(ناتان الحكيم).. قراءة في مفهوم التسامح في الفكر الغربي

 

قراءة في مفهوم التسامح في الفكر الغربي:

 

يمثل الأدب العماد الرئيسَ لمحاولة فَهم وتفسير العقل الأوربي، وخاصَّةً الأدب الذي يمثِّل عصر التنوير وما سبقه من إرهاصات، ويمكن  للباحث أن يجدَ لكلِّ فكرةٍ محوريَّة أوروبيَّة روايةً أو مسرحيةً تعبِّر عنها،لقد احتلَّ المسرح و الأدب في أوربا الدور الذي كانت تقوم به الكنيسة والإنجيل في العصور الوسطى.

 

يمثِّل (جوتهولد افرايم ليسنج) (1729-1781) واحدًا من أهم الأدباء الألمان في عصر التنوير، ومسرحيته (ناتان الحكيم) التي ألَّفها في 1779م واحدة من المسرحيات التي اشتهرت في الثقافة الألمانية والأوربية على حدٍّ سواء، ترجع شهرة هذه المسرحية إلى المزيج الذي صنعته أحداثها بين شخصيات تنتمي إلى المسيحية واليهودية والإسلام، و لعلَّ أبرز ما اشتهر منها قصة (الخواتم الثلاثة)، التي وردت على لسان (ناتان الحكيم) في معرض إجابته عن سؤال حول الدين الصحيح.

 

تدور القصة[1] في القرن الثاني عشر الميلادي في مدينة القدس أثناء هدنةٍ تخلَّلت الحرب بين (صلاح الدين) والقائد النصراني (ريتشارد قلب الأسد)، يعود (ناتان الحكيم) التاجر اليهودي من رحلته التجارية في أرض بابل ليجد (داجا) مربية ابنته (ريشا) في انتظاره؛ لتخبره عن نجاة ابنته من الحريق الذي تعرَّض له بيته أثناء رحلته، ويعلم (ناتان) أنَّ الذي أنقذ ابنته أحدُ فرسان المعبد[2]، الذي نجا لتوِّه من الحكم عليه بالإعدام أثناء وقوعه في أسر السلطان المسلم (صلاح الدين الأيوبي)، الذي عفا عنه وحدَه، وأعدم بقيه أصحابه، وكانت (ريشا) تظنُّ أن الله قد أرسل إليها ملكًا ينقذها من الحريق؛ لأنها لم ترَ من الفارس سوى معطفه الأبيض الذي كان يميِّز الجماعة التي ينتمي إليها، يظهر من خلال الحوار أن (ريشا) ليست ابنة (ناتان) حقيقةً ولكنه تبنَّاها.

 

يطلب البطريرك من فارس المعبد مهمَّتين؛ الأولى أن يراقب أخبار البلاد، والثانية أن يقتل (صلاح الدين)، لكنه يرفض ذلك؛ فهو يرى أنه مدين لصلاح الدين بحياته، كما أنه لم يأتِ إلى القدس لكي يصبح جاسوسًا، وتحكي القصة أن الناصر (صلاح الدين) سيربط عائلته برباط النسب مع عائلة (ريتشارد قلب الأسد)، كما أنه يعاني من أزمة مالية بسبب تأخُّر المعونات القادمة من  مصر، مما يدفعه إلى التفكير في الاستدانة من  (ناتان) اليهودي.

 

يشكر (ناتان) فارس الهيكل على إنقاذ ابنته ويعرض عليه مكافأةً ماليةً، لكنه يرفض قبول هذه المكافأة ويطلب فقط معطفًا بدلاً من معطفه الذي أصابته النار، ويتأثَّر (ناتان) من موقف الفارس النبيل ويتبادلان الحديث حول التسامح والتجرُّد من النظرة الدينية للأشخاص، وتقييمهم على أساسها، ويظهر من ذلك تقاربهما الفكري الذي يدفعهما إلى تكوين صداقة وطيدة، كان الفارس يثير لدى (ناتان) ذكرى صديق قديم له هو (فولف فون فلينك)، كان لهذا الفارس نفس مِشْيته وتعبيرات وجهه وطريقة حديثه.

 

تخبر (داجا) (ناتان) أنَّ (صلاح الدين) يريد مقابلته لطلب مبلغ على سبيل الدَّين إلى أن تأتي المعونة من مصر، ويقرر (ناتان) إعطاء (صلاح الدين) ما يريد؛ لأن صداقته للفارس جعلته يرى (صلاح الدين) من منظورٍ آخر، يلتقي (ناتان) و(صلاح الدين) بشأن القرض، لكن (صلاح الدين) يفاجِئ (ناتان) بسؤالٍ حول ماهية الدِّين الصحيح: هل هو الإسلام أو المسيحية أو اليهودية؟ ويعطيه مهلةً قصيرةً ليفكِّر في الإجابة، ويجد (ناتان) نفسه في موقفٍ صعبٍ؛ فكلُّ الإجابات الممكنة تضعه في مأزق، فيجيب على (صلاح الدين) من خلال قصة رمزية اشتهرت باسم (الخواتم الثلاثة):

• تحكي القصة عن خاتم يحصل من يمتلكه على محبة الله ومحبة الناس، وكان كلُّ أبٍ يورثه إلى  أحب أولاده إليه، حتى أتى رجلٌ كان يحبُّ أولاده جميعًا بنفس الدرجة، فصنع خاتمين مطابقين للخاتم الأصلي، فلما مات تنازع الأبناء حول الخاتم الصحيح، فلم يستطيعوا التمييز بينهم، فذهبوا إلى القاضي الذي لم يستطع هو أيضًا أن يدلَّهم على الخاتم الصحيح، فأمرهم أن يعتقد كل واحدٍ منهم أن ما يملكه هو الخاتم الأصلي، وأن يعمل بما تمليه عليه القِيَم الإنسانيَّة، ويحاول نفع الناس وسلوك الطريق الحسن والخضوع لله، حتى يأتي بعد آلاف السنين قاضٍ هو أعلم مني يستطيع أن يحكم لأحفاد أحفادكم من الذي كان يملك حقًّا الخاتم الأصلي.

 

كانت هذه القصة الرمزية هي الإجابة التي تلقَّاها (صلاح الدين) عن السؤال، وقد أعجبته واستحسنها وصار هو و(ناتان) بعدها صديقين حميمين.

 

يقع الفارس في حبِّ (ريشا) ويطلب من (ناتان) أن يزوجه إياها، لكنَّ (ناتان) يقابل رغبته بشيءٍ من التحفُّظ، مما يثير حنق الفارس تجاه (ناتان) وزاد من مشاعر الغضب لديه ما أخبرته به (داجا) أن (ريشا) مسيحية وليست ابنة (ناتان)، ولكنه تبنَّاها وربَّاها على دينه، فيذهب الفارس إلى البطريرك؛ ليسأله حول حكم اليهودي الذي يربِّي طفلةً مسيحيةً على دينه، فيخبره البطريرك أن هذا الرجل يستحقُّ عقوبةَ الإعدام حرقًا.

 

يتوجَّه الفارس بعد ذلك إلى (صلاح الدين) ويتحدَّث معه حول نفس الأمر، وهو متفجِّرٌ غضبًا لما فعله (ناتان) من تغيير ديانة (ريشا)، وأثناء انفعاله يقاطعه (صلاح الدين) قائلاً: "مهلاً أيها المسيحي، لا تقع في التعصب الأعمى"، فيظهر للفارس كم كان البطريرك متعطشًا للدِّماء على عكس (صلاح الدين)، الذي كان أكثر تسامحًا، ووعده (صلاح الدين) أن يبذلَ ما في وسعه ليزوجه من (ريشا)، وقد شدَّ انتباه (صلاح الدين) أثناء حواره مع الفارس ذلك الشبه الشديد بينه وبين أخيه (أسد)، ويخمِّن أنه ربَّما كان ذلك الفارس نفسه ابن أخيه (أسد)، الذي ارتدَّ عن الإسلام ولَحِقَ بالنصارى؛ ليتزوج من امرأةٍ ألمانيَّةٍ أحبَّها.

 

يذهب الفارس إلى (ناتان) بعد حواره مع (صلاح الدين)؛ ليعيد طلب ابنته (ريشا) للزواج، لكنه يجد نفس الموقف المتحفِّظ من (ناتان)، الذي أراد أن يعرف بالضبط النسب الحقيقي للفارس لحاجةٍ في نفسه، أثارها ذلك الشبه بينه وبين والد (ريشا) (فولف فون فلينك)، مما دفع (ناتان) للذهاب إلى الراهب؛ ليطلع على (كتاب الصلاة) الخاص بوالدها، وأثناء حواره مع الراهب تكشف القصة سرًّا قديمًا في حياة (ناتان)، الذي فقد زوجته وأبناءه السبعة في مذبحةٍ على يد بعض المسيحيين، وأصابته في ذلك الحين تلك الصدمة التي يمكن أن يتعرَّض لها مَن كان في مثل حاله، لكنه سرعان ما تدارك نفسه؛ ليقرِّر أن يعيش حياةً ملؤها الإيمان بالله ومحبة البشر بغض النظر عن دينهم، حتى إنه تبنَّى (ريشا) المسيحية التي مات والداها.

 

تنتهي القصة في مشهدها الأخير في بيت (صلاح الدين)، وقد اجتمع فيه كل شخصيات القصة: (ناتان)، و(ريشا)، و(الفارس)، و(صلاح الدين)، وتجتمع عدة خيوط؛ لتظهر مفاجآت تقلب الصورة رأسًا على عَقِب، حيث يظهر أن هذا الفارس الذي يعرفه الجميع باسم (كورد فون شتاوفين)، ينتسب إلى خاله الذي قام بتربيته، بينما اسمه الحقيقي (ليو فون فلينك)، وبالتالي فهو أخٌ شقيقٌ (لريشا) - التي تُدعى في الحقيقة (بلاندا فون فلينك) - ابنا صديق (ناتان) (فولف فون فلينك)، الذي هو في الحقيقة (أسد) أخو (صلاح الدين)، وبعد الصدمة التي تنتجها هذه المفاجآت على الجميع،  يتبادل الجميع الأحضان، ثم يسدل الستار.

 

التعليق:

القصة في مجملها مليئة بالرموز، وغنية بالإشارات التي تحتاج إلى قراءات متعددة، وزوايا مختلفة للتناول.

 

حاول المؤلف أن يظهر عدةَ شخصياتٍ بطريقة إيجابيةٍ في المسرحية، وهي تمثِّل في الوقت ذاته قوالب غربية ثابتة، هي:

• اليهودي (ناتان) الذي يبدو وحده صاحب الأرض في القدس، والجميع من خارجها، كما أنه المظلوم الذي (أُحْرق) أولاده السبعة، وهو النبيل العقلاني المتسامح، وهي صورة درامية واضحة لدولة إسرائيل في المفهوم الغربي.

 

• والثاني الفارس (كورد فون شتاوفين)، الذي ينتمي إلى جماعة (فرسان الهيكل)، التي مثَّلت الرحم الذي خرجت منه الماسونيَّة العالميَّة، التي حملت الثورة الفرنسيَّة شعارها الأخَّاذ: (الإخاء، العدل، المساواة)، الذي خرجت منه القِيَم الأساسيَّة التي تدَّعيها أوربا: (الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان)، وكان (ليسنج) يعرف بمناصرته للماسونيَّة، حيث كان عضوًا في المحفل الماسوني لمدينة (هامبورج)، مما دفع بعض الباحثين إلى اعتبار المسرحية واحدةً من إرهاصات الحركة الصِّهْيَونيَّة، حيث لم تمرَّ سوى سنوات قليلة على ظهورها، حتى توجَّه اليهود إلى نابليون بطلب أرض فلسطين منه[3].

 

• الإسلام الذي يمكن لأوربا أن تتعايش معه، والذي مثَّله (صلاح الدين) في صورته المشوَّهة، ذلك الدين الذي لا يدَّعي أنه خير الأديان ولا أصحها، ولا يدعو أحدًا إلى اعتناقه ولا يطرح نفسه بديلاً ومهيمنًا على الدين كله، بل يلجأ إلى يهودي ليستجلي منه حقيقة الدين الصحيح!

 

الشخصية الأكثر سلبيَّة في القصة، هي تلك التي يمثِّلها البطريرك، وهو الشخصية الوحيدة التي تؤمن بأحقيَّة دينها، وعدم النسبية في الإيمان به خلافاً لباقي الشخصيات، فظهر أكثرَ الشخصيات دمويةً، بينما الجميع متسامحون؛ لأنهم لا يضعون انتماءهم الديني محددًا من محددات علاقتهم بالآخرين، يمثِّل هذا البطريرك تاريخ أوربا الدموي الذي كرهه الأوربيون، وانطلقوا في تنويرهم الجديد بدافع البغض الشديد له.

 

لقد مثَّلت المسرحية قِيمَة التسامح بالمعنى الغربي، وهو معنًى لا علاقة له بالمسيحية التي كانت تؤمن بها أوربا، إنه التسامح الذي ينطلق من وجهة نظر إلحادية لا تُقيم للدين وزنًا، إلا على قدر ما يقدم من منافع مادية، لقد حاولت أوربا أن تتخذ لكلِّ خُلُقٍ تتخلَّق به، وتدعو إليه أساسًا لا علاقة له بالدين، وكانت العقلية الأوربيَّة قد ارتبط فيها الدين بمعاني الانغلاق والعداء والتسلط والجشع، فكان هذا التسامح لا يستقيم في العقلية الأوربية، إلا مع عدم الوثوق في الدين.

 

لم يقتصر الأمر على ادِّعاء أوربا الإيمان بهذه القِيَم، بل تعدَّى الأمر إلى محاولة تصدير هذه الأفكار الماسونيَّة إلى بلادنا، فهذه المسرحية يتمُّ تدريسها في المدارس الألمانية في القاهرة، وأقسام اللغة الألمانية، كما تَمَّت ترجمتها وعرضها على مسرح معهد (جوته) - المركز الثقافي الألماني - بالقاهرة، وأخرجها (هاني غانم) مخرج فرقة (المسرح المتمرد) عام 2004[4]، كما تمَّ عرضها في غزة عام 1998، واضطر المثقفون الحاضرون إلى مغادرة القاعة اعتراضًا على مضامين هذه المسرحية[5].

 

ومع التعارض البديهي والحاد لهذا المفهوم الإلحادي للتسامح مع الإسلام وعقيدة الولاء والبراء، إلا أننا نجد دائمًا مَن يبحث في القرآن عمَّا يوافق القِيَم الغربيَّة السائدة، فيرى أحدُ الباحثين الغربيين أنَّ المثل الذي أجاب به (ليسنج) على سؤال (صلاح الدين) مذكور في القرآن في قوله تعالى: ﴿ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آَتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ﴾ [المائدة: 48]، حيث يرى أن معنى الآية أنَّ الله قد جعل لكلِّ أمةٍ دينها، بمعنى أنه أقرَّها عليه، وأنه ابتلاهم؛ ليرى حسن سلوكهم في الدنيا وأمرهم باستباق الخير؛ أي: تحقيق النفع لأنفسهم وللآخرين؛ ليحكم الله بينهم يوم القيامة، مَن منهم كان على الدين الصحيح.

 

إنه التسامح الذي ينبع من قِيَم (الماسونية) و(الإلحاد)؛ ليوفِّر إمكانية التعايش بين (الإسلام المتسامح) و(الكيان الصهيوني)[6].



[1]القصة متوهمة من الكاتب، ولا علاقة لها بالواقع التاريخي.

[2]أنشئت جماعة (فرسان الهيكل) أو (فرسان المعبد) في سنة 1119م عَقِبَ انتهاء الحرب الصليبيَّة الأولى، وأصدرت لفُرسان المعبد وثيقة أقسموا فيها بالتزام الفاقَة والعِفَّة والطاعة شعارًا للجمعية،و تعتبر هذه الجمعية الأصل الذي نشأت منه المنظمات الماسونيَّة الحديثة، وقد تمت محاكمتهم في أوربا بتهمة عبادة الشيطان والكفر بالمسيحية، وتم إحراقهم وحبسهم بعد أن كانت بدايتهم القيام على حراسة الطُّرق المؤدية إلى الحج في بيت المقدس، إلا أنهم سرعان ما تبدَّلوا وأغرتهم قوتهم بالفساد في الأرض، حتى فاخروا ملوك أوربا في الترف والنعيم.

[6] يمكن الاطلاع على النص الأصلي  للمسرحية باللغة الألمانية على هذا الرابط:

http://gutenberg.spiegel.de/?id=5&xid=1620&kapitel=2&cHash=f23ac984d32#gb_found





المصدر: http://www.alukah.net/translations/0/30077/#ixzz4N95GFvIe

 

الحوار الداخلي: 
الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك