منظومة الحرية في الإسلام

 

إن الحريَّة كلمةٌ يتغنى بها الشعراء، ويؤلِّف فيها الأدباء، ويحلُمُ بها السجناء، ويضحِّي من أجلها الشرفاء، ويفرِّغها من مضمونها وبهائها الأدعياء، ويطاردها ويحجبها عن الناس الجُبناء، ولكنها منحة كفلها لكل الخَلق رب السماء.

 

إن الإنسانَ يولد حرًّا دون قيود تكبِّله أو تمنعه من أن ينعم بالحياة الحرة الكريمة، وقد وهَبه الله تعالى العقلَ والفطرة السوية التي بهما يتجه نحو خالقه، ويعرف أن شجرة الحريَّة لكي تدوم وتنموَ وتترعرع في داخله لا بد لها من تشريعات تهذبها وتحافظ عليها، وبدونها ستذبل هذه الحريَّة وتموت، وحينها سيلهث الإنسان وراء حرية مزعومة يتخيلها في نفسه، فما يجد نفسه إلا في مزيد من الوحل الذي يلطخه، والقيود التي تكبِّله، والهموم التي تحيطه من كل اتجاه.

 

ومظلَّة الحريَّة في الإسلام تسع الجميع دون استثناء لدِين أو عِرق أو لون، طالما أن الجميع يحترمون ضوابط الحريَّة التي أقرها الإسلام، وارتضاها من يعيشون على أرض الإسلام.

 

أولًا: تعريف الحريَّة:

إن مفهوم الحريَّة مفهوم واسع وعميق، ويحاول البعض أن يجعله هلاميًّا وفضفاضًا، ولكنه في الإسلام مفهوم دقيق وواضحُ المعالم.

• جاء في معجم المعاني الجامع تعريفُ الحريَّة بأنها: الخلوص من الشوائب، أو الرِّق، أو اللؤم.

 

• وجاء أيضًا: الحريَّة: حالة يكون عليها الكائنُ الحي، الذي لا يخضع لقهر أو قيد أو غلَبة، ويتصرف طبقًا لإرادته وطبيعته، خلاف عبودية.

 

• وفيه أيضًا: الحريَّة: مذهب سياسي يقرر وجوب استقلال السلطة التشريعية والسلطة القضائية عن السلطة التنفيذية، ويعترف للمواطنين بضروب مختلفة من الضمان، تحميهم من تعسُّف الحكومات، نقيض مذهب الاستبداد بالسلطة.

 

• وفيه أيضًا: حريات مدنية: حقوق فردية أساسية، منها: حرية التعبير، وحرية الدِّين، يقوم القانون بحمايتها ضد تدخلات غير مسموحة، سواء حكومية أو غيرها.

 

• وجاء في كتاب أحكام القرآن للجصاص رحمه الله: "تحرير رقبة يعني عتقَ رقبة، وتحريرها: إيقاع الحريَّة عليها، وذكَر الرقبة وأراد به جملة الشخص تشبيهًا له بالأسير الذي تُفَكُّ رقبته ويطلق، فصارت الرقبة عبارةً عن الشخص، وكذلك قال أصحابنا: إذا قال: رقبتك حرة، أنه يعتق، كقوله: أنت حر".

 

• وقال أبو حامد الغزالي رحمه الله: "الحرُّ مَن يصدر منه الفعل مع الإرادة للفعل على سبيل الاختيار، على العلم بالمراد".

 

• وقال الشيخ أبو زهرة رحمه الله إن: "الحر حقًّا هو الشخص الذي تتجلى فيه المعاني الإنسانية العالية، الذي يعلو بنفسه عن سفاسف الأمور، ويتجه إلى معاليها، ويضبط نفسه، فلا تنطلق أهواؤه، ولا يكون عبدًا لشهوة معينة، بل يكون سيدَ نفسه؛ فالحرُّ من يبتدئ بالسيادة على نفسه، ومتى ساد نفسه وانضبطت أهواؤه وأحاسيسه، يكون حرًّا بلا ريب".

 

• وعرَّف المفكر السوري عبدالرحمن الكواكبي رحمه الله الحريَّة قائلًا: "بأن يكون الإنسانُ مختارًا في قوله وفعله، لا يعترضه مانع ظالم".

 

• وفي المقابل نجد هناك نعرات في عصرنا الحديث تنادي بما يسمونه: (الليبرالية)، أو (التحرر)، ويقصِدون بهذا (التحرر) تحرُّر البشرية من أي قيود خارجية تقيِّد حريتها، وتحُدُّ مِن تصرفاتهم ومعتقداتهم الحرة المنفتحة، حتى ولو كانت هذه القيود شرائعَ سماوية.

 

• جاء في الموسوعة الأكاديمية الأمريكية: "إن النظام الليبرالي الجديد (الذي ارتسم في فكر عصر التنوير) بدأ يضع الإنسان بدلًا من الإله في وسط الأشياء؛ فالناس بعقولهم المفكرة يمكنهم أن يفهموا كل شيء، ويمكنهم أن يطوروا أنفسهم ومجتمعاتهم عبر فعل نظامي وعقلاني".

 

• وقد عرَّفها الفيلسوف والمحلل السياسي السويسري (جان جاك روسو) بأنها: "الحريَّة الحقة في أن نطبق القوانين التي اشترعناها نحن لأنفسنا".

 

• وعرَّفها الفيلسوف الإنجليزي توماس (هوبز) بأنها: "غياب العوائق الخارجية التي تحدُّ مِن قدرة الإنسان على أن يفعل ما يشاء".

 

• وعرَّفها المفكر اليهودي (هاليفي) بأنها: "الاستقلال عن العلل الخارجية، فتكون أجناسها: الحريَّة المادية، والحريَّة المدنية أو السياسية، والحريَّة النفسية، والحريَّة الميتافيزيقية (الدينية)".

 

• وفي ظل هذه المفاهيم المغلوطة نرى حرية الإلحاد، وحرية السلوك (أي حرية الدعارة والفجور)، ونرى مَن يتبنَّوْن مبادئَ وقوانين وتشريعاتٍ ما أنزل الله تعالى بها من سلطان، ولكنهم يريدون أن يجرُّوا البشرية إليها قسرًا.

 

• يقول "دونالد سترومبرج" في كتاب (تاريخ الفكر الأوروبي الحديث): "والحقُّ أن كلمة الليبرالية مصطلح عريض وغامض، شأنُه في ذلك شأن مصطلح الرومانسية، ولا يزال حتى يومنا هذا على حالةٍ مِن الغموض والإبهام".

 

• إن دعاةَ الليبرالية يريدون أن يفرِّغوا الدِّين من مضمونه، ومن الغاية التي نزل من أجلها؛ فهم يريدون أن يفسِّروا النصوص التشريعية وفق ما يعتنقونه من أفكار، وبالتالي فهم يرفضون بعض النصوص المعلومة من الدين بالضرورة، مثل: (الميراث - الزواج - تعدُّد الزوجات - الحجاب - الجهاد - الأمر بالمعروف والنهي عن المنكَر - الشورى... إلخ).

 

ومِن المضحِكات المبكِيات أن دعاة الليبرالية والتحرُّر هم من يتهكمون ويسخَرون من آراء ومعتقدات وتصرُّفات معارضيهم، ويعتبرونهم يعيشون ظلامية ورِدَّةً فكرية.

 

• يقول الشيخ القرضاوي في كتابه "الحلول المستوردة وكيف جنَتْ على أمتنا!": "فالإنسان الذي يساق إلى غير ما يريد، ويُكرَه على غير ما يحب، ويجرع من الأفكار والأنظمة ما لا يقبَله ولا يستسيغه بحال - لا يمكن أن يكون سعيدًا، ثم إن السعادة لا تتم إلا بالأمن، ومَن لا حرية له لا أمن له".

 

• حقيقة إن الحريَّة لا ينبغي أن تكون بلا ضوابط أو حدود، وإلا كان الإنسانُ والعجماوات سواءً، إن الضوابط والحدود التي تمنع إنسانًا من أن يتعدى على حرية غيره في نفسِه وماله وعِرضه هي نفسها التي تمنع الآخرين مِن التعدي عليه في نفسِه وماله وعِرضه، وبالتالي نجد المجتمع منسجمًا متناسقًا، ينعم بالأمن والأمان، والحريَّة والسعادة؛ لأن الجميع يغرد تغريدة واحدة، ويعزف سيمفونية، مُفادها: أنه لا شيء يعلو فوق الحريَّة التي ارتضاها اللهُ تعالى لعباده.

 

ثانيًا: منظومة الحريَّة في القرآن الكريم:

لقد قدَّم القرآن الكريم منظومة متكاملة للحرية، بداية من حرية الاعتقاد والعبادة، مرورًا بتوسيع أبواب العتق، وتضييق أبواب الرِّق، وانتهاءً بضوابط التعامل مع الرقيق، ومراعاة آدميتهم، وحقوقهم الفِطرية.

 

1- جاء الإسلام لتحرير الإنسان مِن كل مظاهر الرِّق والعبودية، إلا العبوديةَ لله تعالى وحده؛ قال تعالى: ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾ [الفاتحة: 5].

 

• قال تعالى: ﴿ أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ﴾ [البقرة: 133].

 

• قال تعالى: ﴿ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 64].

 

• قال تعالى: ﴿ قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قُلْ لَا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ ﴾ [الأنعام: 56].

 

• قال تعالى: ﴿ قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلَا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [يونس: 104].

 

• قال تعالى: ﴿ ... قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلَا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ ﴾ [الرعد: 36].

 

• قال تعالى: ﴿ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ ﴾ [إبراهيم: 35].

 

• قال تعالى: ﴿ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ﴾ [النمل: 91].

 

قال تعالى: ﴿ وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونِ ﴾ [يس: 22، 23].

 

• قال تعالى: ﴿ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ * وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ * قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ * قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي * فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ ﴾ [الزمر: 11 - 15].

 

• قال تعالى: ﴿ قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ * وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ * بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ ﴾ [الزمر: 64 - 66].

 

• قال تعالى: ﴿ قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَمَّا جَاءَنِيَ الْبَيِّنَاتُ مِنْ رَبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [غافر: 66].

 

• قال تعالى: ﴿ قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ * وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ ﴾ [الكافرون: 1 - 6].

 

2- جعَل الله تعالى الإيمان به وبرسله دون إكراه أو إجبار، بل طواعية وبحُرية كاملة؛ قال تعالى: ﴿ لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾ [البقرة: 256].

 

• عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: "كانت المرأة تكون مقلاتًا، فتجعَل على نفسها إن عاش لها ولدٌ أن تُهوِّدَه، فلما أُجليت بنو النضير كان فيهم من أبناء الأنصار، فقالوا: لا ندَعُ أبناءنا؛ فأنزل الله عز وجل: ﴿ لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ ﴾ [البقرة: 256]، قال أبو داود: المِقْلاتُ التي لا يعيش لها ولدٌ.

 

• قد يتشدَّق البعض ويقول بأن حكم الإسلام بقتل المرتد يتنافى مع الحريَّة، وعلى هؤلاء نرد بما قاله العلامة التُّونسي محمد الطاهر بن عاشور رحمه الله؛ حيث قال: "وليس هذا الحكمُ بقادح في أصل حرية الاعتقاد؛ لأن الداخلَ في الإسلام قد كان على حريته في اعتقاده قبل دخوله فيه، فلما دخل في الإسلام صار غير حرٍّ في خروجه منه؛ لقيام معارِض الحريَّة؛ لأن الارتداد يؤذِن بسوء طوية المرتد من قبلُ؛ فإنه لا يتصور أن يجدَ بعد إيمانه دِينًا آخرَ أنفَذَ إلى القلب من الإيمان؛ فتعيَّن أن يكون دخوله في الإيمان لقصد التجسس، أو لقصد التشويه بالدِّين في نظر من لم يؤمنوا به؛ ليوهمهم أنه دِينٌ لا يستقر متبعُه عليه بعد أن يعرفه.. وقد يكون الارتدادُ لمجرد الاستخفاف والسخريَّة بالإسلام، وحرمةُ الله توجب الذبَّ عن دِينه في مثل هذا، على أن عدمَ المؤاخذة به يُفضي إلى انحلال الجامعة، كما وقع في ردة العرب لو لم يؤخذوا بالصرامة، أما حرية الاعتقاد نحو غير الداخلين في الإسلام فلم يحمِلِ الإسلامُ أهلَ الملل على تبديل أديانهم، بل اقتنع منهم بالدخول تحت سلطانه، وبدعائهم على الدخول في الإسلام بالحكمة والموعظة الحسنة، والمجادلة بالتي هي أحسن.

 

• قال تعالى: ﴿ وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ﴾ [يونس: 99].

 

• قال تعالى: ﴿ فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ ... ﴾ [الشورى: 48].

 

• قال تعالى: ﴿ فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ * لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ ﴾ [الغاشية: 21، 22].

 

3- الحريَّة والبراءة من العيوب، والطُّهر من الذنوب: أقصى غاية يتمناها الإنسان لنفسه ولذريته؛ قال تعالى: ﴿ إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾ [آل عمران: 35].

 

• قال الزَّجاج رحمه الله: "هذا قول امرأة عمرانَ، ومعناه: جعلتُه خادمًا يخدم في متعبداتك، وكان ذلك جائزًا لهم، وكان على أولادهم فرضًا أن يطيعوهم في نذرِهم، فكان الرجل ينذِر في ولده أن يكون خادمًا يخدمهم في متعبَّدهم ولعبادهم، ولم يكن ذلك النذر في النساء، إنما كان في الذكور، فلما ولدت امرأة عمران مريمَ، قالت: رب، إني وضعتُها أنثى، وليست الأنثى مما تصلح للنذر، فجعل اللهَ من الآيات في مريم؛ لِمَا أراده من أمر عيسى عليه السلام، أن جعَلها متقبَّلةً في النذر؛ فقال تعالى: ﴿ فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ ﴾ [آل عمران: 37].

 

• وفي تفسير هذه الآية قال القرطبي رحمه الله : "مِن الآية الكريمة الخاصة بمريم (عليها السلام) واحدة من معاني الحريَّة؛ إذ إن: قوله تعالى: ﴿ مُحَرَّرًا ﴾ [آل عمران: 35] مأخوذٌ من الحريَّة التي هي ضد العبودية، من هذا تحرير الكتاب، وهو تخليصه من الاضطراب والفساد".

 

4- سمى الله تعالى بيته الحرام أطهرَ بقاع الأرض بـ: "البيت العتيق": قال تعالى: ﴿ ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ ﴾ [الحج: 29].

 

• قال تعالى: ﴿ لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ ﴾ [الحج: 33].

• جاء في تفسير القرطبي رحمه الله: وقيل: عتيقًا؛ لأن الله أعتقه مِن أن يتسلط عليه جبار بالهوان إلى انقضاء الزمان، قال معناه ابنُ الزبير ومجاهدٌ، وفي الترمذي عن عبدالله بن الزبير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنما سُمِّي البيت العتيق؛ لأنه لم يظهَرْ عليه جبارٌ)) (حسن صحيح).

 

• وقال أيضًا: وقالت فرقة: سُمِّي عتيقًا؛ لأن اللهَ عز وجل يعتق فيه رقاب المذنِبين من العذاب.

 

• وقيل: سمي عتيقًا؛ لأنه أُعتِق مِن غرق الطوفان؛ قاله ابن جُبير.

 

• ومِن هنا نفهم أن تحرير الأرض والمقدسات لا يقلُّ أهمية عن تحرير الإنسان نفسه، بل أكثر من ذلك بكثير؛ لأنه إذا قُيِّدَتْ حرية فرد أو حرية شعب فربما تنتفض الأمة لتعيد إليه حريته، أما مقدسات الأمة إذا دُنِّسَت، فيُعَدُّ ذلك سُبَّة في جبين الأمة كلها، ووصمةً لا تزول حتى تُطهَّر المقدسات، وتنال الأرضُ حريتَها واستقلالها.

 

5 - لقد ضيَّق الله تعالى روافد الرق والعبودية بأن جعَل عتق الرقاب من الكفارات؛ قال تعالى: ﴿ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا ﴾ [النساء: 92].

 

• قال تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ﴾ [المجادلة: 3].

 

• قال تعالى: ﴿ لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ [المائدة: 89].

 

• قال تعالى: ﴿ فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ * فَكُّ رَقَبَةٍ * أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ * يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ * أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ ﴾ [البلد: 11 - 16].

 

6- لقد فتَح اللهُ تعالى الباب على مصراعيه لتخليص العبيد من الرق والعبودية حين جعَل الإنفاق لتحرير العبيد مصرِفًا من مصارف الزكاة؛ قال تعالى: ﴿ إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴾ [التوبة: 60].

 

7- حثَّ الله تعالى مَن يمتلكون عبيدًا أن يرأفوا بهم؛ بمكاتَبَتِهم على العتق، بل أمرهم بالتصدُّقِ عليهم ومساعدتهم على تحرير أنفسهم؛ قال تعالى: ﴿ ... وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ ... ﴾ [النور: 33].

 

8- بالرغم مِن أن الرق والعبودية من الأشياء التي تعافها النفس السويَّة، وينظر إليها المجتمع نظرة دونية، فإن اللهَ تعالى رفَع قدر العبد أو الأمَة المؤمنينِ عن أمثالهما المشركين، ولو كانا أحرارًا؛ قال تعالى: ﴿ وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ﴾ [البقرة: 221].

 

9- للحفاظِ على حق العبيد والإماء لم يجعل الله تعالى ديَة الأحرار مِن العبيد أو الإماء؛ لأن ذلك سيكون سهلًا على الأسياد فيتوسَّعوا في ذلك، وعندها تَضيع حقوقُ العبيد والإماء، وتُهدَر كرامتهم، وتُراق دماؤهم؛ قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [البقرة: 178].

 

10- حفاظًا على كرامة الإماء وآدميتِهن نهى اللهُ تعالى عن إكراهِهن على الوقوع في الرذيلة؛ قال تعالى: ﴿ ... وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [النور: 33].

 

11- رغَّب الإسلامُ في نكاح (الأمَة) عند الفقر وعدم السَّعة في الرِّزق؛ قال تعالى: ﴿ وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [النساء: 25].

 

يقول الإمام القرطبي رحمه الله تعالى: "نبَّه تعالى على تخفيف في النكاح، وهو نكاح الأمَة لمَن لم يجدِ الطَّوْل"، والطَّوْل فسَّره أكثر العلماء على أنه (السَّعة والغنى).

 

12- حثَّ الله تعالى على تزويج العبيد والإماء، وعدم حرمانهم مِن هذا المطلب الفطري، وذلك في حالة صلاحهم ومصلحتهم؛ قال تعالى: ﴿ وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ﴾ [النور: 32].

 

• بعد هذا الاستعراض لمنظومة الحريَّة في القرآن الكريم، نجدُ أنه ليس هناك تشريع على وجه الأرض يضارعُ الإسلامَ في الحفاظ على الحريَّة، ومراعاة حقوق الإنسان، وليس هناك مجتمع حرَص على هذا الجانب أكثرَ مِن المجتمع المسلم.

 

ثالثًا: منظومة الحريَّة في السنَّة النبوية المطهَّرة:

لقد بيَّنت السنَّة النبوية المفهومَ الشامل والدقيق للحرية، وبهذا المفهوم تحرك النبي صلى الله عليه وسلم وصحابتُه الكرام؛ فقدَّموا للبشرية نماذجَ لم ولن توجَد إلا على يد مَن اهتدى بهَدْي النبي صلى الله عليه وسلم، وسار على نهج صحابته الكرام.

 

• قال الكتاني - رحمه الله - في كتابه (التراتيب الإدارية): إن الرسولَ صلى الله عليه وسلم أعتق 63 نسَمةً، وأعتقت عائشة رضي الله عنها 69 نسَمة، وأعتق أبو بكر كثيرًا، وأعتق العباسُ سبعين عبدًا، وأعتق عثمان عشرين، وأعتق حكيم بن حزام مائة، وأعتق عبدالله بن عمر رضي الله عنهما ألفًا، وأعتق عبدالرحمن بن عوف ثلاثين ألف نسَمة.

 

1- عن أبي ذرٍّ الغِفاري رضي الله عنه، قال: سألتُ النبي صلى الله عليه وسلم: أي العمل أفضل؟ قال: ((إيمانٌ بالله، وجهادٌ في سبيله))، قلت: فأي الرقاب أفضل؟ قال: ((أغلاها ثمَنًا، وأنفَسُها عند أهلها))، قلت: فإن لم أفعل؟ قال: ((تُعِين صانعًا، أو تصنَع لأخرَقَ))، قلت: فإن لم أفعل؟ قال: ((تَدَعُ الناسَ مِن الشر؛ فإنها صدقةٌ تصَدَّقُ بها على نفسك))؛ (رواه البخاري).

 

2- عن عِمران بن الحصين رضي الله عنه: أن رجلًا أعتق ستة مملوكين له عند موته، لم يكن له مالٌ غيرهم، فدعا بهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، فجزَّأهم أثلاثًا، ثم أقرَع بينهم، فأعتق اثنين، وأَرَقَّ أربعةً، وقال له قولًا شديدًا؛ (رواه مسلم).

• عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، قال: مرِضْتُ، فعادني النبيُّ صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا رسول الله، ادعُ الله لي ألا يردَّني على عقِبي، قال: ((لعل اللهَ يرفعك، وينفع بك ناسًا))، قلت: أريد أن أوصي، وإنما لي ابنةٌ، قلت: أُوصي بالنصف؟ قال: ((النصفُ كثيرٌ))، قلت: فالثلث؟ قال: ((الثلث، والثلث كثيرٌ، أو كبيرٌ))، قال: فأوصى الناسُ بالثلث، فجاز ذلك لهم؛ (رواه البخاري).

 

• وعن ابن عباسٍ رضي الله عنهما، قال: "لو أن الناسَ غضُّوا مِن الثلث إلى الربع؛ فإن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: ((الثلث، والثلث كثيرٌ))، وفي حديث وكيعٍ: "كبيرٌ أو كثيرٌ"؛ (رواه مسلم).

 

3- عن سفينةَ أبي عبدالرحمن مولى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم قال: كنتُ مملوكًا لأم سلَمةَ، فقالت: أُعتِقُك وأشترط عليك أن تخدُمَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم ما عِشْتَ، فقلتُ: إن لم تشترطي عليَّ، ما فارقتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم ما عشتُ، فأعتقَتْني واشترطت علَيَّ؛ (رواه أبو داود).

 

4- عن علي بن أبي طالب وعبدالله بن عباس رضي الله عنهما: أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: ((المُكاتَبُ يعتِقُ منه بقدر ما أدى، ويقام عليه الحدُّ بقدر ما عَتَقَ منه، ويرِثُ بقدر ما عَتَقَ منه))؛ (رواه ابن حزم).

 

5- عن عبدالله بن عباس رضي الله عنهما: أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا أصاب المكاتَبُ حدًّا أو ميراثًا، ورِث بحساب ما عَتَقَ منه، وأقيم عليه الحدُّ بحساب ما عَتَقَ منه))؛ (رواه ابن حزم).

 

6- عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما: أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: ((مَن أعتق شِرْكًا له في عبدٍ، فكان له مالٌ يبلغ ثمَن العبد، قُوِّمَ عليه قيمةَ العدل، فأعطى شركاءَه حِصَصَهم، وعَتَقَ عليه العبدُ، وإلا فقد عَتَقَ منه ما عَتَقَ))؛ (رواه مسلم).

 

7- عن كعب بن مرَّة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أيُّما امرئٍ مسلِم أعتق امرأً مسلمًا، كان فَكاكَه مِن النار، يجزي كلُّ عضوٍ منه عضوًا منه، وأيما امرئ مسلم أعتَق امرأتينِ مسلمتين كانتا فَكاكَه من النار، يجزي كل عضو منهما عضوًا منه، وأيما امرأة مسلمة أعتقَتِ امرأةً مسلمة، كانت فَكاكها من النار، يجزي كلُّ عضو منها عضوًا منها))؛ (رواه الترمذي).

 

8- عن أبي هُرَيرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يجزي ولدٌ والدًا إلا أن يجِدَه مملوكًا، فيشتريَه، فيُعتِقَه))؛ (رواه مسلم، والترمذي، وابن ماجه، والنسائي).

 

9- عن أبي موسى الأشعرى رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ثلاثة يؤتَوْن أجرهم مرتين: رجلٌ مِن أهل الكتاب آمَن بنبيِّه وأدرك النبيَّ صلى الله عليه وسلم وآمَن به واتبعه وصدَّقه، فله أجرانِ، وعبدٌ مملوك أدَّى حق الله وحق سيده، فله أجرانِ، ورجلٌ كانت له أمَةٌ فغذَاها فأحسَن غِذاءها، ثم أدَّبها فأحسن تأديبها، وعلَّمها فأحسن تعليمها، ثم أعتقها وتزوَّجها، فله أجرانِ))؛ (رواه البخاري، ومسلم، والترمذي، والنسائي).

 

10- عن عائشةَ أم المؤمنين رضي الله عنها، قالت: جاءت بَريرةُ فقالت: إني كاتَبْتُ أهلي على تِسْعِ أواقٍ، في كل عام أوقية، فأعينيني، فقالت عائشة: إنْ أحبَّ أهلُك أن أعدها لهم عدة واحدة وأعتقك، فعلتُ، ويكون ولاؤكِ لي، فذهبت إلى أهلها فأبَوْا ذلك عليها، فقالت: إني قد عرَضْتُ ذلك عليهم، فأبَوْا إلا أن يكون الولاءُ لهم، فسمِع بذلك رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، فسألني فأخبرتُه، فقال: ((خذيها فأعتقيها، واشترطي لهم الولاء؛ فإنما الولاءُ لمَن أعتق))، قالت عائشة: فقام رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في الناس، فحمِد الله وأثنى عليه، ثم قال: ((أما بعد، فما بالُ رجالٍ منكم يشترطون شروطًا ليست في كتاب الله، فأيما شرطٍ ليس في كتاب الله فهو باطل، وإن كان مائةَ شرط؛ فقضاءُ الله أحقُّ، وشرط الله أوثقُ، ما بال رجالٍ منكم يقول أحدهم: أعتِقْ يا فلانُ ولي الولاء؛ فإنما الولاءُ لمَن أعتَق))؛ (رواه البخاري).

 

11- عن سعدٍ مولى أبي بكر، وكان يخدُمُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم، وكان يُعجِبه خدمتُه، فقال: ((يا أبا بكر، أعتِقْ سعدًا))، فقال: يا رسول الله، ما لنا ماهنٌ غيرُه، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أعتِقْ سعدًا، أَمَّكَ الرِّجالُ، أعتِقْ سعدًا أَمَّكَ الرجالُ))؛ (رواه الهيثمي).

 

12- عن عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما: أن العاص بن وائلٍ أوصى أن يعتق عنه مائة رقبةٍ، فأعتَق ابنه هشامٌ خمسين رقبةً، فأراد ابنه عمرٌو أن يعتق عنه الخمسين الباقية، فقال: حتى أسألَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسولَ الله، إن أبي أوصى بعِتق مائة رقبةٍ، وإن هشامًا أعتق عنه خمسين، وبقِيَتْ عليه خمسون رقبةً، أفأُعتِق عنه؟ فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((إنه لو كان مسلمًا فأعتقتم عنه، أو تصدَّقْتم عنه، أو حجَجْتم عنه - بلَغه ذلك))؛ (رواه أبو داود، وحسنه الألباني).

 

13- عن حَكيم بن حزامٍ رضي الله عنه: أنه أعتَق في الجاهلية مائة رقبةٍ، وحمَل على مائة بعيرٍ، فلما أسلَم حمَل على مائة بعيرٍ، وأعتَق مائة رقبةٍ، قال: فسألتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسولَ الله، أرأيتَ أشياءَ كنتُ أصنَعُها في الجاهلية، كنت أتحنَّثُ بها؟ - يعني أتبرَّرُ بها - قال: فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((أسلَمْتَ على ما سلَف لكَ مِن خيرٍ))؛ (رواه البخاري).

 

14- عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رجُلًا وقَع بامرأته في رمضانَ، فاستفتى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فقال: ((هل تجد رقبةً؟))، قال: لا، قال: ((وهل تستطيع صيامَ شهرين؟))، قال: لا، قال: ((فأطعِمْ ستين مسكينًا))، وفي روايةٍ: أن رجلًا أفطر في رمضان، فأمَره رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أن يكفِّرَ بعِتق رقبةٍ؛ (رواه مسلم).

 

15- عن أمِّ سلَمةَ هندِ بنت أبي أمية رضي الله عنها، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا كان عند مكاتَبِ إحداكنَّ ما يؤدِّي، فلتحتجِبْ منه))؛ (رواه الترمذي).

 

16- عن ابن عباس رضي الله عنهما: أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الطائف: ((مَن خرَج إلينا مِن العبيد، فهو حرٌّ))، فخرَج عبيد من العبيد، فيهم أبو بَكرةَ، فأعتَقهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم؛ (رواه أحمد).

 

17- عن أبي هريرةَ رضي الله عنه، قال: (نهى النبيُّ صلى الله عليه وسلم عن كَسْبِ الإماء)؛ (رواه البخاري)، وفي رواية ابن دقيق قال: نهى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عن كَسْبِ الإماءِ؛ مخافةَ أن يَبغِين.

 

18- عن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما، قال: كان عبدُالله بنُ أبيٍّ ابنُ سَلُولَ يقول لجاريةٍ له: اذهَبي فابغينا شيئًا؛ فأنزَل الله عز وجل: ﴿ وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ - لهنَّ - غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [النور: 33]؛ (رواه مسلم).

 

19- عن صفيةَ بنت أبي عبيد رضي الله عنها، قالت: (خرَجت امرأةٌ مختمرة متجلبِبة، فقال عمرُ رضي الله عنه: مَن هذه المرأة؟ فقيل له: هذه جاريةٌ لفلان، رجُلٍ مِن بنيه، فأرسل إلى حفصة رضي الله عنها، فقال: ما حمَلكِ على أن تخمِّري هذه الأمَة وتجلببيها وتشبهيها بالمحصَنات، حتى هممتُ أن أقعَ بها، لا أحسَبُها مِن المحصنات؟! لا تشبِّهوا الإماءَ بالمحصَنات)؛ (رواه البيهقي).

 

20- عن أبي هريرة و زيد بن خالد الجهني رضي الله عنهما: أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا زنتِ الأمَة فاجلدوها، ثم إذا زنت فاجلدوها، ثم إذا زنت فاجلدوها - في الثالثة أو الرابعة - بيعوها ولو بضفيرٍ))؛ (رواه البخاري).

 

21- عن أبي الدرداء: أنه كان يقول للناس: نحن أعرفُ بكم مِن البياطرة بالدواب؛ قد عرَفْنا خياركم مِن شراركم، أما خيارُكم فالذي يُرجى خيرُه، ويُؤمَن شره، وأما شراركم فالذي لا يرجى خيره، ولا يؤمن شره، ولا يعتق محرَّره؛ (قال الألباني: صحيح الإسناد موقوفًا).

 

22- جاء في السيرة النبوية لابن هشام في ذكره فضل أبي بكر الصِّدِّيق رضي الله عنه في تحرير الصحابي الجليل بلال بن رباح رضي الله عنه وغيره من العبيد، قال ابن إسحاق: (وحدثني هشامُ بن عروة عن أبيه، قال:‏‏ كان ورقةُ بن نوفل يمرُّ به وهو يعذب بذلك، وهو يقول:‏‏ أحدٌ أحد، فيقول‏‏:‏‏ أحدٌ أحد والله يا بلال، ثم يقبِل على أمية بن خلف، ومَن يصنع ذلك به من بني جُمَح، فيقول:‏‏ أحلف بالله لئن قتلتموه على هذا لأتخذنَّه حَنانًا، حتى مر به أبو بكر الصِّديق بن أبي قحافة رضي الله عنه يومًا، وهم يصنعون ذلك به، وكانت دار أبي بكر في بني جُمَح، فقال لأمية بن خلف:‏‏ ألا تتقي الله في هذا المسكين؟‏‏ حتى متى؟‏‏ قال:‏‏ أنت الذي أفسدته، فأنقِذْه مما ترى، فقال أبو بكر:‏‏ أفعل، عندي غلام أسود أجلد منه وأقوى، على دِينك، أعطيكه به، قال:‏‏ قد قبِلتُ، فقال:‏‏ هو لك ‏‏،‏‏ فأعطاه أبو بكر الصديق رضي الله عنه غلامه ذلك، وأخذه فأعتقه)‏‏.‏‏

 

• وجاء في السيرة النبوية لابن هشام أيضًا: (ثم أعتق معه على الإسلام قبل أن يهاجر إلى المدينة ستَّ رقاب، بلال سابعهم، عامر بن فهيرة شهِد بدرًا وأُحدًا، وقتل يوم بئر معونة شهيدًا، وأم عبيس وزِنِّيرة، وأصيب بصرها حين أعتقها، فقالت قريش:‏‏ ما أذهَب بصرَها إلا اللات والعزى، فقالت:‏‏ كذَبوا، وبيت الله ما تضر اللات والعزى وما تنفعانِ، فردَّ اللهُ بصرَها.‏‏

 

وأعتَق النهدية وبنتها، وكانتا لامرأة من بني عبدالدار، فمر بهما وقد بعثتهما سيدتهما بطحين لها، وهي تقول:‏‏ والله لا أعتقكما أبدًا، فقال أبو بكر رضي الله عنه:‏‏ حِل يا أم فلان، فقالت:‏‏ حِل، أنت أفسدتهما فأعتِقْهما، قال:‏‏ فبكم هما؟‏‏ قالت:‏‏ بكذا وكذا، قال:‏‏ قد أخذتُهما وهما حرتان، أرجعا إليها طحينها، قالتا:‏‏ أونفرغ منه يا أبا بكر ثم نرده إليها؟‏‏ قال:‏‏ وذلك إن شئتما.‏‏

ومرَّ بجارية بني مؤمل، حي من بني كعب، وكانت مسلمة، وعمر بن الخطاب يعذِّبُها لتترك الإسلام، وهو يومئذ مشرك، وهو يضربها، حتى إذا ملَّ قال:‏‏ إني أعتذر إليكِ، إني لم أترُكْكِ إلا ملالة، فتقول:‏‏ كذلك فعَل الله بك ‏‏،‏‏ فابتاعها أبو بكر، فأعتقها.‏‏

 

قال ابن إسحاق:‏‏ وحدثني محمد بن عبدالله بن أبي عتيق، عن عامر بن عبدالله بن الزبيـر، عن بعض أهله، قال:‏‏ قال أبو قحافة لأبي بكر:‏‏ يا بني، إني أراك تعتق رقابًا ضعافًا، فلو أنك إذ فعلتَ ما فعلت أعتقت رجالًا جُلْدًا يمنعونك ويقومون دونك؟‏‏ فقال أبو بكر رضي الله عنه:‏‏ يا أبت، إني إنما أريد ما أريد لله ‏عز وجل‏‏،‏‏ قال:‏‏ فيتحدَّث أنه ما نزل هؤلاء الآيات إلا فيه، وفيما قال له أبوه:‏‏ ﴿ فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى ﴾ [الليل: 5، 6] ‏‏‏‏...‏‏ إلى قوله تعالى:‏‏ ﴿ وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى * إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى * وَلَسَوْفَ يَرْضَى ﴾ [الليل: 19 - 21].‏‏

 

23- عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يقولن أحدُكم: عبدي وأَمَتي، كلُّكم عبيد الله، وكل نسائكم إماء الله، ولكن ليقل: غلامي وجاريتي، وفتاي وفتاتي))؛ (رواه مسلم).

 

24- عن أبي ذرٍّ الغفاري رضي الله عنه: أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: ((مَن لايَمَكم مِن خدمكم، فأطعِموهم مما تأكلون، وألبِسوهم مما تلبَسون، ومَن لا يُلايِمكم منهم، فبِيعوه، ولا تعذِّبوا خَلْق الله))؛ (صححه الألباني).

 

25- عن المعرور بن سويد رضي الله عنه، قال: مرَرْنا بأبي ذرٍّ بالرَّبَذة، وعليه بردٌ، وعلى غلامه مثله، فقلنا: يا أبا ذر، لو جمَعْتَ بينهما كانت حلة، فقال: إنه كان بيني وبين الرجلِ مِن إخوتي كلامٌ، وكانت أمه أعجميةً، فعيَّرْتُه بأمِّه، فشكاني إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فلقيت النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فقال: ((يا أبا ذر، إنك امرؤٌ فيك جاهليةٌ))، قلت: يا رسول الله، مَن سبَّ الرجال سبُّوا أباه وأمه، قال: ((يا أبا ذر، إنك امرؤٌ فيك جاهليةٌ، هم إخوانكم، جعلهم اللهُ تحت أيديكم؛ فأطعِموهم مما تأكلون، وألبِسوهم مما تلبَسون، ولا تكلِّفوهم ما يغلِبهم، فإن كلَّفتموهم فأعينوهم))، وفي رواية: وزاد في حديث زهيرٍ وأبي معاوية بعد قوله: ((إنك امرؤٌ فيك جاهليةٌ))، قال: قلت: على حال ساعتي مِن الكِبَر؟ قال: ((نعم))، وفي رواية أبي معاوية: ((نعم، على حال ساعتك مِن الكِبَر))، وفي حديث عيسى: ((فإن كلَّفه ما يغلِبه، فليَبِعْه))، وفي حديث زهير: ((فليُعِنْه عليه))، وليس في حديث أبي معاوية: ((فليبِعْه)) ولا: ((فليُعِنْه))، انتهى عند قوله: ((ولا يكلِّفه ما يغلِبه))؛ (رواه مسلم).

 

26- عن عبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت، قال: خرجتُ أنا وأبي نطلب هذا العلمَ في هذا الحي من الأنصار قبل أن يهلِكوا، فكان أولَ مَن لقينا أبو اليَسَرِ صاحبُ رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه غلامٌ له، وعليه بردة مَعَافِريٌّ، وعلى غلامه بردة مَعَافري، قال: فقلت له: يا عم، لو أخذتَ بردة غلامك فأعطيتَه معافريك، أو أخذت معافريه، وأعطيته بردك، فكانت عليك حلةٌ، وعليه حلةٌ، قال: فمسح رأسي، وقال: اللهم بارِكْ فيه، ثم قال: يا بن أخي، أبصرَتْ عيناي هاتانِ، وسمعت أذناي هاتان، ووعاه قلبي مِن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول: ((أطعموهم مما تأكلون، واكسُوهم مما تلبَسون))، فكان إن أعطيته مِن متاع الدنيا أحبَّ إليَّ من أن يأخذ مِن حسناتي يوم القيامة))؛ (رواه العيني في نخب الأفكار).

 

27- عن زاذان أو زادان رضي الله عنه: أن ابنَ عمر دعا بغلامٍ له، فرأى بظهره أثرًا، فقال له: أوجعتُك؟ قال: لا، قال: فأنت عتيقٌ، قال: ثم أخذ شيئًا من الأرض، فقال: ما لي فيه من الأجر ما يزِنُ هذا؛ إني سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((مَن ضرب غلامًا له حدًّا لم يأتِه، أو لطمه، فإن كفارتَه أن يُعتِقَه))؛ (رواه مسلم).

 

28- عن عائشةَ أم المؤمنين رضي الله عنه، قالت: وقعَتْ جويريةُ بنت الحارث بن المصطلق في سهم ثابت بن قيس بن شماسٍ، أو ابن عم له، فكاتبَتْ على نفسها، وكانت امرأةً ملاحةً، تأخذها العين، قالت عائشة: فجاءت تسأل رسولَ الله صلى الله عليه وسلم في كتابتِها، فلما قامَتْ على الباب فرأيتُها، كرهتُ مكانها، وعرفتُ أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم سيرى منها مِثل الذي رأيتُ، فقالت: يا رسول الله، أنا جُوَيرية بنت الحارث، وإنما كان مِن أمري ما لا يخفى عليك، وإني وقعتُ في سهم ثابت بن قيس بن شماسٍ، وإني كاتبتُ على نفسي، فجئتُك أسألك في كتابتي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((فهل لكِ إلى ما هو خيرٌ منه؟!))، قالت: وما هو يا رسول الله؟ قال: ((أؤدِّي عنك كتابتَكِ وأتزوَّجك))، قالت: قد فعلتُ، قالت: فتسامع - تعني الناس - أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قد تزوَّج جويرية، فأرسَلوا ما في أيديهم من السَّبي، فأعتَقوهم، وقالوا: أصهارُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما رأينا امرأةً كانت أعظمَ بركةً على قومها منها؛ أُعتِقَ في سببها مائةُ أهل بيتٍ من بني المصطلق؛ (رواه أبو داود).

 

29- عن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما، قال: (كان عمرُ يقول: أبو بكرٍ سيدُنا، وأعتَق سيدَنا؛ يعني: بلالًا)؛ (رواه البخاري).

 

30- عن أنسِ بن مالك رضي الله عنه: أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: ((مَن قال حين يصبح أو يُمسي: اللهم إني أصبحت أشهدك، وأشهد حمَلة عرشك وملائكتك، وجميع خلقك، أنك أنت الله الذي لا إله إلا أنت، وأن محمدًا عبدك ورسولك، أعتق الله ربعه من النار، فمَن قالها مرتين أعتق الله نصفه من النار، ومَن قالها ثلاثًا أعتق الله ثلاثة أرباعه من النار، ومَن قالها أربعًا أعتقه الله تعالى من النار)).

 

• هذا ما استطعتُ أن أضع يدي عليه من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الجانب، وإنها حقًّا تشكِّل منظومة متكاملة في كيفية توسيع دائرة الحريَّة، وتجفيف منابع الرق، واحترام آدمية الرقيق.

ولقد كان النبي صلى الله عليه وسلم نموذجًا عمليًّا يحتذى في هذا الجانب؛ جاء في كتاب (النجم الوهاج في شرح المنهاج) لصاحبه محمد بن موسى الدميري رحمه الله: "أعتق النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم ثلاثًا وستين نسَمة، عدد سِني عمره، وعدَّ أسماءهم، قال: وأعتقت عائشة سبعًا وستين، وعاشت كذلك، وأعتق أبو بكر كثيرًا، وأعتق العباس سبعين عبدًا)؛ (رواه الحاكم).

وأعتَق عثمانُ وهو محاصر عشرين، وأعتق حكيم بن حزام مائة مطوقين بالفضة، وأعتق عبدالله بن عمر ألفًا، واعتمَر ألف عمرة، وحجَّ ستين حجة، وحبَس ألفَ فرس في سبيل الله، وأعتَق ذو الكلاع الحِمْيَري في يوم واحد ثمانية آلاف عبدٍ، وأعتق عبدالرحمن بن عوف ثلاثين ألف نسَمة".

 

رابعًا: نماذجُ للنضال مِن أجل الحريَّة:

إن الحريَّة ليست بالشيء الهين بالنسبة للإنسان؛ فهي الرِّئة التي من خلالها يتنفس، والقلب الذي عن طريقه يجري الدم في عروقه؛ ولذلك فإن أقسى عقاب للإنسان أو حتى الحيوان أن تصادَرَ حريته، أو تنتقص، أو يعيش بحرية مشروطة تحت وطأة الظلم والقهر والاستبداد، ولقد عرَفتِ البشريةُ نماذج متعددة للنضال من أجل الحصول على الحريَّة، والتخلُّص من البطش والاستبداد والقهر، نماذج لم تقبَلِ الضيم، ولم ترضَ بالذل، بل قررت إما أن تنتزع الحريَّة بأنيابها، وإما أن تموت في ساحة النضال واقفة كالأشجار.

 

ولقد اعتمدَتْ هذه النماذجُ التحررية أساليب مختلفة حال نضالها من أجل الحريَّة، أبرزها:

أسلوب المقاومة العنيفة بشتى أساليب العنف، ومحاولة القضاء على الاستبداد:

مِن المعروف أن الأنظمة القمعية تعشق العنف، وتحاول أن تجر الخصم جرًّا إلى معركة غير متكافئة لتجد مبررًا للقضاء عليه، ومن المعروف أن النضال الذي يعتمد أسلوب المواجهة العنيفة يكتوي بنارها، ويدفع ضريبةً باهظة ثمنَ اختياره لهذا الأسلوب، بل يرِثُ هو الآخر القمع والاستبداد، فإن مُكِّن له فلا يحكم إلا بالبطش والقهر والاستبداد، وتكون المحصلة هي مجرد تغيير للأقنعة فقط.

ومثال ذلك: الأنظمة الاشتراكية، وأشهرها: الصين وكوبا، بالإضافة إلى الانقلابات التي تمت في العالم العربي خلال منتصف القرن الماضي، والتي أتت إلى السلطة في بعض الدول بأنظمة قمعية مستبدَّة.

 

وفي القرن العشرين هناك نماذج للنضال، نتج عنها نتائج فعالة، مثل:

• الثورة الروسية.

• والثورة الصينية ضد اليابان.

• والثورة الألمانية ضد الاحتلال الفرنسي.

• وثورة النرويج وهولندا والدنمارك ضد الاحتلال النازي.

• وحركات النضال البولندي لإسقاط النظام الشيوعي في بولندا.

• والانتفاضة الشعبية في الفلبين لإسقاط نظام ماركوس.

• والمقاومة الشعبية السلمية في جنوب إفريقيا ضد سياسات الحُكم العنصري.

• والمقاومة الهندية بزعامة غاندي ضد الاحتلال البريطاني.

• والمقاومة اللوثرية في الولايات المتحدة ضد التمييز العنصري تجاه الأميركيين مِن أصول إفريقية.

 

وطالما أن هناك ظلمًا واستبدادًا متفشيًا في أي مكان في العالم، فلن يتوقف النضال، ولن تتوقف المقاومة مِن أجل الحصول على الحريَّة؛ لأن انتزاعَها يكون بمثابة انتزاع الحبل السُّرِّي للجنين وهو في بطن أمه، وسلسلة الأحرار لا تنتهي؛ فبعيشهم يسطِّرون حياة كريمة، وبموتهم يُشعِلون جذوة في قلوب الأحرار من خلفهم، فلا يهدؤون حتى يتخلصوا مِن القيود والأكبال.

 

خامسًا: قالوا عن الحريَّة:

لأن الحريَّة مطلبٌ إنساني بحت نجد أن هناك تراثًا إنسانيًّا هائلًا في هذا الجانب، تتناقلُه وتتوارثه الأجيال، وتُضيف إليه يومًا بعد يوم.

 

1- يقول الفاروق عمرُ بن الخطاب رضي الله عنه:

(متى استعبدتم الناسَ وقد ولدَتْهم أمهاتُهم أحرارًا).

 

2- يقول الشاعر المصري أحمد شوقي:

(وللحريةِ الحمراءِ بابٌ = بكلِّ يدٍ مضرَّجةٍ يدقُّ).

 

3- ويقول المفكِّر السوري عبدالرحمن الكواكبي:

(إن الاستبداد يحوِّل ميلَ الأمة الطبيعي مِن طلب الترقي إلى طلب التسفل، بحيث لو دفعت إلى الرفعة لأبَتْ وتألَّمَتْ كما يتألم الأجهرُ مِن النور).

 

4- ويقول الأديب والشاعر المصري مصطفى المنفلوطي:

(جاء الإسلامُ بعقيدة التوحيد؛ ليرفَع نفوس المسلمين، ويغرس في قلوبهم الشرفَ والعزة والأنَفة والحَمية، وليُعتِق رقابهم مِن رِق العبودية؛ فلا يَذِلَّ صغيرُهم لكبيرهم، ولا يهابَ ضعيفُهم قويَّهم، ولا يكونَ لذي سلطانٍ بينهم سلطانٌ إلا بالحقِّ والعدل).

 

5- يقول الكاتب اللبناني جبران خليل جبران:

(يقولون لي: إذا رأيتَ عبدًا نائمًا فلا تنبِّهه؛ لعله يحلُمُ بحريته، وأنا أقول لهم: إذا رأيتَ عبدًا نائمًا نبَّهته وحدثته عن الحريَّة).

 

6- يقول الفيلسوف الروماني سينيكا:

(الشجاع يكون حرًّا).

 

7- يقول العالم الأمريكي وليام جلاسر:

(تتحكَّمُ بنا خمسُ احتياجات جينية؛ النجاة، والحب، والانتماء، والقدرة، والحريَّة).

 

8- يقول إبراهام لينكولن الرئيس السادس للولايات المتحدة:

(مَن يُنكِر الحريَّة على الآخرين، لا يستحقها لنفسه).

• ويقول أيضًا: (الحريَّة هي آخرُ وأفضل أملٍ على ظهرِ الأرض).

 

9- يقول الكاتب والمحلل السياسي السويسري جان جاك روسو:

(الحريَّةُ مع الخطر: أفضلُ مِن السلام مع العبودية).

 

10- يقول الشاعر والعالم الإنجليزي ميلتون أكوردا:

(مِن دون حريةٍ ليس لدينا أسماءٌ).

 

11- يقول رجلُ الدِّين والناشط ضد التفرقة العنصرية في أمريكا مارتن لوثر كينغ:

(لا يستطيعُ أحدٌ أن يمتطيَ ظَهرَك إلا إذا انحنيتَ).

 

12- يقول الصحفي الأمريكي والتر كرونكايت:

(ليس هناك حريةٌ جزئية، إما أن تكونَ حرًّا، أو لا تكون).

 

13- يقول الشاعر والناشط في مجال الحقوق المدنية جيمس آرثر بالدوين:

(الحريَّةُ لا تُمنَح، وإنما يتم انتزاعُها).

 

14- يقول الزعيم السياسي الهندي المهاتما غاندي:

(الحريَّة هي رُوحُ الإنسان وأنفاسُه.. فكم ثمن هذه الأشياء؟!).

 

15- يقول كينيدي رئيس الولايات المتحدة الخامس والثلاثون:

(أفضلُ طريقٍ للإنجاز هو الحريَّة).

 

16 - يقول المناضل الإفريقي نلسون مانديلا:

(الحريَّةُ لا يمكِن أن تُعطَى على جرعات؛ فالمرءُ إما أن يكونَ حرًّا، أو لا يكون حرًّا).

• كما يقول أيضًا: (الشخصُ الذي يسلُبُ حريةَ شخص آخرَ هو أسير الكراهيَة، يقف وراء قضبان التحيُّز، وضِيق الأفق... المُضطَهِد والمُضطَهَد كلاهما سُلِبا إنسانيَّتَهما).

 

17 - يقول الشاعر أحمد مطر:

إن الحريَّة أن تحيا عبدًا لله بكلية

أن يحيا الناس كما شاء الرحمن لهم بالأحكام الربانية

وَفْق القُرآن، ووَفْق الشرع، ووَفْق السُّنن النبوية

 

• كما يقول أيضًا:

الحريَّة لا تمنحها هيئات البِر الخيرية

الحريَّة نبت ينمو بدماء حرَّى وزكيَّة

 

18 - يقول أمير الشعراء أحمد شوقي:

يا جاهلًا معاني الحريَّة 
يا فاقدًا حس الحياة الحية 
عميت عن أنوارها البهية 
صممت عن أنغامها الشجية 
فأنت في غفلتك الغبية 
أشبهُ بالبهائم الوحشيَّة 

 

• كما يقول أيضًا:

يا سالبًا نفوسنا الحريَّة 
يا راكبًا مراكبَ الخطية 
اللهُ أعطاك لنا عطية 
غريزة في خَلقه فطرية 
لنبذلنَّ دونها ضحية 
النفس والنفيس والذرية 

 

19 - يقول عنترةُ بن شداد:

موتُ الفتى في عزةٍ خيرٌ له 
مِن أن يبيتَ أسيرَ طرفٍ أكحَلِ 
إن كنتَ في عددِ العبيد فهمَّتي 
فوق الثريَّا والسماكِ الأعزلِ 

 

• الثريَّا: مجموعة من النجوم في صورة الثور، وهي سبعة كواكب، سميت بذلك؛ لكثرة كواكبِها مع ضيق المحل، * السماك الأعزل: هو أشدُّ النجوم تألقًا.

 

20 - يقول الشاعر المصري هاشم الرفاعي:

كلُّ الذي أدريه أنَّ تجرُّعي 
كأسَ المذلَّةِ ليس في إمكاني 
أهوى الحياةَ كريمةً لا قيدَ لا 
إرهابَ لا استخفافَ بالإنسانِ 
فإذا سقَطْتُ سقَطْتُ أحمِلُ عزَّتي 
يَغْلي دمُ الأحرار في شرياني 

 

• وهناك العديد والعديد من الأقوال والأدبيات في هذا الجانب على مر العصور ومِن مختلِف الثقافات والتوجهات، ولو سمح لي أن أدلوَ بدَلْوي في هذا المضمار لقلتُ: (إن كأسَ الحريَّة لكي يكون نافعًا وناجعًا لا بد مِن رشفه جرعة واحدة، غير قابلة للنقصان؛ لأن آخِرَ قطرة في هذا الكأس هي المكملة لأول قطرة فيه، وليس لها بديل، وإلا ستكون حرية عرجاء، هي والعدم سواء).

 

سادسًا: الخاتمة:

بعد الذي قِيل في هذا الموضوع - ابتداءً من تعريف الحريَّة، مرورًا بالقرآن والسنَّة، والنماذج والأقوال على مر التاريخ - لا يسعني إلا أن أقول:

• مَن يأتيني بمنظومة متكاملة للحرية مثل هذه المنظومة الإسلامية الفريدة؟

 

• مَن يأتيني بأمة من الأمم ارتقت بالأرقَّاء والمماليك من الرق والعبودية حتى صارت لهم دولة تحكمت في زمام الأمور لمدة قاربت الثلاثمائة عام؟

 

• مَن يأتيني بأمة احترمَتْ حقوق الأقليات غير الإسلامية، وأغدقت عليهم مِن خيرها، وقلَّدتهم المناصب العليا مثلما فعلت الأمَّة الإسلامية؟

 

وأخيرًا أقول:

لا تسقِني ماءَ الحياةِ بذلَّة ♦♦♦ بل فاسقِني بالعزِّ كأسَ الحَنظلِ





المصدر: http://www.alukah.net/culture/0/108470/#ixzz4NnChSQOt

 

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك