مدخل إلى علاقة العنف بين الدَّولة والمجتمع المدني في مصر

كمال غازي

 

عبر اشتداد وتيرة القمع في كلّ مكان في مصر، يعزز خلط من نفسه لدى الدَّولة بين أمورها وأمور المجتمع المدني، الَّذي يُحكم التصرّف وفقه تبعا للقانون بأنّه تصرّف غير جائز. لكن ماذا إذا كانت الهيئات القضائيَّة لا تتمتَّع بالاستقلال الكامل للنَّفاذ من براثن القمع السّياسيّ والفصل في هذا الخلط بعدم التَّهاون مع معتنقيه من الباب الأوَّل؟

إنَّ العنف في مصر ليس عنفا فئويا يتَّجه نحو أقليَّة مَّا، أو أنَّ الغالبية العظمى من المصريين يدشنون للتَّمييز الَّذي يولّد العنف، مثل الممارسات بين السُّنة والشّيعة في العراق، أو بين البوذيين والمسلمين في بورما. على هذا الأساس لا يتَّخذ العنف في مصر منحنًا اجتماعيًّا بالمعنى المخصوص للكلمة، حيث أنَّ أكثر ممارسات العنف ممارسات مجتمعيَّة، منبعها الخلافات العرفيَّة، إذا ما استثنينا العنف السّياسيّ وعنف الدَّولة.

ولو أنَّ ما نطلق عليه اضطهاد المسيحيين في مصر منشأ جلّه الاحتكاك المجتمعي البحت، عادة ما يُمارس من خلال الحشد المجتمعيّ، ولا يزال تهديد دور العبادة المسيحيَّة يعكس استحواذا سياسيًّا، يُرجّح لضلوع الدَّولة في بعضه، كما أنَّه لا يخلو من كراهية اجتماعيَّة – في هذه الحال – لدى فئة خاصَّة من الأصوليين الإسلاميين.

ينعكس العنف المنبثق من الممارسات المجتمعيَّة ضمن هذا الإطار على ممارسات العنف من قبل ممثلين أو نواب عن الدَّولة – مثل رجال القضاء، ضبَّاط القوَّات المسلَّحة أو ضباط وأفراد الشُّرطة – تنتهي على وجه العموم باستخدام الأسلحة المرخَّصة أو الميري ضدّ أفراد المجتمع المدني.

اللاَّفت في هذه القضية أمران:

أوَّلا، يخلو الموقف الجنائي من صفة ممثلي أو نواب الدَّولة وفقا للقانون في غير وقت أو محل عملهم/خدمتهم؛ طبقا لمحكمة النّقض، جلسة 25/10/1987 38 ق 145 ص 799، "إذا خرج المأمور عن دائرة اختصاصه لا تكون له سلطة مَّا وإنَّما يعتبر فردًا عاديًّا".

ثانيا، إنَّ مردود العنف على المجتمع المدني يولّد عنفا فوريًّا، كما حدث مؤخَّرا في حالات تمّ الاعتداء فيها على ممثلي أو نواب الدَّولة من قبل أفراد المجتمع المدني، ما يعني أنَّه في هذه الحال يتولّد عنف مباشر ومقصود ضدَّ الدَّولة، لكن على الرَّغم من ذلك لا يعتبر عنفا مسيّسا (أو عنفا سياسيًّا).

العنف المسيّس (أو العنف السّياسي)، في مقامه الأوَّل، عنف ضدَّ الدَّولة. حتَّى عندما يطول أفراد المجتمع المدني، يظلّ يقصد ممارسة العنف ضدَّ الدَّولة. لأجل ذلك الغرض حين يتَّجه الجهاديون إلى القتل المباشر (الاغتيال) أو تفجير المناطق المأهولة يقصدون زعزعة قوام الدَّولة القائم لغاية إحلال نظامهم الخاصّ محلَّ النّظام القائم، بناء على ذلك يُصنّف عنف الجهاديين كعنف سياسي.

يصيب ذلك النَّوع من العنف هدفا ثانويا آخر، على الرَّغم من إصابته للهدف بدقَّة، أحد المبادئ الرَّئيسيَّة المؤسّس لها وعليها مفهوم الدَّولة محضا. مع ذلك لا يذهب المنظّرون الجهاديون إلى أبعد من تبديل القائمين على سلطات الدَّولة الثَّلاث، بينما تتغيَّر التَّشريعات والقوانين من النّظام الجهادي إلى أي نظام قائم، يبقى الجوهر الدولاني كما هو، وتبقى الدَّولة مؤسَّسة على المبادئ ذاتها.

في هذا تحدٍّ للمنظرين الجهاديين وعلماء السّياسة على حدّ سواء، الَّذين يبحثون مفهوم الدَّولة من حيث المبادئ المؤسِّسة للدَّولة في خصائص الكيان الخاصّ بزمنهم أو أزمنة معينة. في هذه الحال ترتكز الدَّولة إلى تلك الخصائص من أجل التَّعزيز من بقائها وليس لتحقيق مفهوم قيامها الأصلي، تلك الخصائص مؤقتة وقابلة للتَّعديل والإلغاء، فضلا عن أنَّها فقط تترك انطباعات متعلّقة بماهية الدَّولة الاعتباريَّة. أيضا يمكن رصد الميكانيكيَّة المشار إليها في تطوّر (وظيفة) جهاز الشُّرطة على مدى القرون الثَّلاث الماضية.

انتهت هذه المفارقة بعلماء السّياسة إلى أن يذهبوا في تعريف الدَّولة إلى ذكر المواطن الَّتي لا توجد بها الدَّولة، باعتبار أنَّ ذلك يصير أكثر تحديدا من ذكر المواطن الَّتي توجد بها الدَّولة (تيموثي ميتشل، الديموقراطيَّة والدَّولة في العالم العربي)، مثل مواطن الدّين والبحث العلمي الَّذين يُجرى فصلهما عن الدَّولة في الأنظمة الحديثة، وما شابه من أطر يُحبّذ فصلها عن كيان الدَّولة.

في أوقات القمع السّياسيّ يتعقّد خلط الأمور ببعضها البعض لدى الدَّولة، مثل الخلط بين الأمنيّ والسّياسيّ، والخلط بين نسق من التَّديُّن وتهم الإرهاب وغير ذلك. إنَّ العمليات المماثلة من الخلط عمليات متراتبة وتتطلّب عملا على مستوى مؤسَّسات الدَّولة الثَّلاث؛ طبقا للموقف في مصر: التَّشريعيَّة، متمثلة في مؤسّسة الرّئاسة؛ التَّنفيذيَّة، في جهاز الشُّرطة وبعض قطاعات القوَّات المسلَّحة؛ وثالثا المؤسّسة القضائيَّة الَّتي تجري الوصل بين ما هو تشريعي وما هو تنفيذي.

وفي حال تشهد عددا من الاضطرابات الأمنيَّة، يتعرقل المسار القمعي بالضَّرورة على المستويين الدَّاخلي والخارجي. ربَّما لذلك اعتبرت الدَّولة تظاهرات أفراد الشُّرطة وتلويحهم بالإضراب عن العمل أخطر تهديد لها من الدَّاخل، الأمر الَّذي إن تحقَّق سيشلّ حركة جهاز الشُّرطة كاملا الَّذي تعتمد عليه الدَّولة كليًّا في تحقيق الضَّبط الاجتماعي وحماية الملكيات الخاصَّة.

على إثر ذلك تصدّر الموقع الإلكتروني لجريدة الوطن عنوان "تعديلات قانون الشُّرطة: منع التَّظاهر وسحب «السّلاح»"، عن نصّ مشروع القانون المقدّم من مجلس الوزراء إلى مجلس النوَّاب، حيث جاء تعديل المادَّة (102) مكرّرا (2) خاصّ بتجمهر أفراد الشُّرطة، "يُحظر على جميع أعضاء هيئة الشُّرطة التَّظاهر أو التَّجمهر أو تنظيم وقفات احتجاجيَّة، وتُثار المسؤوليَّة الجنائيَّة والتَّأديبيَّة الَّتى قد تصل إلى حدّ العزل من الوظيفة لكلّ من يخالف ذلك"، بمثابة الضَّربة القاضية للاعتصامات المتكرّرة من أفراد الشُّرطة.

جرت العادة على أن تُغلّظ العقوبات الموقعة على أفراد الشُّرطة الَّذين يرتكبون جنايات خارج وقت أو محل خدمتهم، مثل المؤبّد في حقّ أمين الشُّرطة الَّذي قتل محمد إسماعيل "دربكة" في الدّرب الأحمر؛ في حين يحصل الضّباط الَّذين تُوجّه إليهم رسميًّا تهمّ التَّعذيب، إحداث العاهات، الضَّرب المفدي إلى الموت، أو تنفيذ عمليات إعدام ميدانيَّة، على أحكام بالبراءة أو أخرى مخفَّفة.

يعكس هذا المسار في الواقع منظورا طبقيًّا قد تكون له علاقة بالصّراع الدَّائر بين الطَّبقات، إلى جانب ما يتَّسم به من عنف في حقّ أفراد الطَّبقات الدُّنيا (أفراد الشُّرطة في الحالة السَّابقة)، أو إلى جانب التَّرصُّد الصّرام لتطبيق أحكام قاسية في حقّ أفراد المجتمع المدني (الأحكام المغلّظة في حقّ النُّشطاء السّياسيين).

إنَّ ما يتعزّز فوق كلّ ذلك اتّسام المصريين بالعنف المجتمعي، الَّذي يساهم في تحقيق العنف لدى ممثلي الدَّولة باعتبارهم أفراد من المجتمع في نفس الوقت، وتلك علاقة تتناسب بشكل طردي، إذ يصحّ من النَّاحية المنطقيَّة أن يولِّد عنف الدَّولة عنفا سياسيًّا مضادًّا، ما يتجسَّد في بعض التَّنظيمات الجهاديَّة، لكن يُبقي بشكل ضمني على عنف مجتمعي متفشٍّ.

هل يمكن إذن تطبيق القوانين الخاصَّة بمحاسبة أفراد الدَّولة الَّذين يخرقون القانون في تعاملاتهم المجتمعيَّة؟ فقط حين يصبح معدّل العنف المجتمعي منخفضا بمعدّل يسمح باستيعاب العنف كمرفوض أخلاقيًّا، من هنا يمكن أن تُوجّه التُّهم رسميًّا إلى مرتكبي العنف ضمن إطار القانون سواء كانوا أفرادا من الدَّولة أو من المجتمع المدني.

المصدر: http://www.alawan.org/spip.php?page=article&id_article=15414

الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك