الوعي الإسلامي يمرّ بأزمة عميقة جدّاً حوار مع مارسيل غوشيه
ترجمة: محمّد الحاج سالم
في رأي الفيلسوف، تدفع الحداثة، القائمة على مبدأ استقلاليّة الفرد، بعض الشَّباب المفتقر إلى تقدير الذَّات نحو البحث عن ملاذ في الأصوليّة الدينيّة. وهو يفسّر أزمة العالم الإسلامي الرَّاهنة بالفجوة بين الشُّعور بالتفوّق الديني والإخفاق الحضاري لهذه المجتمعات الَّتي تنتج الإذلال.
*************
كيف تفسّرون انجذاب بعض الشَّباب الفرنسيّين إلى الجهاد؟
نحن نواجه إيعازاً اجتماعيّاً جديداً أصوغه على النَّحو التَّالي: "كن فرداً!". وهذا نظريّاً، وضع مرغوب يتطلّع كلّ منّا إليه. إلاّ أنّ الأمور في الواقع أكثر تعقيداً. فأن يوجد المرء بذاته، خارج كلّ انتماء إلى جماعة، وأن يؤكّد خياراته، ويرتقي إلى مستوى تطلّعاته، فهذا كلّه صعب. فالبعض ليس لديه وسائل لتقمّص هذا الدَّور. وبعض الشَّباب - بما في ذلك المهاجرون، ولا يتعلّق الأمر بهم فحسب- قد يواجه أوجه قصور عميقة ويشعر بالعجز عن مواجهة هذا التَّحدّي.
وفي هذا السّياق، يمكن للأصوليّة الدينيّة أن تُغوي. إنّها توفّر مدوّنة معايير يُلتزم بها، وجماعة يُرتبط بها، وتقليد يُنخرط فيه، إلخ... أضف إلى ذلك، أنّ هؤلاء الشّباب يعتبرون نذر أنفسهم لقضيّتهم شيئاً نبيلاً. إنّهم يشعرون في أعماقهم بأنّهم يتحوّلون إلى أشخاص جديرين بالتَّقدير، ويصبحون شخصيّات معتبرة من خلال إنكار ذواتهم كأفراد وفقاً لمعاييرنا المعتادة.
في الستّينات، انخرط بعض الشَّباب في العمل العسكري باسم المثاليّة الثَّوريّة. هل يمكننا موازاة ذلك مع الظَّاهرة الحاليّة؟
لا أعتقد ذلك. قد تكون الاشتراكيّة الثَّوريّة مشابهة في كثير من النَّواحي لدين بديل... ولكن مناضلي اليسار المتطرّف كانوا، في معظمهم، مندمجين اجتماعيّاً غاية الاندماج. لقد كانوا ينحدرون في الغالب من عائلات ثريّة ومن أصحاب الشَّهادات العليا، وكانت لديهم كلّ الفرص كي يجدوا مكانتهم بعد الإيفاء بالتزاماتهم. بل إنّ العديد منهم أضحى لهم في ما بعد مستقبل مهني ناجح. أمّا الشَّباب الَّذي يستهويه الجهاد، فلا تتوفّر له نفس الفرص. وهذا لعمري جزء من المشكلة.
في كتابكم المرجعي "فكّ السّحر عن العالم" (1985)، تنظّرون لـ"الخروج من الدّين"، وتؤكّدون أنّ الدّين لم يعد يمثّل حجر الزَّاوية في التَّنظيم الاجتماعي. كيف نفهم، في هذا السّياق، الظَّاهرة الجهاديّة، وبشكل أعمّ، انتعاش الأصوليّة الإسلاميّة؟
دعونا نكون واضحين. الخروج من الدّين كما نظّرتُ له لا يعني البتّة اختفاء المعتقدات الميتافيزيقيّة الفرديّة. فالدّين لا يزال يلعب دوراً مركزيّاً في الحياة الحميميّة للمؤمنين، سواء على مستوى الخلاص، أو القيم. ملاحظتي في ذاك الوقت – وهي تبدو لي راهنيّة اليوم أكثر من أيّ وقت مضى - كانت تشير إلى أنّ المجتمعات الأوروبيّة لم تعد تخضع للإلهي. فحين كان الأمر كذلك، كانت الحياة الاجتماعيّة بأكملها قائمة على الخضوع: خضوع البشر للغيب، وخضوع الحاضر للماضي (عن طريق التَّقليد)، وخضوع الفرد للجماعة، وخضوع البشر بعضهم لبعض.
خصوصيّة التَّاريخ الأوروبي تتمثّل في القطع مع هذا كلّه لصالح النَّزعة الفرديّة والاستقلاليّة والمساواة في الحقوق والديمقراطيّة. وهذا التطوّر، الَّذي استغرق خمسة قرون كي يترسّخ، يمثلّ الآن مكسباً لم نعد نتساءل بشأنه مطلقاً. ولكنّنا نستطيع أن نفهم أنّ هذا النَّمط من التَّنظيم قد يزعزع مجتمعات أخرى، فبعضها يرغب في اكتساب منجزات الحداثة الغربيّة مع الحفاظ على هويّته التَّاريخيّة والدينيّة، ويواصل في نفس الوقت انتظامه حول الدّين. هذا هو الحال بشكل خاصّ في جزء كبير من المجتمعات الإسلاميّة.
يتّخذ رفض الغرب في بعض من تلك المجتمعات، منحى عنيفاً بشكل خاصّ. كيف يمكن تفسير ذلك؟
ببساطة مفرطة، يبدو لي أنّ ذلك يعود إلى وجود تناقض بين روح الإسلام ووضعه التَّاريخي الموضوعي. هذا الدّين يقدّم نفسه بوصفه "الوحي النّهائي"، بوصفه الدّين الَّذي يشمل الديانات التَّوحيديّة الأخرى، ويعتبر نفسه أسمى منها. ولكنّ هذا الشُّعور بالتَّفوّق الدّيني يتزامن مع إخفاق حضاري للمجتمعات الإسلاميّة (من حيث النموّ الاقتصادي، والرَّفاهة الماديّة، والتقدّم العلمي، وما إلى ذلك). ومن وجهة النَّظر هذه، توجد أزمة عميقة جدّاً في الوعي الإسلامي واستياء عميق تجاه الغرب.
وفي هذا السّياق ينبغي لنا أن نفهم أنّ البعض يأمل، من خلال قراءة دقيقة للشّريعة القرآنيّة، في إعادة الارتباط بماضٍ ينظر إليه على أنّه مجيد. هذه الفجوة بين انتماء ديني يُعاش بوصفه متفوّقاً من جهة، وبين الإذلال اليومي المحسوس من جهة أخرى، موجودة عند قسم كبير من شباب ضواحينا ممّن يستهويه الجهاد.
أدّى تنامي الظّاهرة الجهاديّة في فرنسا بالسُّلطات إلى التَّفكير مجدّداً بالترسانة القمعيّة، وكذلك الوقائيّة، بهدف احتوائها. لكن كيف يمكننا معالجة هذه الظاهرة جذريّاً ؟
أعتقد أنّه علينا العودة إلى نقطة البداية وطرح السُّؤال التَّالي: ما هي الشُّروط الواجب توفّرها لتمكين شبابنا من تحقيق ذواتهم كأفراد؟ هذه هي المسألة الاجتماعيّة الجديدة. لقد أثارت ولادة الثَّورة الصناعيّة مسألة الصّراع الطَّبقي، والآن أضحت المسألة الَّتي تشدّنا راهناً هي تحقّق الفرد. كيف نوفّر وسائل تحقّق ذلك للجميع؟
هذا منوط بداية بالتَّفكير المتعمّق حول التَّعليم. فهذا ما يتوقّف عليه القدرة على الاستقلال الفردي. لا يمكننا الاكتفاء بتوزيع بعض المال هنا وهناك، من خلال الدَّولة الاجتماعيّة، على هؤلاء الشَّباب المهمّش. ولا مندوحة من إيجاد حلّ لهذه المشكلة.