سنة التدافع

محمود يوسف سلامة

 

لله في كونه سنن لا تتبدل ولا تتحول “ولن تجد لسنة الله تبديلًا ولن تجد لسنة الله تحويلا ” وهذه السنن لا تحابي أحد ولا تتغاضى عن أحد بل هي مسار واضح للعالمين, تبين لهم المنهج المستقيم لمن أراد النجاة والإصلاح, وعلى المؤمنين أن يعوا هذه السنن بتأملها وتحليلها وربطها للتعامل معها بوعي رشيد, فيجمعون بينها في إطار جلي لتكون لهم منارة في فهم الكون, وتعمير الحياة وتحريك الناس نحو الغاية التي خلقهم الله عز وجل لها.

ومن هذه السنن سنة التدافع, فالله تعالى فطر الأشياء والنفوس والمجتمعات والمجالات على طبائع عدة وبث في الكون سننًا ونواميس تحكم كل ما فيه وتحدد اتجاهاته وعلاقاته وردود أفعاله, فالكون قائم على مبدأ الزوجية “ومن كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون” وهذه الزوجية دليل على وحدانية الخالق, فإنها أيضًا مصدر للمدافعة لأن الزوجية تقوم على المغايرة والاختلاف, ولعلنا نجد هذا الاختلاف بين الرجل وزوجه رغم ما تجمعهم مصالح مشتركة, وحياة مفعمة بالحب والتقدير فيتولد بينهم نوع من الصراع والتدافع الذي ينتهي بنوع من التكامل والتعاون, ونطاق هذا التدافع أكبر من مجرد إنسان مع آخر, أو قل تقلبات حياة الإنسان ذاته, لتصل هذه المدافعة إلى مجموعات أو شعوب, أو تحالفات, تبرز جوانب من التوافق والاختلاف, اختلاف على صعيد العواطف والأمزجة والأهواء والرؤية والفهم والتقدير والمعرفة والخبرة والأهداف والغايات واختلاف على صعيد المصالح والمنافع, وهذا التدافع هو شيء ضروري لاستقامة الحياة والبعد عن الشطط, ومصدر لدرء الشر وتحجيمه إلى أدنى حد ممكن, بالإضافة إلى أنه عامل نماء وارتقاء.

وقد وضح الله عز وجل منارات واضحة لفهم هذا الاختلاف المتولد عنه مدافعات, لنستثمرها في بناء إنسان مفعم بالحياة, وحضارة يطفو نورها فيشمل الجمال.

لقد كانت الحياة كلها تأسن وتتعفن دون هذه السنة الجارية “ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين” (البقرة 251).

“فطبيعة الإنسان التي فطرها الله عز وجل من الاختلاف في تعارض مصالحهم واتجاهاتهم لتنطلق الطاقات كلها تتزاحم وتتغالب وتتدافع وتستجيش ما فيها من مكونات مذخورة, وتظل أبدًا يقظة عاملة مستنبطة لذخائر الأرض مستخدمة قواها وأسرارها الدفينة وفي النهاية يكون الصلاح والخير والنماء” حسب ظلال القرآن لسيد قطب.

وقد قسمت سنة التدافع إلى ثلاثة محاور وهي كالتالي:

أولاً: التدافع بين أهل الحق وأهل الباطل:

جاء على لسان عبد الله بن مسعود أنه قال “لابن آدم لمتان, لمة من الملك ولمة من الشيطان, فأما لمة الملك فاتعاد بالخير وتصديق بالحق وتهذيب النفس, وأما لمة الشيطان فاتعاد بالشر وتكذيب بالحق وتخبيث للنفس” فيكون بينهما افتراق وتنافر فيتولد بينهما صراعات وتدافعات, وهذا يكون في الشخص الواحد يتردد بين اللمتين لتكون غلبة إحداهما على الأخرى فيلجأ صاحب نزعة إلى مثيله, ولأنهم درجات في القوة والثراء فإن عملية الاستقطاب تظهر, وتكون ترجمة ذلك حصول معركة سياسية أو تنافسات مالية وإزاحات اجتماعية(1).

وأساس هذا التصارع يكون على شقين متكاملين, صراع ديني وآخر دنيوي, وقد ظهر جليًا الصراع الديني مذ آدم وصراعه مع إبليس وما زال هذا الصراع مستمرًا مع بني الإنسان, ثم يكمله صراع على الدنيا ليحوز أحدهما عليها وقد جعلها الله لبرها وفاجرها, فإن حاز عليها المؤمن أصلحها وعمرها وفق ما أراد الله عز وجل, وإن استولى عليها الفاجر أفسدها واحتكر خيراتها له ضمن رؤية ميكافيلية (الغاية تبرر الوسيلة), وعلى هذا فإن من تقوى القلوب أن يحوز المؤمن على الدنيا لتحقيق مبادئ الحياة الثلاثة وهي مبدأ العبودية لله وحده, ومبدأ الاستخلاف, ومبدأ الاستعمار.

فكانت رحلة الأنبياء تتجلى في بث هذه المبادئ بين الناس, ولكن غالبية القوم يجادلون ويستهزئون ويحاربون بكل الأساليب الإعلامية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية إلى أن تصل أحيانًا إلى محاولات الطرد والنفي والاغتيال لأصحاب الدعوات, وقد ينشب بينهما حرب عسكرية وفي النهاية تكون العاقبة للمتقين الآخذين بمنهج الله تعالى سبيلًا لهم ووعوا سننه في كونه فأعدوا العدة الإيمانية والعلمية والعسكرية يحوطها إرادة لا تلين كما هو واضح في قصة طالوت وجالوت, وكيف أن الله نصر الفئة المؤمنة حينما انتفضت قلوبهم انتفاضة إيمانية وأخذوا بسلاح العلم والقوة العسكرية, وعاشت قلوبهم إرادة التمكين في الأرض فكانت الهزيمة لأعدائهم رغم تفوقهم العددي والعتادي.

وقد وضح القرآن معالم الصراع وأهدافه من قبل الباطل على الحق بالقضاء على الدين وحامله فقال جل شأنه “ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرًا ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز”, وفي النهاية يكون الصلاح والخير والنماء بقيام الجماعة الخيرة المهتدية المتجردة.

ثانيًا: صراع أهل الباطل مع أهل الباطل:

لعل الصراع بين أهل الباطل قد يكون نظرة عقائدية فيرى الفريق الأول أنه على الحق ودونه الباطل, ومن هنا تستجيش العاطفة الإيمانية للوقوف قلبيًا مع الأقرب للحق وهذا ما لاحظناه من حرب الروم والفرس فتمنى المؤمنون أن ينصر أهل الروم لأنهم أهل كتاب, بل إن الله سماه نصرًا من عنده فقال: “غلبت الروم* وهم من بعد غلبهم سيغلبون* في بضع سنين لله الأمر من قبل ومن بعد ويومئذٍ يفرح المؤمنون* بنصر الله ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم”.

وقد يكون الصراع صراع دنيوي لنهب المصالح والسيطرة الدائمة لنيل الشهوات, فما حدث في الحربين العالميتين الأولى والثانية أوضح دليل فكان اللجوء للتحالفات على أساس مصلحة دون مصلحة, وهذا ما حدا بإيطاليا بأن تنقلب على حلفائها في الحرب العالمية.

ومن ثم فإنَّ على أهل الحق أن يحافظوا على توازن القوى بين الباطل ومثيله بحيث لا يحدث قطب واحد فيستغل ثروات البلاد, ويعربد في الأرض دونما يحكمه عقل أو قانون مثل ما يحدث الآن في الولايات المتحدة الأمريكية, فمصلحتها فوق أي مصلحة حتى ولو كانت على حساب حياة الإنسان وكرامته أو حتى ما تنادي به من شعارات مثل الحرية والديمقراطية, فإن أفرزت أناس على غير مصالحها أو مصالح حلفائها فإنها تتنكر لذلك وليس أدل من ذلك من تنكرها لفوز حركة حماس في الانتخابات التشريعية عام 2006م, وكذلك انتهاكها لحقوق الإنسان في أبو غريب وغوانتنمو, فعلى الأمة أن تنحاز بما فيه كرامة الإنسان واعتقاده وفكره وحريته بل وحقوق الحيوان.

أما إذا تحول الصراع إلى صراع دم وأشلاء فعلى الأمة أن تنادي بكل الوسائل لوقف نزيف الدم حتى ولو أعلنت الحرب على الأظلم, فالدعوة الإسلامية دعوة إنسانية, وما فرض الجهاد إلا لحقن الدماء.

ثالثًا : تدافع أهل الحق مع أهل الحق:

والسؤال المطروح هل الحق يتعدد؟

لقد قسم العلماء الحق إلى ثلاثة أقسام: حق مطلق وهو الله جل شأنه, وحق محكم وهو ما نزل من الكتاب أو ما حدث به النبي صلى الله عليه وسلم فيكون نصًا قطعي الصحة واضح الدلالة, وحق نسبي فيكون في مجال الفروع أو أمور محدثات الحياة ما لم يقع نص قطعي الصحة ووضوح الدلالة, فيكون الاختلاف فيه نسبة إلى الفهم أو عدم وصول النص الصحيح, فيتولد في الاختلاف تدافع للوصول إلى أحق الحقين, وهذا التدافع أصل في حياة الناس فهو عامل لتحرك الحياة والسباق الخيري فيه نحو الأفضل والأكمل يكون بارتفاع الهمم واتضاح معاني الخير ودرجاتها وتصاعدها وأنواعها فعدم التطور هلاك وهو منطق الفقه, فالتنافس يشكل عاملًا مهمًا في تنمية الحياة وترشيد مسارها والتخلص من الأخطاء والانحرافات ولكن هذه الحصيلة من العمران الحضاري بالأفكار والعلوم والآداب لم تمنع من قيام تناقضات بجانبها أصلها ابتداع أو صراع على السلطة فكان العمل الإصلاحي الاستدراكي المتنوع(2) متمثلًا بأدب الخلاف هو السبيل لحل الإشكالات إذا خلصت النوايا وبنيت الثقة متمثلين برأي الشافعي حين قال رأي صواب يحتمل الخطأ ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب.

وقد يصل الأمر إلى محاولات للغزو الخارجي بسبب التناقض البشري فكان الجهاد واضعين كل خلافاتنا وراء ظهورنا متوحدين لإزالة العدو ومحاولاته.

وهذا لا يمنع أن تتولد بيننا تنافسات نصل بها إلى الأفضل فيكون هناك أكثر من جمعية خيرية وشركة اقتصادية وناديًا رياضيًا ومعهدًا تنمويًا وتجمعًا نقابيًا وما إلى ذلك, يتولد بينهم التنافس بما يخدم البشرية وإن الارتقاء في سلم الخدمة الإنسانية هو ارتقاء في درجات الجنان بعد تحقيق مطالبها.

إن ساحة الحياة المترامية الأطراف تموج بالناس في تدافع وتسابق وتزاحم نحو الغايات ومن ورائها جميعًا تلك اليد الحكيمة المدبرة تمسك بالخيوط جميعًا وتقود الموكب المتزاحم المتصارع المتسابق إلى الخير والصلاح والنماء في نهاية المطاف(3).

ــــــــــــــــــــــ

  1. أنساق النفضات… محمد أحمد الراشد
  2. أنساق النفضات… محمد أحمد الراشد, بتصرف
  3. في ظلال القرآن.. سيد قطب

* تم الاستعانة بمقالات عن سنة التدافع لعبد الكريم بكار

 
أنواع أخرى: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك