الدولة التي تأكل أصدقاءها

د. علي عقله عرسان

 

التركيز الإعلامي الغربي، وتركيز وسائل الاتصال الاجتماعي، على البشمرجة، ودورها في معركتي الموصل والرقة، لافت للنظر.. وتركز أكثر عند إعلانها عن بداية عمليات عسكرية لتحرير الرقة ، تحت قيادة التحالف الدولي، من دون مشاركة أو تدخل تركي.. حيث أعلنت أنه تم التوصل إلى “اتفاق نهائي مع التحالف الدولي على عدم وجود أي دور لتركيا أو للفصائل المسلحة المتعاونة معها في العملية”. وهذا الإعلان يحملُ جديدًا، شكلًا، لكنه ليس من الجديد في شيء، مضمونًا. والجديد شكلًا، هو أن يتم عن إعلان القديم، بتصعيد ذي مردود دعائي راهن، يرفع من شأن قدرات البشمرجة ومعنوياتها، في عملية تأهيل ذات أبعاد مستقبلية للدولة الكردية الموعودة، التي ربما كان حَلُّ الجيش العراقي في عهد بريمر، وكما جاء في مذكراته، من أجل ذلك، حيث قال: “إن حل الجيش العراقي وإلغاءه، جاء بطلب مباشر من مسعود بارزاني”؟! أمَّا الأمر القديم المتجدّد، فهو تبني الغرب للأكراد ولمشروعهم الانفصالي، تبنيًا يذهب إلى مدى الوعد القريب بإعلان الدولة.. حيث صرح أكثر من مسؤول في أربيل، بأنه “بعد الانتهاء من معركة الموصل سوف تعلِن كردستان العراق الاستقلال، وإقامة الدولة”، وجاء مثل هذا سابقًا من أكراد في محافظة الحسَكَة، وبتنسيق مع أربيل. ويبدو أن هذا هو الوعد الأميركي لهم، بعد دخولهم بحماسة معركتي الموصل والرقة، على الرغم من اعتراض سوريا على إعلان الحكم الذاتي من جانب واحد، وعلى إعلان الفيدرالية وسواها، مما يمهد لمشروع الدولة الكردية، واعتراض تركيا على ذلك أيضًا؟! وقد تم تسكين توتر الأتراك بعد استبعادهم من المشاركة في المعركتين، “الموصل والرقة”، لا سيما معركة الرقة على الخصوص، وذلك بتصريح لأشتون كارتر يوم السادس من نوفمبر، قال فيه: “إن بغداد وأنقرة توصلتا إلى اتفاق مبدئي، سيسمح في النهاية بإشراك القوات التركية في معركة استعادة مدينة الموصل من تنظيم داعش”.. وكذلك بالزيارة التي قام بها قائد القوات الأميركية المشتركة جوزيف دانفورد لأنقرة، واجتماعه برئيس الأركان التركي خلوصي آكار. وقد صدر عن اجتماعهما بيان في ٦ تشرين الثاني/نوفمبر ٢٠١٦، يطمئن تركيا بعدم تفريغ الرقة من سكانها العرب السنة على يد الأكراد، وبالتنسيق معها في موضوع السيطرة على المدينة، ولا يعترض ضمنيًّا على سيطرتها على أراضٍ سورية بين جرابلس والباب، تبلغ مساحتها خمسة آلاف كم٢ لتقام هناك منطقة آمنة، وتأكيد ما كانوا وعدوهم به سابقًا، بجعل القوات الكردية تنسحب من منبج، ولا يكون لها وجود غرب نهر الفرات.

 

 

لقد تضمن بيان دانفور ـ آكار جملة يمكن التوقف عندها: “التفاهم طويل الأمد بين الأميركيين والأتراك حول الرقة”، ولم تتم الإشارة إلى أية تفاصيل أخرى.. عدا العبارة القصيرة التي جاءت في التصريحات: “عدم تفريغ الرقة من سكانها العرب السنة”، وهي تشير إلى عدم تسليم المدينة للأكراد.. وهم عمليًّا يفرغون كل قرية وبلدة ومدينة يدخلونها من العرب، بطرق شتى، وذلك منذ ما قبل “عين العرب” وحتى آخر ما دخلوه من قرى في شمال الرقة، كان آخرها قرية: الهيشة”. وقد أشير لاحقًا، في الثامن من تشرين الثاني/نوفمبر ٢٠١٦، على لسان شاويش أوجلو، إلى أن الأميركيين تعهدوا بأن يكون دور الأكراد في معركة الرقة محصورًا في حصار الرقة فقط، وأنهم لن يدخلوها. ولكن بقيت الشكوك التركية قائمة وملازمة لتحركاتهم، وقد يكون هذا طبيعيًّا، لأن مجريات الأمور في وقت الحرب قد تسير في اتجاه غير محسوب، ولأن الأميركيين لا مصداقية لهم، ولأن الأكراد أخرجوا العرب من قرى وبلدات ومدن كثيرة، ومنها كركوك، حيث طردوهم من المدينة، رغم الوعود بعدم فعل ذلك؟!

 

والملاحظ أن الولايات المتحدة الأميركية تسارع إلى بسط سيطرتها على شمال شرق سوريا، لا سيما شرق نهر الفرات، وتعزز وجودها هناك، بما يمكِّنها من البقاء، على الرغم من عدم شرعية وجودها، وهي تفعل ذلك باسم مكافحة الإرهاب “داعش وأخواتها، وتقف خلف وإلى جانب الواجهة التي ترفعها البشمرجة في المنطقة باسم “قوات سوريا الديمقراطية”، تحرير الأرض من تنظيم الدولة.. والبشمرجة تعلن أنها تعمل على المشروع الكردي “دولة تبدأ بكرد العراق وسوريا” وتمتد إلى كرد إيران وتركيا. ومن خلال هذا الكيان ستعزز الولايات المتحدة الأميركية وجودها وتوسع نفوذها ودورها في المنطقة، لا سيما في سوريا، إذ وجودها في العراق معزَّزٌ نسبيًّا، وسيكون لهما مدخل أوسع على تركيا من خلال الكيان الكردي، وهذا كله يدخل من الباب العريض في مواجهتها السياسية والاستراتيجية مع روسيا الاتحادية وحلفائها في سوريا على الخصوص، ولمواجهة انتشارها في شرق المتوسط، وفي المنطقة عمومًا. والولايات المتحدة لا تهتم الآن بما يروَّج عن احتمال قيام تركيا بإغلاق قاعدة أنجرليك بوجهها، كما كان اهتمامها بعدم حصول شيء من ذلك في السابق، لا سيما إبَّان عدوانها الوحشي على العراق واحتلاله في ٢٠٠٣ مثلًا، وذلك لأنها أنشأت بدائل، منها عدة مطارات، في محافظة الحسكة. ربما كان “مطار الرميلان ـ مطار أبو حجر” من أهمها، والتأسيس لقواعد عسكرية، في الجزء الذي تتحكم بمصيره في سوريا، من خلال واجهة الأكراد.. هذا إضافة إلى قواعدها في العراق بما في ذلك شماله، وقواعدها في الخليج العربي. كما سيكون للكيان الصهيوني أوراق يلعبها، من خلال الكيان الكردي، إضافة للأوراق الأميركية المجيَّرة لصالحه.. لا سيما وأنه هو الضالع في المشروع الكردي منذ خمسينيات القرن العشرين. والإعلانات غير مخفية في شمال العراق، وفي منطقة القامشلي وتوابعها، عن أن “إسرائيل” هي الصديق والحليف الأقرب للأكراد، وهي مَنْ يُعْتَمَد عليه، من جانبهم.

 

إنَّ ما يجري متوقع منذ دخول الولايات المتحدة الحرب في سوريا، أيلول/سبتمبر ٢٠١٤، ولكن تسارعه هو الذي لم يكن متوقعًا.. واللافت للنظر، بالتزامن مع ذلك التسارع، توقف روسيا عن مصادمة الموقف الأميركي، ولو كلاميًّا، منذ الموقف المشهود في مجلس الأمن الدولي قبل أسابيع. وهذا لا يمكن أن يحمل على محمل أن الروسي سلم للأميركي بالأمر الواقع، بمقدار ما يشير إلى احتمالات، ويشي بأمور أخرى، أكبر من مدى الصمت الذي نتابعه.. ومن ذلك:

 

١ -استكمال روسيا لتجميع قوات بحرية قوية في قواعدها السورية، وفي شرق المتوسط. وقد أنجزت ذلك الآن. إضافة إلى احتمال متصل بهذا الشأن، وهو دخول قوات صينية ومصرية، ولو بصورة رمزية في المعارك، ابتداءً من حلب، وبما يشمل مناطق أخرى في سوريا.

 

٢ -الإعداد لاكتساح حلب بقوة كبيرة، لا تسمح للأميركيين بالتصعيد، فضلًا عن الصدام.. لا سيما مع دخول أوباما وإدارته فيما يسمى سياسيًّا، مرحلة “البطة العرجاء”، بعد الإعلان عن نتائج الانتخابات الأميركية، وفوز ترامب والجمهوريين، وسيطرتهم على مجلسي الكونجرس.

 

٣ -إمكانية التوصل إلى اتفاق مع الأميركيين، يعلن عنه من خلال تطبيقه، بشأن المنطقة، في وقت لاحق، وربما مع إدارة ترامب.

 

٤ -قيام الروس بالتربُّص، في أثناء الدخول الأميركي في عمق معركتي الموصل والرقة.. حيث يقومون، في وقت التربص، بالتخطيط لما بعد لحظة المد العسكري الأميركي الراهن، بتحرك سريع وكثيف.

 

٥ -أو أنهم.. وهذا مستبعد، يعيدون النظر ببعض السياسات والاستراتيجيات، بانتظار استلام الإدارة الأميركية الجديد لمهامها، في تطلع لتعاون أفضل.

 

إن كل هذا يمكن التفكير فيه، ووضعه من بين الأسباب التي تجعل روسيا صامتة مترَبِّصة، خلال المدة القصيرة السابقة.. إضافة إلى إمكانية توجهها إلى امتصاص هجوم الغرب السياسي والإعلامي عليها، وتحميلها المسؤولية عمّا أصاب المدنيين في حلب من مآسٍ، نتيجة القصف والتقدم العسكري، لحسم المعركة في حلب، قبل أسابيع.

 

لكن المؤكد أن الصراع في سوريا وعليها، مستمر، وستكون هناك جولات سياسية، ولكن المعارك ستكون أشدَّ ضراوة وشراسة مما شهدناه حتى الآن.. وقد تكون الأيام القادمة بداية لتحرك يرمي في بعض التصريحات الإيرانية إلى حسم الوضع في سوريا خلال هذا العام ٢٠١٦. الأمر الذي يشير إلى ما تم في اجتماع طهران الثلاثي، يوم الخميس ٩/٦/٢٠١٦ لوزراء الدفاع في كل من روسيا وإيران وسوريا “شويجو، ودهقان، والفريج” من تنسيق المواقف ووضع استراتيجية لـ”الحرب ضد الإرهاب”. أشار إلى بعضه وزير الدفاع الإيراني، الجنرال حسين دهقان، حيث قال: “عازمون على خوض معركة “حاسمة” ضد “الجماعات الإرهابية”، و”أن مكافحة “الإرهاب” يجب أن تتم على أساس برنامج مشترك وأولويات محددة.. اتخذنا قرارات لما يجب القيام به على الصعيدين الإقليمي والعملاني بطريقة منسقة”. وهناك مؤشرات، وتصريحات منذ ذلك التاريخ، تشير إلى تعزيز هذا التوجه، لا سيما بعد انهيار المحادثات بين موسكو وواشنطن، والكلام عن أن الحل السياسي أصبح مستبعدًا.

 

ومن المفيد، في هذا المجال، مقاربة موضوع إمكانية تحسن العلاقات الأميركية ـ الروسية، بعد نجاح ترامب رئيسًا للولايات المتحدة الأميركية، وابداء تفاؤله هو والرئيس بوتين بإمكانية تحقق تعاون أفضل، وتحسن للعلاقات بينهما. مما لا شك فيه أن تعاون قوتين عملاقتين على ما فيه خير العالم، وأمنه، واستقراره، والسلم والازدهار فيه.. هو مما يتطلع إليه كل من يعرف جيدًا مقار تأثيرهما السلبي والإيجابي في العلاقات الدولية، وبين الشعوب في تعايشها وتعاونها، والمحافظة على مصالحها.. ونحن نتمنى أن يتم ذلك على أرضية من العقل والعدل والثقة والاحترام، المتبادل بينهما، والمتصل بالآخرين، شعوبًا ودولًا، أجناسًا وثقافات، ديانات وعقائد وتوجهات.

 

إن التوقف عند جملة رئيسة كانت ولا تزال من أهم ما قال ترامب بأنه يعمل على تحقيق مضمونها، هي أنه يريد أن يعيد الولايات المتحدة الأميركية إلى مكانتها ودورها في العالم، ذينك المكانة والدور، اللذين يرى أنها تراجعت عنهما. ومن حقه أن يقول ذلك، وأن يفعل ذلك، بوصفه رئيسًا لبلاده. لكن السؤال هو: أي أميركا التي يريد استعادتها؟ وأي دور؟ وأي مكانة؟! إنه بكل تأكيد غير راضٍ عما وصلت إليه في عهد أوباما، وربما في عهد الديمقراطيين.. وبوصفه يمينيًّا أقرب للتطرف في يمينيته، ونزوعه “الأميركي التاريخي”، ووفق ما صرح به حيال المسلمين، والمهاجرين، والسوريين، و.. و.. فإنه أقرب إلى نزوع قومي متطرف، وإلى تفوق أميركي في الاقتصاد والقوة والهيمنة السياسية.. وهذا يستدعي القلق وليس الاطمئنان لأن أميركا الشمالية، بهذه المواصفات هي أميركا العدوان، والنهب، وابتزاز الدول والشعوب.. وحتى في مراحل تراجعها التي ينتقدها ترامب ويثور عليها، لم تكن غير ذلك.. إلا ببعض الدرجات. وعلى هذا فإن نزوع العظمة، والقوة، والسيطرة أو الهيمنة، والتعالي أو الغطرسة.. ربما يكون من مقومات التوجه السياسي الجديد.. وكذلك تنازع المصالح، لا سيما مع الأقوياء. لن تكون هناك شراكات مثالية، عادلة وإنسانية بين السياسات، ولا بين الساسة الذين من هذا النوع.. فترامب الذي يريد التراجع عن النظام الصحي الذي فيه مصلحة الفقراء في بلاده، لن يتراجع عن الطمع في ثروات بلدان أخرى يمكن أن تصب في مصلحة بلده ومصلحة أصحاب الثروات في بلده، وهو منهم. هذا على سبيل المثال لا الحصر. وإذا ما لاحظنا وجود ملفات مهمة جدًّا، سياسية، وعسكرية، واقتصادية و.. و.. عالقة بين روسيا الاتحادية والولايات المتحدة الأميركية، فلا نظن أن ترامب سيعالجها بما يخدم روسيا وبوتين على حساب الولات المتحدة الأميركية وترامب.. ولا بوتين سيعالجها بما يخدم مصالح ترامب والولايات المتحدة الأميركية على حساب مصالحه ومصالح بلاده.. ولذلك فعجلة “البراجماتية”، السياسة “المصالح”، السياسة التعاسة الروحية والإنسانية. والسياسة “بلا أخلاق حاكمة”، إذ لا أخلاق في السياسة، كما يقول الساسة.. سوف تستمر. ومن ثم فإن النزاع، والصراع، ومنطق القوة.. سوف يستمر.. وسيشمل ذلك بالضرورة المناطق الأكثر سخونة، والأكثر حيوية، والأكثر تداخلًا بين الشركاء المتحالفين، والحلفاء المتشاركين، ضد الآخرين.

 

ربما يحدث تغيير في الأساليب، في التكتيك، في المجاملات.. وربما يحدث اتفاق مصلحي بين الأقوياء ضد الضعفاء وعلى حسابهم، وهذا إن حدث فسيكون مؤقتًا. ومن المؤكد أننا سنرى شخصًا غير جون كيري يتحادث ويتفاوض مع سيرجي لافروف.. لكن أميركا، حسب تاريخها، ونُسج النافذين فيها.. ستبقى أميركا التي لا تتبادل معها روسيا الاتحادية الثقة.. وستبقى الدولة التي تأكل أصدقاءها.. كما تأكل القطة أبناءها، لكن مع أميركا ترامب على الخصوص، من دون دوافع الشفقة، كما يبدو. و”الحدق يفهم”؟!، كما يقول الأشقاء المصريون.

 

أما نحن، العالقين في مستنقع الأزمات، بلا رؤية، وباندفاعات حماسية مميتة، فسنبقى ندفع الثمن.. والثمن الفادح.. والله أعلم.

المصدر: http://www.arabrenewal.info/2010-06-11-14-11-19/63566-%D8%A7%D9%84%D8%AF...

الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك