ويضع شكري مصطفى تأصيلا لهذه القاعدة فيقول: (نحن نحكم بوجود كافرين يقينا، وأيضا مسلمين "شيئان مختلفان" لا نعرف أعيانهم، ويشتركون في بعض المظاهر مثل: التلفظ بالشهادتين، أو الصلاة، أو الصوم... الخ، فاستحال عقلا التفرقة بينهما على أساس هذه المظاهر، وما استحال عقلا استحال شرعا، فاستحال أن يكون الله قد أمرنا في شرعه بالحكم بإسلام أو بكفر أحدهم في مثل هذه الحالة، وما دام الحكم بالإسلام أو الكفر في مثل هذه الحالة قد استحال أن يكون من شرع الله، فقد وجب التوقف عن الحكم حتى التبين ببينة تصلح للتفرقة.
فجاز لنا أن نقول من غير افتراء على دين الله، ولا تقول بغير علم على الله، إنه في هذه المجتمعات الجاهلية والتي تسمت باسم الإسلام وراثة من التاريخ لا يكون تلبس من لا نعرفه فيها ببعض المظاهر الإسلامية كافيا بمفرده كدليل للحكم بإسلامه، كما أن مظاهر الكفر التي تقوم عليها هذه المجتمعات وتظهر في عموم أفرادها ليست أيضا كافية لسحب حكم الكفر على كل أحد فيها، بل يجب التوقف عن الحكم على من لا نعرفه حتى نتبين كفره من إسلامه)( ).
ويجتهد أصحاب فكر التوقف في توصيف حالة الأفراد التي ينطبق عليها هذا الوصف، فهم في نظرهم ليسوا مسلمين ظاهري الإسلام، وليس كفرهم بين للعيان؛ بل أمرهم مشكل لا يمكن الحكم عليهم، مما دفعهم إلى التوقف في أمرهم، فلا يحكم عليهم بإسلام أو بكفر، بل يكونوا قسما ثالثا مواز لقولنا: مؤمن وكافر.
وقد قسم بعضهم المجتمعات إلى ثلاثة أقسام:مسلم بين الإسلام، وكافر بين الكفر، ومجهول حال حكمه التوقف، وقد فصل الحديث عن القسم الثالث، فقال: (لما خلق الله الناس كانوا ضربين:       ( )، وكذلك كانوا في العهد المدني كالآتي: -
- مسلمون يشهدون أن لا إله إلا الله، وأن الأمر جميعا بيد رسول الله .
- أهل كتاب متميزون بزي، ذليلين يدفعون الجزية عن يد وهم صاغرون.
- مشركون بالله بين كفرهم.
أما اليوم فليست هناك سمة تجزم بها على أفراد المجتمع، إن بالإسلام نجد من سماه أبوه محمد وإبراهيم مثلا وهو رئيس الحزب الشيوعي، يسب الإسلام ويشتمه، وإن كانت الصلاة فإن الناس يصلون الصلاة في أوقاتها ثم إذا خرجوا طافوا بالقبور، وإذا نهاهم ناه استكبروا، نجدهم يصلون ويبكون في تلاوة القرآن فإذا قضيت الصلاة دخلوا محاكمهم يحكمون الناس بالقوانين الوضعية ويكرهونهم ما استطاعوا إلى التحاكم إليها، ويسمون دار القضاء بدار العدل، ولما اطمأن الطاغوت بنى لعبدته مساجد يعبدون الله فيها، فأصبحت الصلاة من أعمال البر مشتركة يؤديها الكافر والمشرك، ويؤديها المسلم.
ووجود المجتمع الجاهلي لا يمنع أن يكون هناك أفـراد مسلمون لم يحدث عنهم لسانهم أو أعمالهم، فهؤلاء مجهولو الحال،
لا أقول بكفرهم ولا أقول بإسلامهم، ما قلت بكفرهم مخافة ما جاء من الوعيد، وكذلك لا أقول بإسلام إنسان قد يكون كافرا مع وجود الظاهر الإسلامي أو المظهر السني؛ لأنه لو كان فعلا كذلك فأكون قد كذبت القرآن، وأعتقد أن إطلاق "مجهول الحال" على من لم يعرف حاله هذا محض الإنصاف وأحوط لقائله)( ).
والحقيقة أن هذا الفكر ليس أحوط لصاحبه، لأنه بهذا ربما – بل تأكيدا – سوف يتوقف في الحكم على مسلم بالإسلام، ولا يعامله معاملة المسلم، وأعتقد أن هذا أثرا من قول الخوارج بالتوقف الذي سبق ذكره عنهم ( ).
وعلى هذا ففكر التكفير في العصر الحديث يتنوع بين القول بتكفير مرتكب الكبيرة مطلقا، وما يترتب على ذلك من استحلال للدماء والأموال، أو الهجرة حتى وقت الظهور، وبين التوقف والتبيين وعدم الحكم بالإسلام أو بالكفر على من لا يُعرف حاله.
تعقيب:
بعد هذا العرض لأقوال أصحاب فكر التكفير في العصر الحديث، هل ثمة تشابه بين آرائهم وآراء الخوارج الأوائل؟ وهل يمكننا أن نعتبر فكر التكفير الحديث صورة لفكر التكفير عند الخوارج؟ أم أن الأمر لا يعدو أن يكون تشابها في الأفكار دون وجود صلة بينهما.
بالنظر في آراء الباحثين حول مدى نسبة التكفير في العصر الحديث إلى جذوره عند الخوارج؛ نرى منهجين في بحث المسألة:-
المنهج الأول: يرى الترابط التاريخي بين الفكرين، فيرى البعض أنه (نستطيع أن نقرر أن فكر الخوارج كان ولا يزال أحد الينابيع التي يستمد منها كثير من آراء هؤلاء المتطرفين الجدد من الشباب)( ).
ويقرر ذلك أحد الذين ناقشوا فكر التكفير في العصر الحديث المستشار سالم البهنساوي( ) فيرى أن (أصول هذا الفكر كانت عند الخوارج)( ).
ومن هذا المنطلق لا يعدو أن يكون التكفير فـي العصر الحديث إلا انبعاثا للفكر القديم في صورة جديدة تتناسب مع العصر، حركتها ظروف وعوامل متضافرة (فنشأة هذه البدعة لم تكن وليدة ظروف كالظروف الراهنة التي يتقلب فيها مجتمع اليوم من فجور ومنكرات، كما أنها ليست صدى مستحدثا لما يعتمل في النفوس من ثورة، وما يجيش فيها من مشاعر الأسى والإنكار لما تعج فيه البشرية اليوم من فساد وانحلال. فهي أبعد مدى من ذلك، وأعمق من أن تكون انفعالا طارئا حركته ظروف تعيسة، بل هي ضاربة الجذور في الماضي البعيد، تضافرت على نشأتها مختلف الظروف السياسية والتاريخية، وإن كان للواقع السيء في هذه الأيام من دور فهو بعثها، وإعادتها إلى الحياة مرة أخرى، ولذلك يجب أن نعلم أن القضية لها جذورها في تاريخ الفكر الإسلامي منذ عهد الخوارج)( ).
ويكاد يكون هذا موقفا بين كثير من الباحثين في المسألة الذين ربطوا بين التكفير قديما وحديثا ( ظهرت في هذا العصر جماعات تبنت منهج الخوارج وأسلوبهم، واعتنقت كثيرا من أفكارهم ومبادئهم، ومن أشهر هذه الجماعات جماعة المسلمين أو "جماعة التكفير والهجرة" كما أطلقت عليهم أجهزة الإعلام، والتي لاحظ معظم من كتبوا عنها الارتباط الوثيق بين أفرادها وبين الخوارج رغم اختلاف الدوافع والغايات بين الفريقين)( ).
المنهج الثاني: يرى بعض الباحثين أن الصلة مبتوتة بين جماعات التكفير حديثا، وبين الخوارج قديما، وأن التشابه بينهما مجرد توافق في التفكير أدى إلى توافق في التكفير ( لون غريب من التوافق في التفكير أدى إلى النتائج عينها)( ).
ويرى البعض أن استفادة جماعات التكفير من فكر الخوارج جاءت في مرحلة متأخرة عن مرحلة النشأة، فمرحلة البداية كانت نتاج تفكير حر غير متأثر بما سبقه، ثم حدث التأثر بعد ذلك في مراحل تالية، فنشأة هذه الآراء في العصر الحديث كان وليد ظرف وحدث مبتوت الصلة بما قبله، لكن في مراحل متأخرة ربما استفادوا بآراء الخوارج بصورة ما نتيجة لاطلاعهم عليها، فأثر الفرق القديمة على المعاصرين جاء تاليا ولاحقا، فقد انحصر في إثراء تيارات الغلو وتأييد حجمها لا في إيجادها( ).
والذي أصل إليه في هذه المسألة: أن هناك ترابطا فكريا؛ بحيث تتفق صورة الحديث مع القديم دون أن يكون هناك تواصلا تاريخيا بين الموقفين، فليست آراء التكفير الحديثة امتداد لفرقة الخوارج، وإن كانت امتدادا لآرائها في كثير من جوانبها؛ لأن ظروف النشأة والبداية عند الفريقين مختلفة ومتباينة تماما( ).
وهذا ما قرره الدكتور مصطفى حلمي عندما تحدث عن نماذج من عقائد الخوارج في العصر الحديث ( أصحاب الأفكار التي سادت في أوساط فئة غير قليلة من الشباب، ولا نضيف جديدا إذا أرجعنا أخطاءهم إلى التعسف في فهم النصوص مع افتقاد النظرة التاريخية المرتبطة بالأحداث، فإن الأسباب التي من أجلها ظهرت الخوارج تتصل بعوامل جد مختلفة عن ظروفنا المعاصرة)( ).

الفصل الثالث
الحاكمية
ويشتمل على ثلاثة مباحث:
المبحث الأول: مفهوم الحاكمية عند أهل السنة.
المبحث الثاني: مفهوم الحاكمية عند الخوارج.
المبحث الثالث: أثر رأي الخوارج في الفكر الإسلامي المعاصر.

المبحث الأول
مفهوم الحاكمية عند أهل السنة
يدور حديثي حول الحاكمية في المفهوم الإسلامي في عدة مطالب تتمثل فيما يلي: -
المطلب الأول: معنى الحاكمية:
الحاكمية لغة: مصدر صناعي يفيد نفس معنى المصدر القياسي " الحكم "، وسوف أوضح معانيه ودلالاته في اللغة:-
الحكم: أصلح منع منعا لإصلاح، ومنه سميت اللجام: حكمة الدابة، فقيل: حكمته، وحكمت الدابة: منعتها بالحكمة.
والحكم: العلم والفقه والقضاء بالعدل، ومنه: الإحكام: وهو الإتقان، وسورة محكمة: غير منسوخة، وحكموه بينهم: أمروه أن يحكم، ويقال: حكمنا فلانا فيما بيننا أي: أجزنا حكمه بيننا، وحكمت فلانا أي: أطلقت يده فيما يشاء. وحكمت السفية وأحكمته: إذا أخذت على يده، واحتكم الأمر: استحكم، وحاكمت فلانا إلى الله أي: دعوناه إلى حكم الله، وحكم فلان عن الأمر والشىء: إذا رجع، واستحكم الرجل: إذا تناهى عما يضره في دينه ودنياه( ).
وفي هذا التنوع وسعةالاشتقاق ما يدل على الثراء اللغوي الذي تتمتع به مادة "حكم" في اللغة، وقد تنوعت هذه الاستعمالات في القرآن والسنة أيضا.
ورود المفهوم في القرآن والسنة:
تنوعت دلالات كلمة "حكم" في القرآن والسنة تنوعا كبيرا، مع ملاحظة أن مصطلح [ الحاكمية ] لم يرد بهذا اللفظ في الأصول الإسلامية.
وقد أورد أحد الباحثين تسعة أوجه لاستعمال مادة "حكم" في الأصول الإسلامية، أعرضها على سبيل الإجمال:
1- الحكم بمعنى التحليل والتحريم في الدين:
بمعنى أن الله هو المختص بأمر التحليل والتحريم في الدين، منه قول الحق تعالى: â $yg•ƒr'¯»tƒ šúïÏ%©!$# (#þqãYtB#uä (#qèù÷rr& ϊqà)ãèø9$$Î/ 4 ôM¯=Ïmé& Nä3s9 èpyJŠÍku5 ÉO»yè÷RF{$# žwÎ) $tB 4‘n=÷FムöNä3ø‹n=tæ uŽöxî ’Ìj?ÏtèC ωøŠ¢Á9$# öNçFRr&ur îPããm 3 ¨bÎ) ©!$# ãNä3øts† $tB ߉ƒÌãƒ á ( ).
2- الحكم بمعنى القضاء والقدر:-
وهذا المعنى يختص بإرادة الله الكونية القدرية المحيطة بجميع الكائنات، ومنه قول يعقوب عليه السلام لبنيه: ⠟w (#qè=äzô‰s?.`ÏB 5>$t/ ‰Ïnºur (#qè=äz÷Š$#ur ô`ÏB 5>ºuqö/r& 7ps%ÌhxÿtG•B ($tBur ÓÍ_øîé& Nä3Zt㠚ÆÏiB «!$# `ÏB >äóÓx« ( ÈbÎ) ãNõ3çtø:$# žwÎ) ¬! ( Ïmø‹n=tã àMù=©.uqs? ( Ïmø‹n=tæur È@©.uqtGuŠù=sù tbqè=Åe2uqtFßJø9$# á( ).
3- الحكم بمعنى النبوة وسنة الأنبياء:-
ومنه قوله تعالى: â $£Js9ur x÷n=t/ ¼çn£‰ä©r& #“uqtGó™$#ur çm»oY÷s?#uä $VJõ3ãm $VJù=Ïãur 4 šÏ9ºx‹x.ur “Ì“øgwU tûüÏZÅ¡ósßJø9$# á( ).
4- الحكم بمعنى القرآن وتفسيره:-
ومنه قوله تعالى: ⠒ÎA÷sムspyJò6Åsø9$# `tB âä!$t±o„ 4 `tBur |N÷sムspyJò6Åsø9$# ô‰s)sù u’ÎAré& #ZŽöyz #ZŽÏWŸ2 á ( ).
5- الحكم بمعنى الفهم والعلم والفقه:-
من ذلك قول الله تعالى: على لسان إبراهيم عليه السلام: â Éb>u‘ ó=yd ’Í< $VJò6ãm ÓÍ_ø)Åsø9r&ur šúüÅsÎ=»¢Á9$$Î/ á( ). قال ابن عباس: هو العلم( ).
6- الحكم بالمعنى السياسي: -
ومنه قوله تعالى: â ô‰s)s9ur $oY÷s?#uä ûÓÍ_t/ Ÿ@ƒÏäÂtó™Î) |=»tGÅ3ø9$# u/õ3çtø:$#ur no§qç7‘Z9$#ur á( ). فالحكم هنا بمعنى الملك( )، ومن هذا المعنى قول رسول الله : «لتنقضن عرى الإسلام عروة عروة، فكلما انتقضت عروة تشبث الناس بالتي تليها، فأولهن نقضا الحكم وآخرهن الصلاة»( ).
7- الحكم بمعنى القضاء والفصل في الخصومات:-
ومنه قوله تعالى: â ª!$# ãNä3øts† öNà6oY÷t/ tPöqtƒ ÏpyJ»uŠÉ)ø9$# $yJŠÏù óOçFZä. ÏmŠÏù šcqàÿÎ=tFøƒrB á ( ).
8- الحكم بمعنى الإتقان والمنع من الفساد:-
ومنه قوله تعالى: ⠍!9# 4 ë=»tGÏ. ôMyJÅ3ômé& ¼çmçG»tƒ#uä §NèO ôMn=Å_Áèù `ÏB ÷bà$©! AOŠÅ3ym AŽÎ7yz á ( )، فمعنى أحكمت هنا: نظمت نظما رصينا محكما لا يقع فيه نقص ولا خلل، كالبناء المحكم المرصف( ).
9- الحكم بمعنى الإبانة والوضوح:
ومن ذلك قوله تعالى: â uqèd ü“Ï%©!$# tAt“Rr& y7ø‹n=tã |=»tGÅ3ø9$# çm÷ZÏB ×M»tƒ#uä ìM»yJs3øt’C £`èd ‘Pé& É=»tGÅ3ø9$# ãyzé&ur ×M»ygÎ7»t±tFãB á( ). فالقرآن منه المحكم الواضح ومنه المتشابه( ).
المطلب الثاني: مفهوم الحاكمية عند أهل السنة:
شعار الحاكمية له أصل إسلامي مشتق من [ لا حكم إلا لله ] وقد وردت أكثر من آية في كتاب الله تعالى تبين هذا الشعار، منها:
â ÈbÎ) ãNõ3ßÛø9$# žwÎ) ¬! á( ). â uŽötósùr& «!$# ÓÈötGö/r& $VJs3ym uqèdur ü“Ï%©!$# tAt“Rr& ãNà6øŠs9Î) |=»tGÅ3ø9$# Wx¢ÁxÿãB á( ) â $tBur ÷Läêøÿn=tG÷z$# ÏmŠÏù `ÏB &äóÓx« ÿ¼çmßJõ3ßssù ’n<Î) «!$# 4 ãNä3Ï9ºsŒ ª!$# á( ).
⠟xsù y7În/u‘ur Ÿw šcqãYÏB÷sム4Ó®Lym x8qßJÅj3ysム$yJŠÏù tyfx© óOßgoY÷t/ §NèO Ÿw ( #r߉Ågs† þ’Îû öNÎhÅ¡àÿRr& %[`tym $£JÏiB |MøŠŸÒs% (#qßJÏk=|¡ç„ur $VJŠÎ=ó¡n@ á( ). â ô`tBur ß`|¡ômr& z`ÏB «!$# $VJõ3ãm 5Qöqs)Ïj9 tbqãZÏ%qムá( ).
فالله تعالى هو الحاكم، ولا حكم إلا له، وقد تضافرت النصوص على إثبات هذا الأمر لله تعالى من منطلق أن من مستلزمات شهادة أن لا إله إلا الله الاعتقاد الجازم بأنه تعالى دون غيره صاحب الأمر المطلق الذي لا يحده حد، يأمر بما يشاء، ويقضي ما يشاء، ويحكم بما يشاء وقت ما يشاء، لا لعلة تلزمه ذلك تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا فهو سبحانه لا يسأل عما يفعل.
ثم إن ذلك من مقتضى كونه تعالى خالقا⠟wr& ã&s! ß,ù=sƒø:$# âöDF{$#ur á( )
(إن ترتب الخلق على الأمر فوق أنه حقيقة شرعية فهو كذلك حقيقة عقلية مسلمة، إذ العقل والعادة عند البشر جميعا قاضيان بأن من يملك فله أن يحكم في ملكه بما شاء، والله سبحانه وتعالى بموجب "الخلق " والإبداع له وحده حق "الملك" في الكون كله، وله بناء على هذا حق "الأمر" والتوجيه، وتحديد الخطوط والمناهج لمن يملكهم، وفرض القيم وسن الشرائع والأحكام التي تنظم حياتهم)( ).
فالمقصود من الحاكمية رد الناس إلى مصدر التلقي الحق، رب العالمين الذي له وحده الخلق والأمر والتشريع والحكم والتحليل والتحريم في سائر قضايا الحياة، وليس لأحد سواه ذلك الحق، ولا ينازعه فيه أحد.
يقول الإمام الغزالي: ( الحاكم هو الشارع، ولا حكم إلا لله، وأنه لا حكم للرسول ولا للسيد على عبده، ولا لمخلوق على مخلوق، بل كل ذلك حكم الله تعالى ووضعه ولا حكم لغيره)( ).
وهذا المعنى هو ما يقرره علماء الأصول في كتبهم:
قال الآمدي: (لا حاكم سوى الله تعالى، ولا حكم إلا ما حكم به)( ).
وقال ابن حزم: (الشىء إذا حكم الله تعالى به فقد لزم دون تعليل وأن من أراد أن يحكم بمثل ذلك بما لا نص فيه فقد قال بنو من القول وزورا، وأنه ليس لأحد أن يقول بغير ما لم يقل الله تعالى به)( ).
فلا حكم إلا لله تعالى ولا نفاذ إلا لحكمه (وأما استحقاق نفوذ الحكم فليس إلا لمن له الخلق والأمر، فإنما النافذ حكم المالك على مملوكه، ولا مالك إلا الخالق فلا حكم ولا أمر إلا له، أما النبي  والسلطان والسيد والأب والزوج فإذا أمروا أو أوجبوا لم يجب شيء بإيجابهم؛ بل بإيجاب الله تعالى طاعتهم)( ).
فالشريعة هي الحاكمة بإطلاق حتى على النبي ، وذلك أدعى أن تكون حاكمة على ما سواه من الخلق، وهذا المعنى هو ما قرره الإمام الشاطبي (فالشريعة هي الحاكمة على الإطلاق وعلى العموم، أي على الرسول  وعلى جميع المكلفين، والكتاب هو الهادي، والوحي المنزل عليه مرشد ومبين لذلك الهدى، والخلق مهتدون بالجميع... وإذا كان كذلك؛ أي أن الشريعة حاكمة للرسول، وأن القرآن حاكم له، فسائر الخلق حري أن تكون الشريعة حجة حاكمة عليهم)( ).
فالخلق جميعا محكومون بشريعة الله تعالى، وعليهم أن يرضوا بذلك سواء بحكم الله تعالى أو بحكم رسوله ، يقول الإمام الشافعي تعليقا على قول الله تعالى: â $yJ¯RÎ) tb%x. tAöqs% tûüÏZÏB÷sßJø9$# #sŒÎ) (#þqããߊ ’n<Î) «!$# ¾Ï&Î!qߙu‘ur u/ä3ósu‹Ï9 öNßgoY÷t/ br& (#qä9qà)tƒ $uZ÷èÏJy™ $uZ÷èsÛr&ur 4 y7Í´¯»s9'ré&ur ãNèd tbqßsÎ=øÿßJø9$# á( ).
قال –رحمه الله تعالى-: (فَأَعْلَم الله الناس في هذه الآية أن دعاءهم إلى رسول الله ليحكم دعاء إلى حكم الله، لأن الحاكم بينهم رسول الله، وإذا سلموا لحكم رسول الله فإنما سلموا لحكمه بفرض الله)( ).
فلا حاكم سوى الله سبحانه، ولا شرع إلا ما شرعه، على هذا اتفق المسلمون جميعا حتى المعتزلة القائلون: إن في الأفعال حسنا وقبحا يستقل العقل بإدراكهما، والله تعالى يأمر وينهى على وفق ما في الأفعال من حسن وقبح، الحاكم عند الجميع هو الله سبحانه، والحكم حكمه.
وعلى هذا فشريعة الله هي الواجبة النفاذ، وهي التي لا يجوز التحاكم إلى غيرها: ⠟xsù y7În/u‘ur Ÿw šcqãYÏB÷sム4Ó®Lym x8qßJÅj3ysム$yJŠÏù tyfx© óOßgoY÷t/ §NèO Ÿw (#r߉Ågs† þ’Îû öNÎhÅ¡àÿRr& %[`tym $£JÏiB |MøŠŸÒs% (#qßJÏk=|¡ç„ur $VJŠÎ=ó¡n@ á( ).
فمن اعتقد – بعد أن بلغه الحق وقامت عليه الحجة – أن أحدا له أن يحل ما حرم الله، أو يحرم ما أحل الله، أو أن يشرع شرعا ليس من شريعة الإسلام ولم يكن متأولا لذلك فهو كافر خارج عن الإسلام: â ÷Pr& óOßgs9 (#às¯»Ÿ2uŽà° (#qããuŽŸ° Oßgs9 z`ÏiB ÉúïÏe$!$# $tB öNs9.bsŒù'tƒ ÏmÎ/ ª!$# á( )، وهو قد جعل غير الله تعالى شريكا له .

وبعد هذا العرض نقرر الحقائق التالية:-
أولا: القول بأن الحاكمية لله ليس المراد منه أن يمارس صفوة من الناس الحكم على أنهم ظل الله في الأرض، أو أنهم مكتسبون لحقوق الملك الإلهية، بل هي واجب على المؤمنين بحاكمية الله تعالى وعلو شرعه، والقول: إن الحاكمية معناها تسلط طائفة من الناس على الخلق فهذا غلو مخالف للشرع.
ثانيا: إذا كانت الحاكمية لا تثبت لأحد على الحقيقة إلا لله تعالى، فإن الله تعالى قد يؤتي بعض خلقه نوع حكم تختص به وتمارسه لكنه مقيد بحاكمية الله تعالى، فالحاكمية لا تنفي أن يكون للبشر قدر من التشريع في محيط ما شرعه الله تعالى، وتحت ظلال تعاليمه الربانية، ووفق منهجه القيم العظيم، فلو خرجوا عن نطاق الشرع فأحلوا حراما أو حرموا حلالا للفظهم الشرع، ولخرجوا من تحت ظله( ).
فالممنوع أن يكون للبشر استقلال بالتشريع غير مأذون به من الله تعالى، مثل التشريع الديني المحض، أو التشريع في أمر الحلال والحرام، وكذلك التشريع فيما يصادم النصوص الصريحة، أما ما عدا
ذلك فمن حق المسلمين أن يشرعوا لأنفسهم ما يحقق لهم السعادة في الدارين.
ثالثا: ليس معنى الحاكمية الدعوة إلى دولة " ثيوقراطية "( ) كما كانت العصور الوسطى في أوروبا، بل مرجع السلطة السياسية في الإسلام إلى الأمة، فهي التي تختار حكامها، وهي التي تحاسبهم وتراقبهم بل وتعزلهم إذا استدعى الأمر، فلا مكان لكهانة أو بابوية متسلطة في الإسلام.
رابعا: إذا كان هذا هو مفهوم الحاكمية في الإسلام وصلتها بالدين، ومدى أهميتها بالنسبة للمسلمين، فإن التنقيص من قدرها وبيان أنها لا صلة لها بالدين يعد أمرا مجانبا للصواب ومخالفا للحقيقة.
وممن يمثل هذا الفكر الدكتور/ محمد عمارة في قوله: (لا شعار الحاكمية في نشأته الأولى بذي صلة حقيقية بفكر الإسلام السياسي، ولا هو في صورته المودودية بالمعبر عن واقع الفكر الإسلامي الحديث، أو ضرورات النهضة الإسلامية في إطار أمتنا العربية، إنه شعار دخيل على تراثنا القديم واجتهادنا الحديث)( ).
من الناحية الشكلية قد يكون كلام الدكتور محمد عمارة مقبولا، إذ أن لفظ "الحاكمية" لم يرد في الكتاب والسنة ولا في كلام السلف الصالح رضوان الله عليهم، فإذا كان مقصده من ناحية اللفظ فهذا لا إشكال فيه، وكذلك إذا كان القصد أن تطبيق الناس لهذا المفهوم عبر العصور لم يكن هو المقصود من مفهوم الإسلام؛ فهذا أيضا مما تتفاوت فيه الأنظار، أما إن كان قصده مفهوم الحاكمية في الإسلام عموما، بمعنى أنه لا حكم إلا لله، ولا شيء إلا ما شرعه الله وليس لغيره حق الحكم والتشريع، فهذا ما نرفضه تماما، إذ أن في ما عرضته من نصوص وأقوال العلماء ما يدل على أصالة هذا التفكير في الإسلام، وبيان كون الحاكمية من خصائص الله تعالى التي لا يجوز لأحد من البشر أن يعتدي عليها.
خامسا: على الجانب الآخر أيضا فإن من الغلو المغالاة في شأن الحاكمية، وبيان أنها أصل الدين وركنه الأول، وجعل الحاكمية أخص خصائص الألوهية وفكرتها المركزية، بحيث لا يفهم من " لا إله إلا الله " إلا رد الحاكمية في كل الأمور إلى الله وإفراده بهذه الحاكمية، وحصر الدين في ركنه السياسي فقط فيتم تضخيمه ويُقدم كأنه تفسير للدين، ويخلق ذهنا خاصا يرى كل شيء بالمنظار السياسي، فيصبح إظهار الدين بهذه الصورة هو الهدف الأساسي الذي أرسل الله تعالى لأجله رسله، وتصبح أجزاء الدين كلها تابعة لأمر الحاكمية.
لا اعتراض على تأكيد هذا الجانب وإبرازه، وذلك لضرورة طارئة ومؤقتة، فيكون هو واجب الوقت – كما يقولون – أما أن يصبح هو تفسير الدين فهذا غلو في الطرف الآخر( ).
المطلب الثالث: آيات الحكم بغير ما أنزل الله عند أهل السنة:
ورد في كتاب الله تعالى وصف من لم يحكم بما أنزل الله تعالى بالكفر تارة، وبالظلم تارة، وبالفسق تارة، فقال تعالى: â `tBur óO©9 Oä3øts†!$yJÎ/ tAt“Rr& ª!$# y7Í´¯»s9'ré'sù ãNèd tbrãÏÿ»s3ø9$# á( )، وقال أيضا: â `tBur óO©9 Nà6øts† $yJÎ/ tAt“Rr& ª!$# y7Í´¯»s9'ré'sù ãNèd tbqßJÎ=»©à9$# á( )، وقال أيضا: â `tBur óO©9 Nà6øts† $yJÎ/ tAt“Rr& ª!$# y7Í´¯»s9'ré'sù ãNèd šcqà)Å¡»xÿø9$# á( ).
وقد اختلف المفسرون في توجيه هذه الآيات، وفيمن تشملهم، وفي معنى الكفر الوارد فيها على عدة أقوال؛ وذلك تبعا لاختلاف الروايات الواردة عن الصحابة والتابعين رضوان الله عليهم.
وسوف أعرض أشهر هذه الأقوال مع الترجيح فيما بينها:
يرى البعض أن الآيات نزلت في اليهود، فتكون الحكام الواردة فيها مختصة بهم، وهو مروي عن ابن عباس في بعض أقواله( ).
لكن يَرُدُّ هذا القول ما ورد عن حذيفة( ) لما سئل: أذاك في بني إسرائيل؟ قال: نعم الإخوة لكم بنو إسرائيل، إن كانت لهم كل مرة ولكم كل حلوة، كلا والله لتسلكن طريقهم قدر الشراك( ).
وما ورد عن ابن عباس نفسه: نعم القوم أنتم إن كان ما كان من حلو فهو لكم، وما كان من مر فهو لأهل الكتاب. كأنه يرى أن ذلك في المسلمين( ).
ويرى البعض أن الآيات يراد بها كفار أهل الكتاب ممن بدل حكم الله، أما المسلم فلا يكفر وإن ارتكب كبيرة، وهو مروي عن البراء بن عازب( )، وابن عباس وغيرهم( ).
ويرده ما ورد من اعتراض على القول السابق أيضا، وبأن القاعدة الصحيحة [العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب] وأنه إذا كن ذلك حكما خاصا بأهل الكتاب فإن المسلمين أولى به منهم.
ومن الأقوال الواردة في الآية: أن المعنى بالكافرين: أهل الإسلام، وبالظالمين: اليهود، بالفاسقين: النصارى( ).
ويترتب عليه أن يكون المسلمون أسوأ حالا من اليهود والنصارى.
وهناك رأي بأن الآية نزلت في أهل الكتاب، والمراد منها جميع الناس مسلمهم وكافرهم( ).
أما عن الكفر المراد في الآية ففيه أقوال، لعل أشهرها قول ابن عباس رضي الله عنهما إنه كفر دون كفر، قال: (ليس بكفر ينقل عن الملة، بل إذا فعله فهو به كفر وليس كمن كفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر)( ).
لكن هذا القول يحتاج في فهمه إلى تنزيله على ما كان معروفا عند الصحابة من أن مخالفة الشرع تكون في مسألة خاصة وواقعة محدودة، ومن يفعل ذلك يعلم أنه عاص ومخالف للشرع، فلم يعلم في حياتهم أن أحدا يخالف الشرع جملة، أما لو تصور في عهدهم أن أحدا يخالف الشرع جملة وتفصيلا، أو يرد حكم الله تعالى لحكموا عليه بالكفر الصريح، ويؤيد هذا الفهم ما ورد عن ابن عباس رضي الله عنهما ( من جحد ما أنزل الله فقد كفر، ومن أقر به ولم يحكم فهو ظالم فاسق)( ).
والصحيح: أن الكفر الوارد في الآية يشمل الكفرين الأكبر والأصغر بحسب حالة الحاكم، فإن اعتقد وجوب الحكم بما أنزل الله لكنه خالف لشهوة أو هوى فهو كفر أصغر، وإن اعتقد أنه مخير بين حكم الله وحكم غيره فهو كفر أكبر ينقل عن الملة، وهو ما فصله الأئمة في أقوالهم:
قال القرطبي: (إن حكم بما عنده على أنه من عند الله فهو تبديل له يوجب الكفر، وإن حكم به هوى ومعصية فهو ذنب تدركه المغفرة على أصل أهل السنة في المغفرة للمذنبين)( ).
وقال صاحب أضواء البيان: (يكون كافرا إن فعل ذلك مستحلا له أو قاصدا به جحد أحكام الله وردها مع العلم بها، أما من حكم بغير حكم الله وهو عالم أنه مرتكب ذنبا فاعل قبيحا وإنما حمله على ذلك الهوى فهو من سائر عصاة المسلمين)( ).
ويلخص ابن القيم –كعادته– موقف أهل السنة من الكفر الوارد في الآية بالتفصيل التالي:
(والصحيح أن الحكم بغير ما أنزل الله يتناول الكفرين الأصغر والأكبر بحسب حال الحاكم، فإنه إن اعتقد وجوب الحكم بما أنزل الله في هذه الواقعة وعدل عنه عصيانا مع اعترافه بأنه مستحق للعقوبة فهذا كفر أصغر، وإن اعتقد أنه غير واجب وأنه مخير فيه مع تيقنه أنه حكم الله فهذا كفر أكبر، وإن جهله وأخطأه فهذا مخطئ له حكم المخطئين)( ).
والحقيقة أن هذا تفصيل جيد، وتوفيق بين النصوص بصورة طيبة مما يجعل مذهب أهل السنة منهجا وسطا بين طرفين لا إفراط ولا تفريط.
وبعد؛ فمن خلال ما سبق عرضت مذهب أهل السنة في مفهوم الحاكمية، واستعمالاته في الأصول الإسلامية من كتاب وسنة، وتفسيرهم لآيات الحكم بغير ما أنزل الله تعالى، ورجحت منها ما رأيته راجحا بعون الله تعالى.

المبحث الثاني
مفهوم الحاكمية عند الخوارج
سوف أتحدث عن الحاكمية عن الخوارج في مطلبين:
المطلب الأول: نظرية الحاكمية عند الخوارج:
تتمثل هذه النظرية عندهم في الشعار الذي رفعوه وأصبح علما عليهم [ لا حكم إلا لله ] حتى سموا بالمحكمة، وقد مر هذا الشعار بتطور جعله يبتعد عن الهدف الذي أطلق من أجله، ولبيان ذلك أقول:
أطلق الخوارج هذا الشعار في بداية أمرهم علامة على رفض التحكيم الذي اتفق عليه، لكن هذه الدعوى كانت صورة فقط وكان الهدف الرئيس منها بيان أنهم ليسوا في حاجة إلى أمير أو خليفة يسوسهم، وجواز أن يقوموا بالأمر فيما بينهم دون حاجة للناس إلى إمام، وهو ما لاحظه الإمام علي لما سمع منهم هذا الشعار، فرد عليهم بعبارته الشهيرة (كلمة حق يراد بها باطل، نعم إنه لا حكم إلا لله، ولكن هؤلاء يقولون: لا إمرة. وإنه لا بد للناس من أمير بر أو فاجر يعمل في إمرته المؤمن، ويستمتع فيها الكافر، ويبلغ الله فيها الأجل، ويجمع به الفيء، ويقاتل به العدو، وتؤمن به السبل، ويؤخذ به للضعيف من القوي حتى يستريح بر ويستراح من فاجر).
ويبدو أن هذه النظرة من الخوارج متمشية مـع نظريتهم المثالية العامة، فهم ينزعون دائما إلى المثالية في التعامل وإقامة
المجتمع كما أراده الله تعالى بأي صورة يتحقق هذا القيام، وهو ما عبر عنه الأستاذ عمار طالبي (طائفة من الخوارج يبدو أنها تنزع إلى نوع من المدينة الفاضلة، وإلى مجتمع قرآني محض لا يحتاج إلى حاكم زاجر، ولا إلى خليفة ينفذ أحكام الله، لأن الناس في ذلك المجتمع تكتفي بما لها من أخلاق قرآنية وأحكام يطبقها كل فرد على نفسه مستمدا لها من تعاليم القرآن)( ).
وهم في قولهم هذا لم يكن هدفهم أن يتفلت الناس من أحكام الله تعالى، وإنما الغرض أن يكون القرآن الكريم هو الذي يحكم بين الناس دون أن يكون عرضة لفهم أحد من البشر فتختلف الأفهام حول القرآن الكريم، وهو أيضا ما واجههم به سيدنا علي  لما قالوا له: أتراه عدلا تحكيم الرجال في الدماء؟ قال: (إنا لم نحكم الرجال وإنما حكمنا القرآن، وهذا القرآن إنما هو خط مسطور بين دفتين لا ينطق، إنما يتكلم به الرجال)( ).
فالحكم بالقرآن يقوم به رجال، لكنهم لا ينشئون الحكم، وهو ما يعبر عنه في الفكر السياسي بالفرق بين مصدر السلطة ومزاولة السلطة، فمصدر السلطة هـو كتاب الله تعالى، ويزاول هـذه السلطة رجال يقومون بأمر الله .
لكن هذا الفهم لم يستمر لدى الخوارج مدة طويلة، فبعد أن انفصلوا عن الإمام عليّ  كان أول ما عملوه هو تولية عبد الله بن وهب الراسبي أميرا عليهم، وبهذا تغير مدلول "لا حكم إلا لله" الذي ساد في أوساطهم في بداية إطلاقه.
وأصبح يراد بالكلمة بعد ذلك أن يكون الحكم لله تعالى بمعنى حق التشريع والأمر والنهي لا ينازعه فيه أحد من خلقه، فخلاصة هذه النظرية عندهم:
1- أن النظرية الأساسية التي ارتكزت عليها فكرة الخوارج وخصوصا الأزارقة والصفرية والنجدات كانت المبدأ القائل " لا حكم إلا لله " والمعنى الحرفي لهذا المبدأ يشير صراحة استعماله إلى أنه لا ضرورة لوجود الحكومة مطلقا.
2- أن الحكم ليس من اختصاص البشر، بل تهيمن عليه قوة علوية)( ).
وهذا الفهم –حق التشريع– لا غبار عليه، وإطلاق الخوارج لهذه الصيحة مرادا بها هذا المدلول لا خلاف فيه، لكن هذا الحق يزاوله الرجال الذين بخلافة الله تعالى في الأرض، فكلمة "لا حكم إلا لله":
معناها: أن الله  يشرع، لكن الناس يقومون بهذا الشرع، فهم إذا حكموا فإنما يحكمون وفق أمر الله تعالى، وهو ما عبر عنه سيدنا ابن عباس في مناظرته للخوارج لما أنكروا تحكيم الرجال (أما علمتم أن الله أمر بتحكيم الرجال في أرنب تساوي ربع درهم تصاد في الحرم، وفي شقاق رجل وامرأته؟ قالوا: اللهم نعم)( ).
وإنما جاء الغلو الخارجي فيما ترتب على هذه الكلمة من التحلل من طاعة ولي الأمر، وعدم الخضوع للحكومات المتعاقبة، واتخاذها وسيلة وسترا للخروج على المسلمين واتهامهم بعدم الحكم بكتاب الله تعالى، واعتقادهم أن الرجوع إلى كتاب الله في الحكم في تلك الدماء رجوع عن كتاب الله تعالى.
المطلب الثاني: آيات الحكم بغير ما أنزل الله عند الخوارج:
ذكرت في آراء للخوارج قولهم بكفر مرتكب الكبيرة، وأن العمل عندهم جزء من الإيمان يفقد الإيمان بفقده، فأي كبيرة هي نقص في أصل الإيمان، وألفاظ الفسق والعصيان تطلق ويراد بها الكفر، لأنه لا واسطة بين الإيمان والكفر.
وبناء على هذه المقدمات فإن الحكم بما أنزل الله تعالى إيمان، وترك الحكم بما أنزل الله كفر تحقيقا لقول الله تعالى في كتابه الكريم: â `tBur óO©9 Oä3øts† $yJÎ/ tAt“Rr& ª!$# y7Í´¯»s9'ré'sù ãNèd tbrãÏÿ»s3ø9$# á، â `tBur óO©9 Nà6øts† $yJÎ/ tAt“Rr& ª!$# y7Í´¯»s9'ré'sù ãNèd tbqßJÎ=»©à9$# á،
â `tBur óO©9 Nà6øts† $yJÎ/ tAt“Rr& ª!$# y7Í´¯»s9'ré'sù ãNèd šcqà)Å¡»xÿø9$# á.
وإذا أطلق الله الكفر في الآية فالمراد به الكفر العقدي المخرج من الملة، لأنه كبيرة وكل كبيرة كفر تخرج عن الدين.
ولم يرد عنهم أو تفريق في مسألة الحكم بغير ما أنزل الله تعالى بين الجحود والترك الكلي وبين الترك الجزئي أوالترك الناتج عن الهوى والشهوة.
وكان مما استدل به الخوارج على تكفير العصاة – على ما ذكر القاضي عبد الجبار- في قول الله تعالى: â `tBur óO©9 Oä3øts† $yJÎ/ tAt“Rr& ª!$# y7Í´¯»s9'ré'sù ãNèd tbrãÏÿ»s3ø9$# á قال: (وهذا نص صريح في موضع النزاع)( ).

المبحث الثالث
أثر رأي الخوارج في الفكر الإسلامي المعاصر
يعتبر الكثيرون أن فكر الحاكمية في العصر الحديث امتداد لهذا الفكر عند الخوارج، ولما كان هذا الفكر قد ظهر في هذا العصر على يد الأستاذ / أبو الأعلى المودودي، وتبعه بعد ذلك وسار على نهجه الأستاذ / سيد قطب؛ فهما رائدا هذا الفكر دون منازع، لذلك فإنني سوف أتعرض في هذا المبحث للمطالب التالية:
المطلب الأول: نظرية الحاكمية عند أبي الأعلى المودودي.
المطلب الثاني: نظرية الحاكمية عند سيد قطب.
المطلب الثالث: مدى تأثر المفهوم لديهما بالفكر الخارجي.
المطلب الرابع: آيات الحكم بغير ما أنزل الله في الفكر المعاصر.

المطلب الأول
نظرية الحاكمية عند أبي الأعلى المودودي
يعد أبو الأعلى المودودي أول من أكثر من الحديث عن الحاكمية في العصر الحديث، فهو رائد الفكرة في طرحها المعاصر، ومنه انتقلت إلى الأستاذ سيد قطب( ) ثم سائر التيارات الإسلامية التي تبنت هذا النهج، وسوف أتتبع نظريته في الحاكمية من خلال كتبه ومؤلفاته التي بين يدي، مسترسلا في النقل عنه، ولا أتدخل في النقل أو الصياغة إلا بالقدر الذي يخدم غرض النظرية، رابطا بين أقواله بما لا يخرج الكلام عن أسلوب صاحبه.
تطلق الحاكمية عند المودودي على:(السلطة العليا والسلطة المطلقة)( )، فهي سلطة ليست عليا فقط وإنما أيضا مطلقة، لا تحد بحدود فلا تطلق إلا على الله تعالى (هو وحده الحامل لهذه الحاكمية، وأنه هو الغالب المطلق الأعلى â ×A$¨èsù $yJÏj9 ߉ƒÌãƒ á( )، وأنه هو وحده غير مسئول عن أعماله ⠟w ã@t«ó¡ç„ $¬Hxå ã@yèøÿtƒ öNèdur šcqè=t«ó¡ç„ á( ) ( ).
هذه النظرية مبنية على أساس نظرة القرآن للكون وتصوره (وهو التصور الذي ينبغي وضعه في الاعتبار لفهم هذه النظرية فهما سليما، ولو درس هذا التصور بعين الفلسفة السياسية لبرزت فيه أمامنا النكات التالية:
أ – أن الله تعالى هو خالق هذا الكون كله، وخالق الإنسان نفسه، وخالق سائر الأشياء التي يستفيد منها الإنسان في هذا العالم.
ب- الله هو مالك هذا الكون وحاكمه ومدبر أمره.
جـ- أن الحاكمية في هذا الكون ليست لأحد غير الله، ولا يمكن أن تكون لأحد سواه، وليس لأحد الحق في أن يكون له نصيب منها.
د- أن جملة صفات الحاكمية وسلطاتها مجتمعة في يديه سبحانه، وليس في هذا الكون أحد قط يحمل هذه الصفات أو ينال هذه السلطات، فهو سبحانه وتعالى قاهر كل شيء ومسيطر على كل شيء)( ).
وينبثق عن تصور القرآن للكون تصوره للإنسان، فهو جزء من هذا الكون يجري عليه ما يجري على الكون من خضوع لله تعالى، فإذا كانت الحاكمية في الكون ليست لغير الله تعالى فلا ريب أنها كذلك في الإنسان (بناء على هذا التصور – تصور القرآن للكون – يقول القرآن: إن الحاكم الحقيقي للإنسان هو نفسه حاكم الكون، وحق الحاكمية في الأمور البشرية له وحده وليس لأي قوة سواه – بشرية أم غير بشرية – أن تحكم بذاتها أو تقضي بنفسها، وهذا المعنى واضح في القرآن بمختلف جوانبه وضوحا تاما:
1- إن رب الكون في الحقيقة هو رب الإنسان ولا بد من التسليم بربوبيته وحده.
2- إن حق الحكم والقضاء ليس لأحد غير الله، وعلى الإنسان أن يطيعه ويعبده، وهذا هو الطريق الصحيح والمسلك القويم.
3- إن لله وحده حق إصدار الحكم، لأنه هو الخالق وحده ⠟wr& ã&s! ß,ù=sƒø:$# âöDF{$#ur á( ).
4- إن لله وحده حق إصدار الأحكام، لأنه هو الملك وحده.
5- إن حكم الله حق، لأنه هو وحده من يعرف الحقيقة، وفي يديه تقرير الهداية الصحيحة)( ).
فهو سبحانه الخالق، فلا بد أن يكون له الأمر؛ لأن الخلق والأمر متلازمان ⠟wr& ã&s! ß,ù=sƒø:$# âöDF{$#ur á.
فالحاكمية تعطي تصورا مركزيا للعالم، فالله تعالى خلق الكون ويحكمه ويسيطر عليه ( الأرض كلها لله، هو ربها والمتصرف في شئونها، فالأمر والحكم والتشريع كلها مختصة بالله وحده، وليس لفرد أو أسرة أو طبقة أو شعب، بل ولا للنوع البشري كافة شيء من سلطة الأمر والتشريع)( ).
فالكون كله بما فيه ومن فيه خاضع لله تعالى، والخلق جميعا خاضعون لله ، القوة التي تسيطر عليهم، وهذا يقتضي أن يكون هو حاكمهم، وهو ما يطلق عليه " توحد السلطة العليا".
(وما يقتضيه توحد السلطة العليا أن يكون جميع الحكم والأمر راجعة إلى مسيطر قاهر واحد، وألا ينتقل منه جزء من الحكم إلى غيره، فإنه إذا لم يكن الخلق إلا لله، ولم يكن له شريك فيه، وإذا كان هو الذي يرزق الناس ولم تكن لأحد من دونه يد في الأمر، إذا كان هو القائم بتدبير نظام هذا الكون وتسيير شئونه ولم يكن له في ذلك شريك، فما يتطلبه العقل ألا يكون الحكم والأمر والتشريع إلا بيده كذلك، ولا مبرر لأن يكون أحد شريكا له في هذه الناحية أيضا)( ).
وهذا من خصائص ألوهية الله  (فمقتضى الألوهية أن يكون حاكما مهيمنا مسيطرا، سواء أكان يعتقدها الناس من حيث أن حكمها على هذا العالم مطيع لأمرها وتابع لإرشادها، أو أن أمرها في حد ذاته واجب الطاعة والإذعان)( ).
بل إن المصطلحات المستعملة في الشرع تؤدي هذا التصور عن الحاكمية، وتستعمل هذه المصطلحات في نظام فكري متسق يؤدي المقصود منها، مثل استعمال كلمة [ الدين ] في القرآن الكريم ودلالتها على هذا التصور.
( فكلمة الدين في القرآن تقوم مقام نظام بأكمله يتركب من أجزاء أربعة، هي:
1- الحاكمية والسلطة العليا.
2- الطاعة والإذعان لتلك الحاكمية والسلطة.
3-النظام الفكري والعملي المتكون تحت سلطان تلك الحاكمية.
4- المكافأة التي تكافئها السلطة العليا على اتباع ذلك النظام والإخلاص له، أو على التمرد عليه والعصيان له)( ).
والقرآن الكريم يستعمل كلمة [ الدين ] للدلالة على تلك الأجزاء مفردة تارة، ومجتمعة مع بعضها تارة أخرى.
فالحاكمية على هذا لا تثبت إلا لله تعالى، الحاكمية السياسية والقانونية، ولا ينازع الله فيها أحد ( بت الإسلام في مسألة الحاكمية القانونية وقضى أنها لله تعالى وحده، الذي لا يقوم هذا الكون ولا تسير شئونه إلا على حاكميته الواقعية، والذي له حق الحاكمية على الناس من غير مشارك ولا منازع)( ).
والقرآن الكريم تفيض آياته بالحديث عن انفراد الله تعالى بالحاكمية واستحقاقه لها دون منازع من خلقه.
ففي قول الله تعالى: ⠓Ï%©!$# ¼çms9 à7ù=ãB ÏNºuq»yJ¡¡9$# ÇÚö‘F{$#ur óOs9ur õ‹Ï‚­Gtƒ #Y‰s9ur öNs9ur `ä3tƒ ¼ã&©! Ô7ƒÎŽŸ° ’Îû Å7ù=ßJø9$# t,n=yzur ¨@à2 &äóÓx« ¼çnu‘£‰s)sù #\ƒÏ‰ø)s? á( ).
يقول: ( لفظ " ملك " المستعمل في هذه الآية يطلق في اللغة العربية على الملكية والسلطة العليا والحاكمية، ومعنى هذا أن الله تعالى وحده حاكم الكون المطلق، وليس لأي فرد قيد ذرة من سلطات الحكم، وهذا يتطلب بالتالي ألا يكون المعبود أحدا سواه)( ).
وفي قول الله تعالى: â °! $tB ’Îû ÏNºuq»yJ¡¡9$# $tBur ’Îû ÇÚö‘F{$# 3 bÎ)ur (#r߉ö7è? $tB þ’Îû öNà6Å¡àÿRr& ÷rr& çnqàÿ÷‚è? Nä3ö7ř$yÛムÏmÎ/ ª!$# ( ãÏÿøóu‹sù `yJÏ9 âä!$t±o„ Ü>Éj‹yèãƒur `tB âä!$t±o„ 3 ª!$#ur 4’n?tã Èe@à2 &äóÓx« 퍃ωs% á( ).
يقول أيضا: (لو أمعنا النظر في هذه الآية اتضح لنا أن أول أساس من أسس الدين هو الإيمان بحاكمية الله، فهو ملك السماوات والأرضين، كل ما فيهما ملك له وحده، وأن طاعة الله طاعة مطلقة تعد حقيقة أساسية لا يحق للإنسان أن يتخذ للعمل أسلوبا سواها)( ).
وإذا ثبتت هذه الحاكمية لله تعالى–بمقتضى أنه الخالق– فإن أي مجتمع إسلامي، أو بتعبير أدق أي دولة إسلامية لا بد وأن تقر بحاكمية الله تعالى العليا والمطلقة، وهذه شروط لا بد منها للدولة الإسلامية.

الخصائص الأولية للدولة الإسلامية ثلاث:
1- ليس لفرد أو أسرة أو طبقة أو حزب أو لسائر القاطنين في الدولة نصيبا من الحاكمية، فإن الحاكم الحقيقي هو الله، والسلطة الحقيقية مختصة بذات الله تعالى وحده، والذين من دونه في هذه المعمورة إنما هم رعايا في سلطانه العظيم.
2- ليس لأحد من دون الله شيء من أمر التشريع، والمسلمون جميعا ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا لا يستطيعون أن يشرعوا قانونا، ولا يقدرون أن يغيروا شيئا مما شرعه الله لهم.
3- أن الدولة الإسلامية لا يؤسس بنيانها إلا على ذلك القانون المشرع الذي جاء به النبي من عند ربه مهما تغيرت الظروف والأحوال، والحكومات التي بيدها زمام هذه الدولة تستحق طاعة الناس إلا من حيث أنها تحكم بما أنزل الله وتنفذ أمره تعالى في خلقه)( ).
وهذا معناه أن تنزع السلطات من البشر جميعا وتنسب لله تعالى ولا يشاركه أحد من خلقه في سلطانه، فالنظرية السياسية في الإسلام تقوم على مبدأ أساسي وهو: ( أن تنزع جميع سلطات الأمر والتشريع من أيدي البشر منفردين ومجتمعين، ولا يؤذن لأحد منهم أن ينفذ أمره في بشر مثله فيطيعوه، أو يسن لهم قانونا فينقادوا له ويتبعوه فإن ذلك أمر مختص بالله وحده لا يشاركه فيه أحد غيره)( ).
فالمبدأ قائم على رفض حاكمية البشر مطلقا، وعدم الاعتراف بحاكم إلا الله تعالى، وهذا ما تفيده شهادة التوحيد، فكما أن توحيد الله واجب في العبودية والألوهية وغيرهما، كذلك هو واجب في الحاكمية، فالحاكمية الإلهية تتضمن رفض حاكمية البشر والثورة عليها وعصيانها ورفض الانضواء تحتها، ويتمثل هذا الرفض لحاكمية البشر عندما ينطق شهادة أن لا إله إلا الله، فهو بذلك يكون (معلنا السيادة لله ضد سيادة البشر، فنظرية التوحيد هذه ليست بعقيدة دينية فحسب... بل إنما تقضي هذه النظرية على نظام الحياة الاجتماعية المبني على أساس استقلال الإنسان بأمره، أو حاكمية غير الله وألوهيته، وتنقطع بها هذه الشجرة الملعونة من جذورها وينهدم هذا البينان من أساسه ويقوم وينهض بنيان جديد على أساس غير هذا الأساس... حينما ينادي -المؤذن – يقول: لا ملك إلا لله، ولا حاكم إلا الله، ولا أخضع لحكومة، ولا أعترف بدستور، ولا أنقاد لقانون، ولا سلطان عليّ لمحكمة من المحاكم الدنيوية، ولا أطيع أمرا غير أمره، ولا أتقيد بشيء من العادات والتقاليد الجاهلية المتوارثة، ولا أدين لسيادة أو قداسة، ولا أستخزي لسلطة من السلطات المتكبرة في الأرض المتمردة على الحق، وإنما أنا مؤمن بالله، مسلم له، كافر بالطواغيت والآلهة الكاذبة من دونه)( ).
لكن حاكمية الله تحتاج من يمثلها، ويقوم بها، ويبلغها، وتلك هي وظيفة الأنبياء والرسل عليهم السلام بوصفهم رسلا من الله تعالى (فلا مجال في حظيرة الإسلام ودائرة نفوذه إلا لدولة يقوم فيها المرء بوظيفة خليفة الله تباركت أسماؤه، ولا تتأتى هذه الخلافة بوجه صحيح إلا من جهتين: إما أن يكون ذلك الخليفة رسولا من الله، أو رجلا يتبع الرسول فيما جاء به من الشرع والقانون من عند ربه)( ).
فوظيفة الأنبياء عليهم السلام أنهم يمثلون حاكمية الله تعالى في الأرض، وعن طريقهم يعلم الناس ما شرعه الله لهم وما وضعه لهم من قانون ( وممثلو هذه الحاكمية القانونية لله تعالى هم الأنبياء والرسل في هذه الدنيا، أي أن الأنبياء والرسل هم الوسيلة التي بها نعلم ما وضع لنا شارعنا من قانون أو شريعة)( ).
ولما كانت الحاكمية لله تعالى فإن مهمة الإنسان في الأرض أن ينوب عن الحاكم الأعلى في تطبيق حاكميته، فالله  استخلفه في الأرض ليطبق قانون الله  الذي شرعه (إن تصور الإسلام عن الحاكمية واضح لا تشوبه شائبة، فهو ينص على أن الله وحده خالق الكون وحاكمه الأعلى، وأن السلطة العليا المطلقة له وحده، أما الإنسان فهو خليفة هذا الحاكم الأعلى ونائبه، والنظام السياسي لا بد وأن يكون تابعا للحاكم الأعلى، ومهمة الخليفة تطبيق قانون الحاكم الأعلى في كل شىء، وإدارة النظام السياسي طبقا لأحكامه)( ).
(فالذين يقومون بتنفيذ القانون الإسلامي فـي الأرض لا يكون موقفهم إلا كموقف النواب عن الحاكم الحقيقي، فهذا هو موقف أولى الأمر في الإسلام بعينه)( ).
وهذه الحاكمية كما ثبتت لله تعالى في الشريعة الإسلامية فإنها كذلك ثابتة له في ما سبق من الشرائع، والأنبياء جميعا نادوا بها وأثبتوا الحاكمية العليا والمطلقة لله تعالى، وقد أخبر بذلك القرآن الكريم في أكثر من موضع، من ذلك قول الله تعالى: â $]%Ïd‰|ÁãBur $yJÏj9 šú÷üt/ £“y‰tƒ šÆÏB Ïp1u‘öq­G9$# ¨@ÏmT{ur Nà6s9 uÙ÷èt/ “Ï%©!$# tPÌhãm öNà6ø‹n=tæ 4 /ä3çGø¤Å_ur 7ptƒ$t«Î/ `ÏiB öNà6În/§‘ (#qà)¨?$$sù ©!$# Èbqãè‹ÏÛr&ur ¨bÎ) ©!$# †În1u‘ öNà6š/u‘ur çnr߉ç6ôã$$sù 3 #x‹»yd ÔÞºuŽÅÀ ÒOŠÉ)tGó¡•B á( ).
(واضح من هذه الآية أن دعوة سيدنا عيسى عليه السلام تقوم على مبادئ أساسية ثلاثة كمثل دعوة سائر الأنبياء:
الأول: أن السلطة التي على الإنسان أن يخضع لها ويطيعها ويقر بعبوديته لها، والتي يتأسس على طاعتها النظام الكامل للأخلاق والمجتمع والحضارة هي سلطة الله وحده، وينبغي التسليم بها وقبولها على هذا الأساس.
الثاني: حتمية طاعة أمر النبي وحكمه بوصفه ممثلا ونائبا عن السلطان الأعلى والحاكم العام المطلق.
الثالث: أن القانون المحكم الذي يقرر التحليل والتحريم في كل ميادين الحياة الإنسانية هو قانون الله وحده الذي ينسخ كل القوانين الأخرى المقحمة في حياة الإنسان المفروضة عليها.
وعلى هذا فليس بين مهمة سيدنا عيسى وسيدنا موسى وسيدنا محمد، وبين مهمة غيرهم من الأنبياء قيد شعرة من فرق أو اختلاف)( ).
وينبني على ثبوت هذه الحاكمية لله تعالى على خلقه لزوم إقرارهم بها، وخضوعهم لها، ومن لم يقبلها أو لم يعلن خضوعه لها فهو بذلك غير خاضع لله تعالى، قد أشرك معه غيره، قال تعالى: â `tBur óO©9 Oä3øts† $yJÎ/ tAt“Rr& ª!$# y7Í´¯»s9'ré'sù ãNèd tbrãÏÿ»s3ø9$# á( ) (ويتضح وضوحا تاما من هذه الآية أن الإسلام والإيمان إنما هما عبارة عن التسليم بحاكمية الله القانونية والإذعان لها، وما الجحود بها إلا كفر صريح)( ).
وينبغي هنا التنبيه على أمر مهم، ألا وهو أن ثبوت الحاكمية لله تعالى لا يعني أن البشر ليس لهم شيء من التشريع، بل ذلك ثابت لهم فيما يستجد من قضايا ومشكلات (إن مجالس الشورى أو البرلمانات لا يباح لها أن تسن نظاما أو تصدر حكما فيما ورد فيه نص صريح واضح في شريعة الله، أما ما لم يرد فيه نص شرعي فلأهل الحل والعقد أن يجتهدوا في سن الأنظمة التي تحقق مصلحة الأمة بالمشورة المتبادلة على أن تكون منسجمة مع الإطار العام لأسس الشريعة)( ). وبعد؛ كان هذا عرضا لنظرية الحاكمية عند أبي الأعلى المودودي بجوانبها المختلفة وأسسها وما يترتب عليها.

المطلب الثاني
نظرية الحاكمية عند سيد قطب
إذا كان الأستاذ المودودي أول من نادى بالحاكمية في العصر الحديث وبين منزلتها من الدين، فإن الأستاذ سيد قطب يعتبر أهم من رفع رايتها، وتحدث عنها حديثا فياضا، وبذل جهده في انتشارها في الأوساط الإسلامية، وساهم أكبر الإسهام في ذلك، بقلمه وفكره تارة، وحياته تارة أخرى، حتى صار علما في هذا المجال، واستقى كل من جاء بعده منه، وسار على نهجه في التناول.
وسوف أعرض نظرية الحاكمية عنده ملتزما – أيضا – بالنقل عنه دون تدخل مني إلا بالقدر الذي يقرب من عرض أفكاره ورؤيتها بصورة صحيحة، لأن صاحب الفكر هو الوحيد الذي يستطيع عرض فكره، دون أن يكون هناك من يحتكر فهم هذا الفكر ويعرضه بصورة ربما تتدخل فيها أهواء وميول وأفكار أخرى.
الحاكمية عنده تعني (كل ما شرعه الله لتنظيم الحياة البشرية، وهذا يتمثل في أصول الاعتقاد، وأصول الحكم، وأصول الأخلاق، وأصول السلوك، وأصول المعرفة أيضا)( ).
فهي شاملة لكل ما شرعه الله تعالى لعباده مما ينظم حياتهم لتسير على منهاج الله تعالى، وهي بهذا أول ما دعا إليه النبي ، فإن العرب قديما لم ينكروا كون الله  هو الخالق والرازق، ولكنهم لم يفردوه بالعبادة والتلقي (ما كانت الجاهلية العربية التي واجهها الإسلام أول مرة في الجزيرة العربية تنكر الله البتة! وما كانت تجهل أن الله هو الخالق الرازق القوي، الذي يجير ولا يجار عليه – كما أسلفنا – ولم يدعها النبي  إلى الاعتقاد بوجود الله! ولكنه دعاها إلى توحيد الله... دعاها إلى الاعتقاد بأن الله وحده هو الإله والرب والقيم، ودعاها إلى عبادة الله وحده والتقدم إليه بالشعائر، دعاها إلى التحاكم إلى شريعة الله وحده والدينونة له بالعبودية، وكانت هذه الدعوة بمضمونها هذه كاملة هي معنى شهادة أن لا إله إلا الله التي هي الإسلام)( ).
وتنطلق الحاكمية من وجود تصور إسلامي للكون كله بما فيه، يقوم هذا التصور على خضوع الكون لله تعالى ( التصور الإسلامي يقوم على أساس أن هذا الوجود كله من خلق الله، اتجهت إرادة الله إلى كونه فكان، وأودعه الله سبحانه قوانينه التي يتحرك بها، والتي تتناسق بها حركة أجزائه فيما بينها، كما تتناسق بها حركته الكلية سواء â $yJ¯RÎ) $uZä9öqs% >äóÓy´Ï9 #sŒÎ) çm»tR÷Šu‘r& br& tAqà)¯R ¼çms9 `ä. ãbqä3uŠsù á( ) ( ).
والإنسان جزء من هذا الكون الخاضع لله تعالى، أراده الله تعالى وأودع فيه قوانينه كالكون تماما ( الإنسان من هذا الوجود الكوني، والقوانين التي تحكم فطرته ليست بمعزل عن هذا الناموس الذي يحكم الوجود كله... لقد خلقه الله – كما خلق هذا الوجود – وهو في تكوينه المادي من طين هذه الأرض، وما وهبه الله من خصائص زائدة على مادة الطين جعلت منه إنسانا إنما رزقه الله إياه مقدرا تقديرا)( ).
وما دام الإنسان جزءا من هذا الكون فلا بد أن يجري عليه ما يجري على الكون، فهو يخضع للقانون الذي ينظم وجوده ويدبر أمره في الجانب القدري من حياته، فلا بد أن يكون خاضعا له في الجانب الإرادي من حياته كذلك (جاء الإسلام على يد محمد  كما جاء على أيدي الرسل الكرام قبله...جاء ليرد الناس إلى حاكمية الله كشأن الكون كله الذي يحتوي الناس، فيجب أن تكون السلطة التي تنظم حياتهم هي السلطة التي تنظم وجودهم فلا يشذوا بمنهج وسلطان وتدبير غير المنهج والسلطان والتدبير الذي يصرف الكون كله؛ بل الذي يصرف وجودهم هم أنفسهم في غير الجانب الإرادي من حياتهم، فالناس محكومون بقوانين فطرية من صنع الله في نشأتهم و نموهم، وصحتهم ومرضهم، وحياتهم وموتهم، كما هم محكومون بهذه القـوانين فـي اجتماعهم وعواقب ما يحل بهم نتيجة لحركتهم الاختيارية ذاتها، وهم لا يملكون تغيير سنة الله في القوانين الكونية التي تحكم هذا الكون وتصرفه، ومن ثم ينبغي أن يثوبوا إلى الإسلام في الجاني الإرادي من حياتهم فيجعلوا شريعة الله هي الحاكمة في كل شأن من شئون هذه الحياة، تنسيقا بين الجانب الإرادي في حياتهم والجانب الفطري، وتنسيقا بين وجودهم كله بشطريه هذين وبين الوجود الكوني)( ).
هذا هو جوهر القضية، أن الله  خالق الكون ومدبر أمره، وهو كذلك خالق الإنسان ومدبر أمره، فبموجب كونه خالقا لا بد أن يكون آمرا، له الحكم والتشريع.
( إن الله هو الخالق... خلق هذا الكون، وخلق هذا الإنسان، وسخر ما في السماوات والأرض لهذا الإنسان... وهو سبحانه متفرد بالخلق لا شريك له في كثير منه أو قليل.
وإن الله هو المالك... بما أنه هو الخالق... { ولله ملك السماوات والأرض وما بينهما } فهو سبحانه متفرد بالملك، لا شريك له في كثير منه أو قليل.
وإن الله هو صاحب السلطان المتصرف في الكون والناس... بما أنه هو الخالق المالك الرازق.
وبما أنه هو صاحب القدرة التي لا يكون بدونها خلق ولا رزق، ولا نفع ولا ضر، وهو سبحانه المتفرد بالسلطان في هذا الوجود.
والإيمان هو الإقرار لله سبحانه بهذه الخصائص: الألوهية، والملك، والسلطان متفردا بها لا يشاركه فيها أحد.
والإسلام هو الاستسلام والطاعة لمقتضيات هذه الخصائص... هو لإفراد الله سبحانه بالألوهية، والربوبية، والقوامة على الوجود كله، وحياة الناس ضمنا، والاعتراف بسلطانه المتمثل في قدره، والممثل كذلك في شريعته)( ).
وإذا كان هذا هو التصور؛ كون خاضع لله تعالى لا يجري فيه شيء إلا بأمره ، وبشر خاضعين له في جوانب حياتهم القدرية، فكذلك يجب أن يخضعوا له في جوانب حياتهم الإرادية، فلا بد أن يكون هناك تناسقا بين خضوع الكون لله وخضوع البشر لله تعالى.
( إن الالتزام بشريعة الله – في هذا التصور - هو مقتضى الارتباط التام بين حياة البشر وحياة الكون، وبين الناموس الذي يحكم فطرة البشر ويحكم هذا الكون، ثم ضرورة المطابقة بين هذا الناموس العام والشريعة التي تنظم حياة بني الإنسان، وتتحقق بالتزام عبودية البشر لله وحده، كما أن عبودية هذا الكون لله وحده لا يدعيها لنفسه إنسان)( ).
ولا يملك أي شرع أو قانون أن يحقق هذا التناسق إلا شرع الله تعالى، لأنه وحده الذي خلق الكون وخلق البشر، فالبشر جميعا (لا يملكون أن يشرعوا لحياة البشر نظاما يتحقق به التناسق المطلق بين حياة الناس وحركة الكون، ولا حتى التناسق بين فطرتهم المضمرة وحياهم الظاهرة، إنما يملك هذا الحق خالق الكون وخالق البشر، ومدبر أمره وأمرهم وفق الناموس الذي اختاره الله وارتضاه)( ).
وبناء على ما تقدم فالحاكمية لها جانبان:
الأول: دينونة العباد لربهم في الجانب القدري الفطري من حياتهم.
الثاني: دينونة العباد لربهم في الجانب الإرادي الاختياري من حياتهم.
ولا نزاع في الجانب الأول بين الناس، لكن النزاع كله في الجانب الثاني، وهو يقرر ذلك قائلا – في سياق حديثه عن سورة يوسف-: (في السورة تعريف بخصائص الألوهية، وفي مقدمتها "الحكم" وهو يرد مرة على لسان يوسف عليه السلام بمعنى الحاكمية في العباد من ناحية دينونتهم وطاعتهم الإرادية( )، ويأتي مرة على لسان يعقوب عليه السلام بمعنى الحاكمية في العباد من ناحية دينونتهم لله في صورتها القدرية القهرية( )، فيتكامل المعنيان في تقرير مدلول الحكم وحقيقة الألوهية على هذا النحو الذي لا يجئ عفوا ولا مصادفة أبدا، وهذا التكامل في مدلول الحكم يشير إلى أن الدين لا يستقيم إلا أن تكون الدينونة الإرادية لله في الحكم كالدينونة القدرية له سبحانه في القدرة، فكلاهما من العقيدة، وليست الدينونة في القدر القاهر وحدها هي الداخلة في نطاق الاعتقاد)( ).
والحاكمية من خصائص الألوهية، بل هي من أخص خصائصها الثابتة لله تعالى بموجب كونه إلها (الحكم لا يكون إلا لله، فهو مقصور عليه سبحانه بحكم ألوهيته؛ إذ الحاكمية من أخص خصائص الألوهية، من ادعى الحق فيها فقد نازع الله سبحانه أولى خصائص ألوهيته، سواء ادعى هذا الحق فرد، أو طبقة، أو حزب، أو هيئة، أو أمة، أو الناس جميعا في صورة منظمة عالمية)( ).
فمن ادعى لنفسه حق التشريع الذي هو الحكم فقد ادعى لنفسه الإلهية لكونه ادعى أخص خصائصها (أخص خصائص الألوهية هـي الحاكمية... والذي يشرع لمجموعة من الناس يأخذ فيهم مكان الألوهية ويستخدم خصائصها، فهم عبيده لا عبيد الله، وهم في دينه لا في دين الله )( ).
ثم هي كذلك من خصائص الربوبية، فالربوبية تعني الحاكمية فلا حكم إلا لله ( إن ربوبية الله للعالمين تعني – أول ما تعني – إبطال شريعة كل حكم يزاول السلطان على الناس بغير شريعة الله وأمره، وتنحية كل طاغوت عن تعبيد الناس له من دون الله بإخضاعهم لشرعه هو وأمره)( ).
فالإشراك مع الله في الحاكمية شرك في ربوبيته أيضا، لذلك كان من ألوان شرك المشركين أنهم (كانوا يزاولون خصائص الربوبية فيشرعون لأنفسهم ما لم يأذن به الله)( ).
وكون الألوهية والربوبية لله تعالى، فكذلك خصائصهما لا بد أن تكون لله  لا ينازعه فيهما أحد من خلقه.
والمصطلحات الشرعية – مثل الألوهية والربوبية – تستعمل للدلالة على الاعتقاد، وعلى العبادة، وعلى الحاكمية، لا تختص ببعضها دون البعض، وهذا هو المستفاد من معناها لغويا وشرعيا.
(فالاصطلاح اللغوي والاصطلاح الشرعي كلاهما متفقان في استعمال كلمات: "الرب" و"العبادة" و"لدين" في مواضع: "الاعتقاد بالألوهية" و"التوجه بالشعائر" و"الإقرار بالحاكمية" على السواء وكما توضح النماذج القرآنية)( ).
ومن استعمال كلمة "الدين" في القرآن يتضح لنا مدلولها العام الشامل في مجال الاعتقاد وفي مجال الحاكمية والتشريع (يرد استعمال كلمة "الدين" في معنى الاعتقاد بألوهية الله سبحانه وعبادته والخضوع لحاكميته ولشرعه ونظامه، كما في النص السابق على لسان رسول الله ( )، ويرد في موضع آخر بمعنى نظام الحكم وشريعته إطلاقا سواء كانت من عند الله أو من عند المتألهة من عباد الله، وذلك كقول الله سبحانه:⠚Ï9ºx‹x. $tRô‰Ï. y#ߙqã‹Ï9 ( $tB tb%x. x‹è{ù'uŠÏ9 çn$yzr& ’Îû Èûïϊ Å7Î=yJø9$# á ( ) ( ).
فهذه الحاكمية ملازمة للدين، لا يمكن فهم الدين بمعزل عنها، ويمكن أن تدرك بسهولة ويسر ولا تحتاج إلى كبير جهد ونظر، إن القضية (إما أن تكون الألوهية والربوبية لله وحده، فهـي الدينونة مـن العباد لله وحده، وهي العبودية من الناس لله وحده، وهي الطاعة من البشر لله وحده، وهي الاتباع لمنهج الله وحده بلا شريك... فالله وحده هو الذي يختار للناس منهج حياتهم، والله وحده هو الذي يسن للناس شرائعهم، والله وحده هو الذي يضع للناس موازينهم وقيمهم وأوضاع حياتهم وأنظمة مجتمعاتهم... وليس لغيره – أفراد وجامعات- شيء من هذا الحق إلا بالارتكان إلى شريعة الله؛ لأن هذا الحق هو مقتضى الألوهية والربوبية ومظهرها البارز المحدد لخصائصها المميزة)( ).
والفرد لا يدخل في الإسلام إلا بشهادة أن لا إله إلا الله مع مقتضياتها اللازمة لها، فالقاعدة التي يقوم الإسلام على مدار التاريخ البشري هي (شهادة أن لا إله إلا الله، أي إفراد الله بالألوهية والربوبية والقوامة والسلطان والحاكمية... إفراده بها اعتقادا في الضمير، وعبادة في الشعائر، وشريعة في واقع الحياة. فشهادة أن لا إله إلا الله لا توجد فعلا ولا تعتبر موجودة شرعا إلا في هذه الصورة المتكاملة التي تعطيها وجودا جديا حقيقيا يقوم عليه اعتبار قائلها مسلما أو غير مسلم)( ).
فشهادة أن لا إله إلا الله ليست مجرد كلمة للدلالة علـى دخول قائلها الإسلام، وإنما تشمل معان كثيرة ومدلولات واسعة بدونها تصبح كلمة قائمة على غير أساس ( شهادة أن لا إله إلا الله وهي التي يدخل بها الإنسان في الإسلام ويكتسب بها هذه الصفة، ويعصم بها دمه وماله في الإسلام تعني هذه المعاني والمدلولات كلها مجتمعة، ولا توجد شرعا إلا بعد توافر هذه المعاني والمدلولات مجتمعة... تعني إفراد الله سبحانه بالألوهية وذلك بالاعتقاد في ألوهيته وحده، وبالتوجه إليه بالشعائر التعبدية وحده، وبالاعتراف له بحق الحاكمية في تنظيم الحياة البشرية بشريعته وحده، وهذه المعاني والمدلولات كل منها كالآخر في إنشاء شهادة أن لا إله إلا الله وجعلها قائمة ابتداء، تدخل قائلها الإسلام، وتعطيه صفة المسلم وتعصم دمه وماله بالإسلام، فلا توجد هذه الشهادة ابتداء ولا تعتبر قائمة شرعا إلا حين يشهد الشاهد بهذه المدلولات والمعاني مجتمعة، فإن شهد ببعضها دون بعض أو تصور أن شهادة أن لا إله إلا الله تعني بعضها دون بعض فإن شهادة أن لا إله إلا الله الصادرة منه لا تعتبر قائمة)( ).
فشهادة أن لا إله إلا الله تعني هذه المدلولات جميعها، ويفهم منها كل هذه المعاني، فمن أقر ببعض هذه المعاني دون بعضها الآخر لا يكون مقرا بالشهادة ما دام غير مقر بمكوناتها، ولا يقال له حينئذ مسلم، إما إيمان بمدلولاتها كلها، وإما كفر بها كلها.
ويمكن أن نتصورها هكذا( إله واحد، ومالك واحد... وإذن فحاكم واحد، ومتصرف واحد، وإذن فشريعة واحدة ومنهج واحد وقانون واحد... وإذن فطاعة واتباع وحكم بما أنزل الله، فهو إيمان وإسلام، أو معصية وخروج وحكم بغير ما أنزل الله فهو كفر وظلم وفسوق... وهذا هو الدين كما أخذ الله ميثاق العباد جميعا عليه، وكما جاء به كل الرسل من عنده...أمة محمد والأمم قبلها على السواء، ولم يكن بد أن يكون"دين الله" هو الحكم بما أنزل الله دون سواه...فهذا هو مظهر سلطان الله، مظهر حاكمية الله، مظهر " أن لا إله إلا الله" )( ).
وبوضوح مفهوم الحاكمية في التصور الإسلامي يتضح أنه مفهوم شامل لما شرعه الله تعالى لعباده، ولا ينحصر في مفهوم ضيق، وإنما يشمل مدلولات كثيرة ومعان متنوعة ( إن مدلول الحاكمية في التصور الإسلامي لا ينحصر في تلقي الشرائع القانونية من الله وحده والتحاكم إليها وحدها والحكم بها دون سواها... إن مدلول "الشريعة" في الإسلام لا ينحصر في التشريعات القانونية، ولا حتى في أصول الحكم ونظمه وأوضاعه. إن هذا المدلول الضيق لا يمثل مدلول "الشريعة" والتصور الإسلامي! إن "شريعة الله" تعني كل ما شرعه الله لتنظيم الحياة البشرية، وهذا يتمثل في أصول الاعتقاد، وأصول الأخلاق، وأصول السلوك، وأصول المعرفة أيضا)( ).
وإذا كانت الحاكمية تشمل كل ما شرعه الله تعالى لعباده لتنظيم حياتهم في كل جوانبها، فإنه ينتج عن ذلك أنه ليس لأحد أن يشرع من دون الله تعالى (فليس لأحد أن يقول لشرع يشرعه: هذا شرع الله، إلا أن تكون الحاكمية العليا لله معلنة، وأن يكون مصدر السلطات هو الله سبحانه لا "الشعب" ولا "الحزب" ولا أي من البشر، وأن يرجع إلى كتاب الله وسنة رسوله لمعرفة ما يريده الله، ولا يكون هذا لكل من يريد أن يدعي سلطانا باسم الله كالذي عرفته أوروبا ذات يوم باسم "الثيوقراطية" أو "الحكم المقدس" فليس شيء من هذا في الإسلام، وما يملك أحد أن ينطق باسم الله إلا رسوله ، وإنما هناك نصوص معينة هي التي تحدد ما شرع الله)( ).
فليس لأحد أن يشرع من دون الله تعالى، أو أن يخضع لغير شريعة الله تعالى، فإن خضع لغير شريعة الله تعالى فإن ذلك ينافي كونه مسلما لله تعالى، فلا يجتمع الإسلام والخضوع لغير الله تعالى (والذين يظنون أنهم مسلمون بينما هو خاضعون لشريعة من صنع البشر – أي لربوبية غير ربوبية الله – واهمون إذا ظنوا لحظة واحدة أنهم مسلمون! هم في دين حاكمهم ذاك. في دين الملك لا في دين الله)( ).
والقرآن الكريم يقرر هذه الحقيقة، ويبين التناقض الواضح والتباين بين حكم الله تعالى وحكم غيره من البشر، وأنه لا سبيل إلى اجتماعهما أو الالتقاء بينهما مطلقا  N3ßsùr& Ïp¨ŠÎ=Îg»yfø9$# tbqäóö7tƒ 4 ô`tBur ß`|¡ômr& z`ÏB «!$# $VJõ3ãm 5Qöqs)Ïj9 tbqãZÏ%qムá( ).
(فهما أمران لا ثالث لهما: إما الاستجابة لله والرسول، وإما اتباع الهوى، إما حكم الله وإما حكم الجاهلية، إما الحكم بما أنزل الله كله وإما الفتنة عما أنزل الله... وليس بعد هذا التوكيد الصريح الجازم من الله سبحانه مجال للجدال أو المحال)( ).
فمن ادعى شيئا من ذلك فقد نازع الله تعالى في ملكه، ونسب لنفسه ما لله ، ومن أقره على ذلك ورضي بما ادعاه لنفسه فقد شاركه في هذا الادعاء، ونسب للناس ما لله تعالى، وكلاهما يناقض شهادة أن لا إله إلا الله التي يعلنها( من يدعي لنفسه هذه الحقوق ويزاولها فإنما يدعي أولى خصائص الألوهية، ومن يقره على ادعاء هذه الحقوق ومزاولتها ويتحاكم إلى ما سنه له من شرائع وأنظمة وأوضاع وقيم وموازين – بغير سلطان من الله – فقد أقره على ادعاء أولى خصائص الألوهية، وأن المدعي والمقر كلاهما لا يشهد أن لا إله إلا الله، لأن الأول لو شهد أن لا إله إلا الله ما ادعى الحق فـي أولـى خصائص الألوهية ولا زاوله، ولأن الثاني لو شهد أن لا إله إلا الله ما أقر المدعي بالحق في أولى خصائص الله ولا أقره على مزاولته، فضلا عن أن يتحاكم إلى ما يسنه له من شرائع وأنظمة وأوضاع وقيم وموازين بغير سلطان من الله)( ).
وليست الصورة الوحيدة لهذا الادعاء أن يدعي الألوهية أو الربوبية من دون الله تعالى، بل يتحقق هذا الادعاء بصور كثيرة تخرج من الملة، فليس الحذر فقط من أن يدعي الإنسان كونه إلها أو ربا، لكن الحذر – أيضا – من أن يجعل مصدر سلطته غير الله تعالى (ومن نازع الله سبحانه أولى خصائص ألوهيته وادعاها فقد كفر كفرا بواحا، وادعاء هذا الحق لا يكون بصورة واحدة هي التي تخرج المدعي من دائرة الدين القيم وتجعله منازعا لله في أولى خصائص ألوهيته سبحانه، فليس من الضروري أن يقول: â $tB àMôJÎ=tã Nà6s9 ô`ÏiB >m»s9Î) ”ÎŽöxî á( )، أو بقول: â O$tRr& ãNä3š/u‘ 4’n?ôãF{$# á( ) كما قالها فرعون، ولكنه يدعي هذا الحق وينازع الله فيه بمجرد أن ينحي شريعة الله عن الحاكمية، أي أن تكون مصدر السلطات جهة غير الله سبحانه)( ).
فشريعة الله واجبة النفاذ، وطريق معرفة الناس لها هو تبليغ الرسول  إياها ( وحكم الله هنا يجب أن يعرفوه من واحد يبلغهم إياه وهو رسول الله، وهذا يتمثل في شطر الشهادة الثاني من ركن الإسلام الأول أن محمد رسول الله)( ).
وظيفة الأمة في التشريع الإسلامي تطبيق حاكمية الله تعالى في الأرض، بمعنى أن تختار من يقوم بشرع الله تعالى، لكنها لا تكون هي مصدر التشريع والقانون، الأمة فقط تطبق ما شرعه الله  (والأمة في النظام الإسلامي هي التي تختار الحاكم فتعطيه شرعية مزاولة الحكم بشريعة الله، ولكنها ليست هي مصدر الحاكمية التي تعطي القانون شرعيته وإنما مصدر الحاكمية هو الله، وكثيرون حتى من الباحثين المسلمين يخلطون بين مزاولة السلطة وبين مصدر السلطة، فالناس بجملتهم لا يملكون حق الحاكمية، إنما يملكه الله وحده، والناس إنما يزاولون تطبيق ما شرعه الله بسلطانه، أما ما لم يشرعه الله فلا سلطان له ولا شرعية وما أنزل الله به من سلطان)( ).
وهذه النظرية المتكاملة، وتوصيفها المتشعب بدلالاتها ومعانيها المتنوعة إنما هي من عند الله تعالى، فليست رأي عالم أو مجتهد، وليست خاضعة للنقاش أو القبول والرد، لكنها حكم يقبل ولا يناقش لا أصله ولا فروعه (وليس هذا رأيا لنا نبديه، كما أنه ليس رأيا لغيرنا من البشر، بل إنه ليس موضعا للرأي لعالم أو مفسر أو مجتهد من الفقهاء، إنما هو النص الذي لا مجال فيه للتأويل، والحكم المعلوم من الدين بالضرورة الذي لا مجال فيه للرأي والاجتهاد، فلا رأي مع النص)( ).
فالحاكمية إذن هي أساس هذا الدين، وهي المبدأ الإسلامي الأول الذي حرص القرآن على تقريره في كل مناسبة ممكنة، لأنها أصل الدين ولا قوام له إلا بها (نالت هذه القضية – من أجل أنها القضية الكبرى والقضية الحقيقية في معركة العقيدة – عناية ملحوظة في القرآن الكريم، سواء وهو يقص قصة الصراع حولها في الرسالات السابقة، أم وهو يقررها في حياة الأمة المسلمة بشتى وسائل التقرير، ويعرضها بشتى طرائق العرض، ويتتبع مساربها في دروب النفس البشرية، وفي دروب الواقع البشري على السواء)( ).
وكانت هي المعركة الحقيقية التي خاضها هذا الدين ضد الجاهلية وأتباعها، لأن الدين العملي لا يتحقق إلا بوجودها عمليا، فهي مبدأ الإسلام الأول، لذلك كان لا بد أن يخوض الدين معركة من أجل تقريرها فـي واقع الحياة، خاض هذه المعركة قديما، ويخوضها حديثا من أجل تقريرها (إن وجود هذا الدين هو وجود حاكمية الله، فإذا انتفت انتفى وجود هذا الدين... وإن مشكلة هذا الدين في الأرض اليوم لهي قيام الطواغيت التي تعتدي على ألوهية الله وتغتصب سلطانه، وتجعل لنفسها حق التشريع بالإباحة والمنع في الأنفس والأموال والأولاد... وهي هي المشكلة التي كان يواجهها القرآن الكريم بهذا الحشد من المؤثرات والمقررات والبيانات، ويربطها بقضية الألوهية والعبودية، ويجعلها مناط الإيمان أو الكفر، وميزان الجاهلية أو الإسلام.
إن المعركة الحقيقية التي خاضها الإسلام ليقرر "وجوده" لم تكن هي المعركة مع الإلحاد حتى يكون مجرد "التدين" هو ما يسعى إليه المتحمسون لهذا الدين!... ولم تكن هي المعركة مع الفساد الاجتماعي أو الفساد الأخلاقي، فهذه معارك تالية لمعركة "وجود" هذا الدين!... لقد كانت المعركة الأولى التي خاضها الإسلام ليقرر "وجوده" هي معركة "الحاكمية" وتقرير لمن تكون...)( ).
ويدرك - رحمه الله – أنه كرر الحديث عـن الحاكمية كثيرا، وأكثر من الحديث عن معناها ومنزلتها من الدين، وصلتها بالألوهية والربوبية والعقيدة، وحتى لا يكون ذلك مأخذا عليه، يتنبه إلى ذلك فيبين الدافع إلى هـذا التكرار قائلا: (نحن نحتاج إلى هـذا التذكير المستمر لأن جهود الشياطين في زحزحة هذا الدين عن مفهوماته الأساسية قد أتت ثمارها – مع الأسف – فجعلت مسألة الحاكمية تتزحزح عن مكان العقيدة، وتنفصل في الحس عن أصلها الاعتقادي! ومن ثم نجد حتى الغيورين على الإسلام يتحدثون لتصحيح شعيرة تعبدية، أو لاستنكار انحلال أخلاقي، أو لمخالفة من المخالفات القانونية، ولكنهم لا يتحدثون عن أصل الحاكمية وموقعها من العقيدة الإسلامية! يستنكرون المنكرات الجانبية الفرعية ولا يستنكرون المنكر الأكبر وهو قيام الحياة على غير إفراد الله سبحانه بالحاكمية)( ).
وبعد، كان هذا عرضا لنظرية الحاكمية عند سيد قطب –رحمه الله تعالى– بأجزائها المختلفة، والاستدلال عليها، وبيان موقعها من الدين، وصلتها بعقائده الأساسية.
ويلاحظ هنا مدى التشابه الواضح بين النظرية في ثوبها الثاني عند الأستاذ سيد قطب، وثوبها الريادي عند الأستاذ أبي الأعلى المودودي فـي كثير من الجوانب والرؤى، وهـو تشابه لا ينكر، مما يجعلنا نعتقد أن سيد قطب قد انتفع كثيرا مما كتبه أبو الأعلى المودودي، وسار على نهجه في كثير من آرائه، وأنهما – معا – قد قدما نظرية متكاملة، ورؤية واضحة لا يشوبها لبس حول مفهوم الحاكمية عندهما.
لكن إنما يحدث اللبس حول هذه النظرية والمراد منها عند أخذ بعض آرائهما بمعزل عما سواها من الآراء، وتقتطع أجزاء من سياق حديثهما ليستدل بها على مفهوم مغاير تماما لما أراده صاحب الكلام، سواء بحسن نية، أم مع سوء قصد.

المطلب الثالث
مدى تأثر المفهوم لديهما بالفكر الخارجي
عرضت فيما سبق نظرية الحاكمية عند كل من الأستاذ أبي الأعلى المودودي والأستاذ سيد قطب –رحمهما الله-، وهنا يبرز سؤال: هل ثمة تشابه بين المفهوم عندهما، وبين شعار الخوارج " لا حكم إلا لله "؟ أو بمعنى آخر: هل يمكن القول: إنهما استمدا هذا المفهوم وتأثرا في إيراده بفكر الخوارج قديما، أي أن هناك خلفية تاريخية مسبقة لديهما، أم أن هذا المفهوم أصيل عندهما؛ بمعنى أنه جاء نتيجة دراسة شرعية وفهم خاص للنصوص وصلا به إلى تلك النتيجة دون أن يكون لديهما خلفية تاريخية مسبقة أثرت في عرض المفهوم وبيانه.
أو يمكننا أن ننظر لهذه الإشكالية من زاوية أعم فنقول: هل دار الزمان دورته وظهر شعار الخوارج "لا حكم إلا لله" مرة أخرة بصورة تنماسب الفكر الإسلامي المعاصر بعد أن تم تنقيحه وتهذيبه بفعل التطور الفكري؟ وجرى عليه ما جرى على كثير من المصطلحات التي عادت للظهور مرة أخرى بعد أن واراها الزمن فترة بفعل عوامل متعددة أدت إلى اختفاء هذه المفاهيم – لا اندثارها – حتى تأتي فرصة لظهورها مرة أخرى.
أم أن المفهوم –في نظريته المعاصرة – مفهوم إسلامي أصيل؟ دلت عليه النصوص الشرعية ونادى به العلماء قبل ذلك، غاية ما هنالك أنه تم إبرازه والتركيز عليه نتيجة لعوامل متضافرة أثرت في إيراده بهذه الصورة، وساعدت على أن يأخذ هذا الحيز في الفكر الإسلامي المعاصر.
تفاوتت أنظار الباحثين حول هذه المسالة، بين قائل بالتأثر مطلقا، وبين من ينفيه بصورة قاطعة.
بداية ينفي الدكتور/ محمد عمارة أصالة هذا الفكر في الإسلام سواء في صورته الحديثة أم في صورته التاريخية عند الخوارج، ويرى أنه مستحدث ودخيل على الفكر الإسلامي الصحيح، وفي أثناء ذلك يربط بينهما كأنهما صورة واحدة، فيقول: ( لا شعار الحاكمية في نشأته الأولى بذي صلة حقيقية بفكر الإسلام السياسي، ولا هو في صورته المودودية بالمعبر عن الفكر الإسلامي الحديث أو ضرورات النهضة الإسلامية في إطار أمتنا العربية، إنه شعار دخيل على تراثنا القديم واجتهادنا الحديث، تخلى عنه الذين ابتدعوه قديما)( ).
ثم يقرر الصلة المباشرة بين فكر "الحاكمية" المعاصر، وبين شعار "لا حكم إلا لله" القديم، فيقول: (ثم إن تاريخ الفكر الإسلامي يدلنا على أن أول من قال بفكر " الحاكمية لله" في السياسة ونظم الحكم كانوا هو " الخوارج" عندما اعترضوا على التحكيم بين علي ومعاوية في صفين)( ).
ويرى أن "الحاكمية" في صورتها الحديثة انبعاث للفكر القديم مرة أخرى، فيقول: ( بدأت قصة أمتنا وحضارتنا مع مضمون "الحاكمية " وشعارها عندما رفض " الخوارج" الأولون – وكان جمهورهم من شباب القراء المتنسكين – سلطة كل من أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان بعد اتفاقهما على التحكيم في النزاع السياسي الناشب بينهما... ثم جاء الأستاذ أبو الأعلى المودودي منذ أقل من نصف قرن فبعث هذا الشعار، وأحيا هذه الدعوة التي بدأها الخوارج في صدر الإسلام عندما أعلنوا أنه " لا حكم إلا لله")( ).
ويتابع هذا القول عدد من الباحثين في الفكر السياسي الإسلامي، فالدكتور أحمد كمال أبو المجد( ) يقول: ( لا نملك إلا أن نلاحظ التشابه الكبير بين منهج الخوارج المعروف في تاريخ الإسلام، ومنهج هؤلاء الشباب الجدد، فالخوارج رفعوا – كما رفع هؤلاء اليوم – شعار حق أرادوا به باطلا، فقالوا: لا حكم إلا لله )( ).
وفـي موضع آخر يقول: ( الحديث عن الحاكمية بمعنى الحق في تقرير الأوامر والنواهي الملزمة للجماعة ابتداء أي حق التشريع شيء، والحديث عن أساس السلطة ومصدرها شيء آخر، والحق أن شعار " لا حكم إلا لله" منذ رفعه الخوارج في وجه علي كرم الله وجهه إلى يومنا هذا كان مبعث فتنة وباب فوضى، ومدخل تشرذم وتفرقة بين المسلمين)( ).
وعندما كثر الحديث عن " الحاكمية " في العصر الحديث قامت وزارة الأوقاف المصرية بإصدار كتاب للرد على هذه الأفكار، ونسبتها إلى فكر الخوارج القديم، جاء فيه: (" إن الحكم إلا لله" كلمة قديمة قيلت من قديم الزمان بعد مقتل عثمان ، وخرج بها قائلوها عن مدلولها الحقيقي تبعا لأهوائهم وأفكارهم)( ).
وتابع هذا القول كثير من الباحثين، قال أحدهم: (من الملحوظ أن قطب قد تأثر في إيراده لهذا المفهوم بصيحة الخوارج عشية تأسيس الدولة الأموية " لا حاكمية إلا لله")( ).
ولاحظ التشابه بين نشأة الفرق قديما ومنها الخوارج، ونشأة هذا الفكر عند سيد قطب حديثا فقال:(لكن الملاحظ أنه كلما مضى المأثور الإسلامي قدما في صياغة نظريته السياسية تفاقمت البلية واستفحلت لتحطم وحدة الجماعات الإسلامية، وهو ما قد يبدو قديما في نشأة اثنتين من أولى الفرق الإسلامية نتيجة الخلاف حول شكل نقل السلطة "الخوارج"، وحول المستفيد منها " الشيعة " وهو ما يبدو كذلك في الوقت الحاضر مع الخطاب القطبي الذي سعى إلى إقامة حاكمية الله مقررا أن الإسلام وحده عقيدة وسلوك اجتماعي)( ).
وأعلن هذا التشابه أيضا المستشار محمد سعيد العشماوي( ) حيث قرر أن (شعار الحاكمية هو نفس شعار الخوارج "لا حكم إلا لله")( ).
والأستاذ نبيل عبد الفتاح أيضا يقول: (وهذا المفهوم – الحاكمية- يستمد أصوله – بحسبانه يمثل الفكرة الانقلابية لدى سيد قطب – من المفكر الإسلامي السلفي أبو الأعلى المودودي، وبعض الأفكار في التراث الخوارجي السياسي والفقهي)( ).
وفي مقابل هذا الرأي السابق نجد رأيا لعدد من الباحثين الإسلاميين ينفي الصلة بين فكر " الحاكمية " المعاصر، وبين فكر الخوارج القديم، ويسبغ على المفهوم أصالة وشرعية، ويوضح الخلاف في أسباب الطرح بين المفهومين، وفي صياغة المفهوم لديهما.
بداية يعلن أصحاب هذا الرأي أن محاولة الربط بين المفهومين المقصود منها سحب الشرعية عن المفهوم المعاصر (وبطبيعة الحال يقصد من هذا السحب
–سحب مفهوم الحاكمية إلى الواقعة التاريخية –إضفاء ظلال من الريبة والشك حول مفهوم الحاكمية من حيث الربط بينه وبين طائفة من أهل الانحراف والغلو في التاريخ والتراث الإسلامي)( ).
هذا الربط بين الفكرين يقصد منه عدم أصالة هذا المفهوم وعدم شرعيته بربطه بمفهوم غير مقبول عند عموم المسلمين، مما يجعله خروجا عن الخط الإسلامي المستقيم (هذا الربط بين مفهوم الحاكمية وبين واقعة تاريخية محددة ينفي عن المفهوم أصالته وشرعيته التي يستمدها من وروده في القرآن والسنة، كما يصير عقد الصلة بين المفهوم وبين فكر الخوارج محاولة متعمدة أو غير متعمدة لتشويه المفهوم ورفضه، لارتباط الخوارج في تاريخ الفرق عند المسلمين بالغلو والتطرف وسفك الدماء بغير حق)( ).
ويعدد الأستاذ جمال سلطان أوجـه الخلاف بين المفهومين في أسباب الطرح، ثم في واقع المسلمين وقت طرح المفهومين، فيقرر بداية أن الخوارج لما رفعوا هذا الشعار كان الجميع معلنا خضوعه لحكم الله تعالى ولا يمكن أن يلجأ لغير حكم الله، فرفع الشعار لم يكن في محله.
(رفع الخوارج الشعار في وجه فرقاء كانوا كلهم معلنين خضوعهم لحكم الله لا يرضون به بديلا، ولا عنه محيدا، وما أرسل الطرفان المتخاصمان الحكمين إلا ليبحثا في حكم الله الواجب في المسألة مثار الخلاف، لا حكم الرومان ولا الفرس ولا عرب الجاهلية...
ومن ثم فقد كان رفع الخوارج لشعار " لا حكم إلا لله" في وجه أمير المؤمنين خطأ محضا، وانحرافا بالنص عن مواضعه، أو كما يقول الأصوليون: "غلط في تحقيق مناط الحكم" فأين ذلك الموقف التاريخي من أزمة مجتمعات المسلمين اليوم؟ إن النزاع اليوم ليس حول تطبيق حكم، أو تحقيق مناطه، وإنما النزاع في صلب التصور وقوام الاعتقاد، أي أن الخلاف يقع حول تحديد المرجعية العليا للحكم والتشريع والتوجيه والتقييم في حياة المسلم: القرآن والسنة، أم ما دونهما؟ وشتان بين هذا الخلاف وذاك)( ).
فالشعار في مفهومه المعاصر وُوجه به مجتمع يختلف تماما عن المجتمع الذي واجهه الخوارج قديما، فشتان بين مجتمع يعلن خضوعه لحكم الله تعالى، ويقرر مرجعية الشرع في الحكم، وبين مجتمع يجادل في هذا الحق.
ثم إن الخلاف قديما لم يثر إلا حول مسألة "الإمامة" وما يتعلق بها، مع كون سائر أمور الأمة تخضع لحكم الله تعالى، في حين أن الخلاف في العصر الحديث ليس بهذه الصورة، وإنما هو حول مرجعية الأمة في أحكامها وتصوراتها ومفاهيمها، وهذه نقطة خلاف جوهرية بين طرح المفهوم قديما وحديثا.
(الخلاف الذي وقع في صدر الأمة قد كان حول جزئية معينة من جزئيات عديدة في حياة المسلمين، وهي مسالة " أحقية الإمامة" في حين كان بنيان الأمة كله منضبطا وفق حكم الله وهديه وشرعه في العقيدة والتصور والعبادة.
أما نحن اليوم فليس يخفى علينا أن الأمة قد تعرضت لغزو فكري وثقافي وأدبي واجتماعي، أي " حضاري كامل " من قبل أمم أخرى في لحظات ضعف وانهيار وتخلف استطاعت فيها تلك الأمم أن تخلخل بنية المجتمع المسلم خلخلة عنيفة، وأن تصوغ الكثير من مبررات المسلم ورؤاه ومفاهيمه حسب الرؤية الغربية بعيدا عن الإسلام وتصوراته ورؤاه.
واستطاعت أيضا أن توجد مواطن أقدام للتشريعات الوضعية الأجنبية فــي النظم التشريعية والقضائية فـي بلاد الإسلام، مما أثار الاضطراب والخلل في ضمائر المسلمين ومجتمعاتهم... فضلا عن اضطراب أصولنا التشريعية من جذورها، لاختلاف مناهج وأصول النظر في فقه الإسلام عن مناهج وأصول النظر في الفقه الوضعي مما انتهى إلى تكريس وضعية العلمانية كحقيقة واقعية مدعومة بقوة القانون.
هذه حقائق واضحة ومؤسفة تجعل من العبث مقارنة وضعية مسألة " الحاكمية " كما طرحها الخوارج بوضعيتها في مجتمعاتنا المعاصرة، وتكشف لنا عن حجم الزيف والباطل الذي تأتي به محاولات سحب القضية إلى الحدث التاريخي القديم)( ).
فالفرق بين المفهوم قديما وحديثا يتمثل في أسباب القول بهذا المفهوم وإطلاقه، وفي الحالة التي واجهها وقت أن تم طرحه، هل كانت تستدعي هذا الطرح أم لا؟
ثم إن مقصود القائلين به حديثا تعدى المفهوم الذي نادى به الخوارج قديما إلى مفهوم أوسع وأشمل (يتبين وجه الافتراق بين شعار الحاكمية المطروح اليوم وبين شعار " لا حكم إلا لله" الذي طرحه الخوارج، فالداعون إلى الحاكمية لا يقولون بسلب الناس إمكانية تطبيق الحكم، بل يقولون بالسيادة المطلقة لحكم الله التي هي من لوازم الإسلام)( ).
ويرى أحد الباحثين المتخصصين في فكر الأستاذ سيد قطب -الدكتور صلاح عبد الفتاح الخالدي –أنه إذا كان الخوارج رفعوا شعار "لا حكم إلا لله" ونادوا به، فليس معنى ذلك رفض هذا الشعار والإعراض عنه بالكلية، بل من الممكن استخدامه بالصورة الصحيحة التي تؤيدها النصوص الشرعية وتزيل عنه سوء الفهم الذي لحق به.
(صحيح أن الخوارج هم أول من رفعوا هذا الشعار وأطلقوا هذه الصيحة، وأدانوا بها الخليفة الراشد علي بن أبي طالب ، وحكموا عليه بالكفر بسببها، لكن استخدامهم لهذا الشعار لا يعني رفضه وطرحه طالما أن النصوص الشرعية تشير إليه، غاية ما في الأمر أن نخطئ الخوارج في استغلاله وسوء استخدامه ونزيل ما علق به من ظلمهم وتجنيهم وسوء فهمهم، ونعيد إليه أصالته ونقاءه، ونستعمله بعد ذلك ببعده الإسلامي الصحيح)( ).
والأستاذ سيد قطب نفسه –من أشهر من نادى بالمفهوم في العصر الحديث – ينفي أن يكون قد استقاه من فكر الخوارج، أو أن لديه خلفية تاريخية مسبقة قبل أن ينادي بهذا المفهوم، فيقول في التحقيقات التي أجريت معه ( سأله صلاح نصر: ما مدلول الحاكمية في رأيك؟ فأجاب: أن تكون شريعة الله هي قاعدة التشريع. فسأله:
ومتى نودي بهذه العبارة فيما تعرف؟ قال: ده تعبير استقيته أنا من دراستي للإسلام. فسأله: ألا تعرف أن هذه الكلمة قالها الخوارج قديما، وقد قال عنها الإمام علي: إنها كلمة حق أريد بها باطل؟ فقال: أنا لا أتذكر موضعها هذا من التاريخ، ولم أكن أعيها عندما استعملتها، وإنما كنت أعني أن تكون شريعة الله هي قاعدة التشريع، وبما أن الله لا ينزل بذاته للتحكيم وإنما أنزل شريعته ليحكم بها، فحاكميته سبحانه وتعالى تتحقق عن طريق تحكيم شريعته كما تقول النصوص القرآنية بألفاظها. فسأله: ألم تنقل هذه الأفكار من مؤلفات أبي الأعلى المودودي؟ قال: أنا انتفعت بكتبه وغيرها من الكتب أثناء دراستي للإسلام. فسأله: وما الفرق بين ما تنادي به وما ينادي به أبو الأعلى المودودي؟ أجاب: لا فرق)( ).
وبعد هذا العرض يمكن تقرير ما يلي:
بداية: كل من تكلم عن التشابه بين مفهوم "الحاكمية" المعاصر وبين فكر الخوارج إنما كان يقصد قول الخوارج "لا حكم إلا لله"، وهي الكلمة المأثورة عن الخوارج في هذه المسألة.
وقبل بيان مدى التشابه بين المفهومين يمكن القول: إن الكلمتين –نظريا– لهما أصل إسلامي وقبول شرعي.
أما شعار الخوارج، فهو كلمة شرعية وردت في كتاب الله تعالى في أكثر من موضع، ووصفها الإمام عليّ  لما قيلت بأنها " كلمة حق"، وكذلك مفهوم " الحاكمية " بمعنى إفراد الله تعالى بحق التشريع والأمر والنهي، فهذا لا اعتراض عليه شرعا، وقد سبق بيان ذلك في مبحث " الحاكمية عند أهل السنة".
أما مصدر هذا المفهوم لدى المعاصرين، فالظاهر أنه كان فهما استقوه من مطالعة النصوص الشرعية – قرآن وسنة – ومحاولة صياغتها في نظرية محكمة تؤدي المعنى المراد منها دون الاطلاع على التراث الخارجي الخاص بتلك المسألة، حسبما قرر ذلك أحد أقطاب هذا الفكر في كلام صريح لا لبس فيه.
ثم إنه إذا كان هناك تشابه ملحوظ بين الفكرين، فلا مانع أن يأخذ العالم مصطلحا أسيء فهمه عبر التاريخ، وفهم منه غير المقصود منه، فيزيل عنه ما لحقه من سوء فهم ويضع هذا المفهوم في موضعه الصحيح من الدين، وينزل النصوص الشرعية الواردة فيه في موضعها دون إفراط أو تفريط، ويكون في هذه الحالة قد تأثر بورود المصطلح قديما فقط، دون أن يكون لمضمونه الذي شاع قديما نصيب في التأثير في مضمونه الحديث.
لكن ثمة وجه شبه يلحظ بين استعمال المصطلح قديما وحديثا، وهو أنه إذا كان المصطلح له أصل شرعي ولا يجوز الاعتراض عليه فإن الاعتراض يوجه إلى ما أُريد من هذا المصطلح وما ترتب عليه.
فشعار الخوارج –في حد ذاته – صحيح، لكنهم أرادوا منه غير ما وضع له، وهو ما نبه إليه سيدنا عليّ  لما قال: "كلمة حق أريد بها باطل " فالذين أطلقوا هذا الشعار أرادوا به غير ما وضع له من الاستعمال الشرعي، وكان وسيلة لهم إلى التحلل من سلطة الخلافة، وعدم الاعتراف بشرعية الخليفة، وكان ذريعة إلى شق عصا الطاعة بالخروج عن جماعة المسلمين، ومحاربتهم بدعوى أنهم ليس لهم حق في الحكم، وبدعوى شرعية الخروج على حكم الجور والفساد.
وكذلك الحال في العصر الحديث، لما أطلق أصحاب هذا الفكر أفكارهم، وصححوا مفهومها بين الناس، وأعادوا لها صورتها الشرعية الحقيقية المبنية على الأصول الإسلامية دون زيادة على المفهوم الشرعي للمصطلح تلقفها من أتى بعدهم وأساء فهمها، واستعملها في غير موضعها من الدين، ونسب كل ذلك إلى قائليها( ).
وقد يكون لذلك سبب عند القائلين بهذا المفهوم، وهو أنهم أبرزوه بصورة كبيرة وأكثروا من الحديث عنه، مما جعل من أتى بعدهم يحسبه أصل الدين.
لكن هذا النقد لا يوجه إلى أصحاب هذا الفكر، تماما كما أن شعار " لاحكم إلا لله" في حد ذاته – بحسبانه شعارا قرآنيا – لا يمكن أن يوجه إليه نقد.
هذا ما أردت إثباته في هذه المسألة، والله المستعان.

المطلب الرابع
آيات الحكم بغير ما أنزل الله في الفكر المعاصر
تبين لنا فيما سبق أن منهج أهل السنة في آيات الحكم بغير ما أنزل الله تعالى هو التفصيل، وأن منهج الخوارج هو إطلاق الكفر على من لم يحكم بما أنزل الله دون تفصيل.
وبتنزيل كلام الخوارج على الفكر المعاصر نجد أن كثيرا من الجماعات الإسلامية المعاصرةيرون إطلاق الكفر في المسألة دون تفصيل.
بداية يقررون أنه ليس هناك وجه لتخطئة القائلين بأن الكفر في الآية المراد به الكفر الأكبر المخرج عن الملة دون تفصيل، لأن هناك من السلف من قال بذلك ( من السلف من جعل الكفر في الآية كفرا أكبر ينقل عن الملة، ومنهم من قال بغير ذلك، وعلى ذلك فلو قال قائل: إن كل من حكم بغير ما أنزل الله فهو كافر كفرا أكبر يخرج عن الملة لكان له سلف فيما ذهب إليه)( ).
ومن هذا المنطلق يذهبون إلى تعميم الحكم بالكفر على من لم يحكم بما أنزل الله دون تفصيل استلالا بظاهر الآية الكريمة â `tBur óO©9 Oä3øts† $yJÎ/ tAt“Rr& ª!$# y7Í´¯»s9'ré'sù ãNèd tbrãÏÿ»s3ø9$# á( ).
ففي التعليق عليها يذهب البعض إلى أن (الحق الذي لا مراء فيه في هذه الآية، وهو الرأي المؤيد المنصور: أن الآية عامة في أهل الكتاب وغيرهم، شاملة اليهود والنصارى والمسلمين، وأن الحاكم بغير ما أنزل الله كافر، وأن الكفر فيها هو الكفر المخرج من الملة)( ).
وفي الكلام عن الكفر والمكفرات، يذهب الأستاذ أحمد البيانوني إلى أن (الحكم بغير ما أنزل الله كفر، قال تعالى: â `tBur óO©9 Oä3øts† $yJÎ/ tAt“Rr& ª!$# y7Í´¯»s9'ré'sù ãNèd tbrãÏÿ»s3ø9$# á ومن ذلك تعطيل الحدود الجزائية وإبدالها بقوانين جزائية أخرى)( ).
ويرون أن أوصاف الظلم والفسق المذكورة في قول الله تعالى: â `tBur óO©9 Nà6øts† $yJÎ/ tAt“Rr& ª!$# y7Í´¯»s9'ré'sù ãNèd tbqßJÎ=»©à9$# á( )، â `tBur óO©9 Nà6øts† $yJÎ/ tAt“Rr& ª!$# y7Í´¯»s9'ré'sù ãNèd šcqà)Å¡»xÿø9$# á( ).
يقول صالح سرية – بعد أن ذكر أن الحكم القائم في بلاد المسلمين حكم كافر – يقول: (والنص القاطع في ذلك قوله تعالى: â `tBur óO©9 Oä3øts† $yJÎ/ tAt“Rr& ª!$# y7Í´¯»s9'ré'sù ãNèd tbrãÏÿ»s3ø9$# á، â `tBur óO©9 Nà6øts† $yJÎ/ tAt“Rr& ª!$# y7Í´¯»s9'ré'sù ãNèd tbqßJÎ=»©à9$# á،
â `tBur óO©9 Nà6øts† $yJÎ/ tAt“Rr& ª!$# y7Í´¯»s9'ré'sù ãNèd šcqà)Å¡»xÿø9$# á. وقد سبق أن الظلم والفسق في لغة القرآن تطلق على الكفر والشرك والنفاق )( ).
فالكفر الوارد في الآية لا يحمل – عندهم – على الكفر الأصغر على الإطلاق، وإنما يراد به الكفر الأكبر أو الكفر الاعتقادي المخرج عن الملة ( إن كفر الحاكم بغير ما أنزل الله أخف من كفر من كفر بالله وملائكته، ولا يعني هذا أن الحاكم مسلم وأن كفره أصغر، كلا بل هو خارج عن الدين لتنحيته الشرع)( ).
بل يذهب البعض إلى تخطئة ابن عباس – رضي الله عنهما – في قوله "كفر دون كفر"، ويرى أن أقوال الصحابة والتابعين تعارضه معارضة صحيحة فهو قول مردود مرجوح، يقول: ( وقد خَطَّأ ابن عباس رضي الله عنهما في تأويله للكفر في قوله : â `tBur óO©9 Oä3øts† $yJÎ/ tAt“Rr& ª!$# y7Í´¯»s9'ré'sù ãNèd tbrãÏÿ»s3ø9$# á بالكفر غير المخرج من الملة جماعة من علماء السلف، منهم عبد الله بن مسعود( ) ، فعنه  قال: "الرشوة في الحكم كفر، وهي بين الناس سحت"، وقال أبو وائل شقيق بن سلمة( ) –أحد أئمة التابعين-: (القاضي إذا أخذ الهدية فقد أكل السحت، وإذا أخذ الرشوة بلغت به الكفر )( ).
ويستدل بكلام لابن كثير( ) في تفسير قول الله تعالى: â zNõ3ßssùr& Ïp¨ŠÎ=Îg»yfø9$# tbqäóö7tƒ 4 ô`tBur ß`|¡ômr& z`ÏB «!$# $VJõ3ãm 5Qöqs)Ïj9 tbqãZÏ%qムá( ).
حيث يقول: (ينكر تعالى على من خرج على حكم الله المحكم المشتمل على كل خير الناهي عن كل شر وعَدَل إلى ما سواه من الآراء والأهواء والاصطلاحات التي وضعها الرجال بلا مستند من شريعة الله، كما كان أهل الجاهلية يحكمون به من الضلالات والجهالات بما يضعونها بآرائهم وأهوائهم، وكما يحكم به التتار من السياسات الملكية المأخوذة عن ملكهم جنكيز خان الذي وضع لهم الياسق، وهو عبارة عن كتاب مجموع من أحكام اقتبسها من شرائع شتى من اليهودية والنصرانية والملة الإسلامية وغيرها، وفيها كثير من الأحكام أخذها من مجرد نظره وهواه، فصارت في بنيه شرعا متبعا يقدمونها على الحكم بكتاب الله وسنة رسوله ، فمن فعل ذلك فهو كافر يجب قتاله حتى يرجع إلى حكم الله ورسوله فلا يحكم سواه في قليل ولا كثير)( ).
ويعلق على هذا الكلام وما سبق من أقوال قائلا: (فهذه الأقوال وغيرها مما يعارض ما قال ابن عباس رضي الله عنهما معارضة صريحة هي بمثابة تخطئة من قائليها لما ذهب إليه ابن عباس رضي الله عنهما)( ).
وفي هذا جرأة عظيمة على كلام ابن عباس ومقامه رضي الله عنهما الذي دعا له النبي : «اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل»( )، كيف ذلك وكلام ابن عباس يمكن حمله على أقواله الأخرى في المسألة التي توضح المقصود منه، لكن الانتقاء في الفتوى، وفي اختيار الأدلة يدفع صاحبه إلى تخطئة الصحابة رضوان الله عليهم.
ويرون أن اشتراط الجحود أو الاستحلال في الحكم بالكفر ليس شرطا مشروعا، ولم يشترطه القرآن أو السنة المطهرة ( أما شرط الاستحلال أو الجحود القلبي أو اللساني فشرط زائد متكلف، ما اشترطه عقل ولا كتاب ولا سنة، ولا يجيزه التعامل الواقعي الملموس بين الناس، فإن العقل والواقع والشرع كل هؤلاء لا يفرق من حيث النتيجة الحقيقية بين من جحد حقا لأحد من الناس بلسانه، وبين من أمر به ثم اشتركا جميعا في منعه وجحده بالسلوك والجارحة، بل لعل المقر بلسانه الجاحد بسلوكه أكبر جرما عند الناس، وأغيظ لهم من الآخر)( ).
فمناط الكفر في الحكم بغير ما أنزل الله تعالى ليس الاستحلال والجحود فقط، بل هو ذنب مكفر بذاته، ويرد الشيخ عبد القادر عبد العزيز( ) على من يقول إن الحكام لا يكفرون إلا إذا جحدوا حكم الله، أو إذا استحلوا الحكم بغيره بقوله: (إن الجحد والاستحلال مناطات مكفرة، ولكنها ليست من مناطات التكفير الواردة في الآيات الدالة على كفر الحكام، كمناط ترك حكم الله والحكم بغيره في قوله تعالى {ومن لم يحكم} الآية. والذنوب المكفرة بذاتها كالحكم بغير ما أنزل الله لا يشترط للتكفير بها جحد أو استحلال، بل من اشترط هذا فقد قال بقول غلاة المرجئة الذين أكفرهم أهل السلف)( ).
فترك الحكم بما أنزل الله – أي تحكيم القوانين الوضعية – يشتمل على مناطات مكفرة عديدة منها:
1- ترك الحكم بما أنزل الله؛ لأن الحكم بالقوانين الوضعية في مسألة ما يلازمه ترك الحكم بما أنزل الله فيها.
2-اختراع شرع مخالف لشرع الله وهي القوانين الوضعية نفسها.
3- الحكم بغير ما أنزل الله، أي الحكم بهذا الشرع المخالف لشرع الله)( ).
بل يذهب البعض إلى أبعد من ذلك فيرى أن مخالفة واحدة لحكم الله تعالى في قضية واحدة أو مسألة واحدة كفر بالله تعالى واتخاذ لغيره ربا (هذا حكم صريح واضح من جبار السماوات والأرض بأن متبع التشريعات الوضعية ولو في قضية أو مسألة واحدة أنه مشرك بالله تعالى، قد اتخذ غير الله ربا وإن لم يسجد له ويصلي ويركع)( ).
وهذا مما يخالف منهج أهل السنة الذي سبق عرضه، مـن أن هذه المخالفة من الممكن أن تكون عن هوى وشهوة مع كونه مقرا بحكم الله معترفا بتقصيره.
وهم يردون على تعميم عدم تكفير الحاكم بغير ما أنزل الله بتعميم القول بتكفير من لم يحكم بما أنزل الله، يقول بعضهم: (بالأمس سمعت على التلفاز إنسانا معمما يقول: بأن الحكم بغير ما أنزل الله تعالى لا يعد كفرا بالله تعالى، بالله عليكم هل من إنسان أجرأ على الله تعالى وعلى كتاب الله من شيخ معمم يقول بأن الحكم بغير ما أنزل الله لا يعد كفرا؟! ألم يقل الله تعالى في القرآن الكريم: â `tBur óO©9 Oä3øts† $yJÎ/ tAt“Rr& ª!$# y7Í´¯»s9'ré'sù ãNèd tbrãÏÿ»s3ø9$# á، â y7Í´¯»s9'ré'sù ãNèd tbqßJÎ=»©à9$# á، â y7Í´¯»s9'ré'sù ãNèd šcqà)Å¡»xÿø9$# á. أوصاف ثلاثة هي أشنع أوصاف أنزلها الله في حكام العرب الذين يحكمون بغير ما أنزل الله وبحكام الكفر العالمي)( ).
مع أن منهج أهل السنة متوسط بين هذا وذاك، فهو وسط بين إفراط وتفريط.
وقد تبنت الجماعات الإسلامية هذا الفكر ليصلوا منه إلى نتيجة مؤداها أنه يجوز الخروج على هؤلاء الحكام وخلعهم، بل وقتالهم لأنهم كفار لا يحكمون بما أنزل الله (الجامعات الإسلامية التي تتبنى خط العمل المسلح لإقامة الدولة الإسلامية بنت مشروعها في العمل المسلح على أساس مقدمتين، الأولى: أن الإجماع انعقد على عزل الحاكم إذا كفر ولو أدى ذلك إلى جهاده الذي يصبح فريضة في هذه الحالة. والثانية: أن حكام المسلمين اليوم قد كفروا لأنهم قد حكموا بغير ما أنزل الله. النتيجة: وجوب قتال النظام الحاكم بغير ما أنزل الله وإقامة النظام الإسلامي البديل على أنقاضه)( ).
مع أن المقدمتين المذكورتين تحتاجان إلى تفصيل.
كان هذا فهم الجامعات الإسلامية المعاصرة لآيات الحكم بغير ما أنزل الله تعالى، وواضح أن هناك فروقا بينه وبين منهج أهل السنة في المسألة الذين يقررون التفصيل في إطلاق الحكم بين الترك الكلي والترك الجزئي، أو بين الترك الناتج عن الجحود لأصل التحاكم إلى الشريعة، وبين الترك لحكم معين في واقعة معينة.
ويلحظ هنا وجده شبه بين قولهم وبين رأي الخوارج في إطلاق القول بتكفير من لم يحكم بما أنزل الله نتيجة لقولهم بكفر مرتكب الكبيرة.
نعم قد يقبل كلامهم في الحكم على من لم يحكم بما أنزل الله إذا عرض بالصورة التي عرضها أهل السنة من التفصيل، ويتم تنزيل الحكم على كل حالة بعينها من الحالات التي تواجههم، وفي هذه الحالة يوجد من بين الحالات المعاصرة من يتنزل كلامهم عليه بصورة ما دون تعميم أو إطلاق للقول.

الفصل الرابع
الخروج على الحاكم
ويشتمل على ثلاثة مباحث:-
المبحث الأول: الخروج على الحاكم عند أهل السنة.
المبحث الثاني: الخروج على الحاكم عند الخوارج.
المبحث الثالث: أثر رأي الخوارج في الفكر الإسلامي المعاصر.

المبحث الأول
الخروج على الحاكم عند أهل السنة
المقصود بالخروج على الحاكم الثورة المسلحة لخلعه بالقوة، وهذه القضية قد أثيرت في صدر الإسلام منذ الخروج الذي قام الدهماء على الخليفة الثالث عثمان بن عفان ، وقد أثير خلاف بين العلماء بين مؤيد ومعارض ومتحفظ حول مبدأ الخروج، ومدى إمكانية تطبيقه في واقع المسلمين، ويمكننا مناقشة هذه القضية عند أهل السنة بالنظر إلى الحاكم وصفته، فأقول: -
الحاكم إما أن يكون عادلا مقسطا، أو كافرا مرتدا، أو ظالما فاسقا، ولكل واحد من هؤلاء حكم في الشرع.
1- الخروج على الحاكم العادل:-
يحرم الخروج على الحاكم العادل مطلقا، باتفاق العلماء، ويجب الوفاء بالبيعة، ويدل على ذلك الآيات والأحاديث التي تأمر بالطاعة لولي الأمر من المسلمين â $pkš‰r'¯»tƒ tûïÏ%©!$# (#þqãYtB#uä (#qãè‹ÏÛr& ©!$# (#qãè‹ÏÛr&ur tAqߙ§9$# ’Í<'ré&ur ͐öDF{$# óOä3ZÏB á( ).
والحاكم العادل بشر، عرضة للخطأ فهو غير معصوم، لكنه إذا كان حريصا على الاستغفار من الذنب، والرجوع إلى الله تعالـى، وإقامة العدل ما أمكنه ذلك فهو بهذا من أئمة العدل الواجب اتباعهم وطاعتهم، والذين يحرم الخروج عليهم بأي صورة.
2- الخروج على الحاكم الكافر:-
أجمع العلماء على أن إمامة الكافر ابتداء لا تصح، فلا يجوز أن يتولى أمور المسلمين، وأنه لو طرأ الكفر على الحاكم وجب أن يعزل، وأن يخرج عليه المسلمون ما أمكنهم ذلك، وعليهم السعي في إيجاد طريق للخلاص منه مهما كلفهم ذلك من جهد.
قال ابن حجر: ( إذا وقع من السلطان الكفر الصريح فلا تجوز طاعته في ذلك، بل تجب مجاهدته لمن قدر عليها)( ).
ويجب على كل مسلم – في هذه الحالة – أن يقوم بدور في خلع هذا الإمام قدر طاقته، كما قال ابن حجر: (فيعزل بالكفر إجماعا، فيجب على كل مسلم القيام في ذلك، فمن قوي على ذلك فله الثواب، ومن داهن فعليه الإثم، ومن عجز وجبت عليه الهجرة عن تلك الأرض)( ).
ودليل ذلك حديث عبادة بن الصامت: دعانا رسول الله  فبايعناه فقال فيما أخذ علينا: أن بايعنا على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا، وعسرنا ويسرنا، وأثرة علينا، وأن لا ننازع الأمر أهله إلا أن تروا كفرا بواحا عندكم من الله فيه برهان( ).
فهذا الحديث مستند في أنه إذا وقع من السلطان الكفر الصريح فلا تجوز طاعته، ويجب الخروج عليه، قال الإمام الجويني: (الإسلام هو الأصل والعصام، فلو فرض انسلال الإمام عن الدين لم يخف انخلاعه، وارتفاع منصبه وانقطاعه)( ).
3- الخروج على الحاكم الفاسق أو الجائر:-
اختلف العلماء في هذه المسألة اختلافا كبيرا، تبعا لاختلافهم في فهم النصوص الشرعية ومدى التوفيق بينها من ناحية، ومن ناحية أخرى تبعا لمراعاة الواقع واختلاف الأزمان والأحوال، فتعددت أقوالهم وتنوعت، لكن يمكن القول: إن جميعها يُرد إلى مذهبين: مذهب يرى تحريم الخروج على الأئمة الظلمة، وآخر يرى جوازه، وسوف أفصل القول في بيان المذهبين مع أدلتهما إن شاء الله تعالى:-
المذهب الأول: تحريم الخروج على أئمة الجور:-
وهذا المذهب منسوب لجمهور أهل السنة والجماعة الذين لا يرون الخروج على الأئمة الظلمة ما لم يصل ظلمهم إلى حد الكفر، وهذا القول منسوب إلى عدد من الصحابة( ).
وقد ادعى بعض العلماء الإجماع على ذلك؛ كالنووي حيث قال: (وأما الخروج عليهم وقتالهم فحرام بإجماع المسلمين وإن كانوا فسقة ظالمين، وقد تظاهرت الأحاديث بمعنى ما ذكرته، وأجمع كل أهل السنة أنه لا ينعزل السلطان بالفسق)( ).
وفي دعوى الإجماع نظر؛ لأن هناك من أهل السنة من خالف في ذلك، كما سيأتي في تقرير المذهب الثاني.
وقد دفع ابن حجر هذا الاعتراض بقوله في ترجمة "الحسن بن صالح الهمذاني الثوري"( ) قال: ( وقولهم: "كان يرى السيف" يعني كان الخروج بالسيف على أئمة الجور، وهذا مذهب للسلف قديم، لكن استقر الأمر على ترك ذلك لما رأوه قد أفضى إلى أشد منه)( ).
وقد استدل أصحاب هذا المذهب بأدلة كثيرة نذكر منها ما يلي:
أولاً: الأحاديث الواردة في الأمر بالطاعة والصبر على جور الأئمة:-
1- حديث عبادة بن الصامت أن رسول الله  دعانا فبايعنا على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا، وعسرنا ويسرنا، وأثرة علينا، وأن لا ننازع الأمر أهله إلا أن تروا كفرا بواحا عندكم من الله فيه برهان( ).
فالحديث صريح في طاعة ولي الأمر ما لم يصل إلى حد الكفر الصريح الواضح الذي قامت عليه البينة.
2- حديث أم سلمة( ) زوج النبي  أنه قال: «إنه يستعمل عليكم أمراء فتعرفون وتنكرون، فمن كره فقد برئ، ومن أنكر فقد سلم، ولكن من رضي وتابع. قالوا: يا رسول الله ألا نقاتلهم؟ قال: لا ما أقاموا فيكم الصلاة»( ).
3- عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال النبي : «من رأى من أميره شيئا يكرهه فليصبر؛ فإنه ليس أحد يفارق الجماعة شبرا فيموت إلا مات ميتة جاهلية»( ).
4- عن عوف بن مالك( )  أن رسول الله  قال: «خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم، ويصلون عليكم وتصلون عليهم، وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم، وتلعنونهم ويلعنونكم، قيل: يا رسول الله أفلا ننابذهم بالسيف؟ فقال: لا ما أقاموا فيكم الصلاة، وإذا رأيتم من ولاتكم شيئا تكرهونه فاكرهوا عمله ولا تنزعوا يدا من طاعة»( ).
فالحديث يبين أن العدل هو أن تكره ما يفعله هؤلاء الولاة مع عدم الخروج على طاعتهم ما داموا مقيمين الصلاة، قال الشوكاني: «فيه دليل على أن من كره بقلبه ما يفعله السلطان من المعاصي كفاه ذلك، ولا يجب عليه زيادة عليه»( ).
5- عن حذيفة  قال: قلت: يا رسول الله إنا كنا بِشَر فجاء الله بخير فنحن فيه، فهل من وراء هذا الخير شر؟ قال: «نعم». قلت: فهل وراء ذلك الشر خير؟ قال: «نعم». قلت: فهل وراء ذلك الخير شر؟ قال: «نعم». قلت: كيف؟ قال: «يكون بعدي أئمة لا يهتدون بهداي ولا يستنون بسنتي، وسيقوم فيهم رجال قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان إنس» قال: قلت: كيف أصنع يا رسول الله إن أدركت ذلك؟ قال: «تسمع وتطيع للأمير وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك فاسمع وأطع»( ).
في الحديث دليل على وجوب الصبر على ظلم الأئمة وجورهم. قال الشوكاني: (فيه دليل على وجوب طاعة الأمراء وإن بلغوا في الفسق والجور إلى ضرب الرعية وأخذ أموالهم)( ).
ففي هذه الأحاديث – وغيرها كثير – ما يدل على وجوب الصبر على ظلم الأئمة وجورهم، وعدم جواز الخروج عليهم، وقد بلغت هذه الأحاديث مبلغ التواتر المعنوي( ).
ثانيا: الحديث الدال على أن الله يؤيد الدين بالرجل الفاجر:-
قال : «إن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر»( ).
فقد يكون الإنسان فاجرا لكنه مع ذلك قد ينصر الدين (فإذا كان الدين قد يؤيد وينصر بسبب رجل فاجر ولا يضر الدين فجوره، فلا يجوز الخروج على الأئمة الفجرة لمجرد فجورهم، لأن فجور الفاجر منهم لا يضر هذا الدين، وإنما ضرره على نفسه)( ).
ثالثاً: موقف الصحابة المعتزلين للفتنة:-
فقد اعتزل عدد من الصحابة الفتنة، وكذلك موقف السلف -رضي الله عنهم- من حكم بني أمية وبني العباس، وقد كان في بعض خلفائهم فسق وجور، وقد قال الحسن البصري في الحجاج: (إن الحجاج عذاب الله، فلا تدافعوا عذاب الله بأيديكم، ولكن عليكم الاستكانة والتضرع فإن الله تعالى يقول: â ô‰s)s9ur Nßg»tRõ‹yzr& É>#x‹yèø9$$Î/ $yJsù (#qçR%s3tGó™$# öNÍkÍh5tÏ9 $tBur tbqã㧎|ØtGtƒ á( ) ( ).
والأدلة على هذا الرأي كثيرة، لذلك قال القاضي أبو بكر الباقلاني: (قال الجمهور من أهل الإثبات وأصحاب الحديث: لا ينخلع الإمام لفسقه وظلمه بغصب الأموال وضرب الأبشار وتناول النفوس المحرمة وتضييع الحقوق وتعطيل الحدود، ولا يجب الخروج عليه، بل يجب وعظه وتخويفه، وترك طاعته في شيء مما يدعو إليه من معاصي الله، واحتجوا في ذلك بأخبار كثيرة عن النبي  وعن الصحابة في وجوب طاعة الأئمة وإن جاروا واستأثروا بالأموال)( ).
المذهب الثاني: جواز الخروج على أئمة الجور:-
ذهب طوائف من أهل السنة إلى أن سل السيوف واجب إذا لم يمكن دفع المنكر إلا بذلك، وهذا القول منسوب إلى عدد من الصحابة رضوان الله عليهم، منهم: علي وكل من معه من الصحابة، وأم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- وطلحة والزبير وكل من كان معهم من الصحابة، وقول معاوية وعمرو وكل من كان معهم من الصحابة... الخ( ).
وبعد أن ذكر ابن حزم عددا من الصحابة والتابعين والفقهاء؛ قال: (فإن كل من ذكرنا من قديم وحديث، إما ناطق بذلك في فتاواه وإما فاعل لذلك بسل سيفه في إنكار ما رأوه منكرا)( ).
وقد استدل أصحاب هذا المذهب بأدلة منها:-
1- قول الله تعالى: â bÎ)ur Èb$tGxÿͬ!$sÛ z`ÏB tûüÏZÏB÷sßJø9$# (#qè=tGtGø%$# (#qßsÎ=ô¹r'sù $yJåks]÷t/ (.bÎ*sù ôMtót/ $yJßg1y‰÷nÎ) ’n?tã 3“t÷zW{$# (#qè=ÏG»s)sù ÓÉL©9$# ÓÈöö7s? 4Ó®Lym uäþ’Å"s? #’n<Î) ̍øBr& «!$# 4 bÎ*sù ôNuä!$sù (#qßsÎ=ô¹r'sù $yJåks]÷t/ ÉAô‰yèø9$$Î/ (#þqäÜÅ¡ø%r&ur ( ¨bÎ) ©!$# =Ïtä† šúüÏÜÅ¡ø)ßJø9$# á( ).
فالآية تأمر بقتال الفئة الباغية، سواء كانت هذه الفئة مع الإمام أو ضده، الشرط أن تكون باغية، وهي في هذه الآية موصوفة بأنها مؤمنة فلم تصل إلى حد الكفر البواح الذي يوجب الخروج والقتال.
2- الأحاديث الواردة في الخروج على الحاكم الظالم:-
وردت عدة أحاديث تفيد جواز الخروج على الأئمة الجائرين، منها:-
أ– عن عقبة بن مالك( ) قال:بعث النبي  سرية فسلحت رجلا منهم سيفا، فلما رجع قال:لو رأيت ما لامنا رسول الله  قال: «أعجزتم إذ بعثت رجلا منكم فلم يمض لأمري أن تجعلوا مكانه من يمض لأمري»( ).
فالحديث يدل على أن الإمام إذا لم يتبع سنة النبي  فللأمة أن تخلعه وتعين مكانه من يسير على منهاج النبي .
ب – قال : «ما من نبي بعثه الله قبلي إلا كان من أمته حواريون وأصحاب، يأخذون بسنته ويقتدون بأمره، ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل»( ).
قال الحافظ ابن رجب في تعليقه على الحديث: (وهذا يدل على جهاد الأمراء باليد)( ).
3- فعل الصحابة والسلف رضوان الله عليهم:-
فكثير من الصحابة رضوان الله عليهم لم يروا أن الكفر هو المبرر الوحيد للخروج على الإمام، بل يرون جواز الخروج على الأئمة الظلمة.
فالصحابة كانوا في زمان عليّ على ثلاثة أقسام:-
الأول: عليّ ومن معه، الثاني: من كان مع معاوية، الثالث: الذين توقفوا.
فأما عليّ ومن معه فلو أنهم يعلمون أنه لا يصح الخروج إلا في حالة الكفر لكان هذا وحده كافيا في الاحتجاج على من خالفهم، ولاشتهر ذلك عنهم، ومع هذا لم ينقل ذلك عنهم.
وأما طلحة والزبير وأهل الشام فلو أنهم يعلمون أن سبب الخروج لا يكون إلا الكفر ثم خرجوا وقاتلوا لكانوا مستحلين لمقاتلة الإمام وليسوا مجتهدين مخطئين، ولو كانوا يعلمون ذلك ولم يخرجوا حتى كفر عليّ لأظهروا ذلك.
وأما الذين توقفوا فلم ينقل عنهم أن سبب توقفهم هو أن أحدا من الفئتين لم يكفر فلا يجوز الخروج عليه، بل الثابت أن توقفهم كان عن اجتهاد ووجهة نظر، إذ رأوها فتنة لم يتبين لهم فيها وجه الحق( ).
ومما يؤيد موقف الصحابة في هذه المسالة قول عمر : (لوددت أني وإياكم في سفينة في لجة البحر، تذهب بنا شرقا وغربا، فلن يعجز الناس أن يولوا رجلا منهم، فإن استقام اتبعوه وإن جنف قتلوه، فقال طلحة: وما عليك لو قلت: وإن تعوج عزلوه. فقال عمر: القتل أنكى لمن بعده)( ).
4- آراء الأئمة:-
عد ابن حزم الأئمة الثلاثة – أبا حنيفة ومالكا والشافعي – ممن يرى سل السيوف في الإنكار على الأئمة الجائرين.
أما أبو حنيفة  (فمذهبه مشهور في قتال الظلمة وأئمة الجور، لذلك قال الأوزاعي( ): "احتملنا أبا حنيفة على كل شيء حتى جاءنا بالسيف – يعني قتال الظلمة– فلم نحتمله"، وكان من قوله وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فرض بالقول، فإن لم يؤتمر له فبالسيف)( ).
ومالك  ورد عنه جواز الخروج على الإمام الظالم، فقال: (إذا خرج على الإمام العادل خارج وجب الدفع عنه مثل عمر بن عبد العزيز، فأما غيره فدعه ينتقم الله من ظالم بمثله ثم ينتقم من كليهما)( ).
وإذا كان فريق من الشافعية يحرم الخروج على الأئمة وإن جاروا، ويتزعم هذا الفريق النووي – كما سبق النقل عنه – فإن الجويني من الشافعية يقول بجواز ذلك (إذا جار والي الوقت وظهر ظلمه وغشمه، ولم يرعو لزاجر عن صنيعه بالقول، فلأهل الحل والعقد التواطؤ على درئه ولو بشهر الأسلحة ونصب الحروب)( ).
وقد حُكِيَ عن الشافعي رحمه الله تعالى أن الإمام ينعزل بالفسق والجور( ).
هذان مذهبا أهل السنة في مسألة الخروج على الإمام الجائر، والحقيقة أن موقفهم من هذه المسألة – بجانبيه – وسط بين آراء الفرق المخالفة (أما القائلون منهم بوجوب الخروج، فلم يذهبوا مذهب الخوارج في تكفير غيرهم أو الخروج لأدنى ذنب على الأئمة، والقائلون منهم بوجوب الصبر لم يذهبوا مذهب الإمامية في النظر إلى شخص الخليفة أو الإمام)( ).
وقد رجح جمع من المعاصرين مذهب الصبر؛ لقوة أدلته وصراحتها، وعمومية أدلة مذهب الثورة( ).
فالإمام الظالم والمبتدع يطاع في طاعة الله ، ويعصى مع الإنكار عليه في المعصية، ويجوز عزله إن أمكن بإحدى الطرق السلمية، ما لم يترتب على ذلك مفسدة أكبر، وإن لم يكن ذلك وجب المبالغة في الإنكار عليه والتحذير من ظلمه وبدعته.
على أنه لا يمكننا القول إن مذهب الصبر مذهب سلبي لا يسعى في تغيير المنكر، فالحق أنه صورة من صور التغيير، لكنها صورة سلمية، فليس الصبر سلبيا، وإنما من خلاله تكون هناك وسائل للتغيير.
(وفي الواقع أن "الثورة" و "الصبر" هما تعبيران عن درجتين من درجات المعارضة، قد تسمى الأولى: المعارضة الإيجابية، والثانية: المعارضة السلبية، وهما من حيث التدرج تأتي " الثورة " في المقام الأول، ثم يليها الصبر، حيث إن تغيير المنكر باليد سابق على التغيير باللسان والقلب، وهذا الأخير هو أضعف الإيمان.
ذلك هو مذهب الصبر الإسلامي، وهو مفهوم عميق المغزى، إذ على الرغم من الهدوء والمحافظة الظاهرين على سطحه، إلا أنه بسبر غوره تتضح طاقاته الكامنة وقدرته على التغيير ولو في المدى البعيد )( ).

المبحث الثاني
الخروج على الحاكم عند الخوارج
ينزع الخوارج إلى أن يكون الإمام مثلا أعلى، فيجب أن يكون متصفا بصفات المثل الأعلى، فليس خطؤه كخطأ غيره من الناس، وإنما تجب محاسبته على هذا الخطأ، ولا يغفر له، ولو أدى ذلك إلى عزله أو قتله.
فالإمامة عند الخوارج مسألة إنسانية، يقررها المجتمع، وهو الذي يقرر صلاحية بقاء الإمام أو عزله (فمسألة الإمامة مسالة إنسانية وليست إلهية ميتافيزيقية، لأن الإنسان هو الذي يختارها، والمجتمع هو الذي يجمع عليها، غاية ما هنالك أنها رهينة بتطبيق العدالة والأحكام والقوانين التي نص عليها القرآن، فالجانب الإلهي فيها إنما هو ارتباطها الوثيق بدستور إلهي من جاوزه فقد انحرف واستحق العزل أو الخلع، لأنه جار وظلم تعدى حدود الله الذي أنزل لعباده)( ).
فالإمام عند الخوارج لا ينبغي أن يصدر عنه خطأ، فإن أخطأ لا يستحق أن يكون إماما، لذلك فهم يحاسبونه محاسبة دقيقة، قال الأشعري: ( ولا يرون إمامة الجائر)( ).
وقد ذكر البغدادي أن من الأمور التي أجمع عليها الخوارج:
(وجوب الخروج على الإمام الجائر)( )، ( وإن غير السيرة وعدل عن الحق وجب عزله أو قتله)( ).
وقد وافق الخوارج على هذا الرأي طوائف من أهل السنة وجميع المعتزلة والزيدية( ) ( ).
ومن عجائب الخوارج في هذه المسألة ما يروى عن فرقة العوفية منهم حيث يرون أنه ( إذا كفر الإمام فقد كفرت الرعية الغائب منهم والشاهد)( ).
فنظرة الخوارج تجاه الإمام كانت خاضعة لهذه الأحكام، فكان طبيعيا أن يراقبوا الإمام رقابة دقيقة، ولا يقبلون له عذرا إن أخطأ إلا التوبة والاعتراف بأنه قد كفر ثم تاب إلى الله بعد ذلك، وإلا فالخروج والثورة والعزل.
وهذا ما طلبوه من سيدنا عليّ  بعد التحكيم، أن يعترف أن قد أخطأ ويستغفر الله تعالى ويتوب( ).
وأدلة الخوارج في هذا الرأي هي نفس أدلة مذهب الثورة عند أهل السنة، وإن كان الخوارج لم يهتموا بالتقرير النظري لهذا الرأي فإن الممارسة العملية كانت أقوى الأدلة على رأيهم، فإن أهم ما تميز به الخوارج في تاريخهم تعدد ثوراتهم وانتفاضاتهم المستمرة في الزمان والمكان، فلم تهدأ لهم ثورة إلا لتبدأ أخرى، حتى كانت كل أخبارهم في كتب التاريخ وكتب الفرق إما حديث عن ثورة وخروج على الحاكم، أو حديث عن اختلاف وفرقة تقع بينهم.
والمحاورة التالية بين اثنين من قادة الخوارج تبين لنا منهجهم في الخروج على أئمة الجور والظلم. ينقل الطبري أن شبيبا لما خرج مع صالح بن مسرح قال له:يا أمير المؤمنين كيف ترى في السيرة في هؤلاء الظلمة، أنقتلهم قبل الدعاء أم ندعوهم قبل القتال؟ وسأخبرك برأيي فيهم قبل أن تخبرني فيهم برأيك، أما أنا فأرى أن نقتل كل من لا يرى رأينا قريبا كان أو بعيدا، فإنا نخرج على قوم غاوين طاغيـن باغين، قد تركوا أمر الله واستحوذ عليهم الشيطان. فقال: لا. بل ندعوهم فلعمري لا يجيبك إلا من يرى رأيك، والدعاء أقطع لحجتهم وأبلغ في الحجة عليهم( ).
فالأصل عندهم هو الخروج، وإنما الخلاف في إقامة الحجة، أي دعوة الناس قبل البدء بقتالهم، أم قتالهم دون دعوة، وهذا هو النهج الذي ساروا عليه.
ومن هذا المنطلق بدأت ثوراتهم سنة ثمان وثلاثين ضد جيش الإمام عليّ بن أبي طالب ، ثم لم تهدأ بعد ذلك واستمرت خلال الحكم الأموي ثم العباسي حتى تم القضاء عليهم( ).

المبحث الثالث
أثر رأي الخوارج في الفكر الإسلامي المعاصر
ظهر للخوارج أثر واضح في مسألة الخروج على الحاكم في العصر الحديث، بل ذهب بعض الأساتذة إلى الإشادة بمذهب الخروج، والثناء على أهله، وبيان أنهم يمثلون صحيح الدين، بل والفطرة الإنسانية السوية، فهم:
( الوحيدون الذين حولوا النصيحة إلى مطلب، والمطلب إلى أمر للحاكم، واعتبروا عدم إطاعة الحاكم لأمر الرعية خروجا عن الدين، واعتبروا هذا الخروج كفرا.. هم تلك الطائفة المظلومة التي نسميها الخوارج، والخوارج في النهاية هم الذين تمسكوا بالخط الإسلامي القديم، وأنكروا "الخلافة الملك"، وقالوا: إنها ليست إسلامية، وإن الحكم بالقوة والغصب ردة بالإسلام إلى نظم الجاهلية، وتمسكوا بالشورى، واحترموا قيمة الإنسان، وقالوا: لا حكم إلا لله.
ولكن الخلفاء الملوك حاربوهم باسم الدين وسموهم الخوارج، وهم في الحقيقة الدواخل، ووقفت الأمة كلها تتفرج حتى انكسرت شوكتهم، ولم تبق منهم إلا شراذم مفرقين في أطراف البلاد)( ).
وإذا ما انتقلنا من هذه الإشادة البالغة بمنهج الخوارج، وبين أنها المنهج الإسلامي الصحيح، إذا تركنا هذا القول فإنا سنجد أقوالا كثيرة فيها أثر من منهج الخروج، من حيث: تقريره، وبيان حتميته، والاستدلال على شرعيته بالأدلة النصية والعقلية، والرد على ما أسموه بالشبه التي توجهت إليهم، بل ذهبوا إلى أن الخروج على الحاكم أولى من قتال الكفار كما سيأتي.
وقد كثر في أدبيات أصحاب هذا المنهج بيان حكم الخروج على الحاكم، وأنه فرض عين على كل مسلم.
يقول عبود الزمر( ): ( إن الخروج على الحكام الكفرة وقتالهم وخلعهم وتنصيب إمام مسلم واجب بإجماع علماء المسلمين على كل مكلف، منوط بالقدرة، ولا يخرج أحد منهم عن دائرة الإثم إلا أن يقدم نفسه أو ماله للقيام بهذا الواجب حتى تتحقق الكفاية )( ).
ويقول صالح سرية: (فالجهاد لتغيير هذه الحكومات وإقامة الدولة فرض عين على كل مسلم ومسلمة، لأن الجهاد ماض إلى يوم القيامة)( ).
ويقول الشيخ عبد القادر عبد العزيز في كتابه " العمدة في إعداد العدة للجهاد في سبيل الله": (وجهاد هؤلاء الحكام المرتدين وأعوانهم فرض عين على كل مسلم من غير ذوي الأعذار الشرعية... وكون جهاد هؤلاء الطواغيت فرض عين هو من الواجب إشاعته في عموم المسلمين، ليعلم كل مسلم أنه مأمور شخصيا من ربه سبحانه وتعالى بقتال هؤلاء)( ).
ووجوب الخروج عند هؤلاء نتيجة لما قرروه سلفا من كفر من حكم بغير ما أنزل الله، وبناءً على هذا يجب خلعه.
وفي غالب كتاباتهم فإنهم يبدءون بالسبب، ثم يذكرون هذه النتيجة، ومثال ذلك في كتاب " أقوال الأئمة والدعاة في بيان ردة من بدل الشريعة من الحكام الطغاة" حيث قرر كاتبه أولا كفر وردة من حكم بغير ما أنزل الله على وجه الإطلاق، ثم قال: (إذا علمت هذا فاعلم كذلك أن حكم الله تعالى في هؤلاء هو وجوب خلعهم ومناصبة العداء لهم ولطوائفهم الكافرة)( ).
وقريب من هذا المعنى ما جاء في كتاب " حتمية المواجه " من إصدارات الجماعة الإسلامية بمصر( )، حيث جاء فيه: (إن هؤلاء الطواغيت الذين يحكمون بلاد المسلمين بغير شريعة الإسلام يجب القيام عليهم وقتالهم، ولا يصح ولا يجوز للمسلمين بحال أن يتركوهم على عروشهم في سلطانهم وطغيانهم... أو يقروهم على ضلالهم وكفرهم مهما ادعى الواحد منهم أو زعم أنه سيطبق الشريعة يوما ما، فإن تركه للحكم بالإسلام وعدوله عنه وتبديله لأحكام الشريعة يوجب الكفر البواح ويخرجه عن ملة الإسلام... والواجب على المسلمين مواجهته بالقوة... وخلعه وتولية إمام مسلم يقوم على الأمر حاكما بالشرع الحنيف، يسوس الدنيا بالدين)( ).
وذكر آخر أن (جهاد هؤلاء الحكام المرتدين وأعوانهم فرض عين على كل مسلم من غير ذوي الأعذار الشرعية)( ).
يتبين مما سبق من النقول أن أصحاب مذهب الخروج في العصر الحديث يرونه واجبا وجوبا عينيا، بل يذهبون إلى أن هذا الأمر ليس فيه مجال للخلاف، وفي ذلك يقولون: (ومن أجل ذلك نقول: إنه ينبغي ألا يكون هناك خلاف في مشروعية الخروج على هؤلاء الحكام المجرمين الذين لم يكتفوا بتعطيل شرع الله وإلزام الناس بالتحاكم إلى قوانين وثنية، فراحوا ينكلون بالدعاة إلى الله ما بين قتل وتشريد وتعذيب وإحالة إلى مجازر وحشية يسمونها المحاكم العسكرية، وليس لهم من هدف في ذلك إلا القضاء على كل دعوة لإقامة شرع الله وتحكيم كتابه في الأرض)( ).
وفي سبيل تقرير هذا المذهب يحشدون عددا من الأدلة – من وجهة نظرهم – لدعم كلامهم، وتتنوع هذه الأدلة، ما بين شرعية وعقلية وتاريخية.
من ذلك ما ذكره صالح سرية في كتاب " وثيقة الإيمان" حيث قال: (وذلك لأن الجهاد باق إلى يوم القيامة، وإذا كان الجهاد واجب لتغيير الباطل حتى ولو لم يكن كافرا، كما فعل الحسين ، كما قال رسول الله : «خير الشهداء حمزة ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله»( )، فإن الجهاد ضد الكفر لا يختلف اثنان من المسلمين على أنه أفرض الفرائض وذروة سنام الإسلام)( ).
وباستدعاء واقع تاريخي معين، وله ملابساته، يتم الاستدلال بكلام ابن تيمية على قتال الحكام والخروج عليهم، وأشهر ما يتم الاستدلال به من كلامه مسألة "قتال الطائفة الممتنعة"، حيث يقول ابن تيمية: (كل طائفة ممتنعة عن التزام شريعة من شرائع الإسلام الظاهرة المتواترة من هؤلاء القوم وغيرهم فإنه يجب قتالهم حتى يلتزموا شرائعه، وإن كانوا مع ذلك ناطقين بالشهادتين، وملتزمين بعض شرائعه، كما قاتل أبو بكر الصديق والصحابة رضي الله عنهم مانعي الزكاة، وعلى ذلك اتفق الفقهاء ومن بعدهم)( ).
وقد استشهد جمع من المعاصرين الذين يرون مذهب الخروج بهذه المقولة( ).
واستدلوا بأدلة من الشرع، بل أولوا ما يخالف وجهتهم، ففي حديث: «سيكون أمراء فتعرفون وتنكرون. فمن أنكر فقد برئ، لكن من رضي وتابع. قالوا: أفلا نقاتلهم؟ قال: لا ما أقاموا فيكم الصلاة»( ).
فإنهم يذهبون إلى مخالفة الشرط الوارد في الحديث، ويذهبون في تأويل هذا الحديث كل مذهب، وغالب تأويلاتهم تدور على أن (إقامة الصلاة كناية عن إقامة الدين واتباع منهج رسوله، والحكم بما أنزل الله، والتحاكم إلى شريعة الله)( ).
وذهب آخر في تأويل الحديث إلى أن المقصود (ليس هو مجرد إقامة الصلاة في حد ذاتها، وإنما لأن الواجب على الأمير المسلم أن يقيم في الناس الصلاة ويخطب فيهم الجمعة، هذا العمل صورة من صور الممارسة الشرعية لمسؤولياته في الإسلام، وما دام يقوم بهذا العمل، وهذا يعني أيضا تقيده والتزامه بشرع الله...لأجل ذلك لا تجوز منابذته)( ).
وكذلك رد صحاب هذا المذهب على ما يرونه شبهة على قولهم، ومن ذلك ردهم على من يقول: إن الخروج على الحاكم يؤدي إلى فتنة.
فيقولون في الرد:(وهذه شبهة واهية ساقطة نرد عليها من أوجه:
منها: أن الفتنة الحقيقية تكمن في ترك الجهاد، وفي التنكب عن مجاهدة طواغيت الكفر والردة... وأن تارك الجهاد المعتذر عنه هو الأولى بالوقوع في الفتنة، كما في الحديث عن جابر بن عبد الله قال: سمعت رسول الله  يقول: يا جد: هل لك في جلاد بني الأصفر؟ قال: جد: أو تأذن لي يا رسول الله فإني رجل أحب النساء، وإني أخشى إن أنا رأيت بنات بني الأصفر أن أفتن، فقال رسول الله  - وهو معرض عنه -: قد أذنت لك. فعند ذلك أنزل الله تعالى:
â Nßg÷ZÏBur `¨B ãAqà)tƒ bx‹ø$# ’Ík< Ÿwur ûÓÍh_ÏGøÿs? 4 Ÿwr& ’Îû ÏpuZ÷GÏÿø9$# (#qäÜs)y™ á( ).
قلت: هؤلاء وقعوا في الفتنة بعد الاستئذان، وبعد أن أذن لهم... فما يكون القول فيمن يترك الجهاد من غير استئذان... ومن غير أن يؤذن له... لا شك أنه أولى في الوقوع في الفتنة!
ومنها: أن فتنة الكفر والشرك المتمثل في كفر الحاكم ونظامه لا تعلوه فتنة، وشره لا يعلوه شر... وضرره لا يعلوه ضرر... ومصلحة إزالته لا تعلوه مصلحة... وفي سبيل إزالته يهون كل ضرر وتهون كل فتن)( ).
ويلاحظ في هذا الكلام أن قائله استشهد بحديث نبوي يتحدث عن قتال الكافرين المجمع على كفرهم، والذين يلزم جهادهم، بل إن الجهاد في تبوك( ) كان فرض عين لاستنفار النبي  أصحابه، وعندئذ يلزم النفير، كما في الحديث: «وإذا استنفرتم فانفروا»( )، وأقوال العلماء في شرح هذا الحديث تجعل الخروج للجهاد فرض عين في هذه الحالة( ).
أقول: طبق الكاتب عندئذ هذا الحديث وما فيه على الخروج على الحكام، بل إنهم يذهبون إلى أن الخروج على الحكام أولى من جهاد الكفار – كما سيأتي -.
ويرد بعضهم على مسألة الفتنة بكلام إنشائي لا دليل فيه، فيقول: (لأن هذا الذي سيؤدي إليه العزل – يعني عزل الحكام – ليس في حقيقته فتنة، وإنما حركة إصلاح وإعلاء لكلمة الحق، وتمكين للإسلام وقطع لدابر الفساق، وما الفتنة إلا في إتيان الخليفة ما يوجب العزل والسكوت عنه)( ).
وإن قيل: إن الخروج على الحاكم يحتاج إلى عدة وعتاد، فإن ردهم على ذلك: ( ولكن رغم وضوح الأدلة في كفر هذه الحكومات، ووجوب الخروج عليها، فإنه قد يقول قائل: فإننا لا نستطيع الخروج عليهم، ولا طاقة لنا بهم، وقد قال تعالى: ⠟w ß#Ïk=s3ムª!$# $²¡øÿtR žwÎ) $ygyèó™ãr á( ). فنقول: إن هذا صحيح من وجه فإن الله تعالى لا يكلف العبد ما لا يستطيع، ولكن عدم القدرة لا يسقط الإعداد لتحصيل القدرة، فالذي يجب على المسلمين هو أن يعدوا العدة حتى يستطيعوا الخروج على الحاكم الكافر، والأدلة على ذلك هي قوله تعالى:
â (#r‘‰Ïãr&ur Nßgs9 $¨B OçF÷èsÜtGó™$# `ÏiB ;o§qè% ÆÏBur ÅÞ$t/Íh‘ È@ø‹yÜø9$# šcqç7Ïdöè? ¾ÏmÎ/ ¨r߉tã «!$# öNà2¨r߉tãur á( ) ( ).
ونلحظ – أيضا – أنه أتى بالآية التي تتحدث عن الكفار المحاربين ليستدل بها في هذا الموضع.
وقد استعرضت في مبحث سابق كلام جمهور أهل السنة على الصبر وعدم إثارة الفتنة، وقد استبان رأي هؤلاء في مسألة الفتنة، أما الصبر فإنهم يرفضونه تماما، ويجعلونه خيارا غير صحيح، بل ويجعلون القائلين به مخالفين للإسلام خارجين عنه.
ففي كتاب "كلمة حق" يقول الدكتور: عمر عبد الرحمن( ): (ما تقولون في سلطان جعل اليهود أصحاب أمره، والنصارى جنده، وحمل السيف على كل من وجد من المسلمين، وأباح المسلمات للزنى، وهو في كل ذلك مقر بالإسلام معلن به لا يدع الصلاة؟
فإن أجازوا الصبر على هذا خالفوا الإسلام جملة وانسلخوا منه، وإن قالوا: بل يقام عليه ويقاتل، فقد رجعوا إلى الحق، ولو على قتل مسلم واحد، أو على امرأة واحدة، أو على أخذ مال، أو على انتهاك بشرة بظلم، إن أنكروا كل ذلك رجعوا إلى الحق، والواجب إن وقع شيء من الجور وإن قل أن يكلم الإمام في ذلك ويمنع منه، فإن امتنع ورجع إلى الحق وأذعن فلا سبيل إلى خلعه، وإن امتنع من إنفاذ شيء من هذه الواجبات عليه ولم يرجع وجب خلعه وإقامة غيره ممن يقوم بالحق)( ).
ففي الكلام السابق نرى رفضا واضحا لمنهج الصبر، حتى ولو لم يكن ما يقوم به الحاكم من أمور الكفر، وإن اقتصر على شيء من الجور وإن قل – كما ذكر – وهذا يخالف ما عليه الجمهور من أهل السنة، ويفتح الباب لشر مستطير لا يعلم مداه إلا الله تعالى.
ولكي يتم الاستشهاد بالآيات التي وردت في حق الكفار المحاربين، بيّن هؤلاء أن الحكام أشد كفرا من هؤلاء الكفار المحاربين لعدة أسباب منها:
أنهم أقرب إلينا من غيرهم، قال تعالى: â (#qè=ÏG»s% šúïÏ%©!$# Nä3tRqè=tƒ šÆÏiB ͑$¤ÿà6ø9$# (#r߉Éfu‹ø9ur öNä3ŠÏù Zpsàù=Ïñ á( )، وقال ابن قدامة: "ويقاتل كل قوم من يليهم من العدو لأن الأقرب أكثر حرزا، وفي قتاله دفع ضرره عن المقابل له وعمن وراءه، والاشتغال بالبعيد عنه يمكنه من انتهاز الفرصة في المسلمين لاشتغالهم عنه"( )( ).
والمفهوم من كلام ابن قدامة: أن ترتيب الأولويات خاص بالكفار المحاربين، وإلا فكيف يكون في مقاتلة الحكام دفع لضرر العدو الخارجي الذي يتربص بالمسلمين؟!
وفي تحديد العدو الحقيقي يذكر الدكتور عبد الله النفيسي( ) كلاما يقارب الكلام السابق، حيث يقول:( إن العدو الفعلي واليومي للحركة الإسلامية هو الأنظمة، والمعوق الفعلي واليومي لمسيرة الحركة الإسلامية هو الأنظمة.
إن معركة الحركة الإسلامية ليست مع الفتاة السافرة أو المتبرجة، وليست مع البرامج الهابطة في الأجهزة المرئية والمسموعة، وليست مع البنوك التي تمتص دماء الفقراء، وليست مع الحفلات الراقصة...
إن المعركة الفعلية للحركة الإسلامية ينبغي أن تكون مع الأنظمة التي أفرزت هذا الواقع.
وباختصار نقول: إنه إذا أرادت الحركة الإسلامية أن تحقق شيئا من خلال منهج عملها الحالي فينبغي أولا حصر دائرة الصراع وتحديد العدو والهدف... إن العدو الفعلي والمعوق الفعلي لمسيرة الدعوة هي الأنظمة وليست الجماهير، وإن العمل الإسلامي الذي يتحرك بمعزل عن هذه الحقيقة الجارحة لن يحقق أي نتيجة على المدى البعيد)( ).
وقريب من هذا الكرم ما ذكره محمد عبد السلام فرج( ) صاحب كتاب "الفريضة الغائبة" في قوله: (إن أساس وجود الاستعمار في بلاد الإسلام هم هؤلاء الحكام، فالبدء بالقضاء على الاستعمار هو عمل غير مجد وغير مفيد، وما هو إلا مضيعة للوقت)( ).
أما السبب الثاني لتقديم الخروج على الحاكم على غيره من قتال الكفار المحاربين، فلأنه مرتد – كما يقولون – وهو أولى بالقتال من الكافر الأصلي.
ويقولون في ذلك: ( فمواجهة هذا النظام، وحشد الطاقات الإعلامية والعلمية والعسكرية، والجهود الذهنية والمادية، وتوحيد الجهد أولى من تشتيته، وجهاد هؤلاء الحكام أولى من تضييع الجهد مع النصارى وغيرهم في مصر، وقد ذكر الصنعاني في معرض حديثه عن البغاة نقلا عن جماعة من العلماء أن قتال البغاة أفضل من قتال الكفار لما يلحق بالمسلمين من الضرر منهم... فإذا كان قتال البغاة المتأولين أو العصاة المتمسكين بأصل الدين أفضل من قتل الكفار، فكيف بالنظام المصري)( ).
ويستشهد آخر بمقولات جمع من العلماء على البدء بالمرتدين، ومنه قول ابن تيمية: (وكفر الردة أغلظ بالإجماع من الكفر الأصلي)، وقوله: (والصديق  وسائر الصحابة بدؤوا بجهاد المرتدين قبل جهاد الكفار من أهل الكتاب، فإن جهاد هؤلاء حفظٌ لما فُتِح من بلاد المسلمين، وحفظ رأس المال مقدم على الربح)( ).
وثالث هذه الأسباب في نظرهم: أن قتالهم من جنس قتال الدفع، وفي ذلك يقول القائل: (ولا يخفى أن الطوائف المجاهدة اليوم في حال جهاد الاضطرار، وهو جهاد الدفع لا جهاد الطلب، وهذه الحالة توجب على المجاهدين حسن استثمار قوتهم المتاحة، وترك من تركهم)( ).
وقريب منه قولهم: ( وهذه الطائفة – يقصد الحكام – لا يُرى منها في بلاد المسلمين إلا إفساد للدين بنشر الفاحشة وترويج الرذيلة، وتزيين الكفر، ومطاردة الدعاة، ولا نرى منهم إلا إفسادا للدنيا فنشروا الفقر، وباعوا مقدرات الأمة من خيرات الله فيها إلى أعدائها، وربطوا حياة الشعوب بما يستورد من مفاسد الغرب من شئون الحياة، ولما كلن الأمر الشرعي مطابقا للأمر القدري، فإننا نرى أنه لم يصبح للكافرين على المسلمين سبيل إلا بحبل هؤلاء)( ).
وهذا كلام عام مجمل لا يستنبط منه حكم شرعي، ولا يستند إلى دليل قوي، والله أعلم.
ويجمل عبد القادر بن عبد العزيز ما سبق تفصيله بقوله: (وقتال هؤلاء الحكام المرتدين مقدم على قتال غيرهم من الكفار الأصليين من يهود ونصارى ووثنيين، وهذا من ثلاثة أوجه:-
1- جهادهم دفع متعين، وهو متعين على جهاد الطلب.
2- كونهم مرتدين، وقتال المرتد مقدم على قتال الكافر.
3- كونهم الأقرب إلى المسلمين، والأشد خطرا وفتنة)( ).
ومما سبق يتبين لنا بوضوح أن هذه الكتابات كانت المحرك والدافع لما حدث من قتل وقتال... (فهي إذن دعوة للقتال... قتال كل حاكم كافر مبدل للشريعة... قتال يقوم بأمر الله وأمر رسوله  â (#rãÏÿR$# $]ù$xÿÅz Zw$s)ÏOur (#r߉Îg»y_ur öNà6Ï9ºuqøBr'Î/ öNä3Å¡àÿRr&ur ’Îû È@‹Î6y™ «!$# á( ).
وكان من مستتبعات هذا الحكم أن أقروا بوجوب التوحد للقتال (أما الواجب فهو قتالهم –أي الحكام – في جماعة، إذ المطلوب إظهار الدين
â tbqà6tƒur ß`ƒÏe$!$# ¼ã&—#à2 ¬! á( )، وهذا لا يتأتى بالقتال منفردا، ومن كان يتبع جماعة مجاهدة فلا يقاتل إلا بإذن أميره)( ).
ويرون أن الواجب على الجماعات الإسلامية التي تعمل لنصرة الإسلام أن تعتمد مبدأ القوة ولا تحيد عنه، وفي ذلك يقول أحدهم: (لا بد من قوة عسكرية ذاتية للحركة الإسلامية تستعملها في ساعة الصفر وفي لحظة القدر الموعودة تحمي به انطلاقها، أو تختطف بها السلطة من أيدي أولئك الذين سرقوا من الإسلاميين حقهم في الحكم والسيادة، إن امتلاك القوة الذاتية أمر محتوم في التحرك نحو حكم إسلامي)( ).
ويقول في موطن آخر: (ونحن نعتقد أن خيار القوة جزء لا يتجزأ من العمل الإسلامي الذي يبتغي نصرة الدين سواء عن طريق المؤسسة العسكرية أو الثورة الشعبية أو غير ذلك، فهو نهاية المطاف لكل الإسلاميين الذي يريدون عودة السلطان السياسي للإسلام من جديد)( ).
وبعد أن قرروا مبدأ الخروج على الحاكم وقتاله، وتجميع الناس لهذه الغاية، فإنهم يذهبون إلى قتال كل من أعان الحاكم، أو كان من جنده، وفي ذلك يقولون: (يجوز نصب الكمائن وشن الغارات على بعض القوات الحكومية، بل هـو واجب لمن قدر عليه، وقتل المنفرد من القوات الحكومية هو نوع من أنواع القتال، وهو التربص للمنفردين من العدو حتى يمكن قتلهم غيلة، ويجوز قتل الذين يدافعون عن النظام المصري أيا كان حالهم، فإنه يجب قتالهم سواء كانوا مكرهين كالجنود المجندين تجنيدا إجباريا على حسب قواعد التجنيد في القوات الحكومية المصرية، أو كانوا من الضباط والجنود العاملين في هذه القوات، ولكنهم يجهلون حقيقة ما عليه النظام)( ).
ويحتار القارئ في فهم الدوافع لقتال الجنود المكرهين – مثلا – على التجنيد، ما المبرر الذي يدفع إلى القول بذلك؟
يعرض هؤلاء مبررا عجيبا لقتل أولئك الجنود، فيقولون: (ولا يمكن إلحاق الهزيمة بالطائفة الحاكمة في مصر إلا بهزيمة هذه القوات، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، وعلى هذا فإن العلم على هزيمة هذه القوات واجب شرعي تحتمه ضرورة مواجهة هذه الطائفة الحاكمة وخلعها، وإذا كانت هزيمة هذه الطائفة لا تتم ضرورة إلا بقتل بعضها، فإنه يجب قتل هذا البعض )( ).
وهذا الكلام وأمثاله كان هو الإطار النظري الذي تبنته بعض هذه التيارات في مواجهتها للنظام الحاكم في مصر، مما نتج عنه كثير من الفتن التي أضرت بالدعوة الإسلامية، وبالمسلمين عموما، فــي الوضع المحلي والوضع العالمي.
ومما ذكرت آنفا يتضح للقارئ مدى التأثر العملي لهؤلاء بفكر الخوارج، وأقول "التأثر العملي" لأنه تأثر بالخروج على الحكام، ولم يكن تأثرا بأقوال الخوارج، لأن الخوارج لم يؤثر عنهم أقوال في هذا الأمر، وإنما اشتهروا بأفعالهم، التي امتدت إلى الفكر المعاصر.
وأيضا لأن المعاصرين ينكرون نسبتهم للخوارج الأولين، بل ويتهموهم بالغلو، كما يقولون: (مذهب الإفراط والغلو الذي يميل إلى القول بالخروج على الحكام لمجرد وقوعهم في أدنى مخالفة للشرع، ويتمثل هذا الموقف في الخوارج ومن دخل في دائرتهم ممن تأثر بمنهجهم، وجنح إلى الغلو...! )( ).
ومما يؤكد ذلك أن هؤلاء القوم يحاولون أن يلتمسوا شواهد لكلامهم من أقوال جمهور أهل السنة والجماعة، فتراهم يستشهدون بأقوال لابن تيمية وابن قدامة وغيرهما، وهي استشهادات انتقائية لا تلم بأطراف الموضوع، وتغفل عنصري الزمان والمكان وأيضا ملابسات الفتوى، والذي يحدث هو تنزيلها على الواقع المعاصر دون مراعاة لأوجه الخلاف التي يترتب عليها فقدان شروط القياس لاختلاف العلة.
وإذا تركنا هؤلاء المعاصرين الذين ينتسبون – أو ينسبون منهجهم– لأهل السنة والجماعة، ويممنا وجهنا تلقاء الشيعة المعاصرين فإنا نجد عددا منهم غير قليل يقر مبدأ الخروج على الحاكم حتى وإن جار فقط، وسأكتفي بعرض كتاب واحد من هذه الكتب، وهو: "أبدا حسين، شرعية الخروج على حكم الجور" لمؤلفه: شريف راشد الصدفي( ) حيث استدل مؤلفه على ما ذهب إليه من شرعية الخروج على الحاكم الجائر.
بل ذهب إلى ( أن أحاديث منع الخروج على الحاكم الظالم تخالف أصولا قطعية من القرآن، وهو ما سبق أن ذكرناه من وجوب الحكم بالعدل، وأن يقوم الناس بالقسط، وأن الإمامة عهد الله لا تنال بالظالمين، ووجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعدم الركون للظالمين، وإلا فالنار هي العاقبة)( ).
ويذهب في سبيل ذلك إلى رد هذه الأحاديث سندا ومتنا، ويرد على القائلين بأن الخروج على الحاكم يؤدي إلى الفتنة، ويرد على هذا بقريب مما ذكره السابقون( ).
بل ويذهب إلى أبعد من ذلك، فينعي على أهل السنة موقفهم هذا، ويهاجمهم بسبب أقوالهم الحاسمة في أمر الخروج التي هي مستمدة من الفهم الصحيح للينة النبوية، وللتطبيق العملي في القرون الفاضلة.
هذا الفهم الوسط لا يعجب المؤلف، فيقول: (إننا نبادر بالقول: إن المفهوم الشائع الموورث لدى أهل السنة تجاه حكام الجور –كما سلف بيانه– ينطوي على مفارقة حادة لحقيقة هذا الدين بمثل ما يحوي من تناقضات صارخة تجعل من العسير جدا على المرء المحايد فهم كيف غابت تلك التناقضات على طارحي هذا المفهوم، إلا أن يكون ذلك نابعا من محاولة أولى للخلط المتعمد من فقهاء وقفوا أنفسهم على سلاطين الجور، ثم تلاهم من اتبعهم إما لدأبهم على تقديس الماضي بغير تمحيص وبغير رغبة في بذل جهد أو إمعان فكر، وإما لذات أسباب الأولين في مداهنة واسترضاء حكام الجور)( ).
وإن كان في هذا الكلام من خير فهو وضوحه التام في مباينته لمنهج أهل السنة والجماعة، وعدم محاولة التمسح في أقوالهم، أو تأويلها لموافقة هواه، كما فعل الآخرون.
أما هذا المؤلف فلم يلجأ إلى ذلك، وإنما بين بوضوح تام رفضه لمنهج أهل السنة والجماعة، وانحيازه إلى الخوارج انحيازا كاملا بلا مواربة أو استخفاء.
والحق أنه لا عجب في ذلك، فإن كل الفرق التي تباين الكتاب والسنة تتشابه فيما بينها حتى مع اختلاف طرقها، فإنها –لتنكبها عن الكتاب والسنة– يحدث بينها بعض التوافق، وفي ذلك يقول أبو الحسن الأشعري: (وكذلك جميع أهل البدع من الجهمية والمرجئة والحرورية أهل الزيغ فيما ابتدعوا، خالفوا الكتاب والسنة وما كان عليه النبي  وأصحابه رضي الله عنهم أجمعين، وأجمعت عليه الأمة، كفعل المعتزلة والقدرية)( ).
وقريب من هذا ما ذكره ابن تيمية في قوله: (وأهل الكلام الذين ذمهم الله السلف لا يخلو كلام أحد منهم عن مخالفة السنة، ورد لبعض ما أخبر به الرسول  كالجهمية، والمشبهة، والخوارج، والروافض، والقدرية، المرجئة)( ).
وبهذا يتبين لنا أن كثيرا من فكر أصحاب الخروج في العصر الحديث يمكن رده إلى فكر الخوارج الأولين، وتسير تطبيقاتهم وأعمالهم في المسار التي كانت فيه تطبيقات الخوارج الأولين، مما يمكن معه القول إن فكر الخوارج في مسألة الخروج على الحاكم له امتداد فكري في عصرنا الحاضر بأكثر من صورة، وإن اختلفت عن ذي قبل بفعل تغير الزمان، واختلاف الأحوال.
وبهذا أنهى حديثي عن الخروج على الحاكم في العصر الحديث، والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.

الفصل الخامس
الأمر بالمعروف
والنهي عن المنكر
ويشتمل على ثلاثة مباحث:-
المبحث الأول: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عند أهل السنة.
المبحث الثاني: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عند الخوارج.
المبحث الثالث: أثر رأي الخوارج في الفكر الإسلامي المعاصر.

المبحث الأول
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عند أهل السنة
تكلم أهل السنة عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعالجوه من جميع جوانبه، وسوف أتحدث عن أهم هذه الجوانب، وهي: معناه، فضله، حكمه، شروطه، مراتبه.
معنى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: -
الأمر في اللغة: صيغة طلب، وهو قول القائل لغيره: افعل، وقد يكون القائل أعلى رتبة، وقد يكونا مستويان( ).
والنهي ضد الأمر، وهو قول القائل لغيره: لا تفعل.
والمعروف: كل ما استحسنه الشرع. والمنكر: كل ما أنكره الشرع واستقبحه. فدائرة المعروف واسعة تشمل كل خير واجبا كان أم مندوبا، ودائرة المنكر تشمل كل شر، سواء كان حرما أم مكروها.
وفي ذلك يقول الطبري: ( المعروف: كل ما أمر الله به عباده أو رسوله ، والنهي عن المنكر هو: كل ما نهى الله عنه عباده أو رسوله)( ).
وبهذا المعنى تتسع دائرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لتشمل الأمر بكل خير، والنهي عن كل شر.
فضل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فضيلة عظيمة، فهو قوام الدين، وخصيصة الأمة الإسلامية التي تميزها عن غيرها من الأمم، وثوابه عند الله عظيم، وخيره في الدنيا والآخرة عميم.
وسوف أذكر – بإيجاز – بعض فضائله من القرآن الكريم والسنة النبوية.
فمن فضائله في كتاب الله تعالى، قوله : â öNçGZä. uŽöyz >p¨Bé& ôMy_̍÷zé& Ĩ$¨Y=Ï9 tbrâßDù's? Å$rã÷èyJø9$$Î/ šcöqyg÷Ys?ur Ç`tã ̍x6ZßJø9$# tbqãZÏB÷sè?ur «!$$Î/ á( ).
فهذه مؤهلات الخيرية للأمة، وأعظمها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقُدِّم على الإيمان بالله؛ لأن الإيمان بالله أمر تشترك فيه الأمم والديانات السابقة، فقد ميزة هذه الأمة.
ولذا كان عمر  يقول: من سره أن يكون من تلك الأمة فليؤد شرط الله فيها( ).
ولا بد للأمة أن يوجد بها طائفة تقوم بهذه المهمة، وفي ذلك يقول الحق جل وعلا: â `ä3tFø9ur öNä3YÏiB ×p¨Bé& tbqããô‰tƒ ’n<Î) Ύösƒø:$# tbrããBù'tƒur Å$rã÷èpRùQ$$Î/ tböqyg÷Ztƒur Ç`tã ̍s3YßJø9$# 4 y7Í´¯»s9'ré&ur ãNèd šcqßsÎ=øÿßJø9$# á( )، فإذا لم يحققوا ذلك فليعلموا عقوبة من ترك هذه الفريضة ⠚ÆÏèä9 tûïÏ%©!$# (#rãxÿŸ2.`ÏB û_Í_t/  4’n?tã Èb$|¡Ï9 yŠ¼ãr#yŠ Ó|¤ŠÏãur Ç`ö/$# zOtƒötB 4 y7Ï9ºsŒ $yJÎ/ (#q|Átã (#qçR%Ÿ2¨r šcr߉tF÷ètƒ (#qçR$Ÿ2 Ÿw šcöqyd$uZoKtƒ `tã 9x6Y•B çnqè=yèsù 4 š[ø¤Î6s9 $tB (#qçR$Ÿ2 šcqè=yèøÿtƒ á( ).
ولن يُكتفى باللعن الأخروي فقط، بل إن الفتنة تصيب التاركين للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا يُكتفى بالعاصين، قال تعالى: â (#qà)¨?$#ur ZpuZ÷FÏù žw ¨ûtù‹ÅÁè? tûïÏ%©!$# (#qßJn=sß öNä3YÏB Zp¢¹!%s{ á( ).
أما المؤمنون فإنهم لا يتخلون عن هذا الأمر أبدا، قال تعالى: â tbqãZÏB÷sßJø9$#ur àM»oYÏB÷sßJø9$#ur öNßgàÒ÷èt/ âä!$uŠÏ9÷rr& <Ù÷èt/ 4 šcrâßDù'tƒ Å$rã÷èyJø9$$Î/ tböqyg÷Ztƒur Ç`tã ̍s3ZßJø9$# šcqßJŠÉ)ãƒur no4qn=¢Á9$# šcqè?÷sãƒur no4qx.¨“9$# šcqãèŠÏÜãƒur ©!$# ÿ¼ã&s!qߙu‘ur 4 y7Í´¯»s9'ré& ãNßgçHxq÷Žzy™ ª!$# 3 ¨bÎ) ©!$# ͕tã ÒOŠÅ3ym á( ).
ولن يمكن الله لأقوام في الدنيا إلا إذا قاموا بهذا الأمر، أما إن تخلوا عنه فلن تقوم لهم قائمة، قال تعالى: ⠞cuŽÝÇZuŠs9ur ª!$# `tB ÿ¼çnçŽÝÇYtƒ 3 žcÎ) ©!$#:”Èqs)s9 ̓tã ÇÍÉÈ tûïÏ%©!$# bÎ) öNßg»¨Y©3¨B ’Îû ÇÚö‘F{$# (#qãB$s%r& no4qn=¢Á9$# (#âqs?#uäur no4qŸ2¨“9$# (#rãtBr&ur Å$rã÷èyJø9$$Î/ (#öqygtRur Ç`tã ̍s3ZßJø9$# 3 ¬!ur èpt6É)»tã ͑qãBW{$# á( ).
والأحاديث النبوية كثيرة في بيان أهمية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فقد بين المصطفى  أن خيرية الفرد منوطة بالأمر والنهي، فقد سأله رجل وهو على المنبر: يا رسول الله أي الناس خير؟ فقال : «خير الناس أقرؤهم وأتقاهم وآمرهم بالمعروف وأنهاهم عن المنكر وأوصلهم للرحم»( ).
أما الذي يستطيع القيام به ويتقاعس، فإن النصوص واضحة فيما يصيبه في الدنيا والآخرة، ومن هذه الأحاديث أن النبي  تبرأ من تارك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فقال: «ليس منا من لم يرحم صغيرنا، ويوقر كبيرنا، ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر»( ).
وليس ذلك فحسب؛ بل إن دعاءه لا يستجاب في الدنيا، لقول النبي : «يا أيها الناس إن الله يقول لكم: مروا بالمعروف وانهوا عن المنكر قبل أن تدعوني فلا أستجيب لكم، وتسألونى فلا أعطكم، وتستنصروني فلا أنصركم»( ).
وليست المصيبة في ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر خاصة تصيب صاحبها فحسب، بل إنها تودي بالمجتمع كله إلى دوائر الهلاك والضياع، وقد مثل لنا النبي  قي حديث السفينة ما يصيب المجتمع من جراء التفريط في تلك الرسالة، فقال عليه الصلاة والسلام: «مثل القائم في حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة فصار بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم، فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقا ولم نؤذ من فوقنا، فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعا، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعا»( ).
حكم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:-
ذهب جمهور العلماء إلى أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض على الكفاية إذا قام البعض سقط الإثم عن الباقين، وهو قول جمهور الفقهاء الأربعة( ).
بل ادعى النووي إجماع الأمة على ذلك( )، وقال بذلك علماء الكلام( )، وجمهرة المفسرين( ).
ومع اتفاقهم على أن الأصل في حكمه أنه فرض كفاية، إلا أنه قد يعرض له حالات يصير فيها فرض عين، ومن ذلك ما يلي:-
1- الوالي أو من تعين عليه الأمر: وفي ذلك يقول ابن القيم:
(فرض عين على القادر الذي لم يقم به غيره من ذوي الولاية والسلطان، فعليهم من الوجوب ما ليس على غيرهم، فإن مناط الوجوب هو القدرة)( ).
2- إذا كان المنكر في موضع لا يعلم به إلا هو، وكان متمكنا من إزالته.
3- من يرى المنكر من زوجه أو ولده، أو يرى الإخلال بشيء من الواجبات( ).
4- إذا آنس المرء من نفسه القدرة على الاحتجاج والنظر، فإنه يتعين في حقه، كما يقول القاضي أبو بكر بن العربي: (وقد يكون –أي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر– فرض عين إذا عرف المرء من نفسه صلاحية النظر والاستقلال بالجدال، و عُرف ذلك منه)( ).
وإذا كان الأصل كونه على الكفاية فإنه قد يكون واجبا إن كان المنكر حراما، وقد يكون مندوبا إن كان المنكر مكروها، وكذلك الأمر بالمندوب مندوب، والأمر بالواجب واجب. وقد أشار إلى هذا التفصيل الإيجي في مواقفه( )، وجماعة من الشافعية( )، والحنابلة( ).

شروط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:-
ذكر أهل العلم شروطا للقيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، منها ما يرجع إلى الآمر نفسه، ومنها ما يرجع للمأمور، ومنها ما يرجع للفعل الذي هو مناط الأمر والنهي، وهذه الشروط منها ما هو متفق عليه، ومنها ما هو مختلف فيه.وهذه الشروط هي:-
1- التكليف:-
والتكليف شرط للوجوب، فلا يجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلا على البالغ العاقل، أما الصبي المميز الذي راهق الحلم فله إنكار المنكر، ويأخذ حكم الجواز؛ لكن لا يجب عليه.
2- الإيمان:-
وهو من شروط الصحة، فلا يصح الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلا من مؤمن، وهو شرط بدهي؛ إذ كيف يمكن لكافر أن يقوم بنصر الدين وهو يجحد أصله ولا يؤمن به، وهذا أيضا دليل سماحة الإسلام ( فلو ألزم غير المسلم بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لألزم بأن يقول ما يقول به المسلم، وبأن يعتقد ما اعتقده المسلم، ولألزم بأن يبطل عقيدته الدينية ويظهر عقيدة الإسلام، وهذا هو الإكراه في الدين الذي تحرمه الشريعة الإسلامية)( ).
3- العدالة:-
وهي من الشروط المختلف فيها، فأوجبها قوم ومنعها آخرون، والحق عدم اشتراطها، كما يقول سعيد بن جبير( ): ( لو كان المرء لا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر حتى لا يكون فيه شيء، ما أمر أحد بمعروف ولا نهى عن منكر) ولما سمع ذلك الإمام مالك بن أنس أعجبه وقال: (صدق، من ذا الذي ليس فيه شيء)( ).
ولعل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من الفاسق يكون له أثر، وإن كان هذا لا ينفي أن الأولى والأنفع أن يوافق قول الداعي فعله حتى ينتج الأثر المطلوب، قال تعالى: â $tBur ߉ƒÍ‘é& ÷br& öNä3xÿÏ9%s{é& 4’n<Î) $tB öNà69yg÷Rr& çm÷Ztã á( ).
4- إذن الوالي:-
وقد اشترطه قوم على الإطلاق، والصحيح عدم الاشتراط، يقول النووي: (قال العلماء: ولا يختص الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بأصحاب الولايات، بل ذلك ثابت لآحاد المسلمين. قال إمام الحرمين: والدليل عليه إجماع المسلمين)( ).
وقد استثنوا من ذلك أمورا، وهي ما يحتاج إلى الاستعانة وجمع الأعوان، وما كان خاصا بالأئمة أو نوابهم، كإقامة الحدود، وشهر الأسلحة. يقول الغزالي: ( وأما جمع الأعوان، وشهر الأسلحة فذلك قد يجر إلى فتنة عامة، ففيه نظر)( ).
وجمهور العلماء على اشتراط الإذن في ذلك، لأن تركه يؤدي إلى الفتن وهيجان الفساد( ).
5- القدرة:-
وهي من شروط الوجوب، فلا يجب الإنكار من العاجز بدنيا أو علميا( )، والاستطاعة - كما هو معلوم – شرط في كل التكاليف الشرعية، فإذا عجز المرء عن إنكار المنكر، أو غلب على ظنه الأذى فيسعه السكوت، يقول الغزالي: ( لا يقف سقوط الوجوب على العجز الحسي، بل يلتحق به ما يخاف عليه مكروها يناله، فذلك في معنى العجز)( ).
وإن كان الأذى الذي يصيبه من باب اللوم أو السب أو ما نحو ذلك فلا يعد مانعا من الإنكار( ).
ويشترط للمعروف الذي يؤمر به، والمنكر الذي ينهى عنه عدة شروط:-
1- أن يكون المأمور به قد عُرف حسنه في الشرع، وكذلك يكون المنهي عنه قد حظره الشرع.
2- أن يكون موجودا في الحال، فلو كان قد فرغ منه أو سيقع بعد فيكتفى فيه بالوعظ والإرشاد.
3- أن يكون المنكر ظاهرا، لأن التجسس منهي عنه بنص القرآن، قال تعالى: ⠟wur (#qÝ¡¡¡pgrB á( ).
4- أن يكون المنكر متفقا على إنكاره، فلا إنكار في المختلف فيه
مراتب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:-
قال : «من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان»( ).
وقد تحدث العلماء عن مراتب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وذكر القرطبي في ذلك أصلا.
قال العلماء: الأمر بالمعروف باليد على الأمراء، وباللسان على العلماء، وبالقلب على الضعفاء يعني عوام الناس( ).
ولا يقبل بحال أن يقل الأمر عن درجة الإنكار القلبي، أما مسألة التغيير باليد فقد ورد عن كثير من العلماء أن ذلك موكول إلى السلطان.
قال ابن العربي: (فإن لم يقدر إلا بمقاتلة وسلاح فليتركه، وذلك إنما هو إلى السلطان، لأن شهر السلاح بين الناس قد يكون مخرجا إلى الفتنة إلى فساد أكثر من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)( ).
وقال الزمخشري( ): (الإنكار الذي بالقتال فالإمام وخلفاؤه أولى، لأنهم أعلم بالسياسة ومعهم عدتها)( ).
وحتى من أجاز القوة من العلماء فإنه اشترط ألا يكون فيها إشهار سلاح، واقتصروا بها أيضا على الضرورة، وقدر الحاجة في الدفع( ).
وقد اشترط العلماء في تغيير المنكر ألا يؤدي التغيير إلى فتنة أو إلى منكر أشد ( فالنبي  إنما أوجب على الأمة إنكار المنكر ليحصل به المعروف الذي يحبه الله ورسوله، ولكن إذا أفضى إنكار منكر إلى حدوث شر آخر منه لم يجز)( ).
ويشير إلى هذا الأمر حديث النبي : «ائتمروا بالمعروف، وانتهوا عن المنكر، حتى إذا رأيت شحا مطاعا، وهوى متبعا، ودنيا مؤثرة، وإعجاب كل ذي رأي برأيه، فعليك بنفسك ودع عنك العوام»( ).
يقول الجصاص: (يعني –والله أعلم– إذا لم يقبلوا ذلك واتبعوا أهواءهم وآراءهم فأنت في سعة من تركهم)( ).
ومما سبق يتبين لنا أن وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يسقط بخوف الضرر والمفسدة، وكذا إذا تيقن المرء عدم تأثيره، لكن لا يعني هذا بحال من الأحوال أن يرضى المؤمن عن المنكر، فإن ترك الإنكار القلبي ليس وراءه من الإيمان حبة خردل.
وبهذه الصفحات اليسيرة يظهر لنا منهج أهل السنة والجماعة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكيف أنه منهج وسط متوازن لا إفراط فيه ولا تفريط، يتيح للمسلم أن يغير من المنكر ما يستطيعه بشرط ألا يؤدي إلى فتنة أو منكر أشد، وألا يفتأت على الحاكم فيما يقوم به، حتى لا ينقلب الأمر فوضى، والله أعلم.
وقد ذكر العلماء آدابا وصفات للآمر بالمعروف والناهي عن المنكر، لم أشأ أن أطيل بذكرها لخروجها عن موطن البحث، فلتراجع في مظانها( ).

المبحث الثاني
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عند الخوارج
الخوارج كغيرهم من الفرق الإسلامية يرون أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من واجبات الأمة التي يخاطب بها كل فرد من أفرادها، لكن الخوارج غالوا في تطبيق هذا الواجب وتحقيقه بأي صورة كانت، حتى ولو بسل السيوف في سبيل إقامته، وهم في ذلك متفقون مع بعض أهل السنة، كما يقول ابن حزم:
( ذهبت طوائف من أهل السنة، وجميع المعتزلة، وجميع الخوارج، والزيدية، إلى أن سل السيوف في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب إذا لم يمكن دفع المنكر إلا بذلك)( ).
فهم تعدوا بهذا الواجب الغرض الذي شرع له، حتى طبقوه في كل صغيرة وكبيرة، فصار علامة مميزة لهم ( فالله يطلب من المسلمين ألا يسكتوا إذا رأوا منكرا على الأرض، فهم لا يقصرون على أنفسهم فعل الخير وترك الشر، بل عليهم أيضا أن يعملوا حتى يكون الأمر كذلك في كل مكان، وعند سائر الناس، أعني أن عليهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتغيير المنكر واجب على كل فرد بلسانه وبيده، وهذا المبدأ مبدأ إسلامي عام، ولكن تحقيقه بمناسبة وغير مناسبة كان علامة دالة على الخوارج)( ).
فتغيير المنكر عند الخوارج اتخذ بعدا جعله من أهم الواجبات المنوطة بهم، مما خرج به عن كونه وظيفة دينية أناط الله عباده بها إلى أن صار أداة سياسية لتحقيق مطلب يسعون إليه (جعلوا لهذا الأصل صلة وثيقة بالفكر السياسي، والتغيير للظلم والجور الذي طرأ ويطرأ على المجتمعات، كما جعلوا القوة [قضية السيف] أداة أصيلة وسبيلا رئيسيا من أدوات النهي عن المنكر، وسبيل التغيير للجور والفساد )( ).
والمباينون لمنهج أهل السنة في مسألة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فريقان: فريق اتسم بالإفراط في استعماله، وفريق اتسم بالتفريط والتقصير، وكان الخوارج أصحاب المنهج الأول الذي أفرط في استعمال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لأدنى مناسبة ممكنة.
يقول ابن تيمية معقبا على قول الله تعالى: â $pkš‰r'¯»tƒ tûïÏ%©!$# (#qãZtB#uä öNä3ø‹n=tæ öNä3|¡àÿRr&( Ÿw Nä.•ŽÛØtƒ `¨B ¨@|Ê #sŒÎ) óOçF÷ƒy‰tF÷d$# á( ).
يقول: ( وهنا يغلط فريقان من الناس: فريق يترك ما يجب من الأمر والنهي تأويلا لهذه الآية، والفريق الثاني: من يريد أن يأمر وينهى إما بلسانه وإما بيده مطلقا من غير فقه وحلم وصبر ونظر فيما يصلح من ذلك وما لا يصلح وما لا يقدر عليه... فيأتي الأمر والنهي معتقدا أنه مطيع في ذلك لله ورسوله، وهــو معتد في حدوده كما انتصب كثير من أهل البدع والأهواء كالخوارج والمعتزلة والرافضة ممن غلط فيما أتاه من الأمر والنهي والجهاد على ذلك، وكان فساده أعظم من صلاحه )( ).
وقد كان الخوارج أول من قام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بهذه الصورة المبالغ فيها التي تعدت منهج أهل السنة والجماعة، حتى قال فيهم أحد الإباضية: (إنهم أول من أنكر المنكر على من عمل به، وأول من أبصر الفتنة وعابها على أهلها، لا يخافون في الله لومة لائم)( ).
وقد كان خروجهم أول ما خرجوا على الإمام عليّ بن أبي طالب  إنكارا لمنكر –في زعمهم- وهم لا يستطيعون أن يروا منكرا دون أن ينكروه، وهذا ما أعلنه عبد الله بن وهب الراسبي أول أمير لهم في خطبته التي حثهم فيها على الخروج، قال: ( أما بعد، فو الله ما ينبغي لقوم يؤمنون بالرحمن، وينيبون إلى حكم القرآن، أن تكون هذه الدنيا التي الرضا بها والركون إليها والإيثار إياها عناء آثر عندهم من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقول الحق)( ).
ومن هذا النص يتضح منهجهم في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومفارقة الدنيا وشهواتها، وخوض المعارك والاستشهاد في سبيل تغيير ما يعتقدونه منكرا.
وفي خطبة لأحد زعمائهم أيضا "حيان بن ظبيان" يحثهم فيها على الخروج، وإنكار المنكر، يقول: انصرفوا رحمكم الله إلى مصرنا فلنأت إخواننا فلندعهم إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإنه لا عذر لنا في تركه وولاتنا ظلمة، وسنة الهدي متروكة)( ).
فهم قد أَوْلُوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عناية عظيمة واعتبروا كل مخالفة منكرا يجب إنكاره دون هوادة أو روية، لا سيما إذا كان المخالف أو صاحب المنكر من الحكام، وهم في ذلك لهم دوافع أخذوها مما يرونه من شيوع المنكرات، وانتشار المظالم بين الناس والحكام، وغياب معالم الدين عند كثير من الناس. ويرى ابن القيم أن الخوارج قد استباحت قتال الناس ومحاربتهم في صورة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (وأخرجت الخوارج قتال الأئمة والخروج عليهم بالسيف في قالب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)( ).
لكن يمكننا القول: إن دوافع الخوارج للأمر وبالمعروف والنهي عن المنكر كانت دوافع دينية، وإن غالوا في تطبيقها، لكنها لم تكن دوافع سيئة، كما كانت – مثلا – عند عبد الله بن سبأ الذي (أراد أن يفسد الإسلام بمكره وخبثه فأظهر النسك، ثم أظهر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حتى سعى في فتنة عثمان وقتله)( ). واستعمل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في تأليب الناس على الخليفة، فكان يقول في خطبه ورسائله إلى أعوانه وأنصاره (ابدأوا بالطعن على أمرائكم، وأظهروا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تستميلوا الناس)( ). أما الخوارج فليسوا كذلك، بل كانت بغيتهم إصلاح ما رأوه من فساد، وتغيير ما شاع في المجتمع من منكرات، فأخطأوا الطريق، أو كما عبر الإمام عليّ  " طلبوا الحق فأخطأوه".
لكن ليس معنى ذلك أن النية الحسنة تبرر الخطأ الذي وقعوا فيه، لأنه بمقياس المصالح والمفاسد المترتبة على سلوكهم تكون المفاسد أكبر، والأضرار التي لحقت بالأمة نتيجة سلوكهم كانت لها آثار ممتدة وعواقب وخيمة.

المبحث الثالث
أثر رأي الخوارج في الفكر الإسلامي المعاصر
سبق أن ذكرت أن منهج أهل السنة في هذه المسألة منهج معتدل وسط، بيد أن الخوارج غالوا فيه، وحادوا عن نهج الصواب، وقد نهج نهجهم وسلك سبيلهم بعض المعاصرين.
وقابلهم آخرون ففرطوا في الأمر تماما حتى أوقفوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومنهجهم في ذلك ( التوقف في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لأن المجتمعات كافرة، وليس بعد الكفر ذنب)( ).
فترتيب الأولويات عندهم يقتضي ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تماما حتى يدخل الناس في الإيمان من جديد، وطالما أن ذلك لم يحدث فعندئذ يكون ( الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا ضرورة له، وذلك حتى يؤمن هؤلاء من جديد )( ).
وهذا منهج جماعة المسلمين – الذي يطلق عليها الإعلام جماعة التكفير والهجرة – وفيه غلو واضح ومبالغة ظاهرة.
وعلى الجانب الآخر فإننا نجد أقواما قد غالوا في القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حتى خرجوا فيه عن حد الاعتدال.
ومعلوم أهمية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومدى حاجة الناس إليه، وهم يقررون ذلك ( نحن في حاجة إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإلا تزاحمت علينا المنكرات، وأفسدت علينا سعينا، وأخذت بخناق دعوتنا، وأذهبت كل آثارها أدراج الرياح)( ).
ولأن النهي عن المنكر يرتبط عندهم باستخدام القوة، لذا فإنهم يرونه غير موجود في الوقت الحالي، وكأن وسيلة القوة هي الوسيلة الوحيدة للتغيير، فإذا لم توجد فلا أمر ولا نهي، يقول عبد القادر عبد العزيز: ( ثم إن هذا الباب قد ضيع أكثره من أزمان متطاولة، ولم يبق منه في هذه الأزمان إلا رسوم قليلة جدا)( ).
وقد تضافرت أقوالهم على بيان وجوبه، يقول مؤلف كتاب "العمدة": (تطابق على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: الكتاب والسنة وإجماع الأمة، وهو أيضا من النصيحة في الدين )( ).
وهذا لا خلاف فيه، بل هو محل اتفاق، وإنما يظهر الخلاف في حدود الأمر والنهي، ومتى يجب باليد ومتى لا يجب.
وقد بينت من قبل منهج أهل السنة في الإنكار باليد، أما المعاصرون فقد ذهب جمع منهم إلى الإطلاق في هذا الأمر، وبيان أن على آحاد الرعية تغيير المنكر باليد، ولهم في ذلك كتاب بعنوان: "الأدلة الشرعية على تغيير المنكر باليد آحاد الرعية" يقولون فيه: (إن الحق الذي نعتقده وندين به، أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو واجب الأمة جمعاء، وأن لآحاد الرعية من المسلمين تغيير المنكر بأيديهم، وليس فقط بألسنتهم)( ).
وهذا كلام مطلق، ليس فيه تفصيل لحالات التغيير، ومتى يكون باليد، ومتى يكون بالقلب، ومتى يكون باللسان.
وقد استدل على ذلك بجملة من الأدلة، منها ما يلي:-
عن طارق بن شهاب قال: أول من بدأ الخطبة يوم العيد قبل الصلاة مروان، فقام إليه رجل فقال: الصلاة قبل الخطبة. قال: قد ترك ما هنالك. فقال أبو سعيد: أما هذا فقد قضى ما عليه. سمعت رسول الله  يقول: «من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان»( ).
ويستدل بهذا الحديث على أن لآحاد الرعية تغيير المنكر بما يلي:-
1- "من" وهي من صيغ العموم، وذلك يعني أن الخطاب موجه إلى كل فرد من الأمة، وليس إلى طائفة منهم.
2- "منكم" القائل هو النبي ، والمخاطبون هم الرعية، فلو كان الذي يغير بيده هو الحاكم وحده، فكيف خوطبت الرعية بذلك؟!
3- قوله " فمن لم يستطع" يدل على أن المخاطب بالأمر الأول " التغيير باليد" هو المخاطب بالأمر الثاني "باللسان" هو المخاطب بالأمر الثالث "بالقلب"، فإن عجز عن الأولى انتقل إلى الثانية، وإن عجز عن الثانية انتقل إلى الثالثة.
وفي هذا القول أيضا " فمن لم يستطع " دليل آخر، وهو: لو أن التغيير باليد قاصر على الحاكم لما كان لقوله أيضا "فمن لم يستطع" معنى، لأن الحاكم مستطيع التغيير باليد على كل حال)( ).
وفي حديث النبي : «ما من نبي بعثه الله قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب، يأخذون بسنته ويقتدون بأمره، ثم إنه تخلف من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل»( ).
يعلق على هذا الحديث قائلا: فقوله : «فمن جاهدهم» يفيد العموم، أي التغيير باليد لآحاد الرعية)( ).
وقد أجاز بعض العلماء إنكار الرعية باليد، وهذا لا نزاع فيه الآن، وإنما النزاع في تقرير ذلك المبدأ، وجعله أصلا عاما في كل وقت وحين ومع أي أحد، وفي أي منكر، وحث الأتباع عليه، وترغيبهم فيه.
ولا يقتصر الأمر للجواز فقط، وإنما قد يتعداه إلى الوجوب، وقد جاء ذلك في سؤال موجه إلى الدكتور: عمر عبد الرحمن، كانت صيغته: هل يجوز استخدام القوة في تغيير المنكر للأفراد كتحطيم السيارة، أو كسر آلة موسيقية، أو الاعتداء على خمور مثلا؟ فأجاب بقوله (نعم، يجوز ذلك؛ بل قد يجب، وكيف يستأذن من ولي الأمر إذا كان قد جعل المنكر معروفا، فأحل الزنا والربا والخمر والمسارح والمراقص، وأوقف رجال الشرطة يحرسون هذه الأماكن ويجعلون لها حماية، فهل يستأذن ولي الأمر في النهي عن المنكر الذي رعاه وحماه، واعتني به أشد الاعتناء، وجعله من موارد الدولة وترويج السياحة)( ).
وتغيير المنكر لا يقتصر علـى هـذه الأمور، وإنما يصل إلـى درجة (جواز إحداث انقلاب عسكري باستخدام القوة)( ). وقد سبق بيان ذلك.
وفي الرد على من يشترط إذن الإمام يقول كتاب "ميثاق العمل الإسلامي"( ): ( إن هذا الاشتراط فاسد وتحكم بغير دليل، فإن الآيات والأحاديث الآمرة بالحسبة تخلو من هذا الشرط، وهي مطلقة غير مقيدة بهذا القيد، فمن أين جاءوا به؟)( ).
وتأصيلا لمسألة عدم الاستئذان يحكمون بكفر وردة الحكام في هذا الزمان حتى لا يكون هناك داع للاستئذان: ( إن كل هذا سائغ في وجود إمام مسلم يعقد ولاية الحسبة لمن هو أهل لها، أما وقد ارتد حكام زماننا بتبديل الشرع فقد سقطت ولايتهم، وأصبح من الواجب والمفروض علينا أن نقوم لخلعهم، فلا يقال: بأنه يجب أو حتى يجوز استئذان أمثال هؤلاء قبل الاحتساب )( ).
أي أنهم يجعلون عدم الاستئذان نتيجة طبيعية لمقدمة سبقتها، وهي ردة الحكام، وما دام الحكام مرتدين فلا مسوغ لأخذ الإذن منهم، وقد سبق بيان ذلك بشيء من التفصيل.
وهم يؤكدون على مسألة عدم إذن الحاكم تأكيدا شديدا، وفي ذلك يقول عبود الزمر: (ويجوز التغيير باليد مع العصاة بغير مفسدة أكبر، وبدون تفويض من الحكام)( ).
وإذا كان أهل السنة يشترطون ألا يؤدي ذلك التغيير إلى منكر أشد، أو يؤدي إلى فتنة وفساد، فإن بعض المعاصرين لا يرفعون بهذا الكلام رأسا ولا يقبلونه، وفي ذلك يقولون في كتاب " الأدلة الشرعية على جواز تغيير المنكر باليد لآحاد الرعية": ( إن الفوضى الحقيقية في ترك المنكر يتفشى ويزداد، دون محاربة من القائمين على تغييره بدعوى الخوف من الفوضى والفساد )( ).
إلا أنهم قد يجدوا للمنتسبين إليهم عذرا، ليس لأنهم يتعرضون لأذى، ولكن إن تعرضت الجماعة لأذى، فمصلحة الجماعة أولى من مصلحة الفرد، وفي ذلك تقول الجماعة الإسلامية: (بغض المنكر واجب، ولا رخصة لترك تغييره إلا للعاملين في مواقع بعينها، أو إذا ترتب على الإنكار مفسدة أكبر كانكشاف الأمر، أو إهدار العمل التنظيمي الذي ينتمون إليه)( ).
وأهم شرط عندهم هو القدرة على التغيير، فطالما أمكنك التغيير فافعل دون نظر إلى عواقب ( إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب شعوري مرتبط بالقدرة، كما أنه وسيلة فعالة في تخليص الأمة من أمراضها، وإعادتها إلى فاعليتها)( ).
ولم يقتصر الأمر على تغيير المنكرات الظاهرة، وإنما امتد ذلك ليشمل الكلام حول إقامة الحدود، وفي ذلك يقول القائل: ( أما إذا قصر الحاكم في إقامة الحدود فإنه يجوز للجماعة المحتسبة من آحاد الرعية أن تقوم بذلك بعد النظر في قاعدة المصالح والمفاسد؛ لأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب على الأمة، وينوب عنها الحاكم في ذلك، فإذا قصر الحاكم رجع الأمر للأمة)( ).
هذا مع أن المتفق عليه بين الفقهاء أنه لا يقيم الحدود إلا الإمام أو نائبه، وذلك لمصلحة العباد، وهـي صيانة أنفسهم أموالهم وأعراضهم، والإمام قادر على الإقامة لشوكته ومنعته، وانقياد الرعية إليه، كما أن تهمة الميل منتفية في حقه، ولأن النبي  وخلفاءه من بعده هم الذين كانوا يقيمون الحدود( ).
(ولأن الحد يفتقر إلى الاجتهاد، ولا يؤمن في استيفائه من الحيف والزيادة على الواجب، فوجب تركه لولي الأمر يقيمه إن شاء بنفسه، أو بواسطة نائبه)( ).
وقد أتت هذه الفتاوى والاجتهادات أكلها، فهب الأتباع يقومون بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، دون ضابط أو رقيب، وعانت الأمة في فترة من فترات تاريخها المعاصر من هذا المنهج في تاريخ المنكر، الأمر الذي أشعل الصراع بين الجماعات الإسلامية والحكومات المتعاقبة، وأضر بالدعوة الإسلامية أبلغ الضرر.
ومن أمثلة ما حدث من تغيير للمنكر وفق هذا المنهج:-
- حرق عدد من الأضرحة والبارات( ).
- اشتباكات بمدينة المنيا بسبب الهجوم على حفلة موسيقية أقامها أحد الأثرياء( ).
- الاعتداء على حفل موسيقي بجامعة أسيوط باستخدام الأسلحة البيضاء( ).
وقد ذكرت الدكتورة هالة مصطفى جدولا بأهم أحداث العنف التي قامت بها الجماعات الإسلامية من عام 1981 م حتى عام 1991، فعددت ما يزيد على المائة حالة( ).
وقد كان جانب المفسدة أكبر من جانب المصلحة في هذه الأفعال، ولم يزدد بها المنكر إلا فشوا، وخف صوت الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر بالحسنى؛ لما لاقوه من عنت من قبل أجهزة الأمن من جراء تلك الأفعال التي قام بها أصحاب هذا المنهج، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

الخاتمة
في ختام هذا البحث، عليّ أن أذكِّر بما يلي:-
1- أن الخوارج فرقة قد نشأت نتيجة عوامل متضافرة، لا يمكن إنكار واحد منها، ولا يمكن الجزم أن عاملا منها كان هو السبب الرئيس في خروجهم، ثم إن جزءا من هذا الخروج قد تبدو أسبابه طبيعية نتيجة لعوامل نفسية، ومدى قدرة النفس على السير على ما خُط لها من منهج، دون أن يظهر إفراط أو تفريط.
2- فرقة الخوارج قد انقسمت إلى طوائف متعددة، شايعت كل طائفة منها إماما، واختارت لنفسها مبادئ غايرت بها مبادئ الأخرى، وهي في هذا مثل باقي الفرق المخلفة، لكن هذا الأمر ازداد وضوحا عند الخوارج، وظهر بكثرة، نتيجة اعتزازهم بآرائهم، واندفاعهم في ترجمتها إلى واقع عملي على الأرض يحياه الناس، كل هذا صاحبه بساطة في التفكير، وسذاجة في فهم النصوص الشرعية، وفي طريقة التعامل معها.
3- أن قليلا من مبادئ الخوارج هي ما أجمعوا عليه، وإلا فإن أكثر آرائهم وُجد لها مخالف من بينهم، حتى لا يكاد يسلم رأي من الاعتراض والتعقيب، والأخذ والرد، وهذا -عند المتأمل– صورة طبيعية لهم، ونتيجة واقعية لسلوكهم.
4- بيد أنه يمكن القول أن الفرقة قد حظيت ببعض الزعماء الذين كان لهم أبلغ الأثر في انتشار آراء الفرقة، وإعجاب البعض بها نتيجة لإعجابهم بهـذه الشخصيات، وقد كان هؤلاء الزعماء المثل الأعلى في شدة الأخذ بالمذهب، وحمل الناس عليه، وضرب المثل لأتباعهم، فكانوا بذلك خير دعاة لمذهبهم، في حياتهم وبعد مماتهم.
5- لا يمكن التعميم في الحكم على الخوارج برأي يعم الفرقة كلها، فهم متباينون في آرائهم تباينا شديدا، حتى يكفرون بعضهم بعضا، فكذلك الحكم عليهم ينبغي أن يخضع لرأي كل فرقة منهم، والتعامل مع آراء كل فرقة بمعزل عن آراء الفرق الأخرى، حتى يستبين وجه الحق في حكم كل طائفة من طوائفهم.
6- ومع ذلك فأنا أميل إلى القول بعدم تكفير الخوارج جملة – مع القطع بكفر بعض فرقهم ممن خالف ثوابت الدين، وأنكر ما هو من معلومات الدين بالضرورة، إلا أن الفرقة – دون الأقوال الشاذة فيها – لا يمكن القول بتكفيرهم إلا بتفصيل، وهذا ما رجحه عدد من العلماء، وإنما كنت في ذلك متبعا لا مبتدعا.
7- كثير من آراء الخوارج وُجد له صدى في العصر الحاضر في فكرنا الإسلامي، بصورة ما، وتفاوت هذا الأثر قوة وضعفا، واختلفت وجهة نظر القائلين بآراء الخوارج، ما بين تطبيقها عمليا، أو الاقتناع بها نظريا فقط، والاجتهاد في تقريرها، والإعجاب بها، وحث الناس على اعتناقها.
8- وقد قال برأيهم في الإمامة –عدم اشتراط النسب– كثير من المعاصرين، لكن فريقا من هؤلاء المعاصرين قد أبعد في القول، وأساء فـي فهم النصوص الشرعية، فلم يقبل أحاديث صحيحة، وإن كان الرأي الغالب عند المعاصرين هو قبولها مع تأويلها بما يوافق وجهة نظرهم.
9- بعض آراء المعاصرين في التكفير والخروج تسير على الخطى التي سار عليها الخوارج قديما، فيتشابهون في أفكارهم ورؤاهم، دون أن يكون هناك ارتباط تاريخي بين القديم والحديث، وهذا شأن أي فكر يحيا به الناس، لا بد أن تنسحب آثاره في أعقابهم.
10- يقول العلماء "الحكم على الشيء فرع عن تصوره" وموضوع "الحاكمية" من الموضوعات التي أثارت فتنا عديدة، وأكثر الناس من الخوض فيه، والحديث عنه، دون أن يكون عند البعض تصور واضح عن المفهوم، والمقصود منه، وأدلته الشرعية، ومدى قرب هذه الأدلة من الشرع أو بعدها عنه.
ولا يتأتى هذا التصور إلا من خلال عرض أفكار من قال به، وعرضها كما قالوها حتى يتضح المفهوم، وتظهر دلالاته عند أصحابه، وهذا ما قمت به، وقد بان لي من خلال هذا العرض، أن هذا المفهوم أصيل في الإسلام، وإن اعترته شوائب مرت به عبر العصور، لكن يمكننا أن نحكم أنه في العصر الحاضر يُعد هذا الفكر عند أصحابه نتاج إسلامي خالص، واجتهاد محض لهم رأوه من خلال النصوص الشرعية دون تأثر بالسابقين، وإن كان هناك شبهة تأثر أو غيره؛ فإنما هي في ما أحاط بالمصطلح من ملابسات عند الناس.
على أني يمكنني أن أقول: إن مما ازددت به قناعة من هـذا البحث: أن منهج أهل السنة دائما هو أعدل المناهج وأمثلها، بلا إفراط ولا تفريط، لأنه منهج يسير متبعا كتاب الله تعالى، وسنة نبيه ، وفي الالتزام به عصمة من الخلاف، وسير على منهاج النبوة، وفي بيانه وعرضه وإيضاحه قطع لكل الآراء المخالفة، وإهدار لها.
وهذا من خصائص مذهب أهل السنة؛ لأنه منهج متوازن، أما مناهج المبتدعة وغيرهم من الفرق الضالة، فليس لها ثبات على مبدأ بعينه، بحكم أنهم ليسوا على الصراط المستقيم، وكل ما ليس على الصراط المستقيم تزيغ به الأهواء وتضل به الأفئدة.
وفي ختام عملي هذا؛ أسأل الله تعالى أن يكون قد وفقني لسداد القول وكريم الحجة، وأن يرزقني أن أشكر نعمته التي أنعم عليّ بإتمام هذا البحث، رائدنا فيه العمل على إحياء شرع الله تعالى، متخذين من القرآن الكريم والسنة النبوية نبراسا ودليل.
وأستغفر الله تعالى من أي سهو أو خطأ أو تقصير، وكل قول قلته من عندي ثبت الدليل الشرعي بخلافه فأنا راجع عنه، وأقول بما صح به الدليل.
اللهم اجعل هذا العمل خالصا لوجهك الكريم، غير منقوص ولا مدخول، واغفر به اللهم لمشايخي ولوالدي، ولأصحاب الحقوق عليّ، وأهلي وذريتي، وكل من أعانني في هذا العمل، أو دعا لي بخير، وللمؤمنين والمؤمنات... اللهم آمين.

توصية
أرى أن هناك وصية ربما نخرج بها من هذا العرض، ألا وهي:-
أن التعامل مع الفكر المغالي، والرأي المنحرف لا يكون إلا بالحوار معه، وتصحيح ما به من أخطاء، وبيان ما لديه من خلل، وإيضاح الصواب له، هذا هو سبيل العلاج، وأن يتم ذلك من خلال التعامل مع صاحب هذا الفكر لا بكونه يقف موقف المتهم ينتظر الإدانة، وإنما هو في موقف المريض تريد له الدواء.
وهذا أمر قد لمسناه في التعامل مع هذا الفكر قديما وحديثا.
فمع الخوارج الأُوَل، لما ذهب عبد الله بن عباس رضي الله عنهما إليهم لمناظرتهم، وإقناعهم بالحجة، ومحاجتهم بالقرآن والسنة عاد منهم أربعة آلاف إلى جماعة المسلمين مرة أخرى، بفضل الحوار والمناقشة.
وفي العصر الحاضر؛ لما قوبل هذا الفكر بالقوة –خصوصا في العقد الماضي- أثمر عنفا مقابلا، ورد بالقوة على القوة، وعظمت الفتنة، وتعثرت مسيرة الدعوة الإسلامية، فلم يأت هذا الأسلوب بنتائج مثمرة، ولما تغير هذا الأسلوب، واتُّبع سبيل المحاورة والإقناع، والمناظرة والجدال، أتى كل ذلك أكله، وكانت ثمرة ذلك كله ما حدث من تراجع عن فكر الغلو، واعتراف بالخطأ، ونبذ لما كان عليه أصحاب هذا الفكر من منهج مخالف ومحاولة للتصحيح، وقد ظهر ذلك في أفكار الجماعة الإسلامية بمصر التي عرضتها قيادة الجماعة في سلسلة كتب تحت عنوان [ سلسلة تصحيح المفاهيم ]، وقد صدر منها الكتب الآتية:-
1- مبادرة إنهاء العنف.. رؤية شرعية وضرورة واقعية.
2- حرمة الغلو في الدين وتكفير المسلمين.
3- تسليط الأضواء على ما وقع في الجهاد من أخطاء.
4- النصح والتبيين في مفاهيم المحتسبين.
وتوالت بعد ذلك الإصدارات التي تنقض المنهج الأول، وتبين ما كان فيه من مخالفات.
فينبغي أن يكون هذا هو المنهج الذي يقابل به تيار العنف دائما، محاولة احتوائهم، وردهم إلى صفوف الجماعة المسلمة مرة أخرى.
أسأل الله تعالى أن يجنبنا الفتن ما ظهر منها وما بطن... اللهم آمين.

عبد التواب محمد عثمان

الأكثر مشاركة في الفيس بوك