الإسلام السّياسي في الممارسة، نماذج من أقطار عربيَّة (1)
بقلم: خالد غزال
تتنتشر تيّارات الإسلام السّياسيّ في جميع البلدان العربيَّة تقريبا، تتفاوت في انتماءاتها المذهبيَّة بين بلد وآخر، وإن كانت الغلبة للمذهبين السُّنّي والشّيعي. كما تتفاوت في قوَّتها السّياسيَّة ومدى انتشارها الشَّعبي، وموقعها داخل مؤسّسات المجتمع، السّياسيَّة والمدنيَّة والاقتصاديَّة.. عرفت صعودًا خلال العقد الأخير ودقّ بعضها أبواب السُّلطة. ساهمت الانتفاضات العربيَّة في نفخ الرُّوح القويَّة لدى معظم هذه التيَّارات، ودغدغت لديها أحلام الاستيلاء على المجتمعات العربيَّة تمهيدا لمشروع إعادة الخلافة إلى المسلمين. لم يعد الحديث عن تكهّنات في سلوك الإسلام السّياسيّ وتعبيراته، عندما يتسنى له السَّيطرة في بلد مَّا، فالنَّماذج الَّتي تمكَّنت في بعض البلدان العربيَّة، وآخرها ما يسمَّى بدولة الإسلام في العراق والشَّام (داعش)، ومعها تيَّارات جهاديَّة من قبيل "جبهة النُّصرة" وغيرها من التَّنظيمات غير معروفة العدد، هذه الممارسات تقطع بالوجهة الَّتي سيرسو عليها الحكم في المجتمعات العربيَّة، وعلى نمط الحياة المدنيَّة الَّتي ستفرضها هذه التَّنظيمات على أبناء هذه المجتمعات بقوَّة السَّيف والقتل والذَّبح الحلال باسم الإسلام والعودة إلى السُّنَّة النَّبويَّة وإعلاء شأن الأمَّة الَّتي اعتبرت "خير أمَّة أخرجت للنَّاس".
تسلّط الدّراسة الضَّوء على نماذج من وصول بعض تيَّارات الإسلام السّياسي إلى السُّلطة، وكيفيَّة ممارستها في كلّ بلد. سيجري التَّطرُّق إلى بلدان مصر، تونس، ليبيا، اليمن، سوريا، وهي البلدان الَّتي شهدت انتفاضات في السَّنوات الأخيرة. كما سيتطرق إلى فلسطين خصوصاً حركة حماس، وحزب الله في لبنان، والجزائر، والسودان بوصفه من النَّماذج الأولى الَّتي دقَّت فيها هذه التيَّارات باب السُّلطة. لاينفي الاقتصار على هذه النَّماذج التَّقليل من أهميَّة سائر التيَّارات في الأقطار العربيَّة الأخرى. لكنّ هذه النَّماذج، بل بعضها يمكن أن يختصر الصُّورة العام لممارسة الإسلام السّياسيّ في الوطن العربيّ.
1 ــ مصر
تحتلُّ مصر الموقع الأهمّ في قراءة الإسلام السّياسيّ، نظريّة وممارسة، بالنَّظر إلى نشاة حركة الإخوان المسلمين فيها، وهي الحركة الأمُّ لسائر التيَّارات الإسلاميَّة، سواء ما يطلق عليها معتدلة أم متطرّفة. وإذا كانت التيَّارات الإسلاميَّة قد شهدت ذروة قوَّتها في الأعوام الأخيرة، فإنّ هذه القوَّة تعود بجذورها إلى ترسّخ هذا التَّنظيم في المجتمع المصري على امتداد ثمانية عقود. منذ الأيَّام الأولى لإعلان التَّنظيم على يد مؤسّسه حسن البنا، ظلَّت شعاراته القليلة لكن المعبّرة تحكم مساره حتَّى اليوم، وأهمّها: الإسلام هو الحلّ، الإسلام دين ودولة ومصحف وسيف، الهدف النّهائي هو إعادة الخلافة الرَّاشديَّة إلى المسلمين بعد أن أنهاها مصطفى كمال في تركيا.
إلى جانب الإخوان المسلمين، نشأت تيارات سياسيَّة أهمَّها الحركة السلفيَّة والحركات الجهاديَّة، والطُّرق الصُّوفيَّة، إضافة إلى المؤسَّسة الدّينيَّة المتمثّلة بالأزهر، وهي تيَّارات يجمعها قاسم مشترك هو تطبيق الشَّريعة الإسلاميَّة. كان ظهور التيَّار السَّلفي بقيادة "حزب النُّور" والتَّبريرات الفقهيَّة والإيديولوجيَّة لمشاركته في الحياة السّياسيَّة، مفاجئاً. يشير الكاتب المصري خليل العناني إلى هذه التيَّارات السلفيَّة بالقول:"إنّ الانطلاق السَّلفي إلى الفضاء العام لم تحده المقولات الثيولوجيَّة والأيديولوجيَّة لشيوخ التيَّار وقادته، بل على العكس حاول هؤلاء إيجاد تبرير فقهي للنَّشاط السّياسي للسَّلفيين: لم تعد الأحزاب مصدر شرك كما كان يقال، ولم تعد البرلمانات "مجالس كفريّة" كما كان كثيرون من رموز الدَّعوة السَّلفيَّة يكرّرون، كما يعدّ التَّواصل والتَّحالف مع قوى ليبراليّة وعلمانيَّة مخالفة دينيَّة" (خليل العناني، التيارات السَّلفيَّة في مصر: تفاعلات الدّين والأيديولوجيا والسّياسة، من كتاب جماعي: الإسلاميون ونظام الحكم الديمقراطي –اتّجاهات وتجارب، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، بيروت، 2013، ص 145).
اكتسبت التيّارات الإسلامية موقعًا مهمًّا داخل المجتمع نجم عن عدَّة عوامل، لعلَّ أهمَّها سعي هذه التيّارات إلى الاندماج بالحياة اليوميَّة للمصريين وتقديم نفسها المطالبة بالعدالة الاجتماعيّة ومحاربة الفساد، والمناهضة للإستبداد، والمعبرة عن اهتمامات النَّاس، وهو ما مكَّنها من أن يكون لها موقع هام في المؤسَّسات الاجتماعيَّة والمدنية، وتقديم أعمال خيريَّة وخدمات للمواطنين. كما أفادت من سياسة الدَّولة المزدوجة تجاهها: أباحت الدَّولة لهذه التيَّارات نشر ثقافتها الدينيَّة في أوساط الشَّعب، واستخدمها بعض الحكَّام خصوصاً أنور السَّادات ودعم موقعها في مناهضته التيَّارات المعارضة لحكمه، في المقابل مارست السّياسات الرسميَّة اضطهادًا لها في مراحل معينة، ممَّا أكسب قوى هذه التيَّارات احتضانًا شعبيًّا كونها تتعرَّض للقمع. لكنّ الأهمّ من كلّ ذلك هو قدرة هذه التيّارات، لا سيَّما الإخوان المسلمين على بناء شبكة تنظيميَّة قويَّة مكنتهم من التَّغلغل في مؤسَّسات الدَّولة.
عندما اندلعت الانتفاضة المصريَّة في 25 كانون الثاني / يناير من العام 2011، لم يكن "الإخوان" وسائر التيَّارات الإسلاميَّة من مطلقي الانتفاضة أو من مؤيديها في الأيَّام الأولى، بل إنّ بعضها قدَّم خطاباً مناهضا للثَّورة ومطالبًا بطاعة الحاكم. "لم يتبنّ الإخوان المسلمون شعار "الشَّعب يريد إسقاط النّظام" إلاَّ بعد أسبوع على اندلاع الثَّورة. كانت التيّارات السَّلفيَّة أكثر التيَّارات الإسلاميّة معارضة لثورة 25 يناير، وكانت هذه المعارضة جزءًا من فكرها الَّذي يرفض أي خروج على الحاكم.. بالنسبة للصُّوفيين، عارضوا صراحة ثورة 25 يناير، ولم يشاركوا في أي من تجلياتها باستثناء بعض شباب الصوفيّة.. شيخ الأزهر أحمد الطيب عارض الثَّورة يوم 25 يناير ودعا المتظاهرين إلى الانصراف من ميدان التَّحرير، وأكَّد أنّ تواصل التَّظاهرات حرام شرعًا، كما أنَّها دعوة إلى الفوضى.. المفتي علي جمعة اعتبر التَّظاهرات فتنة وخروج على الشَّرعيّة، من ثمّ فهي "حرام، حرام، حرام"( محمد السيد سليم، الأداء السّياسي للتيّارات الإسلاميَّة في مصر منذ 25 يناير، الإسلاميون ونظام الحكم الديمقراطي، ص 415 – 416 ). وفي الجمعة الأولى بعد تنحي مبارك، كان لافتا حضور الشَّيخ يوسف القرضاوي وإمامته بالمصلين، مع الإصرار على استبعاد الشَّباب الَّذي سبق لهم أن بادروا بإعلان الانتفاضة، وهي مقدّمة لاختزال "الإخوان" للإنتفاضة بتيَّارهم وإقصاء سائر القوى الفاعلة.
لم يعد خافيًّا أنّ الإخوان المسلمين عقدوا صفقة مع المجلس العسكري الَّذي تولَّى السُّلطة بعد تنحي الرَّئيس حسني مبارك، وهي صفقة تقوم على تمكين "الإخوان" من الهيمنة على المؤسَّسات الدُّستوريَّة، مقابل الرّئاسة للعسكريتاريا. هذه الصَّفقة تمَّت بمباركة من الولايات المتَّحدة الأميركيَّة، الَّتي سبق لها وأجرت مفاوضات طويلة مع الإخوان المسلمين منذ العقد الأخير من القرن الماضي، استنادًا إلى نظريّة أمريكيّة ترى في الإسلام السّياسي القوَّة الصَّاعدة في البلدان العربيَّة على حساب الأنظمة القائمة. لذا كان التَّوجّه الأمريكي في الوقوف ودعم هذا الإسلام الَّذي وحده يوفّر الأمان للمصالح الأمريكيّة في نهب الموارد العربيّة وضمان أمن إسرائيل. أثبتت التَّطوُّرات اللاَّحقة بعد إطاحة الإخوان المسلمين في مصر عمق هذه العلاقة وتواصل المراهنة الأمريكيَّة على هذا النَّمط من الإسلام.
تجلَّت ممارسة الإخوان المسلمين لسياستها وبرنامجها بعد الفترة الَّتي دخلتها مصر في مرحلة العودة إلى المؤسَّسات الدستوريَّة. بدأ الإصرار على الانفراد بتقرير مستقبل مصر انطلاقًا من المقولات الفكريّة للإسلام السّياسيّ، بدأ ذلك عند الاستفتاء على التَّعديلات الدُّستوريَّة الَّتي كان "للإخوان" الغلبة في اللّجنة الَّتي اقترحت التَّعديلات وفق توجّهاتهم ، فاعتبر "الإخوان" هذه الموافقة بأنّها موافقة على تطبيق الشَّريعة الإسلاميَّة، بكلّ ما يثيره الشّعار من توافق مع الوجدان المصري. وشدّد "الإخوان"، ومعهم التيّارات السَّلفيَّة، على أنّ كلّ انتقاد لهم ولممارستهم إنَّما هو هجوم على الدّين الإسلامي نفسه، مختزلين هذا الدّين ببرنامجهم السّياسيّ.
خلافا لتعهداتهم وإعلاناتهم في المراحل الأولى من الانتفاضة، بأنّهم يرفضون الدَّولة الدينيَّة، ويسعون إلى إقامة دولة مدنيّة، والإعلان عن عدم رغبتهم بتقديم مرشحين للانتخابات في كلّ المحافظات، جاءت ممارساتهم مناقضة لهذه الإعلانات. شعر "الإخوان" أن بإمكنتهم تحقيق أكثريّة نيابيّة، فخاضوا الانتخابات بمرشحين منهم في كلّ أنحاء مصر. حقّق "الإخوان" نجاحًا كاسحًا في البرلمان، وهو ما جعلهم يتراجعون عن تعهدهم بعدم تقديم مرشح لرئاسة الجمهوريّة، فخاضوا الانتخابات بمرشحهم محمَّد مرسي الَّذي نجح بشقّ النَّفس، على رغم تقارير كثيرة تشير إلى نجاح المرشَّح المنافس أحمد شفيق، لكن تهديد "الإخوان" بالثَّورة وإعلان العصيان دفع المجلس العسكري إلى إعلان فوز مرسي تجنبا لفوضى مسلحة كانت مصر ستدخل بها.
بعد استتباب السُّلطة "للإخوان" في أعقاب انتخابات الرّئاسة، سيظهر الوجه الحقيقي لممارستهم الاستبداديَّة والمتخلفة في الآن نفسه، بمنطق إدارة الحكم والبلاد. استهلّ "الإخوان" سلطتهم بالانقلاب على المجلس العسكري الَّذي كانت له اليد الطولى في نجاحهم، وأقصوا التيَّارات السَّلفيَّة الَّتي شكَّلت العنصر المرجّح لهم في انتخابات الرّئاسة، وجرى التَّخلي عن التَّعهدات والسّياسات الَّتي وعدوا بها، والَّتي باتوا يرون فيها ما يناقض مصالحهم. واعتمدوا سياسة طائفيَّة متطرّفة قائمة عل التَّمييز بسبب الدّين والجنس، خصوصا تجاه الأقباط، وتصنيفهم بأنَّهم رعايا لا مواطنين وعليهم دفع الجزية، فعمَّقوا الشّقاق الطائفي في المجتمع.
والأخطر من كل ذلك، هو كشف القناع عن هدفهم في تحويل مصر إلى دولة دينية، وتصريح رئيس الجمهورية بأنه سيبني الدولة الإسلامية على غرار الدولة الإسلامية الأولى التي جرى تأسيسها في المدينة زمن الرسول . وسعى "الإخوان" للهيمنة على مؤسسات الدولة الإدارية والتنفيذية وتسخيرها في خدمة مصالح التنظيم.
هذه السياسة الإقصائية والتعثر في إدارة الحكم والبلاد، أثارت منذ اليوم الأول ردود فعل شعبية ضد "الإخوان" وممارساتهم، فبديلاً عن سياسة الحوار، اعتمدوا سياسات ميليشوية سلطت بموجبها جماعاتها على القتل والضرب والتعذيب، وتجري ممارسة ذلك مع ترديد شعارات الله أكبر.. الجهاد في سبيل الله.. وبالروح والدم نفديك يا إسلام..هكذا كرس "الإخوان" مفهوما للشريعة قائماً على القمع والاضطهاد واحتكار السلطة في يد الحاكم، وكان من تجلياتها الإعلانات الدستورية للرئيس التي تحوله ديكتاتورًا مطلق السلطة أين منها سلطة الحكام السابقين. هذه السياسات شكلت عنصراً مسرّعاً في انكشاف الاخوان المسلمين، وتخلي أقسام واسعة من القوى السياسية والمدنية والعسكرية عنهم، بل بدا الشارع المصري بعد عام فقط على تولي مرسي للرئاسة أمام غضب شعبي وانتفاضة متجددة، أفاد منها المجلس العسكري للقيام بانقلاب مستندًا إلى المظاهرات الجماهيرية الواسعة التي قامت في 30 حزيران / يونيو مطالبة بإسقاط حكم "الإخوان". يصف الكاتب المصري مصطفى اللباد تلك اللحظة بالقول :"اعتقدت "الجماعة بسذاجة، أنها أحكمت قبضتها على السلطة، على الرغم من أن الدكتور محمد مرسي لم يكن متحكماً في أعمدة السلطة : الجيش والشرطة وأجهزة الأمن والإعلام، تلك التي تشكل أركان السلطة في بلدان العالم الثالث. ومع تنكر الجماعة للقوى الثورية صاحبة المشروعية في الثورة، والحديث عن "غزوة الصناديق" و"الحكم الإسلامي" والتمكين للجماعة، كانت الهوة تتسع كثيرًا مع ملايين المصريين. وساهم سعي "الجماعة" نحو احتكار السلطة في ظهور تحالف موضوعي مؤقت بين الناقمين يضم القوى الثورية ومؤسسات الدولة وأجهزتها، وهو التحالف الذي لم يكن متصورًا من دون وجود "الإخوان المسلمين" إسمياً في السلطة" (مصطفى اللباد،الثورة المصرية : الرواية الأخرى، جريدة السفير، 10 – 6 – 2014).
بعد إسقاط حكم الاخوان المسلمين، وما تبعه من اعتقالات في صفوفهم، دخلت الحركة في منعطف جديد في ممارستها السياسية استأنفت فيها الأصل في النشأة، أي استخدام العنف بوسائله المختلفة : اغتيالات، تفجيرات لمقرات أمنية وعسكرية، هجوم على مقرات أجهزة الأمن، سيارات مفخخة تطال مدنيين، هجوم على الكنائس.. بحيث يبدو وكأن مشروعهم السياسي تحول مشروعاً انتحارياً بكل معنى الكلمة. عادت نظريات الجهاد تسيطر على فكر "الإخوان"، واستعاد سيد قطب موقعه المركزي في توجيه وإرشاد الحركة بكل ما يحمله من تطرف وعنف من أجل القضاء على "مجتمع الجاهلية" التي تعيش مصر في كنفه، وفقا لمنظومته الفكرية المشهورة.
لم يكن أحد يتوقع أن ينهار حكم "الإخوان" بهذه السرعة القياسية، لا شك أنهم المسؤول الأول عن هذا الانهيار، ومعه أوهامهم عن تحويل مصر إلى دولة ثيوقراطية على غرار الدولة الإيرانية، وتشكيل جيش من الحرس الثوري يقود المجتمع بالسيف والكرباج، ويستعيد زمناً غابرًا من التاريخ لا موقع له في حياتنا الحاضرة. إذا كان القمع المسلط اليوم على حركة "الإخوان" لن يلغي موقعهم في المجتمع، لأنّ هذا القمع الشديد سابقاً لم يمنع تغلغلهم في المجتمع المصري، إلا أن استعادة وزنهم السياسي بما يعيد إدخالهم في السياسة يبدو بعيدًا جدًا لسنوات مقبلة. كان أحد قادة "الإخوان" خيرت الشاطر قد صرح خلال الأزمة وقبل سقوط محمد مرسي، أنه إذا فقد "الإخوان" الحكم، فلن يستطيعوا استعادته قبل خمسين عاماً. قد تكون هذه من النبؤات الصحيحة التي تطال حركة الإخوان المسلمين.
2 ــ تونس
تعتبر حركة النهضة الإسلامية التيار الإسلامي السياسي الأبرز في تونس. تأسست رسمياً عام 1972، ولم يعترف بها كحزب رسمي زمن حكم زين العابدين بن علي، إلى أن تم الاعتراف بها في شهر آذار / مارس 2011، وذلك بعد نجاح الانتفاضة ورحيل بن علي. تشكل حالياً الطرف الرئيسي في الحكم، يتولى رئاستها اليوم راشد الغنوشي. في المراحل الأولى من تشكلها، استلهمت أفكار سيد قطب وأبو الأعلى المودودي، وركزت في شعاراتها على إعادة الاعتبار للهوية العربية الإسلامية لتونس. لاحقاً، وفي حقبة المنفى، طورت الحركة منظومتها الفكرية والسياسية، فقدمت نفسها في وصفها تمثل الإسلام المعتدل المنفتح على العصر، ودعت إلى تأسيس دولة ديمقراطية، كما قالت بالمحافظة على الدولة المدنية وعدم الارتداد على التشريعات التي سبق أن وضعت زمن الرئيس الحبيب بورقيبة. من المهم رصد ممارسة الحركة خلال الانتفاضة التونسية، وبعد أن وصلت إلى الحكم، وذلك على الصعيدين النظري والعملي.
لم تكن حركة النهضة ومعها سائر التيارات الإسلامية، خصوصاً السلفية منها، المبادرة في إطلاق الانتفاضة التونسية، ولكنها انخرطت فيها بعد النهوض الشعبي ونزول الناس إلى الشارع لإسقاط نظام بن علي. أتاحت الانتفاضة للحركة الخروج من العمل السري إلى العمل العلني، وفي بيانها الأول بعد نجاح الانتفاضة أشارت إلى "تجدد تمسكها بمبادئها المعلنة واحترامها للتنوع والحق في الإختلاف ورفضها للوصاية على الإسلام وتمسكها بالعمل المشترك على قاعدة النضال من أجل تحقيق الانتقال الديمقراطي وتجسيد مباديء الثورة وتحقيق مطالبها"بيان صادر عن حركة النهضة بتاريخ 1 آذار / مارس 2011 بتوقيع راشد الغنوجي).
على غرار حركة الإخوان المسلمين في مصر، بدت حركة النهضة ذات وجهين في التعبير عن نفسها، فخطابها النظري والسياسي قبل الثورة بدا كأنه للاستهلاك المحلي والخارجي ولكسب تأييد الجمهور التونسي، بما يعتبر أحد المحطات في الطريق إلى السلطة والتمكن منها. وبما أنها قد وصلت الى السلطة، فقد أظهرت وجهها الحقيقي، في وصفها تيارًا سياسياً ساعياً إلى حكم تونس وخلق دولة دينية، وإقصاء سائر التيارات المدنية وتشجيع التيارات الإرهابية وتغطية أعمالها ، ثم الارتداد عن كل المكاسب المدنية الموروثة.
عشية تسلمه رئاسة الحكومة صرح حمادي الجبالي الأمين العام لحركة النهضة عن الهدف الرئيسي للحركة وهو "إرساء معالم الخلافة الإسلامية الراشدة السادسة". رأى كثيرون من القوى السياسية في هذا القول تصريحا بهدف إقامة دولة إسلامية دينية، بكل ما تعنيه من تقويض لقواعد الديمقراطية وإنهاء الحكم الجمهوري. وكان راشد الغنوشي قد صرح ب"أن الإسلام يملك القدرة على استيعاب الصيغة الديمقراطية وترشيدها في اتجاه أن يكون حكم الشعب مستضيئاً بالقانون الإلهي"( مصطفى القلعي، موقع الأوان، 11- 1- 2014 ).
شكل هذا التصريح دعوة لإقامة دولة دينية بالمواربة، وذلك عندما يضع "القانون الإلهي" مرجعية للسلطة وللتشريعات الناظمة للحكم. في السياق نفسه، يشير الكاتب التونسي فريد العليبي إلى ازدواجية خطاب الحركة قائلاً :" تكرر حركة النهضة القول أنها ليست حزباً دينياً، مشددة على هويتها المدنية الوسطية، و لكن علامات كثيرة تبين أنها توظف الدين رئيسياً في خطاباتها السياسية ، و في أكثر من مرة تم الإمساك بها متلبسة باستعمال الجوامع للدعاية السياسية، من ذلك خطبة ألقاها راشد الغنوشي غداة عودته إلى تونس في جامع الزيتونة، و هو الجامع نفسه الذي أسبغ فيه إمامه عليه رضا الله مشبها إياه بالصحابة قبل أن ينقلب عليه و يبسط سيطرته علي هذه المؤسسة الدينية العريقة مدعيا أن الرسول زاره في منامه مطالبا إياه بعدم الاستقالة من تأدية هذه الوظيفة الدينية . وهى تعزف على أوتار عديدة في نفس الوقت، و تخصص للمقام الواحد أكثر من مقال، أي إنها تناور لكي تصل إلى مبتغاها، فالوسيلة لا أهمية لها أيا كانت طبيعتها، الا بقدر ما تكون مفيدة في الوصول إلى الغاية التي حددتها، و هي السيطرة على السلطة، و هذا ما ظلت تحلم به طيلة عقود. و ينتقي الغنوشي من الدين ما يحلو له، فهو، لتأكيد الارتباط بين الدين و السياسة و لعسكرة الأتباع يستشهد بالرسول الذي كان قائدا للجيوش و يضع جانبا قوله أنتم أولى بأمور دنياكم، و عندما تدعو الحاجة لتقديم تنازلات و يكون في منبر فكري و تحت الأضواء لا يستنكف من القول أن الصراع في تونس ليس عقائدياً بل هو صراع سياسي و أن "للإسلاميين و العلمانيين أرضية مشتركة للعمل"، فالمخاتلة تقتضى ذلك" (فريد العليبي، الديني والسياسي في الانتفاضة التونسية، موقع الأوان، 12 – 7 – 2014 ).
شهدت تونس بعد نجاح الانتفاضة موجة إرهابية قادتها التيارات السلفية، ونجم عنها اغتيالات لبعض قادة المعارضة، وتهديدات بالاغتيال وإهدار الدم لعدد من المفكرين والكتاب والعاملين في وسائل الإعلام، تحت حجة الهرطقة والارتداد عن الإسلام وما شابه من اتهامات. أثيرت شبهات كثيرة حول احتضان حركة النهضة لهذه المجموعات وتغطية أعمالها. وفي سياق تجديد العمل التشريعي، سعت حركة النهضة إلى وضع مواد مقيّدة لحرية التفكير والرأي، وقاتلت لجعل الشريعة الإسلامية مصدر التشريع، ودعا زعماؤها لمراجعة "مجلة الأحوال الشخصية" من أجل الغاء النصوص الواردة فيها حول المساواة بين الرجل والمرأة وإبداله بمبدأ االتكامل، ودعوا إلى إلغاء النصوص التي تمنع تعدد الزوجات.. ناهيك بمجموعة اقتراحات بعضها "ملغوماً"، بما يؤدي إلى تكريس هيمنة دينية على البلاد. وعاشت تونس أزمة اضطراب في السلطة، عندما اندفعت حركة النهضة لتكريس توجهاتها في نصوص دستورية، بما وضع البلاد على شفير حرب أهلية، بالنظر إلى المعارضة السياسية والشعبية التي وقفت في وجه التشريعات المقترحة من حركة النهضة.
أمام الغليان الشعبي والسياسي الذي سببته ممارسات النهضة، وبعد أن أسقط الشعب المصري وقواه المسلحة حكم الإخوان المسلمين في مصر، تراجعت حركة النهضة عن اقتراحاتها وخضعت لمنطق القوى المدنية، وقبلت بما كان مستحيلاً في نظرها قبل الاضطرابات الداخلية والتحولات المصرية. لا شك أن العنصر الأساسي في تراجع حركة النهضة هو وجود قوى سياسية وشعبية في تونس كانت قادرة على إفشال "انقلاب" النهضة، وهي قوى تستند إلى منظمات مهنية ونقابية وسياسية موروثة وذات موقع متجذر داخل المجتمع التونسي.
عبرت الكاتبة التونسية رجاء بن سلامة عن هذه الفترة من الصراع بالقول:"إن تراجع النهضة لم يكن نتيجة الوضع الإقليمي والدولي الذي تنبّه إلى خطر "الإخوان" بعد سنة من صعودهم إلى دفة السلطة فحسب، بل أن معطيات داخلية تونسية دفعت بتغيير عميق داخل الديناميكية السياسية التونسية.. فبعد الانتخابات، سارعت النهضة إلى طرح مشروعها الإسلاموي الخاص بها، وعرضه للنقاش في المجلس التأسيسي، وخاصة تعويض استحقاق المساواة بين الرجل والمرأة بالتكامل بينهما، والتضييق على حرية التعبير بدعوى حماية المقدسات، ثم مشروع إعادة الأوقاف..الخ، كل ذلك دفع بقطاع واسع من المجتمع المدني إلى التصدي لهذا المشروع الثيوقراطي، وكبح جماح النهضة وتنبيهها إلى وجود قوى ضغط قوية في تونس قادرة على الحد من الأريحية الإنتخابية التي ربحتها الحركة في الجولة الأولى" ( رجاء بن سلامة، الإسلام السياسي حمى تؤرق جسد الحداثة العربية، موقع الأوان، 11- 6 – 2014 ).
3 ــ ليبيا
تعتبر ليبيا من أوائل البلدان العربيَّة الّتي بدأ فيها نشر أفكار حركة الإخوان المسليمن. وكسائر المجتمعات العربيّة، تعدَّدت التيَّارات الإسلاميَّة في ليبيا، وظلَّ أكثرها يعمل في السِّرّ بالنَّظر إلى موقف النّظام اللّيبي الَّذي منعها من العمل ومارس القمع المادي ضدَّها. عشية الانتفاضة اللّيبيَّة، كانت التيَّارات الإسلاميّة تضمُّ: الجماعة الإسلاميَّة المقاتلة الَّتي اعتمدت خيار التَّغيير بقوَّة السّلاح، حزب التَّحرير، جماعة التَّبليغ والدَّعوة، التيَّار السَّلفي، والإخوان المسلمون الَّذين أسَّسوا "حزب العدالة والبناء"، حيث شدَّد أحد قادة هذا الحزب محمد صالح الشلماني على أنَّه حزب مدني ذو مرجعيّة إسلاميّة يطمح أن يكون وسطيًّا منفتحًا على غيره، ويضيف قائلاً :"نحن نختلف عن حزب النَّهضة التُّونسي وحزب الحريَّة والعدالة في مصر. نحن في ليبيا قرَّرنا أن نطلق مبادرة لحزب سياسي ديني لا علاقة له بالحركة الدّينيَّة الدَّعويَّة على غرار الكثير من الأحزاب الإسلاميَّة العربيَّة الأخرى" .
يطرح سؤال حقيقي عن دور التيّارات الإسلاميَّة في الانتفاضة اللّيبيَّة، ومدى تشابهه مع الدَّور الَّذي لعبته هذه التيَّارات في مصر وتونس مثلاً. انخرطت الأحزاب الإسلاميّة في الانتفاضة اللّيبيَّة في مراحلها الأولى وحتَّى مقتل القذافي، وتفاوتت المشاركة وفقاً لقوَّة كلّ طرف ومدى اتّصاله بالتَّجمُّعات القبليّة والعشائريَّة السَّائدة في ليبيا. لا يمكن الحديث عن دور الجماعات الإسلاميَّة في الانتفاضة من دون ربط هذا الدَّور بالموقف القطري، الَّذي شكّل حاملة سياسيَّة وماديَّة في التَّدخُّل بالانتفاضة وإزاحة قيادات أساسيَّة قامت بالحراك، لصالح قيادات إسلاميَّة أخرى، خصوصا تيّار الإخوان المسلمين. وهو موقف ظلَّ مستمرًّا وشكّل عنصرًا أساسيًّا في الصّراع على السُّلطة الدَّائر حاليًّا في البلاد. في حديث لأحد قادة الانتفاضة محمود جبريل يقول:"أعتقد أنَّ القطريين كانوا يثقون بمصطفى عبد الجليل أكثر من ثقتهم بي، أحسّوا أنَّه متعاطف مع التيَّار الإسلامي، وهو كان أعلن أنَّه متعاطف مع الإخوان، وقال أنَّه لو قرَّر يوماً الانضمام إلى أي حزب، سينضم إلى حزب العدالة والبناء الَّذي يمثّل الإخوان" (محمود جبريل: انحياز قطر للإسلام السّياسي كان واضحاً منذ بداية الثَّورة اللّيبيَّة، شبكة الأخبار اللّيبيّة، 10 – 2 – 2014).
من مفارقات الانتفاضة اللّيبيَّة، وخلافاً لسائر الانتفاضات، كان التَّدخّل العسكري الغربي بقيادة حلف الناتو حاسماً في نجاح الانتفاضة. وهو تدخّل كمنت وراءه مصالح غربية في ثروات النَّفط الليبية القليلة الكلفة والعالية الجودة. صحيح أنَّ الدُّول الغربية لم تقحم نفسها لاحقاً في الصّراعات الدَّاخليَّة على السُّلطة والنُّفوذ، إلاَّ أنَّها حقَّقت أهمّ أهدافها بالاستحواذ على حصَّتها من الثَّروات البتروليّة، امتيازات لشركاتها وانتاجا وتوزيعا.
المفارقة اللّيبيَّة الأخرى تتمثَّل بمرحلة ما بعد نجاح الانتفاضة ودخول البلاد في فوضى الصّراع على السُّلطة. في هذه المرحلة، سعى الإسلاميون المتعدّدو الأجنحة إلى فرض كلّ طرف لنفوذه لأخذ مواقع في السُّلطة. انحكم الصّراع بالعنف الَّذي لجأت إليه التيّارات الإسلاميَّة والقبائل والعشائر الَّتي تشكّل قاعدة البنى المجتمعيَّة في ليبيا. بدا أنّ الجماعات الإسلاميَّة، الَّتي تملك أكبر الكميَّات من السّلاح، لا ترغب في قيام دولة ومؤسَّسات ولا بناء جيش وطني أو شرطة ليبيَّة، على اعتبار أنَّ هذه المؤسَّسات ستقلص من سلطتها ونفوذها. وعلى غرار ممارسات التيّارات الإسلاميَّة في مصر وتونس، سعت التيَّارات الاسلاميَّة اللّيبيَّة لوضع دستور يهدف إلى إقامة دولة دينيَّة في ليبيا من خلال الإصرار على اعتبار الشَّريعة الإسلاميَّة مرجع التَّشريعات والقوانين، والتَّراجع عن بعض المكتسبات المدنيَّة الَّتي كانت موجودة، على محدوديتها، ومنها ما يتعلَّق بالمرأة، حيث كان من المثير للسُّخرية أنّ وزير العدل الَّذي بدا متحدّثاً باسم الانتفاضة في أيَّامها الأولى، افتتح تصريحاته بأنّ الانتفاضة ستعيد تعدّد الزَّوجات الَّتي كان القذافي قد ألغاها.
المصدر: http://www.alawan.org/spip.php?page=article&id_article=15461