مقدمات التطرف والتدعشن الخفي

محمد علي المحمود

 

تعتمد التيارات المتدعشنة في العالم الإسلامي على مرجعية سيكولوجية عُنْفية، تتفاعل جدليا مع مقولات المنظومة التقليدية؛ لتأسيس واقع خوارجي، لا يعي حقيقة انتمائه الخوارجي، إلا من حيث هو محض صفاء ونقاء والتزام تام. التشدد كحالة سيكولوجية، ما قبل معرفية، هو العامل الأهم الذي يؤطر الرؤية الفقهية والعقدية للمتزمتين. لا يستطيع أي تقليدي ملتزم بالتقليدية المتزمتة أن يدّعي القدرة على الخروج من هذه الحالة، أو من هذا المرض الذي أصبح هو هوية التديّن لديهم، فبه يتميزون عن سائر المسلمين، بل يتميزون به عن بقية المتشددين.

إن التشدد لدى هؤلاء هو أصل الأصول، ولكنه من الأصول غير المعلن عنها، وأحيانا، هو من الأصول المتوارية في اللاوعي التي لا يدركها حتى أصحابها. المتشددون مرضى بهذا الداء العضال (حالة التشدد)، الذي لا يتحدد إعضاله فيه؛ كمرض قابل للشفاء؛ بمقدر ما يتحدد في أن المرضى به يدّعون (ويصدقون أنفسهم) أنهم أصحاء/أسوياء!.

التحريم سلطة، والإيغال في التحريم، والوصول به إلى تفاصيل التفاصيل، وجعل ذلك مفترق طرق بين الجنة والنار، هو أسهل طريق لترويع، ومن ثم َّ لتطويع أولئك البائسين الذين يبحثون عن طوق نجاة في هذه الحياة

يسكت الغلاة التكفيريون عن أي كاتب أو داعية أو مثقف أو كاتب أو برنامج تلفزيوني أو نشاط ميداني/حركي؛ ما دام يقول ما يصب في خانة التشدد ونشر الأحوطيات (اختيارات فقهاء الأحوط). إنك لن تجد ـ مِن داخل تلك المنظومة مَن يُطالب المتشدد/المتطرف/المتدعشن بأن يدع الفتوى لــ(أهلها!). وبهذا نجد أن التشدد ـ كحالة سيكولوجية مرضية ـ أصبح أصل الأصول ودليل الأدلة، بل ولباس الورع.

ومَن لم يُصب بهذا الداء، فهو ـ عند المتزمتين ـ مطعون في علمه وأخلاقه وورعه. وبناء على هذا، كن متشددا؛ تكن الأعلم والأتقى والأنقى؛ لأنك بتشددك تكون قد التزمت بـ(دليل!) يستطيع نفي مشروعية كل دليل آخر يوحي بعكس ذلك، أي بالتيسير.

هذه الحالة السيكولوجية المرضية التي تكوّنت وترسّخت وتضخّمت؛ بسبب ظروف تاريخية وجغرافية، وربما عرقية، لم تعد مقصورة على سدنة الخطاب الحروري المتشدد، بل ولا على مريديه الفاعلين في الميدان الحركي لجماعات الإسلام السياسي، بل إنها تسربت إلى وعي شريحة عريضة من الجماهير، حتى طبقة الأنتلجنسيا التي يفترض فيه التماهي مع جوهر الخطاب الحداثي.

نتيجة لهذا، أصبح التشدد ذاته، أي من حيث هو تشدد، صوابا دينيا.

الشريحة الجماهيرية التي التهم وعيها هذا الخطاب باتت لا تطمئن إلا إلى الآراء المتشددة، وكأن رفع درجة التديّن تقتضي ـ بالضرورة ـ الاستسلام التام والأعمى لمقولات التحريم والتجريم، أو كأن الدين محض تحريم.

ولا شك أن هذا سبب ما تجده لدى جماهيرهم من ميل وجداني (وجداني لا معرفي!) إلى تصويب الرأي المتشدد؛ حتى وإن لم يعملوا به؛ لأن جماهيرهم هم من عوام العوام؛ يُبهرهم التشدد في التحريم، ويوحي لهم بأن صاحب الفتوى التحريمية لم يتشدد إلا عن مزيد ورع وعن سعة علم، أي أنهم إذ لا يستطيعون سبر مستوى معرفته؛ يجعلون تشدده الظاهر معيارا لقياس مستوى الأهلية العلمية.

طبعا، لم يدر بخلد هؤلاء أن الفقيه المتزمت غالباً ما يفعل ذلك عن ضيق أفق معرفي. هذا من جهة، ومن جهة أخرى؛ لأنه يخضع خضوعا غير شعوري لسيكولوجية عُنْفية كامنة في الأعماق. العامي لا يستطيع اكتشاف هذه البواعث التي تدفع باتجاه التشدد؛ لأنه خاضع للسيكولوجية ذاتها، أي للسيكولوجية التي تجنح إلى العنف، كما أنه ـ من زاوية أخرى ـ ليس ضيق الأفق فحسب، وإنما مطموس الأفق أيضا في كثير من الأحيان.

لقد حار هذا الخطاب المتشدد في مسالة "فتح باب الفتوى": كيف؟ ومتى؟ ولمن؟. يريدون فتح بابها لهم وحدهم، وإغلاقه في وجه المختلفين معهم.

مرة يقولون ـ حين يريدون التقليل من شأن مخالفتهم لما عليه معظم المسلمين ـ: لا يهمّك كثرة المُفتين في ذلك، فالمرجع كتاب الله وسنة نبيه، ومرة يقولون ـ للرد على من اجتهد وأفتى بخلاف تشددهم ـ: كيف تتجاهل ما عليه أكثر علمائك؟ مرة يقولون: لا يُفتي إلا مُتخصّص. وحين يأتي متخصص فيفتي بما يخالفهم، يقولون: ليست العبرة بالتخصص، إنما العبرة بإصابة الحق؛ مع أن دعوى إصابة الحق يدعيها الجميع. بل إن التخصص ذاته لم يستطيعوا تحديده ولا ضبط معياره علميا. تسألهم: هل المتخصص هو خريج الكليات الشرعية الذي حصل على أعلى الدرجات الأكاديمية فيها؟ وهنا يواجههم سؤال محرج جدا: هل رموزهم الكبيرة حازت على هذه الدرجات؟

يقولون التخصص هو طول الاشتغال على العلوم الشرعية، وهل طول الاشتغال بالعلوم الشرعية هو معيار التخصص؟

إذن لماذا يقبلون الحويني، ويرفضون القرضاوي مثلا، وهو الذي قضى ثمانين عاما في تعلم وتعليم العلوم الشرعية، ومارس الإفتاء أكثر من نصف قرن، وألّف أكثر من مئة كتاب في الشريعة؟ ثم إن أكثر رموز التكفير، كالمقدسي مثلا، لهم اشتغال طويل بالعلم الشرعي، وله مريدون كثر على امتداد العالم العربي. سيحيلونك إلى معيارية: الأتقى والأصلح. وهنا يأتي السؤال عن معيارية التقوى كما هو السؤال عن معيارية العلم..إلخ من الأسئلة التي لا يُجاب عنها إلا بمزيد من الهروب إلى الأمام؛ لتبقى أسئلة بلا جواب.

مهما حاولت البحث عن مواصفات/معايير المؤهل لديهم للإفتاء؛ فلن تجد إلا معيار التشدد. لن تجد معيارا موضوعيا يمكن أن تحاكمهم إليه، إلا معيارا واحدا، وهو: أن المؤهل هو ـ فقط ـ من يُزكّونه، وهم لا يزكون إلا الحروري المتطرف، أي لا يزكون إلا من توافق معهم توافقا تاما، ليس في النظر إلى التراث الشرعي فحسب، وإنما ـ أيضا ـ في النظر إلى الحياة والأحياء والأشياء (عالم الجماد)؟!.

التحريم سلطة، والإيغال في التحريم، والوصول به إلى تفاصيل التفاصيل، وجعل ذلك مفترق طرق بين الجنة والنار، هو أسهل طريق لترويع، ومن ثم َّ لتطويع أولئك البائسين الذين يبحثون عن طوق نجاة في هذه الحياة. من البدهي أن الآراء التي تعتمد التسامح لا تؤسس لهيمنة؛ لأن فروض الإسلام الأساسية ومحرماته الأزلية المعروفة بالتواتر العملي، يعرفها الجميع، ومن ثمَّ، لا يحتاج المتحرر من التشدد إلى الارتباط الوجداني والمعرفي بالأشخاص، بل يرتبط بالإسلام ذاته، ولا حاجة له بالأشخاص/الرموز.

ليس البحث عن سلطة أو هيمنة من خلال إيديولوجيا التحريم شيئا طارئا أو تصورا مفترضا من قِبلي اتهم به الخوارج المعاصرين، بل هو صريح منطق الخوارج منذ البداية، بل كانت الكلمة الأولى التي أعلنت عن خروجهم صريحة في أن إشكاليتهم هي في مسألة الحكم (الهيمنة).

كلمة الخوارج الأولى كانت تقول:"لا حكم إلا لله". ومن الواضح هنا أن (الحكم) ـ بشتى صوره ـ هو الهاجس الأول، بل والأخير. الخوارج ـ من أعلى قمة الهرم الداعشي إلى الواعظ المتزمت ـ لا ينفون الحكم عن الناس، ويجردونه لله؛ إلا ليثبتوه لأنفسهم كوكلاء مفوضين من الله. هم يعرفون أن النصوص الإلهية لا تحكم مباشرة، بل هي تحكم بواسطة الفهم الإنساني لها. ولهذا فمقصود الخوارج في هذه العبارة (لا حكم إلا لله) هو إبعاد الآخرين عن ممارسة أية سيطرة/حكم، فلا يسيطر ولا يهيمن إلا الله. وبما أن حكم الله ليس مباشرا وإنما عبر وحيه (نصوصه)، فبزعمهم أن لا أحد يُعبّر عنها إلا هم، وهم ـ وحدهم ـ العالمون بها والمؤتمنون على تنفيذها، أما الآخرون فهم ما بين جاهل بها وخائن لها. وهكذا تتحول كلمة الخوارج الأولى من (لا حكم إلا لله)؛ ليصبح مضمونها الوحيد (لا حكم إلا لنا = لا حكم إلا لفهمنا).

خوارج الإسلام السياسي اليوم هم خوارج التحكيم في النهروان قديما. البواعث هي البواعث، والأهداف هي الأهداف، والأدوات هي الأدوات، والطبيعة السيكولوجية هي ذاتها. وليس ثمة من فارق إلا أن حرورية اليوم لا يمتلكون بعض شجاعة حرورية الأمس. الأغلبية الساحقة من حرورية اليوم، حَذِرُون إلى درجة الجبن بل الذعر والهلع. لقد مارس كثيرون منهم (التّقية) في المسائل الكبرى، بينما هم يحاولون ممارسة الحرب الخفية ومقاربة صور الهيمنة على مستوى المسائل الصغرى التي تمهد لمشروعية معتبرة عند الجماهير، بعد أن أصبح الحرث في المسائل الكبرى يقودهم حتما إلى التصريح بتكفير مجتمعهم ومواطنيهم ودولهم، فضلا عن بقية المسلمين.

أخيرا يجب الانتباه إلى فخ يحاول غلاة الحرورية إيقاع الجماهير المتدينة فيه، وذلك بالإيحاء لهم أنهم الأتقياء الأنقياء، في مقابل المتسامحين/المتساهلين الذين أضاعوا حقائق الدين. الحروري/الداعشي المتخفي يُقدّم نفسه في ميدان الجدال العلمي كواعظ، أو يتخلله بالوعظ، وقد لا يتجاوز ذلك. وهذا خطر جدا على من يحكم على الجدل بوجدانه، إذ يتصور أن (الناصح) على حق، وأن (المنصوح) قد زاغ عن الحق؛ فيميل إلى أن الحروري/الداعشي على صواب!.

إن هذه الخدعة التي تمارسها الحرورية/المتدعشنة كثيرا، ليست آلية جديدة، بل هي من أوائل آلياتها الضاربة في القدم إلى عهد الرسالة.

لو تأملت مسيرة الخوارج منذ القدم وإلى اليوم، ستجد نفس العبارات ونفس الروح ونفس الرؤية في الاستدلال. الخارجي الأول الذي اعترض على الرسول ــ عليه الصلاة والسلام ــ قال له ــ كما في روايات ـ:"يا رسول الله اتق الله واعدل"، وقال:"إني لأرى قسمة ما أريد بها وجه الله".

لاحظ أن الخارجي يتقدم بنفسه في مواجهة النبي، وكأنه الأعلم من النبي بتقوى الله، والأحرص على الالتزام بها منه، بل إنه يسعى لممارسة هيمنة معنوية ومادية؛ وكأنه العارف بالعدل أكثر من رسول العدل، ومرة أخرى، كأنه الوصي على الضمائر، حتى على ضمير النبي، فيتهم قسمة النبي بأنها متحيزة، وأن لها غايات دنيوية، وأنها ليست لوجه الله. وهنا نجد الخارجي يتراءى وكأنه الأحرص على الدين، والأشد ورعا من جميع مخالفيه، حتى ولو كان المخالف له نبي الإسلام/نبيه الذي منه يعرف حقائق دينه.

هكذا، وبالاستعلاء الوعظي يرى الخارجي قديما، الداعشي حديثا، أنه يعرف الإسلام أكثر من نبي الإسلام.

لقد استطاع هذا الخارجي بعد فترة أن يمرر خداعه الوعظي، فيتقدم بنفسه زمن الإمام علي ـ كرم الله وجهه ـ وكأنه وأتباعه من الخوارج هم الأتقياء الأوصياء على دين الله، مقابل الإمام علي وأتباعه الذين كفّرهم هذا الخارجي وأتباعه. وهذا يعني أن تمرير خطاب الخوارج يحتاج لوقت طويل، هذا الخطاب قد يبدأ بوصاية حرورية، ظاهرها وعظ بريء (اتق الله) ـ عندما قالها الخارجي للنبي ـ لكنها تنتهي باستحلال دماء الأتقياء الأنقياء، كما فعل الخارجي عندما هوى بالسيف على رأس الإمام علي، معتقداً أنه يتقرب بهذا إلى الله!.

ولك أن تتأمل كيف تحولت كلمة "اتق الله" التي قالها الخارجي لرسول الله في عام 8هــ، والتي ظاهرها البراءة الوعظية، إلى (سيف مسموم) يفلق به هامة الإمام علي عام 40هـ.

هكذا هي كلمات الخوارج التي ظاهرها وعظ بريء، قد تحتاج إلى أكثر من ثلاثة عقود؛ لتتحول إلى إيديولوجية تستبيح الأموال والأعراض والدماء.

المصدر: http://www.alriyadh.com/1543530

الأكثر مشاركة في الفيس بوك