ليس هناك سوى الجثث!

مرزوق الحلبي

 

تنتشر في الصُّحف والمواقع تلك الوقفات اللُّغويَّة عند كلمة فسّرها هذا على هذا النَّحو وذاك على نحو مغاير. ويحدث أن يرد هناك بيت شعر يتضمَّن المُفردة الخلافيَّة. وعادة ما تكون هذه المفردات من تلك العصية أو تلك الَّتي علّتها طبقات من الرَّمل والأتربة أو تلك الَّتي تقادمت تماما ولم يعد لها سياق أو مكان في الحياة سوى متن قاموس قديم أو معجم محافظ أو كتاب جمع مؤلّفه فيه غرائب اللُّغة وأحاجيها. وأعترف أنَّني عندما عملت محرّرا سنين طويلة كنتُ أمقت ما يُرسله البعض من هذه الطَّرائف وأرسلها فورا إلى حيث اعتقدت مكانها ـ أدوّن عليها "غير صالح للنَّشر" وأرسلها إلى ملفّ المواد الزَّائدة. لم يكن لديَّ يومها موقف مبلور، شعور عام يحتدم أو يخفّ بأنَّ مثل هذه المواد غير لازمة ولا تنفع في شيء سوى واضعها الَّذي سيبدو إمَّا مهتما باللُّغة وإمَّا متبحرا فيها. تمثّلا لظاهرة في منتهاها إلى اليوم نسقا ثقافيًّا مقيتا وهو هذا النَّبش المرضيّ في الذَّاكرة اللُّغويَّة المدوّنة والبحث عن "إعجاز" آخر في مفردات اندثرت أو مستعصية لغرابتها ونُدرة المواضع الَّتي تمَّ استخدامها فيها.

وها أنا أعيد عليّ السُّؤال ـ ماذا ستجدون هناك وما الفائدة من مفردة ميّتة تقلبون أمامنا جثتها وتنبشون هيكلها العظمي أو شاهد قبرها؟ وسؤالي هذا ليس بريئا ولا هو خطابي بل ماكر ويتأسَّس على مقولة مفادها وجوب الكفّ عن هذه العادة المَرَضيّة ودلالاتها. فهي تعكس اعتقادا ساذجا متأصّلا أنَّ عزّ اللُّغة في ماضيها وأنَّ أصالتها في قديمها. وهو اعتقاد يرى اللُّغة في جمودها كقصر أو بناية تاريخيَّة ثابتة لا يُضاف عليها ولا يُنتقص منها! وهي تعكس نسقا ثقافيًّا إشكاليًّا في الثَّقافة العربيَّة عامَّة يتمثّل في الاتّباع واقتباس الماضي ونسخه وتكراره باعتباره الحاضر. صحيح أنَّ ما أشرنا إليه يحدث في مساحة اللُّغة والتَّعامل معها لكنَّه يحصل في مستويات ثقافيَّة أخرى. كأن ينسخ لك أحدهم عن كتاب قديم لمؤلّف أقدم ما قاله ابن الهيثم لزميل له في السُّوق عندما أضاع حصانه، أو كأن يسرد لك أحدهم غيبا قصَّة أعرابي ألفى نفسه دون دراهم بعد أن سرقه أحدهم. وفي الحقيقة أنَّني ككلّ النَّاس أهوى القَصص ولا أتردّد في قراء هذه "النهفات" أحيانا لكنّي أضحك من جديّة ساردها وكأنَّها قرآنا آخر نزل علينا ونحن غافلون.

هذه وتلك من عادات عربيَّة مشابه تعكس هذا الولع بالماضي والتَّعاطي معه كأنَّه حاضر. يصير الأمر ضربا من العبث عندما يتّصل الأمر بمسائل لغويَّة ومحاولة إحياء حروف مفردات وهي رميم لأنَّ اللُّغة العربيَّة اليوم في غنى عن عظامها ورُفاتها. بل هي بأمسّ الحاجة إلى التَّجدُّد والتَّحديث. وهو غير ممكن دون أن تُنزل عن ظهرها ـ متن معاجمها ـ أكوام المفردات الميّتة الَّتي قتلت في غزوات العرب وحروبهم أو خلصت أعمارها بحكم الزَّمن.

لن تجدوا أيَّ شيء هناك سوى الرَّماد الَّذي صارته هذه المفردات وذاك الأعرابي الَّذي كان في السُّوق. كما أنَّ هذه العودة إلى استحضار الأموات تمنع الفاعل من إنتاج نفسه من جديد وتحول دون أن يتطوّر هو ذاته بالنّسبة لذاته كي يحفظ بقاءه! أقول هذا في ضوء الخوف من تجديد اللُّغة والتَّوجّس من انفتاحها على سواها. أقول هذا في ضوء التَّمسّك بكلّ شيء قديم ـ النُّصوص المقدَّسة الموروثة مثلا ـ في مواجهة الحداثة وما يُنتجه الغرب من حالات ومُنجزات لا يُريد المحافظون العرب التَّفاعل معها. ومن هنا فإنَّ "العودة المظفّرة" إلى مُفردة ضائعة أو طُرفة هامشيَّة انعكاسا لنزعة ماضويَّة شاملة في الثَّقافة العربيَّة سبقت الإسلام السّياسيّ السَّلفي. وهي نزعة متجذّرة في المدّ القومي، أيضا، الَّذي ـ ككلّ مدّ قوميّ ـ بنى نفسه على أساس الذَّاكرة الجماعيَّة والتَّاريخ والأساطير والملاحم وتقديس الثَّقافة واللُّغة العربيين وتكريسهما عاملا مُطلقا فيها يُعاد إليه كمرجعيَّة ويُعتمد كقاعدة ونهج. وقد تأكّد من جديد مع المدّ الدّيني السَّلفي الَّذي يُعطي قدسيّة دينيَّة للُّغة والموروث. من هنا هذا الجهد الَّذي لا ينضب في نبش رماد مُفردات أو طرائف يجعلها المدّ الإسلامي كلُّها إسلاميَّة الخطاب والشُّخوص والمغزى.

كنّا حيال طبقة واحدة من الحفر في الرَّماد والأتربة لأغراض بناء الهويَّة القوميَّة ومشروعها الثَّقافي المضاد للغرب بحكم الاستعمار وصِرنا حيال طبقتين بفعل الفكر الإسلامي وبناء الهويَّة من وحي الموروث المقدّس والنُّصوص القديمة الدَّائرة في فلكه. إنَّ التموضع في موقع ضدّي من الغرب الاستعماري، وفق الخطاب القومي، أو بوصفه حاضرا غير منصف للعرب والمسلمين ومعاديا لهم وكافرا، وفق القاموس الإسلامي، أحدث حركة ارتداد من الحاضر بوصفه صناعة غربيَّة وعن المستقبل غير الواضح في ضوء الحاضر ـ إلى ماض يُظنّ أنَّه ذروة في كلّ شيء أو هويّة واضحة المعالم تضمن الحماية لصاحبها أمام الغزو الثَّقافي الغربي أو الأمريكي!

وعليه، فهي ليست مجرّد بحث في مفردة أو عنها ولا مجرّد اهتمام بطرائف العرب بل هو اشتغال بالذَّات الَّتي مضت وتقمُّصُها على أنَّها حيَّة تُرزق ـ بينما هي ميّتة من زمان! هي حركة تقهقر أمام تحديات الحداثة والآخر الغربي والمعرفة ونمط الحياة الجديدة نحو حياة "الأعرابي" الَّذي كان. لو أنَّ هذا "الحنين" يُشبه حنين الإنسان إلى القديم في سوق الأشياء القديمة لأضفينا عليه مسحة فنيَّة أو تحدَّثنا عنه بلغة البحث عن الجميل أو القديم الَّذي يحاكي حنينا وتوقا شاعريًّا إلى ما كان. لكن عندما يصير التَّنكيل بجثث مفردات قديمة عادة علنيَّة محبّبة سنُدرك أنَّها حالة مرضيَّة خاصَّة أنَّها لا تعني شيئا للُّغة الَّتي تنوء تحت ثقل أجيال من الكلمات الميّتة أو المتيبّسة في حرّ الصَّحراء وقرّها. قد تكون حرفة للمعجميين في إطار البحث عن تطوّر اللُّغة وحيويتها أو عن أصول كلمات حيَّة تُرزق في الرَّاهن. وهذا أمر مفهوم، لكن أن يصير الأمر تقليعة وعادة يحسبها أصحابها فتحا لغويًّا ثقافيًّا فإنَّ ذلك يعني وجود ثغرة في فهمنا للثَّقافة واللُّغة ودورهما في إحداث النُّهوض أو تكريس الجمود. ونحن بصدد عادات أسهمت في تكريس الجمود وإعاقة النُّهوض باللُّغة وتجديدها وبالثَّقافة وإضاءتها.

لا أخفي اعتقادي أنَّ آفاق خروج الثَّقافة العربيَّة ـ وهناك مَن يُريدها إسلاميَّة ـ لا يكمن في العودة إلى التُراث مهما يكن حجم العودة وموضوعها بل في الانقطاع عن التُراث كليًّا لأنَّ الاشتغال به في زمن الصَّحوة الإسلاميَّة صار مرضيًّا وقاتلا بالمفهوم الحرفي للكلمة وبالمجاز. العودة إلى التُراث تحقّق لأصحابها جُملة أهداف. فهي تعويل على مقدّس يُعتبر ذروة وهو ليس سوى ماض مضى وانقضى. وهي هروب من تحديات الرَّاهن وانكفاء حيال عدم وضوح المستقبل، إلى "منطقة" آمنة. وهي بناء هويَّة على أساس جذورها لا على أساس مشروعها. وهو اعتقاد بأنَّ الأصالة هي تكرار الماضي واجتراره. وهي بناء هويَّة مُضادة للغرب من مادَّة ليست غربيَّة بل عربيَّة قديمة يعتبرونها أصيلة. أو هي بناء هويَّة مضادَّة للغرب الكافر من مادَّة المقدّس الإسلاميّ الأكثر قُربا من الجنَّة! كلّ هذه المعتقدات لا تعدو كونها غيبيات لا تصمد في امتحان الوقائع ولا في امتحان التَّحديات لا سيَّما أبسطها. لم أرى في صرامة أي عودة كهذه إلى "أصل" اللُّغة أو "عزّ العرب" و"ذروة الحكم الرَّشيد" ما يحلّ مشكلة الفقر أو خراب الحاضرة العربيَّة. كما لا أرى في أي عودة من "العودات" المذكورة ما يضمن إدارة سليمة لمورد عام أو إدارة سويَّة لمؤسَّسة عامَّة! فلا تعودوا لأنَّكم لن تجدوا هناك سوى عظام وأتربة. وهل هذا الَّذي تحتاجه الثَّقافة العربيَّة الآن!

المصدر: http://www.alawan.org/content/%D9%84%D9%8A%D8%B3-%D9%87%D9%86%D8%A7%D9%8...

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك