سوريا أو فلسطين مرَّة أخرى: من الثَّورة إلى الاقتلاع

نزيه كوثراني

 

لا أقول أنَّ ما يحدث اليوم في العالم العربيّ والإسلاميّ مؤامرة، أو أنَّ التَّاريخ يعيد نفسه، بل أنَّ المنطقة عرفت تحوّلات عميقة ديمغرافيًّا واقتصاديًّا واجتماعيًّا وسياسيًّا وثقافيًّا، في إطار انخراطها التَّبعي بشكل أو بآخر في حركة التَّاريخ الرَّأسمالي الحديث والمعاصر. فهناك تحوُّلات محلية في إطار سياقات التَّحوُّلات العالميَّة الَّتي تؤطّرها وتهيمن على آفاقها ومساراتها، كما تعمل على تحديد توجهات واتّجاهات مصائرها المستقبليَّة الدُّول المتقدّمة في الغرب والشَّرق، مع تفاوت تطوري في السَّيطرة والهيمنة بين هذه الدُّول على مستوى قدراتها الجيوسياسيَّة والاستراتيجيَّة في الصّراع والتَّوافق حول المجال الحيويّ للمصالح. على ضوء هذا يمكن قراءة التَّواجد المابعد استعماري والنّيوليبرالي في المنطقة، فهو امتداد للتَّراكم الرَّأسمالي في شكله الاستعماري قديما، وما بعد الكولونيالي في الوقت الرَّاهن. إذن نحن إزاء مشروع تاريخيّ اقتصاديّ سياسيّ متجذّر في المنطقة، ومتعدّدة المكوّنات والوسائل والأهداف والمصالح، وبالتَّالي فإنَّ خوض الصّراع خارج الفهم والوعي أولا بخطورة هذا المشروع في الاستعمار ثمَّ في السَّيطرة والهيمنة يعدّ تواطؤا ذاتيًّا في تنفيذ وتيسير خطوات هذا المشروع الامبريالي الصُّهيوني. وإذا كانت الكثير من الكتابات انتبهت إلى قوى سياسات دول هذا المشروع الخطير، فإنّ بعده الصُّهيوني  ظلَّ باهتا أحيانا ومخفيًّا في غالب الأحيان. وهذا البعد الصُّهيوني غير مرتبط فقط بالدَّولة العنصريَّة الاستيطانيَّة والاستعماريَّة إسرائيل بل والأخطر من ذلك في امتداداته في السّياسات  الامبرياليَّة،  وفي أنظمتنا المحليَّة، وبصورة شاملة في الدّولة والمجتمع والثَّقافة، الشَّيء الَّذي يجعلنا نطرح على أنفسنا سؤالا مشروعا: إلى أيّ حدّ أنتجنا وكرسنا إعادة الانتاج هذه للمشروع الامبريالي الصُّهيوني؟ وبمعنى آخر نقدي صريح إلى أي حدّ نحن صهاينة في تدمير أوطاننا: دولة ومجتمعا وثقافة؟ ألا يدلُّ واقع سوريا الآن في نظامها الدَّموي البشع، وفي القوى المجتمعيَّة  الرّيفيَّة والمدينيَّة، السّياسيَّة والمدنيَّة، من رؤساء الشَّوارع في المخيمات، إلى الجمعيات والهيئات والأحزاب السّياسيَّة، إلى جانب التيَّارات الإرهابيَّة المسلحة، على أنَّنا نسقط بمحض إرادتنا ونسهل تحقّق صهيونيَّة ما في المنطقة؟ لذلك لا ينبغي الانتباه إلى التَّوحّش البنيوي الدَّاخلي، بل أيضا إلى التَّصهين النّظامي الرَّسمي في الدَّولة والمجتمع والثَّقافة؟

1.  1948مثل عام يتكرَّر

واقع الوطن، المجتمع، والشَّعب السُّوري بكلّ فئاته ومكوّناته المجتمعيَّة، في تشرّده ومجازره المروعة، ونزوحه، لجوئه، أو طرده وتهجيره بإرهاب العنف والقتل والدَّمار ونشر الخراب بلغة القذائف والصَّواريخ والبراميل المتفجّرة، والتَّهجير القسري للقرى والبلدات، وإفراغها بالكامل، ثمّ ممارسة طقوس معتقدات صلاة الطَّرد والإبعاد للشَّعب من أرضه، كلّ هذا الجحيم الإرهابي في قلب حياة الوطن والشّعب رأسا على عقب، من العزّ إلى الذُّل، يجعلني هذا حاضرا بقوّة فيها الكثير من المعاناة والعذاب ومختلف أشكال الألم في عمق التَّجربة الفلسطينيَّة مع الصُّهيونيَّة والرَّجعيَّة العربيَّة والإمبرياليات العالميَّة، خاصَّة وأنَّ كولونياليات الموت الغربيَّة والأمريكيَّة والرُّوسيَّة، وعلى ضوء عيون الأمم المتَّحدة وكلّ المنتظم الدُّولي، بالإضافة إلى القوى الإقليميَّة العدوة، أو المسمَّاة أصدقاء الشَّعب السُّوري، تؤطّر سياسيًّا وعسكريًّا هذه الوقائع والأحداث واليوميات الرَّهيبة الَّتي يعيشها الآن  الشَّعب السُّوري في الكثير من التَّفاصيل الَّتي لم تكتب بعد، والبعيدة عن دائرة إعلام الموت كالَّذي أنتج في مناطق التَّطهير العرقي، والشَّعبي كما حصل في فلسطين، روندا... 

ما هذا العود الأبدي كما لو أنَّ عام النّكبة يكرّر نفسه في التَّاريخ العربيّ الإسلاميّ من لبنان الى سوريا مرورا بالعراق. وفي سوريا، الآن تبدو الصُّورة الصُّهيونيَّة أكثر دّقة ووضوحا، حيث البنيات الاجتماعيَّة والاقتصاديَّة والسّياسيَّة في صورتها العامَّة، وفي الكثير من التَّفاصيل تبدو متقاربة إلى أبعد الحدود، في ردود الفعل ومختلف أشكال المقاومة بين مختلف القرى والقبائل والعشائر، وفي القوى الاجتماعيَّة الريفيَّة و المهمَّشة الَّتي تحمَّلت عبء الثَّورة والقتال، وهي الفئات الَّتي تمّ في الغالب تحريف ثورتها إرهابيًّا من طرف تركيا وبلدان الخليج باستغلال تجذر سخطها العارم الاجتماعيّ والاقتصاديّ والسّياسيّ ضدَّ العائلة والطَّائفة السّياسيَّة الحاكمة بالحديد والنَّار، الَّتي أثبتت أنَّها الوريث الشَّرعي للمشروع الصُّهيوني في إستراتيجيته الارهابيَّة متبنيّة كلّ الأساليب الصُّهيونيَّة في القتل والتَّنكيل والإرهاب وفي الطَّرد الجماعي للشَّعب السُّوري في الكثير من المناطق. عام النَّكبة نفسه، التَّشتت الاجتماعي والسّياسي والعسكري بين المدن والقرى، أو بين مختلف القرى الَّتي واجهت بشكل منفرد أو مستقل المشروع الصُّهيوني في سياساته وآلته العسكريَّة على مسمع ومرأى الهيئة العربيَّة العليا وجيش الإنقاذ العربي الممثل الرَّسمي للأنظمة العربيَّة، بالإضافة إلى الأمم المتَّحدة، والقوى الإمبرياليَّة البريطانيَّة والأمريكيَّة. دون أن ننسى كيف تمَّت الكثير من الخدع الإرهابيَّة في ترحيل الشَّعب الفلسطيني.

 والبشع في هذا كلّه كيف ساهم جيش الإنقاذ في تنظيم نزوح القرويين عن قراهم دون أن يفكّر في القتال. واليوم يشارك جميع هؤلاء في الجرائم ضدّ الإنسانيَّة في سوريا. وبكلّ وقاحة وتعهر أخلاقي يصنعون مأساة الشَّعب، وتحت وابل من القذائف والصَّواريخ والبراميل، ومختلف أشكال الحصار والتَّجويع القاتل فيما يشبه المجزرة الجماعيَّة، تعقد صفقات واتّفاقات وترتيبات بشعارات إنسانيَّة لطرد الشّعب من بلده وفكّ ارتباطه بأرضه، أو بتعبير أدقّ فصله عن أمّه الأرض والتَّجربة الفلسطينيَّة مع الأرض تعلّمنا الكثير، حيث قلق الهجر والانفصال مازال يسري في العروق كالدّماء، ويحفر في الأعماق كهوف الغربة والمنفى، والحلم بالعودة الَّذي كاد أن يورثه جينيًّا الآباء للأبناء.

الكثير من العذابات والويلات والمعاناة الإنسانيَّة عاشها الشَّعب الفلسطيني قتلا وتدميرا لحمله بقوَّة الإرهاب على الرَّحيل، والكثير من الوقائع والأحداث عاشها الشَّعب في نزوحه بما في ذلك النّساء والأطفال، أو في رميه على الحدود كبقايا بشريَّة أحرق ماضيها وتاريخها، في رمشة عين، من العزّ إلى الذّل، وتركت على حافَّة الحدود تواجه مصيرها الجديد..نعم الكثير من المآسي والكوارث الإنسانيَّة لم تكتب، وما وصلنا لا يمثل سوى القليل. وعندما نعود إلى هذا القليل المكتوب نتفاجأ بالمضامين الصُّهيونيَّة، فكرة وأسلوبا وممارسة، للآلة العسكريَّة لنظام بشار الأسد، فالعقاب الجماعي هو درس كولونيالي بريطاني في تصفية المقاومة الفلسطينيَّة، وهو درس تمثَّلته الهاغاناه وأضافت عليه مختلف أشكال الإرهاب الرَّمزي والدَّموي، ويعيد اليوم البعث الممانع إنتاجه بهمجيَّة رهيبة ميدانيًّا وإعلاميًّا. والمفاجئ أكثر حين نكتشف أنَّ أوَّل من استعمل البراميل المتفجّرة هي الصُّهيونيَّة الَّتي كانت تدحرجها في اتّجاه القرى لتدميرها. هذا هو الدَّرس الصُّهيوني الَّذي طوّره بابتكاريَّة عالية، وإبداع خلاَّق نظام الأسد في سحق الشَّعب السُّوري، وفي حرق البلد. ومنذ عام النّكبة كانت صهيونيَّة ما متفاوتة الحدّة والشّدَّة والانتشار تسري في الأنظمة العربيَّة، وثقلها النّفسي والاجتماعي والسّياسي والثَّقافي يرخي سدوله على الشُّعوب العربيَّة والإسلاميَّة الَّتي تعيش غربة أوطانها هذه الأوطان الَّتي صارت تتَّخذ قلوب النَّاس موطنا لها بحرقة قاسية عوض أن يفتح الوطن ذراعيه للمواطن للسّكن فيه. ما أصعب أن تعيش لجوءك، أو منفاك في طول وعرض الوطن دون أن تكون قادرا على السَّكن فيه.

وإذا كانت فلسطين قد عاشت في تجربتها تلك ذلك الانفصام بين الجناح السّياسي والعسكري، واتَّضح بالملموس وقتئذ عجز القيادة التَّقليديَّة عن وعي المرحلة التَّاريخيَّة، كما كانت دون مستوى الاستفادة من تجربة النُّهوض الشَّعبي وانتفاضه. وهذا ما حدث بالضَّبط في واقع الثَّورة السُّوريَّة حيث كانت كلّ المعارضات السّياسيَّة بعيدة كليا عمَّا يحدث على الأرض ليس فقط على مستوى الفضاء المكاني الميداني، بل والأخطر من ذلك على مستوى الرُّؤية في الفعل وردّ الفعل، وفي القراءة الدَّقيقة لكلّ الجدليات المترابطة والمركبة التَّعقيد  والمتضافرة في واقع الثَّورة السُّوريَّة محليًّا وإقليميًّا وعالميًّا.

2. من الثَّورة إلى الاقتلاع

لقد كانت هناك إمكانات كثيرة لتعيش سوريا تحوّلها السّلمي المدني والسّياسي الدّيمقراطي الحديث، وعملت الكثير من القوى الحيَّة أفرادا وجماعات، مثقفين وفاعلين مدنيين وسياسيين، نوادي وجمعيات وهيئات وأحزابا، على بلورة مشروع التَّغيير الدّيمقراطي هذا، بشكل حضاري سلمي، سواء قبل ربيع دمشق أو بعده. لكن لا أحد كان واعيا بخطورة الصُّهيونيَّة الممانعة القابعة في قلب النّظام الرَّسمي، حيث كانت تستنبت جذور العسكرة والإرهاب، ولذلك أجهضت تلك الإمكانات المدنيَّة والسّياسيَّة السَّلميَّة قبل أن تندلع ثورة الشَّعب السُّوري الَّتي عبَّرت عن سلميتها بأروع ممَّا كان. لقد كانت تلك الصُّهيونيَّة  تتمظهر في الشَّكل التَّاريخي للعلويَّة السّياسيَّة متَّخذة الوعي الطَّائفي أساسا لتشويه حقيقة الصّراع السّياسي بين الفئات المتحالفة مع العائلة الحاكمة وبين الشَّعب السُّوري بكلّ مكوّناته الدينيَّة والمذهبيَّة والإثنيَّة. وفي هذا السّياق العدواني المتستّر كان النّظام يهيئ نفسه لممانعة التَّحوُّل والتَّغيير، ولجم أي تقدُّم نوعي للبلد، من خلال تفكيره وممارسته لنوع من إعادة هيكلة البعد الدّيمغرافي، بخلق تغييرات ديمغرافيَّة جديدة تناسب تسلّطه واستبداده. 

والآن بعد الثَّورة تجلَّت بشكل واضح ليست فقط عمليّة التَّغيير الدّيمغرافي، بل أيضا التَّهجير القسري والاقتلاع النّهائي كما لو أنَّنا أمام مشروع صهيوني من نوع آخر  ولكن نحن في الحقيقة إزاء طغيان سياسي له شكل تاريخي طائفي عنصري. وهو في الوقت نفسه يجد امتداده في المشروع الامبريالي الصُّهيوني.  وللأسف هذه المرَّة جعل من النّسيج الاجتماعي المحلي، ومن الملح والطَّعام، ومن العيش المشترك لقرون خلت أجهزة للقمع والتّنكيل والقتل الهمجي، كما لو أنَّنا أمام "النوتريم" و"المانيين" الصُّهيونيَّة، لكنَّها الآن بأقنعة العلويَّة السّياسيَّة والعسكريَّة في فرض التَّغيير الدّيمغرافي في حمص وكلّ أرجائها، وفي الكثير من البلدات الأخرى. وكم هو مؤلم أن تصل صهيونيَّة النّظام إلى عمق الشَّعب في شكل حرب أهليَّة لا ترحم.

وبعد هذا الخراب والتَّدمير، والمجازر المروّعة، والقتل بمختلف الأسلحة من البرّ والبحر والسَّماء، والمجاعات المفتعلة بالحصار، وهي مجاعات تسمَّى في أدبيات التَّاريخ الإنساني بمجاعات المذبحة، كممارسة صريحة للجرائم ضدّ الإنسانيَّة، بعد كلّ هذا العنف الدَّموي في التَّطهير والإبادة تتحوَّل ثورة شعب من أجل الحريَّة والكرامة والعدالة إلى مجرَّد نازح أو لاجئ، وتختزل قضيته أمام أنظار العالم إلى حرب بالوكالة، لا أفق لها غير تنظيم الخروج الآمن للشَّعب من بلده. ألا تقبع  داخل كلّ هذا الاقتلاع الوحشي الَّذي تشارك فيه جميع الأطراف المحليَّة والإقليميَّة والدُّوليَّة صهيونيَّة مَّا؟

المصدر: https://www.alawan.org/content/%D8%B3%D9%88%D8%B1%D9%8A%D8%A7-%D8%A3%D9%...

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك