بين الرأي والحديث.. لماذا وكيف تمذهب المسلمون

إبراهيم العلبي

إن مدارس أهل السنة منذ عصر الصحابة تقريبا وبصورة أوضح في عصر التابعين كانت ثلاثة.. هي مدرسة أهل الحديث أو أهل الاثر، التي أسس بذرتها عبد الله بن عمر في المدينة، وتبعه نافع وعطاء والثوري وابن عيينة وغيرهم، ومدرسة «أهل الفقه» أو أهل الرأي، التي أسس بذرتها عبد الله بن مسعود في الكوفة، وتبعه الشعبي والنخعي وحماد وربيعة الرأي وغيرهم..

ولما بلغ الخلاف بين المدرستين أشده، وظهر غلاة في كلا الجانبين، كما ظهر معتدلون أيضا، نشأت مدرسة ثالثة، حاولت الجمع بين المنهجين، وأبرز رواد هذه المدرسة الزهري الفقيه والمحدث، لتتبلور بصورة أوضح على يد تلميذه الشافعي، وعنها نتج تدوين علم أصول الفقه، فيما تبلورت مدرسة الحديث على يد مالك بن أنس في المدينة والأوزاعي في الشام، وغيرهما، كما تبلورت مدرسة الفقه على يد أبي حنيفة وتلامذته.

يشار إلى أن المدرسة الجامعة بين منهجي المحدثين والفقهاء ليست هي الصواب مطلقا في كل فروعها، ولكنها نشأت تاريخيا على هذا الأساس، أي الجمع بين المنهجين.

ومع توسع مدرسة الفقهاء في العراق وغلو بعض علمائها في إعمال الرأي في مقابل الحديث، ونشوء مذاهب من «غلاة المعتزلة» تدعو لإعلاء العقل فوق النص بالمطلق، انبعثت مدرسة الحديث في العراق بقوة، لا سيما مع قدوم الشافعي من الحجاز، عندما كان حديث عهد بمجالس مالك وموطئه، وتبلورت المدرسة الحديثية العراقية لاحقا في أحمد بن حنبل، ويحسب على هذه المدرسة أبو داود السجستاني صاحب السنن، وأعلت هذه المدرسة من شأن الحديث إلى درجة تقديم الحديث الضعيف على القياس المستند إلى أصل صحيح، والأخذ بالحديث الضعيف مطلقا، ومن ثم نقل عن أحمد بعض الفتاوى المستغربة كما نقل عنه قولان متضادان في المسألة الواحدة كثيرا، وذلك تبعا للتعارض الظاهر بين أحاديث الآحاد خاصة وأن بينها الأحاديث الضعيفة.

في المحصلة سنكتشف أن المذاهب الأربعة المعروفة ما هي إلا أقطاب العقل الإسلامي عبر التاريخ، وهي أيضا أحد أوجه هذه الأقطاب، التي كان لها جذور ومظاهر أخرى في ميادين شرعية أخرى، وترجع جميعها إلى أصل واحد تتفرع عنه وتختلف ابتداء منه، وهو منهج التعامل مع تعارض النص الشرعي، خاصة النبوي منه، مع الرأي.

فالمالكية هي المظهر الحجازي لمدرسة أهل الحديث، وهي وإن لم تنكر القياس إلا أنها لم تتوسع في إعماله، وتوسعت، عوضا عنه، في الاستصلاح، أو المصالح المرسلة، وكان لمبدأ عرف أهل المدينة والأخذ به لدى مالك أثر في رد المالكية لأحاديث آحاد على الرغم من صحتها، وهذا خلاف ما طبع معظم رموز هذه المدرسة سابقا.. وحتى لاحقا في المظهر العراقي من هذه المدرسة.

والحنفية هي المظهر السني شبه الوحيد لمدرسة أهل الفقه أو الرأي، إذ إن المعتزلة أيضا ينتمون إلى هذه المدرسة، لكنهم يصنفون في خانة الغلو على تفاوت بينهم، واتسمت الحنفية بإعلاء شأن القياس والاستحسان، وتوسعت في الأخذ بهما، وشددت شروط قبول حديث الآحاد، فردت منه ما لم يحقق شرطها، إلا أن شيوع الحديث لاحقا في العراق، وتعرض هذه المدرسة لتجربة التشريع للدولة، منذ أبي يوسف الذي عين قاضي القضاة في بداية الدولة العباسية وَلَّدَ لديها العديد من الترجيحات التي خففت من حدة التوسع في الرأي، بالإضافة إلى التزام أبي حنيفة باجتهادات الصحابة فيما اختلفوا فيه مع عدم الخروج عنها، لكن الخلاف بينها وبين المدارس الأخرى لا يزال قائما، وبصفة ندية.

وأما الشافعية فمثلت المذهب الذي حاول الجمع بين المنهجين، لكنه كان ميالا في الفروع العملية لمدرسة الحديث أكثر، وبسبب جهده في إحياء الحديث في العراق لقب الشافعي بمحيي السنة هناك، ولم يختلف في مذهبه الجديد في مصر عن هذا النهج سوى أنه غير رأيه في العديد من المسائل الفرعية، لكن أهم ما نتج عن هذه المدرسة هو علم أصول الفقه، فقد كان الهدف من الرسالة التي كتبها الشافعي هو تدوين الأصول المتفق عليها بين مدرستي أهل الحديث والفقه، وبث فيه أيضا اجتهاداته في مسائل أصولية أخرى، وقد كان يستنكر القول بالاستحسان ..

وأما الحنابلة فقد مثلوا بمذهبهم الجناح العراقي من مدرسة الحديث، وهي كما أسلفت من حيث الأخذ بالحديث مطلقا، وأنكر الإمام أحمد القياس وقال: الحديث الضعيف خير عندي من رأي الرجال، يعني القياس.. وهذه المدرسة وإن لم تأخذ بالقياس إلا أنها أخذت بالمصالح المرسلة جريا على منهاج المدرسة الحجازية، كما أن أخذها بالحديث مطلقا وآثار الصحابة كذلك وفر لها ثروة من الآراء الفقهية التي كان لها أثر في اختيارات بن حنبل.

في العصور اللاحقة، سار المالكية والشافعية في منهج أصولي واحد تقريبا، حتى كان بعض العلماء محسوبا على الشافعية والمالكية في آن معا.. واشتهر منهم العالم المحقق ابن دقيق العيد، لكن الخلاف في الفروع ظل قائما، في مقابل الحنفية التي أصلت منهجا آخر مقابل الأصول الشافعية، فيما ورث الحنابلة مدرسة الحديث عمليا، دون مساهمات أصولية مستقلة.

وقد تجسد الخلاف بين تلك المدارس في علم الكلام، الذي كان مرفوضا لدى أهل الحديث بعامة، ولكن الشافعية والمالكية بعد عصر الأئمة اقتحموه من أوسع أبوابه حتى تبلور هذا العلم على أيديهم ردا على المعتزلة وغيرها من المذاهب الكلامية، وظهر المذهب الأشعري في العراق والشام والحجاز ومصر والمغرب، بينما ظهر المذهب الماتريدي في بلاد فارس وما وراءها من بلاد الترك، وهكذا بات علماء الحنفية هم علماء الماتريدية، بينما انتشرت الأشعرية بين الشافعية والمالكية.. وكان مذهب الأشاعرة والماتريدية مخالفا لمذهب المعتزلة، لا سيما في مسألة الصفات التي نفاها المعتزلة قطعا، فيما أثبتها الأشاعرة والماتريدية ابتداء، لكن ضمن حدود تعرف في موضعها..

أما الحنابلة فقد تبلور مذهبهم العقدي عقب فتنة خلق القرآن التي أحدثها المعتزلة، عندئذ برز أحمد بن حنبل كأحد قلة من العلماء ممن قرر التصدي لهذه الفتنة وعدم الانسياق للسلطة، إلا أن ما جاء على لسان الإمام لم يكن واضحا كفاية، ومن ثم انقسمت المدرسة الحنبلية بعد أحمد إلى قسمين، تبعا لموقف كل منهما من مسألة الصفات في علم العقيدة، وتفسير كل منهما لمقولة ابن حنبل حول خلق القرآن، إذ قال عبد الله بن أحمد بن حنبل والأثرم وعدد من تلامذة أحمد بالتوسع في إضافة كل ما ذكر في النصوص من كتاب وسنة إلى قائمة الصفات الإلهية، دون الدخول في كيفية ذلك، فيما روى الخلال من ذات المدرسة عن أحمد آثارا تفيد بأنه أوَّلَ بعضَ ما ورد، ونصر الخلال القول بتفويض المعاني، بدلا من إثباتها وتفويض الكيفية، الذي يقول به القسم الأول، وتبعه على ذلك ابن رجب الحنبلي وابن الجوزي .. وظل هذا الانقسام بين الجناحين حتى ظهور ابن تيمية وتصديه للمسألة بقوة، وتأصيله للقول بإثبات المعاني ومنع التأويل، والرد على من يقول بالتفويض فضلا عمن يقول بالتأويل.. وثارت بسبب ذلك فتن بينه وبين معاصريه من علماء المذاهب الأخرى، انتهت بحبسه وتلميذه ابن القيم الذي انتهج نهجه حتى مات الرجلان في السجن..

وتجسد الخلاف بين هذه المدارس مرة أخرى في الموقف من التصوف، والذي كان لمتأخري الأئمة في القرن الثاني مواقف متباينة منه، تبعا لاختلاف مشارب المتصوفة، فمتصوفة العراق كانوا موضع قبول بشكل عام، بدءا من الجنيد وانتهاء بالجيلاني، بخلاف متصوفة خراسان وفارس، وتبلور التصوف لاحقا على شكل طرق انتشرت بين أتباع وعلماء المذاهب الأربعة بما فيها الحنبلية، وإن بقي بعض العلماء من مختلف المذاهب خارجها، إلا أن تصدي ابن تيمية لغلاة التصوف ومنحرفي المتصوفة أسس جناحا حنبليا رافضا للتصوف بصورة عامة وقطعية، تبلور في دعوة ابن عبد الوهاب النجدية.

المصدر: https://alfajrmg.net/2015/07/08/%D8%A8%D9%8A%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%B1%D8...

 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك