الوسطية والاعتدال في مراحل تشريع القتال

 

إنَّ مِن سُنن الله - تعالى - في عباده "سُنة التدرُّج"، ولهذا فقد أخَذَ بها النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - واقْتفَى أثرَها، سواء في دعوته بمكَّة، حيث كانت الدعوة سِرًّا، ثم تدرَّج وانتقل من الدعوة السِّريَّة إلى الدعوة الجهريَّة إلى طلب النُّصرة من القبائل، والبحث عن سندٍ اجتماعي للدعوة، كذلك التدرُّج في تصحيح العقيدة.

 

أمَّا في المدينة فقد كانتْ هذه السُّنة الإلهية جليَّة لاحبة في بناء الدولة والتربية، وهكذا كان - عليه الصلاة والسلام - يسيرُ ويتحرَّك وفقَ سُنن الله الاجتماعية.

 

وممَّا يؤكد الأخْذ بسُنة التدرُّج: تشريع الجهاد القتالي الذي مرَّ بثلاث مراحل:

المرحلة الأولى: الكفُّ والإعراض والصَّفْح، وإعداد النفس قبلَ خوْض المعارك، وذلك حتى تستطيعَ الفِئة المؤمنة الثباتَ في ساحة القتال، فكان الحبيب المصطفى - صلَّى الله عليه وسلَّم - يُوصِي أصحابَه بالصبر والتؤدة، وعدم مواجهة الكفَّار والمشركين؛ قال الحق - تعالى -: ﴿ وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ ﴾ [الشورى: 43]؛ أي: "﴿ وَلَمَنْ صَبَرَ ﴾ على ما يناله مِن أذَى الخَلْق ﴿ وَغَفَرَ ﴾ لهم، بأن سمح لهم عمَّا يصدر منهم، ﴿ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأمُورِ ﴾؛ أي: لمن الأمور التي حثَّ الله عليها وأكَّدها، وأخبر أنَّه لا يُلقَّاها إلاَّ أهلُ الصبر والحظوظ العظيمة، ومن الأمور التي لا يُوفَّق لها إلا أولو العزائم والهِمم، وذَوُو الألباب والبصائر.

 

فإنَّ ترْك الانتصار للنفس بالقول أو الفعل أشقُّ شيء عليها، والصبرُ على الأذى، والصفح عنه، ومغفرته، ومقابلته بالإحسان - أشقُّ وأشق، ولكنَّه يسيرٌ على من يسَّره الله عليه، وجاهد نفسَه على الاتصاف به، واستعان الله على ذلك، ثم إذا ذاق العبدُ حلاوتَه، ووجد آثاره، تلقَّاه برحب الصدر، وسَعة الخُلق، والتلذُّذ فيه"[1].

 

وقال عزَّ مِن قائل: ﴿ وَقِيلِهِ يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ * فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ﴾ [الزخرف: 88-89]؛ أي: "اصفحْ عنهم ما يأتيك مِن أذيتهم القوليَّة والفِعلية، واعفُ عنهم، ولا يبدر منك لهم إلاَّ السلام الذي يُقابِل به أولو الألباب والبصائر الجاهلين"[2].

 

وقال - جلَّ ذِكْره -: ﴿ قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْماً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴾ [الجاثـية: 14]؛ أي: "يأمر - تعالى - عبادَه المؤمنين بحُسن الخُلق، والصبر على أذية المشركين به، الذين لا يرجون أيَّام الله؛ أي: لا يرجون ثوابَه، ولا يخافون وقائعَه في العاصين، فإنَّه - تعالى - سيجزي كلَّ قوم بما كانوا يكسبون، فأنتم - يا معشرَ المؤمنين - يجزيكم على إيمانكم وصَفْحكم وصَبْركم ثوابًا جزيلاً"[3].

 

وعن خبَّاب بن الأرت - رضي الله عنه - قال: أَتَيْتُ النبيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - وهو مُتوسِّد بُردة، وهو في ظِلِّ الكعبة، وقد لَقِينا من المشركين شدَّة، فقلت: ألاَ تدعو الله، فقَعدَ وهو مُحمَّر وجهُه، فقال: ((لقد كان مَن قبلكم لَيُمشَط بمشاط الحديد ما دون عِظامه من لحم أو عَصَب، ما يَصرِفه ذلك عن دِينه، ويُوضع المِنشارُ على مَفرِق رأسه، فيُشق باثنين ما يصرِفه ذلك عن دِينه، وَلَيُتِمنَّ الله هذا الأمرَ، حتى يسيرَ الراكب من صنعاءَ إلى حضرموت[4] ما يخاف إلاَّ الله))[5].

 

كما اتَّجه النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - في هذه المرحلة إلى تربيةِ النفوس، وتصحيح العقيدة وتنقيتها ممَّا شابَها من رذائل ومنكرات، ولعلَّ الحكمة في هذا مراعاةُ سُنن التدرج، التي تؤتِي ثمارَها في كل وقت وحين بإذْن ربها، ولو أُمِروا بالقتْل قبل أن يشتدَّ عُودُهم، وتصفو نفوسهم وهم قلَّة تكالبَ عليهم الأعداءُ من كلِّ حَدَب وصَوْب - لكان ذلك سببًا للقضاء عليهم؛ ولهذا كان النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - على وعيٍ تامٍّ وإدراك بأهمية التخطيط والتؤدة، واستقراء الأحداث، ومراعاة سُنة الله في حركاته.

 

المرحلة الثانية: الإذن بالقتال من غير إلزام؛ قال الحقُّ - سبحانه وتعالى -: ﴿ أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ ﴾ [الحج: 39].

 

أُبِيح لهم القتالُ دفاعًا عن النفس، فبدأ النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - بإرْسال السرايا والخروجِ للغزوات؛ فكانت السرايا الأولى - وهي ثلاثة - في شهر رمضان وشوال وذي القعدة، وبعدَها بدأتِ الغزوات في السَّنة الثانية من الهجرة، فكانت أوَّلُ غزواته غزوةَ ودان[6] وغزوة العشيرة[7].

 

المرحلة الثالثة: فُرِض عليهم قتالُ مَن قاتلهم، أو اعتدى عليهم، أو وقف في طريق دعوتهم، أو ظَهَر منه قصْدُ العدوان ببينة ثابتة؛ قال الله - جلَّ ذِكْره -: ﴿ إِلاَّ الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً * سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُبِينًا ﴾ [النساء: 90-91]، وقال - جلَّت عظمتُه وتقدَّست كلماتُه -: ﴿ وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ﴾ [البقرة: 190].

 

وقال - تبارك وتعالى -: ﴿ وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾ [الأنفال: 39]؛ أي: "شِرْك وصدٌّ عن سبيل الله، ويُذعنوا لأحكام الإسلام، ﴿ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ ﴾، فهذا المقصودُ من القِتال والجهاد لأعداء الدِّين، أن يُدفع شرُّهم عن الدِّين، وأن يُذبَّ عن دين اللَّه الذي خَلَق الخَلْق له، حتى يكونَ هو العالي على سائر الأديان"[8].

 

وبعدَ كل ذلك: "أَمَر الله - عزَّ وجلَّ - المسلمين بقتال المشركين لصدِّ عدوانهم، وإزالة الفِتنة عن الناس، حتى يستمعوا النداءَ الحق من غير عائق، وحتى يَرَوا نظام الإسلام مطبَّقًا؛ ليعرفوا ما فيه مِن عدل وإصلاح لحياة البَشَر"[9].

 

وقال - سبحانه وتعالى -: ﴿ قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ ﴾ [التوبة: 29].

 

وعلى هذه المرحلة الأخيرة، استقرَّ أمْرُ القِتال في الإسلام، ولهذا كَتَب الصِّدِّيقُ أبو بكر - رضي الله عنه - إلى أهل اليمن يَحثُّهم على الجهاد في سبيل الله، قال بعدَ أن حَمِد الله، وأثنى عليه: "سلام عليكم، فإنِّي أحمَد الله إليكم الله الذي لا إله إلاَّ هو، أمَّا بعد، فإنَّ الله - تعالى - كتَبَ على المؤمنين الجهادَ، وأمرهم أن يَنفِروا خفافًا وثقالاً، ويجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله، والجِهادُ فريضةٌ مفروضة، والثواب عند الله عظيم، وقد استنفرَنا إلى جهاد الرُّوم بالشام، وقد سارعوا إلى ذلك، وقد حَسُنت نيَّتهم، وعظمُت حسنتُهم، فسارِعوا إلى ما سارَعوا إليه، ولتحسن نيَّتُكم فيه، فإنَّكم إلى إحدى الحُسنيَين: إمَّا الشهادة، وإمَّا الفتح والغنيمة، فإنَّ الله - تبارك وتعالى - لم يرضَ من عباده القَوْل دون العمل، ولا يزال الجهادُ لأهل عداوته حتى يَدينوا بدِين الحق، ويُقِرُّوا لحُكم الكتاب، حَفِظ الله دِينَكم، وهَدَى قلوبَكم، وزكَّى عملَكم، ورزقكم أجْرَ المجاهدين الصابرين"[10].

 

ومجمل القول:

فلكلِّ حالة من أحوال الأمَّة حُكمُها، يُفرَّق فيها بين حال القوَّة وحال الاستضعاف، فيُقرِّر فقهاؤنا الأفاضلُ، وعلماؤنا الجِلَّة لكلِّ حالٍ ولكلِّ مرحلة ما يُوافِقها، وَفْقَ سُنَّة الله في التدرُّج، كما رأيْنا في مراحل تشريع الجِهاد القتالي.



[1] "تفسير السعدي" (ص: 760).

[2] "تفسير السعدي" (ص: 770).

[3] "تفسير السعدي" (ص: 776).

[4] حضرموت: اسم مركب تركيبًا مزجيًّا، "ناحية واسعة في شرقي عدن بقرب البحر، وحولها رمال كثيرة تُعرف بالأحقاف، وبها قُبِر النبي هود – عليه السلام - وبقربها بئر بَرَهَوت، وبين حضرموت وصنعاء اثنان وسبعون فرسخًا، وقيل مسيرة أحد عشر يومًا؛ "معجم البلدان"؛ لياقوت الحموي، باب الحاء والضاد حرف الحاء (2/270).

[5] صحيح الإمام البخاري، كتاب مناقب الأنصار، باب ما لقي النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - وأصحابه من المشركين بمكَّة، (ح: 3852).

[6] ودان: موضع بين مكة والمدينة، قرية جامعة من نواحي الفُرْع، بينها وبين هَرْشَى ستة أميال، وبينها وبين الأبواء نحو من ثمانية أميال، قريبة من الجحفة، وهي لضمرة وغفار وكنانة؛ "معجم البلدان"، باب الواو والدال وما يليهما، حرف الواو (5/365).

[7] العشيرة: موضع بين مكة والمدينة من ناحية ينبع؛ "مراصد الاطلاع" (2/943)، "معجم البلدان، باب العين والشين حرف العين (4/127).

[8] "تفسير السعدي" (ص: 321).

[9] "منهج النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - في الدعوة"؛ محمد أمحزون، (ص: 248).

[10] "تاريخ فتوح الشام"؛ أبو زكريا يزيد بن محمد الأزدي، (ص: 8)، "تهذيب تاريخ دمشق الكبير"؛ ابن عساكر، (1/129).



المصدر: http://www.alukah.net/sharia/0/7759/#ixzz4Mfjl3ZQ3

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك