هويـة الأمة بين التغييب والإحياء

موفق شيخ إبراهيم

الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى وبعد:

فإنَّ البحث على الهوية، ومن ثَمَّ الحفاظ عليها هو أساس نفسيٌّ وواقعيٌّ وحتميٌّ وضروريٌّ للاستقلال السياسي والفكري والاقتصادي للأمَّة المسلمة، بعد زمنٍ طويلٍ من ذلِّ التبعية للآخرين.

ونحن نشهد اليوم حرباً ضروساً، وصراعاً عنيفاً بين هوية هذه الأمَّة التي تكالبت عليها الأمم والأفكار والمذاهب من كلِّ جانب، كونها تمثِّل مبادئ استطاعت أن تجيب على أسئلة الإنسان والكون والحياة إجابات صائبة، وبين الكمِّ الهائل من نقيضاتها موقف الندِّ للندِّ، وبدأت الأخيرة تتكسَّر على صخرة هذه الهوية العاتية، والتي امتزجت بمعين الوحي.

ولم تخلُ الساحة الأدبية من توصيفٍ لهذا الصراع المحتدم الذي عبَّر عنه شاعرنا الملتزم عبد الله عيسى السلامة:

مهلاً فمـا عـنـت الحـياة لسادر يختال بين شواطىء وضفاف

من لم يخض لجج الحياة فرأيـــه زبدٌ على ثبــج المبادىء طاف

إنَّ الحـياة سعيـر حـرب مـرَّة بين الهدى وشرائع الأحلاف

إلا أنَّه وعلى أرض الواقع، وبين يدي تحول عامَّة المسلمين من أمَّة مبادئ إلى أمَّة مصالح، أدَّى ذلك إلى فقدان هذا الكنز الذي لا يُقدَّر بثمن.

ومن مظاهر فقدان الهوية أن يلهث آحاد الأمَّة خلف السراب! وقريب منَّهم الينبوع الصافي الذي لم تتكدَّر دلاؤه، ولن تتكدَّر، لأنَّه رباني الصبغة؛ ألا وهو الوحي بجناحيه: الكتاب والسنَّة، يحلِّق في آفاق النفس البشرية السويَّة. وثمَّة أيادٍ خفيَّةٍ وراء بعض ما نحسبُهُ من الشكليات في ساحة الواقع، والتي لا يلتفت إليها كثيرٌ من المسلمين للسطحية التي اعتلت تفكيرهم، وعلى سبيل المثال تغيير اسم شارع عمرو بن العاص، في كبرى العواصم العربية إلى شارع كورنيش النيل، فترى اللافتة وقد كتب عليها شارع كورنيش النيل، وتحت ذلك وبخطٍّ صغير: عمرو بن العاص سابقاً.

ومثل تغيير علَم محافظة القاهرة الذي تمثله المئذنتان اللتان عند باب زويلة، وتحويله إلى شمس فوق عبارة: محافظة القاهرة، وبذلـك عاد [آمون رع] وذهبت المئذنتان.

وهذا نتيجة طبيعية لأصحاب الأقلام المسعورة الذين رفعوا لواء العلمانية، وكتبوا عن الحداثة، وهي كلمة جذَّابة لأجيالنا الناشئةَ ولها بريق، الحداثة التي أقامت قطيعة مع الموروث، فأصبحت بناءً هشَّاً لا أساس له من التراث.

وقبل عقودٍ من الزمن كانت الحالة مختلفة! يقول ابن باديس رحمه الله:«حين لم نلتفت إلى ماضينا وقوتنا السماوية، ما كنَّا نُرهِب أحداً ، أمَّا اليوم فبهذه اللفتة القصيرة إلى تراثنا المجيد أصبحنا نُخيف بعد أن كنَّا نخاف !».

وفي سنة 1930م، تصور الكاردينال [لافيجري] أنَّ عهد الهلال في الجزائر قد غبَرَ، وأنَّ عهد الصليب قد بدأ، وسيستمر إلى الأبد!. ولكن هيهات من هذا التصور، إذ أتى الواقع فيما بعد على غير ما يشتهيه هذا الكاردينال الواهم !.

وأنا بدوري أؤكد بأنَّ التخطيط لضرب هويَّة هذه الأمَّة، عن طريق إلحاق الهزيمة الفكرية وكذا النفسية، جاء من دوائر وجهاتٍ عديدة كان من أهمها أبناء وأحفاد أولئك الذين عملوا منذ قرنٍ من الزمن على إلغاء الخلافة التي كانت بحقٍّ آخر حصنٍ للمسلمين.

قال [شمعون بيريز] أواخر سبعينات القرن الفائت في مهرجان خطابي انتخابي:«إنه لا يمكن أن يتحقَّق السلام في المنطقة ما دام الإسلام شاهراً سيفه، ولن نطمئنَّ على مستقبلنا حتى يغمِدَ الإسلامُ سيفَه إلى الأبد»!.

وهذا الذي ذهب إليه هو انعكاس لمقولة البرفسور [موشيه شارون] مستشار [مناحيم بيغن] للشؤون العربية والإسلامية:«ما من قوة في العالم تضاهي قوة الإسلام، من حيث قدرته على اجتذاب الجماهير فهو يشكِّل القاعدة الوحيدة للحركة الوطنية الإسلامية».

وممَّا يتعيَّن علينا معرفته بأنَّ بداية الهزيمة النفسية تبدأ من الشعور بالنقص في سنِّ الطفولة من خلال متابعة الطفل أفلاماً أنتجتها العولمة؛ التي هي الوجه الآخر للغزو الفكري الذي احتلَّ بيوت المسلمين، وبتسهيل من أهلها، وبدون كلمة مرور! وعادتي التدليل على ما أدَّعي؛ ولنأخذ على سبيل المثال فيلم [فندر فاكس] الذي يصوِّر الصراع بين الخير والشرِّ، على أنَّه صراع بين الغرب والشرق، يمثِّل الشرق جانب الشرِّ فيه، وعلى وجه التحديد المسلمين من أهله، حيث جعل الفيلم شعار الهلال رمزاً للشرِّ المزعوم!. أما فيلما[سوبر مان] و[طرزان] فيظهرِان الرجل الغربي بصورة المنقذ للعالم.

وكما اعترفت بنت شيخ الأزهر الشيخ المراغي بعبقريات العقاد، فقد كانت مسافرة مع أبيها فصادفت في تلك الرحلة امرأة من [الخواجات] فراحت تذكر لابنة الشيخ إعجابها بالعقَّاد، وخصوصاً بـكتابه العبقريات، وهنا راحت ابنة الشيخ تطلب العبقريات من أبيها، فقال الشيخ بحسرة: «أنا شيخ الأزهر، وابنتي لم تسمع لي، وسبق أن كلمتها عن العقاد وكتبه، فلما حدثتها الخواجة استمعت لها وصدقتها!» ثم عقَّب بألم ومرارة قائلاً: «يبدو أننا لن نؤمن ولن نصدق بالإسلام، إلا إذا آمن الخواجة به!».

يقول [أبو الكلام آزاد] :« إنه ليس هناك ما هو أدعى للخزي والمهانة، من أن يحني المسلمون رؤوسهم أمام أفكار غيرهم السياسية!».

إنَّ الإسلام لا يسمح لهم أن يكونوا ذيلاً لغيرهم في أفكارهم، بل عليهم أن يدعو غيرهم إلى مشاركتهم واتِّباعهم، ولو أنهم خفضوا رؤوسهم لله تعالى وحده لخفض العالم رأسه أمامهم.

إنَّ الإسلام قد وضَّح لهم طريقهم الخاص، فلماذا يستعيرون من غيرهم الطرق؟!.

وإذا كان الله رفع رؤوسهم فلا ينبغي لهم أن يخفضوها أمام غيرهم.

وإزاء رؤيتنا لهذا الجزء المهمِّ من الواقع يجدر بنا أن نكون مبادرين لأفعال، لا أن نكون جاهزين، وأصابعنا على [كونترول] ردود الأفعال، ولنتيَّقن أنَّ التغيير الذي يريده الإسلام، وألهج له لهجاً وألحُّ عليه إلحاحاً، ليس نقل رقم من خانة إلى أخرى، أو من جدول إلى جدول!. بل هو تغيير جذريٌّ عند الفرد المسلم يشمل عالمي التصور والسلوك. وإذا سكبنا العبرات أمام مشاهد من إذلال المسلمين، وما أكثر الأكلة حول قصعتهم، مستبيحين لها دون ضوابط يعرفها عالم الخلق ودنيا الناس؟!. فهذا لا يكفي بل لا بدَّ من تحركٍّ فاعل نقطف منه نتائج إيجابية وفاعلة على الأرض.

ولا غرابة أن تعود هذه الأمَّة إلى سالف عهدها المشرِّف، كونها صاحبة عقيدة هي أقوى من كل سياسة رعناء، والأمَّة العريقة أصلب عوداً وأمضى سيفاً وأطول عمراً من دولة الظلم، الذي أضحى صفة تعمُّ العالم من خلال ازدواجية المعايير، والمولودِ من رحِمِ النفاق العالمي الرخيص لا أقول على حساب المبادئ، بل على حساب أدنى معايير القيَم الإنسانية.

ومن الخطأ بمكان أن يظنَّ الدعاة في العصر الحاضر أنَّ الراحة لها موضع ومكان في حياتهم، وكأنَّ ابن الخطاب يعيش بيننا الآن، لينبهنا إلى هذه الحقيقة قائلاً:«الراحة للرجال غفلة».

وليعلموا أنَّ تحول الإسلام إلى صورة حيَّة يقلب الموازين، ويحدث اهتزازاً، ويزلزل المعادلات، ويبعث على القلق عند أعدائه.

ما أجدر بنا أن يعشعش الإسلام في جنبات نفوسنا فكرة ومنهجاً، الفكرة هي بمثابة جذور للشجرة المؤمَّل أن تكون باسقة مثمرة مورقة بالعطاء أنبتها الله على أرض صلبة لا تقبل تزييف الحقائق أو تقبل التميّعُ في السلوكيات، وهذا العطاء لها هو المنهج في أبهى صوره وأنصع أشكاله.

وثمَّة ترابط وثيق واضح المعالم بين الطرفين، الفكرة والمنهج؛ ولنتأمل قليلاً في المثال الذي ضربه الفيلسوف إقبال عن جواد السلطان المؤمن الذي مرض فسقاه الطبيب خمراً، وكيف أبى السلطان بعد هذا أن يركبه مجاهداً في سبيل الله.

قلت: يحضرني بين يدي هذا المثال الرائع قول الباري تقدَّست صفاته: «وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا» [الأعراف: ٥٨].

فلا بدَّ من حضور المقومات الإسلامية من جديد، وفي مقدمتها الأصالة التي صنعت ضمير الأمَّة، وهذه المقومات كفيلة بإعادة التجربة الحضارية الإسلامية في التاريخ.

وهذا لا يأتي إلا بعد وضوحٍ في الرؤية، وبعد حسن اختيارٍ لمسارنا في الحياة.

جعلنا الله أوفياء للرسالة التي وقفنا لنصرتها وتفرَّغنا لإحيائها من جديد بعد طول سبات وانشغال عنها من عامَّة المسلمين، بعد أن تقاذفتهم الأهواء يمنةً ويسرةً؛ ولنكن بعد هذا الركام، وهذا التيه دعاة استنارة ورسل حضارة.

وآخر دعوانا أنِ الحمد لله ربِّ العالمين.

المصدر: https://alfajrmg.net/2016/06/16/%D9%87%D9%88%D9%8A%D9%80%D8%A9-%D8%A7%D9...

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك