الحوار.. الذات، والآخر

عبد الستار إبراهيم الهيتي

 

تقديم عمر عبيد حسنه

الحمد لله الذي خلق الإنسان وعلمه البيان، وأمكنه بهذا التأهيل والتعليم من الإفصاح عما في نفسه، والتفاهم مع من حوله، كما أمكنه من فهم (الآخر) ورؤيته، وأبصره بكيفية التعامل معه، وأقدره بهذا التعليم أيضاً امتلاك الإمكانية على الحوار والتواصل مع محيطه، حيث اللغة مفتاح البيان، وأداة تحقيق هذا التواصل، وتجسيد هذا البيان، ووسيلة الاتصال الرئيسة، لذلك فمهما تنوعت وتعددت أدوات ووسائل الاتصال فهي لا تخرج عن ارتكازها على اللغة (واللغة شيء وعلوم اللغة أمر آخر).

واللغة بما تمتلك من مخزون معنوي ووظيفة اجتماعية وتربوية وتأثير نفسي، بمقدرتها الاستبطانية، هي الركيزة الأساس في الحوار والتفاهم والتعارف والتعاون والتواصل الإنساني بكل أجناسها وأساليبها، من دعوة ومناظرة ومناقشة ومثاقفة ومفاكرة ومراجعة ومجادلة... إلخ.

وإذا كانت العلة والهدف من تنوع الخلق هو التعارف والتعايش والتفاهم تحقيقاً لسنة الله في التدافع والتكاثر والتنامي، الذي لا يمكن أن يكون إلا بالتنوع، فإن الحوار بأشكاله ومسمياته ومصطلحاته المتعددة يصبح من لوازم الحياة وضمان استمرارها وإقامة العمران والاضطلاع بأعباء الاستخلاف البشري، الذي يقتضي الاضطلاع به التعارف والتعاون والتعايش والتدافع.

والصلاة والسلام على الرسول القدوة، إمام الفصاحة والبيان، الذي أوتـي جوامـع الكلم، قال تعالى: ((وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ ٱلذّكْرَ لِتُبَيّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ)) (النحل:44) الذي جاءت رسالته الخاتمة متضمنة مسيرة النبوة بكل ما حفلت به من ألوان الحوار وأساليبه وأنواعه ومشاهده، منذ بدء الخليقة، حيث حوار الله سبحانه وتعالى مع الملائكة حول خلق آدم عليه السلام، وحواره جلَّ وعلا مع آدم وزوجه، وحواره تعالى مع الشيطان، وحوار الأنبياء مع رب العالمين، وحوارهم مع أقوامهم في بيئات مختلفة وأزمان مختلفة وأساليب متنوعة، الأمر الذي يشكل لأصحاب الرسالة الخاتمة مشهداً حوارياً متكاملاً لكل أساليب الحوار وموضوعاته، على مستوى الذات و(الآخر)، والذي يمكن أن يعتبر إغناءً وإثراءً، وميادين تدريب وأدلة عمل ومشروعات حوار نضيجة تاريخياً للسائرين على درب النبوة.. وبعد:

فهذا كتاب الأمة التاسع والتسعون: «الحوار.. الذات، والآخر» للدكتور عبد الستار إبراهيم الهيتي، في سلسلة «كتاب الأمة» التي يصدرها مركز البحوث والدراسات في وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بدولة قطر، في محاولة لإعادة بناء وتصويب رؤية النخبة، والمساهمة في إخراج الطائفة القائمة على الحق، التي تحقق خلود القيم الإسلامية وقدرتها على الإنتاج في كل الظروف والأحوال، التي تتمثل الإسلام في حياتها وعلاقاتها، وتشكل الخميرة للتجدد والنهوض الحضـاري، ذلك أن النهوض الحضاري لا يتحقق - فيما نرى- إلا بتفكير نخبة وإنجاز أمة، حيث نتصور أن الأزمة في حياتنا الحضارية هي أزمة نخبة وليست أزمة أمة، ذلك أن الأمة برهنت في كل الظروف انتصارها للإسلام وانحيازها لقيمه، على الرغم من خيبة أملها وإحباطاتها المستمرة في من يُطلق عليهم مصطلح: «النخبة» الذين يرفعون شعارات الإسلام، ويعجزون عن تقديم الرؤية المستقبلية الواضحة والأوعية الشرعية لحركة الأمة في محاولتها للعودة للإسلام والاستجابة لشعاراته والانضباط بقيمه، بل لعلنا نقول أكثر من ذلك من: إن الأمة المسلمة اليوم تمر بمرحلة التشرذم والتقطع في الأرض: ((وَقَطَّعْنَـٰهُمْ فِي ٱلاْرْضِ أُمَمًا مّنْهُمُ ٱلصَّـٰلِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذٰلِكَ وَبَلَوْنَـٰهُمْ بِٱلْحَسَنَـٰتِ وَٱلسَّيّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ)) (الأعراف:168)، والتبعثر والانفجارات الاجتماعية بسبب من الحيرة والارتباك وغبش الرؤية والتباس الأمور وكثرة الرايات العُمِّـيَّة، وتحول الكثير من مؤسسات العمل الإسلامي، التي يفترض فيها الريادة للأمة، إلى أجسام غريبة منفصلة عن جسم الأمة أو إلى طوائف قد تصير إلى الانغلاق بسبب افتتانها بنفسها وفكرها وظنها أنها دون غيرها تمتلك حق اليقين.

وأعتقد أن الكثير من عمليات الاستفتاء واستطلاعات الرأي في العالم الإسلامي، على المستوى الثقافي والسياسي، على حد سواء، لا تعتبر مؤشراً دقيقاً على قيمة الأشخاص، ولا دليلاً على قدراتهم، ونضوج برامجهم، بقدر ما هي انحياز لقيم الإسلام وشعاراته التي يرفعونها بالدرجة الأولى، ورفضاً للمبادئ والقيم الخارجة عن الإسلام وحملتها، كائنين من كانوا.

وما لم نبصر أنفسنا بدقة، ونعترف بأمراضنا بصراحة، وننتقد أداءنا بصدق، ونتفاكر ونتشاور، ونقوم بعملية تحاور (مراجعة شاملة) من خلال عيون خبيرة فاحصة وعقول متخصصة ونوايا مخلصة، وننتهي بهذه المراجعة إلى إنضاج الرؤية التي تتوفر على الأهداف الواضحة والاستطاعات الممكنة، والظروف المحيطة، ومن ثم ممارسة عملية الحوار مع الذات في ضوئها، حتى تصبح ثقافة شائعة في الأمة، قبل الحوار مع (الآخر) لتوسيع دائرة الرؤية والتفاهم حتى تشمل الأمة وتزيل الحواجز من بينها وتحقق القاعدة الثقافية المشتركة لاستيعاب الواقع وإبصار المستقبل واستشعار المسؤولية، كلٌ في الثغر الذي يقف أمامه، فسوف تستمر رحلة التيه والضياع والعجز عن الحوار مع (الآخر)، ويمكن أن أقول: رحلة الضلال، بالمعنى اللغوي، الذي يعني الضياع عن بلوغ الهدف.

إن حالة التأزم، وفكر التأزم والتعصب والتمذهب والتقليد والانغلاق والحجر على العقل وازدياد الطائفيات، يستدعي المراجعة وإعادة النظر ووضع الخطط والبرامج لكيفية عودة الأمة إلى ذاتها، وحوارها مع ذاتها، وإعادة مد الجسور بين أوصالها ورؤاها المبعثرة.

والحقيقة التي تؤكدها النبوة على تاريخها الطويل، ويدلل عليها الواقع، ويثبتها التاريخ البشري، أن الحوار بألوانه المتعددة: البرهان والعرفان والبيان والمناقشة والتشاور والتفاكر والمثاقفة والمجادلة بالتي هي أحسن، هي طريق الوصول إلى الإنسان، وهي وسيلة النبوة، كل النبوة، من لدن آدم عليه السلام.

ذلك أن النبوة قرآنٌ وبرهانٌ وبيانٌ قبل أن تكون سلطاناً، وأمةٌ وفكرةٌ قبل وبعد أن تكون دولة وسلطةً.

بل لعلنا نقول: إن المواجهة والعنف والصراع لم تشرع إلا لحماية الحوار وتأمين أجوائه وفتح قنواته، ذلك أن الإنسان لا يقاد إلا من خلال قناعاته، حيث التدين أرقى أنواع الحرية والاختيار وتحقيق كرامة الإنسان.. ويمكن القول بأن: النبوات جميعاً اقتصرت على الحوار والدعوة، وتحملت في سبيل ذلك كل أنواع الأذى والإساءة والدفع بالتي هي أحسن، وفي تاريخ النبوة لا نجد سوى نبوة داود وسليمان عليهما السلام والنبوة الخاتمة جمعت بين النبوة والحكم، بين السلطان والقرآن، بين الدولة والأمة، وشرعت الجهاد والمواجهة بضوابطها الشرعية وفي أضيق الحدود لحماية الدعوة وإزالة المعوقات وفتح الانسداد في أقنية الحوار، ولهذا مغزاه الكبير، ذلك أن المواجهة العُمِّـيَّة والظن بأنـها تعبِّد الإنسان هي عودةٌ إلى حياة الغاب، وارتكاسٌ بصفات وخصائص الإنسان، وردة نحو البهيمية.. حتى في عالم الغرائز (الحيوان) اليوم أصبح من الممكن ممارسة عمليات الاستئناس والتأليف حتى للحيوانات المفترسة وذلك بعد ترويضها من قبل الإنسان.

إضافة إلى أنه حتى النبوات التي حلت معادلة تلازم الألوهية والحكم ونزعت صفة الألوهية عن الحكام، وسوت الناس أمام الخالق، إنما كان انتشارها بالحوار لا المواجهة، ولو كانت المواجهة هي السبيل لانتصر أصحاب السيف وهُزم أصحاب القيم.. والتاريخ ينبئنا بغير ذلك.. وهذه المعادلة الحضارية يمكن أن تعتبر سنة ماضية إلى يوم القيامة.. والعبرة بالعواقب البعيدة وليس بالنتائج القريبة التي قد توهم بغير ذلك، علماً بأن النتائج القريبة التي قد لا تتجاوز متوسط عمر الإنسان قد تؤكد هذه السنة أيضاً.

ولا أدل على ذلك من التاريخ القريب والبعيد، من أنه بمجرد أن تتاح فرصة ولو محدودة، أو هامش ولو بسيط، للحرية في بعض بلاد العالم الإسلامي، تأتي كل المؤشرات والنتائج والمبشرات في صالح الإسلام والمسلمين، ابتداءً من الانتخابات النقابية وانتهاءً باستفتاءات الدولة والحكومة.

لقد أدرك خصوم الإسلام ذلك تماماً، ولعل إدراكهم لهذا تجاوز إدراك بعض البسطاء من المسلمين، حيث تيقنوا أن الإسلام هو خيار الأمة، بضرب النظر عمن يمثله، وأن الحرية والحوار هو المناخ السليم لامتداد الإسلام وانتشاره واختياره، لذلك حولوا الكثير من دول العالم الإسلامي إلى مخافر، وعسكروا معظم الأنظمة، بعد نجاحهم في إسقاط الخلافة، وأجهدوا أنفسهم بوضع فلسفات ومسوغات للتدليل على أن الأمة متخلفة، وغير مؤهلة للحوار والديمقراطية، وغير قادرة على التعامل مع أجواء الحرية، وهي بحاجة إلى الوعي الديمقراطي الحواري، وانتهوا إلى أكذوبة كبرى هي أنه لا بد من حماية الديمقراطية من الديمقراطية، وحماية الحوار من الحوار(!) فكانت أنظمة الاستبداد السياسي.

والشيء المحزن حقاً وقوع بعض جماعات وتنظيمات العمل الإسلامي في الشرك، والتوهم بأن المواجهة هي السبيل، الذي يختصر المسافة، ويرغم العدو، ويحقق النصرة، ويستدلون على ذلك بمواجهة خصومنا وأعدائنا وانتصارهم علينا، دون أن يدركوا أننا الرابحون في أجواء الحرية والديمقراطية والحوار، بما نمتلك من قيم إنسانية، وأننا الخاسرون في المواجهة والصراع.. إضافة إلى أن المواجهة لم تأت بخير تاريخياً، وأن خصومنا وأعداءنا في غالب الأحوال هم الرابحون في المواجهة، الخاسرون في الحوار والحرية والديمقراطية، لذلك ما عليهم إلا استفزازنا وإغضابنا وجرنا للمواجهة، لتكريس غلبتهم والقضاء علينا.

وهذا الأمر الذي نطرحه، بين الحـوار والمـواجهة، ليس جـديداً، أو بسبب الظروف المحيطة أو الشعارات والأفكار المطروحة على المنطقة الإسلامية للمناقشة، سواء على المستوى السياسي أو الإعلامي أو التعليمي، كما أن هذا الطرح لأهمية الحوار والحرية والشورى ليس رد فعل على الإخفاقات الكبيرة للمواجهة في الواقع الإسلامي، وإن كان تحليلاً واستقراءً لها، كما أنه ليس تراجعاً إلى مواقع الفكر الدفاعي، الذي اجتاح المنطقة الإسلامية بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، حيث أصبحت كل الكتابات والندوات والمحاضرات والأنشطة الثقافية والإعلامية تتمحور حول الدفاع عن الإسلام من الشبهات التي يقذفنا بها خصومنا وبذلك يتحكمون من خلالها بمجالنا الفكري وأنشطتنا الثقافية، ويبقى إنتاجنا استهلاكياً بدل أن يكون تنموياً إنتاجياً نبصر من خلاله مشكلاتنا الحقيقية، ونجدول أولوياتنا، ونبادر بطرح قيمنا بتخير الجو الملائم والحال المناسب، فالبلاغ والبلاغة في أبسط تعريفاتها هي مطابقة الكلام لمقتضى الحال، فإذا غلب علينا سوء التقدير أصبحنا نخبط خبط عشواء.

وهذا لا يعني أن نتجاهل الواقع ونحاول القفز من فوقه وعدم التعامل معه، وإنما يعني التنبه إلى أهمية ضبط النسب، والمدافعة بالأقدار المطلوبة، شريطة أن لا تأتي استجابة لتحكم خصومنا بمجالات تفكيرنا وساحات أنشطتنا الفكرية.

ولا شك أن مجالات الحوار وآفاقها تتسع لكل استطاعة، وتتوفر في كل حين، وتستوعب كل موضوع، وتتطلب أكثر من أسلوب، لتحقيق التطلعات والأهداف، ابتداءً من الحوار مع النفس، ومراجعة الفعل والسلوك، واختبار القناعات، والتأمل في الأفكار الذاتية، وما ينتج عن ذلك من التوبة الفكرية والسلوكية: ((بَلِ ٱلإِنسَـٰنُ عَلَىٰ نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ N وَلَوْ أَلْقَىٰ مَعَاذِيرَهُ)) (القيامة:14-15)، والانطـلاق في هـذه الرحلة الداخلية من منطلق الإدانة: ((وَمَا أُبَرّىء نَفْسِى إِنَّ ٱلنَّفْسَ لامَّارَةٌ بِٱلسُّوء إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبّى إِنَّ رَبّى غَفُورٌ رَّحِيمٌ)) (يوسف:53)، ذلك أن مطالب النفس دائماً بحاجة للمراجعة، فـ«الْكَيِّسُ مَنْ دَانَ نَفْسَهُ» ( أخرجه الترمذي، وقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ)؛ مروراً بالامتداد بالحوار إلى الأسرة المحضن الأساس، بكل مكوناتها: الزوج والزوجة والأولاد والأرحام، والجوار، والجماعة، والنادي، والمدرسة، والجامعة، والمجتمع، والتعليم بشكل أخص، وانتهاءً بالحوار مع (الآخر)، ذلك أن التعايش، والتعارف، والتكامل، والتفاهم، وإزالة الحواجز النفسية، وبناء الشخصية، واكتشاف الميول، ومعرفة المؤهلات، والتعرف على المداخل الحقيقية للوصول إلى (الآخر) والتفاهم معه... هذا التفاهم هو الذي ينتج القوانين والأعراف ووسائل الضبط الاجتماعي، ويحرر الحقيقة العلمية، ويؤدي إلى التراكم المعرفي وتبادل الخبرات وترسيخ الأعراف وبلورة القيم الخلقية واكتشاف وسائل التنمية المستدامة.

ولعل من أهم أدوات الحوار اللغة: ((وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيّنَ لَهُمْ ... )) (إبراهيم:4) فاللغة بكل صيغها وأساليبها ومبانيها ومعانيها تشكل وعاء الحوار، ووسيلته لتوصيل الرسالة المطلوب توصيلها.

لذلك يعتبر من الشروط الأساس للحوار التمكن من اللغة الأم في الحوار مع الذات، وإدراك وظائفها الاجتماعية وأبعادها النفسية والتربوية، والتنبه إلى تأثير الكلمة وسحرها ومفعولها، واختبار الاستجابة، وتنويع الأسلوب، واختيار المفردات والمصطلحات، والتحقق بالإبانة، والتمكن من لغة (الآخر) في الحوار معه، والإحاطة بمعرفته، وذلك بالإدراك الكامل لخلفيته الفكرية وقيمه وتاريخه وحاضره.

إن الإحاطة (بالآخر) هي التي تؤهلنا للحوار معه، ذلك أن خلفيته الفكرية هي التي تشكل ذاكرته وتصوغ شاكلته الثقافية، وتاريخه يبين لنا مدى تمكن هذ الخلفية من سلوكه واستجاباته، وواقعه الذي يمثل مستقبل تاريخه هو الذي يبصرنا بمشكلاته وكيفية التعامل معه.

وهنا قضية نعتقد أنها على غاية من الأهمية، وهي أن ننطلق في الحوار من معرفتنا (بالآخر) بكل مكوناته – كما أسلفنا- والتعامل معه من خلال ذلك وليس من خلال ما نريد ونتمنى، ولا يمكن أن يكون الحوار مع عدم الاعتراف (بالآخر)؛ وذلك أن الاعتراف به وبخياره ووجوده كواقع شيء، وإقراره على ما هو عليه شيء آخر.

ولقد اعترف الرسول القدوة (بالآخر) ؛ لأنه محل الدعوة، وخاطبه، وكاتبه، وراسله، وطلب من الأصحاب تعلم لغته، وكان ينتقي السفارات المؤهلة للقيام بتلك المهمة الدقيقة، بل لقد توصل بنتيجة التفاوض والحوار إلى معاهدات ووثائق وبناء نقاط مشتركة، وما وثيقة المدينة مع يهود بطوائفهم جميعاً، وما صلح الحديبية مع المشركين، وما المعاهدات الأخرى، إلاّ اعتراف بهذا الواقع وعدم إلغائه ونفيه وإقصائه، ولم يقتصر الأمر على الاعتراف وإنما تجاوز إلى مد جسور الحوار أيضاً.

هذا إضافة إلى أن المتأمل في القرآن الكريم والبيان النبوي، الذي يعتبر الدليل والهادي إلى أفضل السبل في الحوار والتعامل مع (الآخر)، لا يلبث أن يبصر الاعتراف (بالآخر) وبيان عقائده وسلوكه وواقعه ومناقشته والحوار معه، من خلال عقيدته نفسـها، ودعوته إلى صـيغ عقائدية مشتركة: ((قُلْ يٰأَهْلَ ٱلْكِتَـٰبِ تَعَالَوْاْ إِلَىٰ كَلِمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ ٱللَّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مّن دُونِ ٱللَّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ ٱشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ)) (آل عمران:64).

هذه الدعوة إلى أهل الكتاب، تضمنت الانطلاق من مستوى واحد للبحث عن الحقيقة والإيمان بها، والارتكاز في الحوار إلى النقاط المشتركة التي تشكل أرضية للحوار، ومحاور للتفاهم، للوصول إلى مستوى بناء المشترك الإنساني أو الإيماني، وإن لم يتحقق ذلك فلا أمل من المهادنة وتحقيق حرية الاختيار والاعتقاد: ((لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِىَ دِينِ)) (الكافرون:6).

ولعل الإشكالية اليوم أن الكثير من باحثينا وعلمائنا وخطبائنا ومفكرينا يسهبون في الحديث عن أهمية الحوار، وشروطه، ومقوماته، ومدلولات المصطلح اللغوية، ويعرضون للحوار وما بلغه من عطاء في الكتاب والسنة، لكن تبقى الفجوة الخطيرة، التي لم تجسر بعد بالشكل المطلوب بين واقع الأمة وقيمها، أن الحديث يقتصر على التقرير دون التجاوز إلى تحليل الواقع ووضع الخطط والمراحل لتنـزيل هذه القيم في الكتاب والسنة على واقع المسلمين، ذلك أن الكلام عن قيمة الحوار وفوائده وأدواته وأبعاده في الكتاب والسنة، على أهميته وضرورته، إذا لم يترافق بتحليل الواقع وتنـزيل هذه القيم عليه وتدريبه عليها، تصبح عظمة القيم الإسلامية شاهد إدانة على واقع المسلمين، فكثيراً ما نتحدث عن الحوار ونتحاور بأدوات وأسلحة المواجهة، التي لا تزيد الأمر إلا تصلباً وتعصباً وانغلاقاً وتعقيداً، حتى على مستوى الذات، قبل (الآخر).

ولعلنا نقول: إن الحوار مع الذات، الذي يعني الحوار مع النفس، على المستوى الفردي، والحوار مع المحيط الخارج عن النفس في الأسرة والحي والنادي والمدرسة والمجتمع، هو الشرط الأساس للتدريب على الحوار، والتصويب للتوجهات، وبناء القاعدة الصلبة، وتوسيع دائرة المشاركة والتفاهم، وإزالة الحواجز النفسية، وإعادة بناء شبكة العلاقات الاجتماعية.

إن الحوار مع الذات الفردية والجمعية هو المؤهل للحوار مع (الآخر)، ومهما حاولنا أن نستدل على أن الكتاب والسنة اعتمد الحوار في التربية والدعوة والإقناع والوصول إلى المشترك الإنساني، ومهما حاولنا الإتيان بالأمثلة من النبوة التاريخية لحوار الأنبياء مع أقوامهم، ومصب ذلك في النبوة الخاتمة، دون أن نعتقد يقيناً وواقعاً بالعواقب البعيدة للحوار، وأنه نعمة من نعم الخالق، إثراءً للحياة، حتى ولو تراءى لنا نجاح المواجهة إلى حين، ستبقى دعوانا للحوار بلا دليل، إضافة إلى أن الحوار بشكل عام يزكي النفس، ويصقل المواهب، ويشحذ الهمم، ويمكن من البرهان، ويؤصل للحقيقة، ويؤسس للحياة المشتركة، ويوسع دائرة التفاهم، وينمي الخبرات والطاقات، ويمنح الفرد الشفافية والسلوك الحضاري، شريطة أن تستكمل فعلاً شروط الحوار وأولها الاعتراف (بالآخر)، سواء كان المقصود (بالآخر) على مستوى الذات بتنوعاتها، أو كان المقصود (بالآخر) المختلف في عقيدته وتاريخه.

أما إذا لم يتوفر الاعتراف (بالآخر) وكانت ساحات الحوار على مستوى الذات و(الآخر) هي أشبه بعقود إذعان وإكراه، حيث النظرة (للآخر) على أنه لا يستحق إلا أن يكون وعاء فقط، لآرائنا ونظرياتنا وأفكارنا وخطبنا، وأن من أهم مواصفاته التلقي والاستسلام، أي أنه في مرتبة كمثل مرتبة المريد أمام الشيخ الملهم، فالحوار بهذا المعنى لا يزيد الأمة على مستوى الأفراد والجماعات إلا خبالاً.

والحقيقة التي لا بد من الاعتراف بها في عالم المسلمين، أن الحوار يكاد يكون غائباً تماماً على مستوى الفرد، أو إن شئت على مستوى النفس، فالقليل القليل في أدبياتنا أن نجد من يقوم بعملية المراجعة والاعتراف بمسالكه الخاطئة، والكثير من تأخذهم العزة بالخطأ، ويكاد يكون الحوار غائباً على مستوى الأسرة والمدرسة والنادي والأمة والدولة؛ وأن حديثنا عن الحوار في الكتاب والسنة والسيرة والتراث، وأن الموضوعات كلها، على دقتها وخطورتها، خاضعة للحوار، كما قرر القرآن والبيان النبوي، إنما هو في غالبه للمباهاة والتفاخر وتجاوز مركب النقص الذي نعاني منه، والمؤسف أننا نرى هذه الحالة المرضية على المستويات كلها، حتى على مستوى الجماعة الواحدة، فهي ليست تجمعاً له رؤية مشتركة وإطار واحد لنظرته للحياة، وإنما هي مجموعة آحاد، لكلٍ عالمه ورؤيته، وهذا الاختلاف ليس على مستوى التنوع، الذي يغني الفكرة ويثري المسيرة، وإنما هو اختلاف تضاد وتنازع وإنهاك، وهو بحاجة للكثير من فتح قنوات الحوار المسدودة.. فالجماعة آحاد، والجماعات طوائف.. وهكذا، ونلحظ هذا بجلاء حتى على المستوى السياسي، وتستوي في ذلك الحكومات والمعارضات.

ولا شك عندنا أن بعض المعارضات لو وصلت إلى الحكم لكانت أشد وأعتى؛ لأن غياب الحوار آفة ووباء يلف الجميع، وإن شئت فقل: «ثقافة»؛ وقد لا يكون مستغرباً في هذا المناخ أن نجد حتى بعض الرموز والنماذج، الذين يتقدمون المجتمعات ويعتلون المنابر هم أكثر إصابة وصلفاً وادعاءً بأنهم هم الأفهم والأعلم ولا يحق لغيرهم الكلام، حتى ولو كان الحوار سبيلاً إلى إيصال علمهم؛ إنهم يخافون الحوار خشية أن يسويهم بغيرهم.

هذا على مستوى الحوار مع الذات، الذي يكون ضمن أرضية واحدة، وتاريخ واحد، وقيم عامة واحدة، ووجهة تقريباً واحدة، لما يكون في دواخل هذه الذوات من رؤى وتوجهات وأفكار وتفسيرات وفوارق فردية وتفاوت ثقافي واختصاصات معرفية، لأنه يستحيل عقلاً وواقعاً أن يكون الناس نسخة مكررة عن بعضهم، ولو كان ذلك كذلك لانعدمت حرية الاختيار، حيث لا اختيار إلا اختيار واحد، وتعطلت إنسانية الإنسان، وتوقف نمو الحياة وتكاثر الأشياء.

فالتنوع هو مجال الاختيار وسبيل النمو والتكاثر والارتقاء، والحوار تجسيد لهذا التنوع، والإفادة منه في إثراء وبناء المشترك الإنساني، لأن التعارف الذي يأتي ثمرة الحوار هو سبيل العمران والتكامل والتعاون وإغناء النفس، بميولها النفسية للاجتماع واستدراك حاجاتها الحياتية ومتطلبات تربيتها طويلة المدى، التي لا بد أن تتوفر ضمن جماعة، وإنجاز مشاريعها الكثيرة التي يعجز عنها الأفراد.

أما الحوار مع (الآخر) فيتطلب الأمر ابتداءً تحديد مصطلح (الآخر) هنا ومن هو فعلاً، ذلك أن الكثير من الحوارات والندوات التي يُعَنْون لها بالحوار مع (الآخر) إنما تتم غالباً بغيابه أو بالوكالة عنه أو بالوصاية عليه، أو بطرح أفكاره وإدارة الحوار حولها ومناقشتها وتحليلها وتحديد أهدافها واستنبات نواياها من خلال خصومه، إن لم نقل أعدائه، بحيث يصدق فيها قول الشاعر: «فيك الخصام وأنت الخصم والحكم»، مع ادعاء الموضوعية والحياد والنـزاهة في التناول دون استكمال شروط وعناصر الحوار الضرورية، من الحرص على حضوره، والاستماع إليه، والتبصر في دوافعه ودفاعه وأهدافه وحججه ومسوغاته.

لذلك نجد الكثير من مشاهد الحوار وندواته تقصي (الآخر) فعلياً وإن أعلنت غير ذلك نظرياً، فهي تغلق دونه الأبواب وتتجاهله، وعلى ذلك تزداد من الجهل به واتهامه، وبذلك فبدلاً من أن يكون الحوار حلاً لمشكلة التجافي والتباعد وعدم التفاهم وتوسيع دائرة المشترك وتفكيك التعصب والتحزب، يصبح مشكلة يساهم سلبياً في تصليب التعصب والانغلاق والتحزب والتشرنق، ويتحول لتسويغ وتأجيج المواجهة والصراع.

هذا من وجه، ومن وجه آخر فلعل من أخطر الآفات التي تلحق بمشهد الحوار اليوم: غياب عنصر تكافؤ الفرص في الحوار بين المتحاورين، وغلبة أجواء الهيمنة والتسلط والإذعان، حيث يتحول الحوار إلى رسالة تلقى على الآخرين بإرادة منفردة، يستخدم معها الكثير من وسائل الإرهاب الخفي لتمريرها وبلوغها أهدافها.

وفي حالات كثيرة يتحول الحوار المعَنون له بالحوار مع (الآخر) إلى الحوار مع الذات في حقيقته، فالكثير من ندوات الحوار اليوم، التي يفترض فيها وجود عناصر متنوعة ومتباينة في فكرها وعقيدتها وتاريخها، وبكلمة مختصرة: في حضارتها، نراها لا تخرج عن أن تكون حواراً مع الذات، حيث يستدعى للحوار من لا يمثلون الطرف (الآخر) في عملية الحوار، وأن الكثير ممن يسـتدعون كممثلين (للآخر)، وخاصة من الجانب الأقوى المهيمن، هم الذين يعيشـون رجع الصـدى لأفكاره، ويكونون مسكونيـن بثقافته وحضارته، فكرياً وثقافياً وسياسياً، ولو لم يكونوا يسكنون عنده جغرافياً، وفي هذه الحالة يتحول الحوار إلى حوار مع الذات، إلى حوار الطرشان، الذي لا يؤدي إلى نتيجة، ويكون أقرب للاحتواء والتضليل الفكري والسياسي.

لذلك قد نجد كثيرين ممن يُختارون اليوم للمشاركة في ندوات الحوار بين الغرب والمسلميـن، أو أمريـكا والمسلمين، على المسـتوى الحضاري أو الديني أو السياسي، إنما يُختارون غالباً من المتشبعيـن بالثقافـة الغربية، أو من تلامذة الغرب، من الذين يمارسون العمالة الثقافية (للآخر)، وبذلك يفقد الحوار طعمه وهدفه، وينتهي إلى ما يريده الغرب، ويتحول إلى وسيلة للهيمنة السياسية تزيد المشاكل تعقيداً، وتستدعي المواجهة، وتغيِّب الحوار والتفاهم، وتؤدي إلى صراع الحضارات الذي يريده الكثير من فلاسفة الغرب، فيحل محل حوار الحضارات، الذي يحرص عليه المسلمون، بحجة أن وسائل الحوار لم تجد نفعاً، ولم توصل إلى نتيجة.

وأعتقد أن استقراء سيرورة الأحداث في العالم الإسلامي، وما صارت إليه من الصور الدامية من المواجهة مع الذات و(الآخر)، يدلل على الخلل الكبير في بنية الحوار، سواء مع الذات أو مع (الآخر)، كما أن ظهور الكثير من المفاجآت غير المحسوبة أو المتوقعة دليل أيضاً على أن حوار الغرب مع العالم الإسلامي كان حواراً مع الذات وليس مع (الآخر)؛ لأن ما نتج عنه في أكثر من منطقة جغرافية دليل على فشل عمليات الحوار عن أن تستقرئ (الآخر) وتنجح في حواره وتقدر كيفية التعامل معه.

وآفة الحوار هـذه لا تقتصر على الحوار مع (الآخر) وإنما تصيب في كثير من الأحيان، إن لم نقل في الأحيان كلها، الحوار مـع الذات، حيث لا تصعب مشاهدة ذلك في الحوار بين الجماعات والتنظيمات والأحزاب وحتى حوار الأمة والدولة.

وهنا قضية قد يكون من المفيد أن نعرض لها ولو بشكل سريع، وهي: أن الكثير من المفاهـيم والاعتبارات، التي يخضـع لها الحوار أو يعتمدها، ما يزال بدائياً محكوماً بمصطلحات عفى عليها الزمن، فمثلاً عندما نقول: حوار المسلمين والغرب، نجد أن هذا الطرح فيه الكثير من الخلط والالتباس؛ فالإسلام ليس جغرافيا يخص منطقة معينة، حتى ولو كثر عدد المسلمين فيها؛ وليس الإسلام معتقد عرق أو لون أو جنس بعينه، وإنما الإسلام عقيدة ومكون ثقافي متاح لكل أحد.

فالإسلام اليوم جزء من وجهة وثقافة العالم بكل جغرافيته، فهو جزء من نسيج الغرب البشري والثقافي، وجزء من الشرق، حيث أصبح أحد المكونات الفكرية والبشـرية لتلك الجغرافيا.. كما أنه لم يعـد أمراً طارئاً ولا عارضاً ولا غريباً في الكثير من مناطق العالم، وإنما هو أمر مستقر ومستمر، اعتنقه الكثير من أهل تلك البلاد الأصليين.. فالإسلام هو جزء من مكونات الغرب وثقافته، والمسلمون جزء من نسيجه البشري وبنيته الصناعية والتقنية والاقتصادية والاجتماعية.

هذا من جانب، ومن جانب آخر فإن النظر للإسلام من (الآخر) كدين ينظم العلاقة بين الفرد وربه بعيداً عن فلسفة الحياة بكل أنشطتها وكمكون ثقافي للأمة، وبذلك يمكن رفعه وتحييده وتعطيل قيمه وإحداث فراغ ثقافي وفكري يمكِّن من امتداد (الآخر)، فيه الكثير من الجهل والتجاهل والتدليس والمكابرة.

لذلك نعتقد، حتى يأخذ الحوار بعده المطلوب، لا بد من حسن الإعداد له، وذلك بتصويب المقدمات الخاطئة حتى لا تنتهي بنا إلى نتائج خاطئة تنسف جسور التفاهم، بدل أن تبنيها، وتحل المواجهة محل الحوار.

وليس من تكرار القول أن نؤكد: أن الإسلام اختيار يأتي ثمرة لبرهان وبيان وعرفان، وخطاب للإنسان العاقل المكلف المختار، الذي يمتلك أهلية النظر والفهم والاستدلال والمقاربة والمقايسة والمماثلة، كما يمتلك ذاكرة تستحضر العناصر المطلوبة لاستخدامها في المواقف المتعددة، وتؤهله للاختيار، كما أنه يمتلك اللغة التي تمكنه من البيان والبرهان.. فاختيار الدين يعتبر من أرقى أنواع الاختيار، والتوحيد أرقى أنواع الخلاص من العبوديات وسبيل إعلان المساواة واسترداد إنسانية الإنسان وحفظ كرامته، فشعار الإسلام الكبير هو: ((لا إِكْرَاهَ)) بمعنى (لا مواجهة)، ((فَإِنَّمَا عَلَيْكَ ٱلْبَلَـٰغُ ٱلْمُبِينُ))، ((لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُسَيْطِرٍ))، ((وَمَا أَنتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ)).

لذلك نقول: إن الكسب الإسلامي، أو إن شئت فقل: الكسب الإنساني، الذي محله الإنسان العاقل المختار كان ولا يزال يتحقق بالحوار وليس بالمواجهة، كائناً ما كان هذا الحوار، وإن استقراء التاريخ الحضاري الإنساني يدل على أن الإسلام انتشر بالحوار والدعوة، وإن المواجهة والجهاد إنما شُرع لحالات خاصة للحيلولة دون الفتنة: «الإكراه» وتقرير حرية الاختيار، وتمهيد سبيل الحوار، وتوفير مناخ الاقتناع.

إن العنف والمواجهة لم تأت أبداً بخير، بل لعلها تصنع حواجز نفسية، وتشوه الصورة الإسلامية، وتحول دون الإسلام والانتشار، لذلك كان من أخطر الإصابات جر المسلمين إلى المواجهات لتشويه صورة الإسلام، وقد يصل هذا التشويه إلى صورٍ من الاختراق، واصطناع عناصر وتثقيفهم بالثقافة المطلوبة لممارسته باسم الإسلام.. ولا ننكر هنا أن الكثير من المسلمين قد يتوهمون أن المواجهة هي الطريق الأقصر لخدمة الإسلام ونشره كرد فعل، لأن خصمنا انتصر علينا بالمواجهة، فلِمَ لا نلجأ إليها، ولا يبصر غير ذلك، ويضحون بأنفسهم في سبيل ذلك.

وقد تغري المواجهة بما يمكن أن يتحقق من نتائج قريبة، لكنها تخفي وراءها العواقب الوخيمة البعيدة؛ والعبرة دائماً بالعواقب، وهذا منطق السنن وحكم التاريخ الذي اختبر هذه السنن ودلل على نضجها.

وقد يكون من المفيد، بعد أن قدمنا لمحة عن فوائد الحوار ودوره وضرورته في بناء التعايش والتعارف والتعاون والحيلولة دون الحروب والمواجهة، وأهميته في بناء المشترك الإنساني والارتقاء بالإنسان وتحقيق كرامته واسترداد إنسانيته، وأنه سبيل الإسلام إلى الانتشار، والانتصار، والاستقرار، أن نجمل بعض الآفات أو الإصابات التي تحول بين الحوار وتحقيق رسالته في المجتمعات البشرية، وهذا لا يعني العدول عن الحوار أو التقليل من أهميته، على مستوى الذات أولاً ومن ثم (الآخر)، ذلك أن الحوار مع الذات هو الأساس والمرتكز للحوار مع (الآخر)، ففاقد الشيء لا يعطيه، وإنما يعني أنه لا بد من أن ننأى بالحوار عن هذه الإصابات، وذلك بتصويب مسيرته واختبار أدواته ووضوح أهدافه.

ولعل أولى تلك الإصابات تتمثل في تحديد واختيار موضوعات الحوار، وتقدير أهميتها، وكون عدم التفاهم حولها يلحق الكوارث والحروب والصراعات والفتن، فاختيار موضوعات الحوار وإدراك أولويتها وطرحها للمحاورة والمناقشة والمثاقفة والمذاكرة والمراجعة والوصول إلى تفاهم وتعارف حولها ومن ثم التعاون، له دور كبير في إثراء الحوار والوصول به إلى تحقيق أهدافه.. أما انشغال الأمة أو إشغال مثقفيها ببعض الموضوعات الجانبية، لاستنـزاف طاقاتها وأوقاتها والتحكم بمجالات تفكيرها وإلهائها عن معاركها الأصلية، ففيه من الخطورة ما الله أعلم.

ونستطيع القول اليوم: إن معظم موضوعات الحوار وأنديته وندواته ومشاهده بعامة إنما تأتي من قبل (الآخر)؛ هو الذي يحددها حسب أجندته السياسية والفكرية وأولوياته الاستراتيجية، وما علينا إلا الاستجابة والإجابة، وبذلك يمكن وضع الموضوعات المختارة للحوار بالنسبة لعالم المسلمين في نطاق الفكر الدفاعي، خاصة فيما يجري بعد الحادي عشر من –أيلول- سبتمبر.

ويترتب على ذلك ما يمكن أن يكون إحدى آفات الحوار الكبرى، وهي فقدان الحرية، التي هي من أهم مقومات الحوار وشروطه.. وهذه الآفة تتمثل في المسموح له والممنوع من الموضوعات في الحوار، لذلك فوجود بعض الموضوعات المحظورة والمحرمة على ساحات الحوار، حيث لا يسمح بطرحها ولا مناقشتها ولا حتى الاقتراب منها، يحوِّل ندوات الحوار ومنتدياته إلى مخافر تدار بعقليات أمنية، وليس علمية موضوعية، الأمر الذي يتناقض ابتداءً مع الشروط الموضوعية والضرورية المطلوب توفيرها لإنجاح الحوار.

وقد يكون من الإصابات التي تترتب على ذلك أيضاً، عدم توفير الاحترام وتكافؤ الفرص للأطراف المشاركة في الحوار، الأمر الذي يحول الحوار لأن يكون نوعاً من التقرير والإملاء لأفكار ورغبات الأقوى المهيمن، والتاريخ والحاضر يحمل لنا الدلالات الكثيرة لموضوعات حوارية كانت المشاركة فيها على مستوى الأمم جميعاً للوصول إلى توصيات ومقررات وصيغ إنسانية، فتأتي الدول المهيمنة لتصادرها ولتضرب بها عرض الحائط، وتستبدلها بما تريد، وتحمل الكثير من الدول قسراً على الموافقة عليها، خشية فوات مصالحها. وكثيراً ما تحرم الدول المهيمنة طرح الكثير من الموضوعات والمشروعات بالإرادة المنفردة، بعيداً عن تكافؤ الفرص.. فكيف، والحالة هذه، يمكن أن تصدق دعاوى الحوار، أو أن يؤدي الحوار رسالته البشرية؟

ومن الآفات أيضاً: التحكم في وضع عناوين وأهداف الحوار مسبقاً، وتحديد محاوره، واستدعاء (الآخر) المختار بعناية لملء المربع المرسوم له مسبقاً، دون أن يكون عنده حرية الرأي والنظر في غير ما حدد لها.

ولعل من أخطر آفات الحوار وإصاباته: ما يعتريه من تدليس والتباس وزيف، وذلك عندما يغيّب الطرف (الآخر) عن ساحة الحوار -كما أسلفنا- ولا تتاح له الفرصة لطرح أفكاره وبيان دوافعه وأهدافه ومناقشتها مناقشة موضوعية، وإنما يكتفى بإحضـار بعض الأشخـاص للحـوار نيابه عنه، أو بالوكالة عنه، وليس هذا فقط وإنما قد يصار إلى طرح أفكار (الآخر) ومناقشتها من خلال خصومه، بل وأعدائه، لذلك نجد أن الأحكام الفكرية اليوم في ساحات الحوار تفتقد البيِّنات وفي مقدمتها الاستماع إلى وجهة نظر المدعى عليه، فهي أشبه بالأحكام القضائية التي يغيب فيها المتهم ويستمع فيها إلى الشاهد (الذي لا يعلم شيئاً).

فكيف لمثل هذه الحوارات أن تؤدي رسالتها وتحقق أهدافها، وفصولها أقرب إلى الملهاة والمهازل الفكرية والثقافية ؟

ولعل من المشاهد الحوارية المزرية، الحوارات التي تتم على مستوى الذات، في الكثير من المحافل الثقافية والفضائيات، بين اتجاهيـن متناقضين، أو رأيين مختلفين، والتي غالباً ما يسودها الضجيج والصياح والزعيق والاستخفاف بعقل المشاهد والسامع والمشارك، والتي هي أقرب لمناقرة وصراع الديكة منها للحوار الهادئ.

إنها ملاكمـة ومصارعـة لكن بالكلمات، باسم الحوار، وإن كانت لا تعدم استعراض العضلات وحركات الأيدي، فبدلاً من أي يؤدي مثل هذا الحوار للوصول إلى مشترك إنساني، يزيد الفرقة، ويثير الأحقاد، ويعمق الخلاف، ويغتال المشترك، وينتهي إلى العداوة والتربص والسعاية وسوء النية.

إن مثل هذه الندوات والمشاهد التي تسمى حوارية هي أقدر على الهدم والمنابذة، منها على البناء ومعالجة الفجوات، والوصول إلى التفاهم، وبناء المشترك الإنساني، وقد لا ينتج عنها إلا إبراز شخصية مقدمي الحوار والبرهنة على أهميتهم وطول باعهم في العلم والثقافة، واتخاذ ساحة الحوار مجالاً للغطرسة ومصادرة الآراء وتقطيعها وطرح اتجاهاتهم الفكرية والسياسية، حتى ولو كان ذلك على حساب المتحاورين والحوار نفسه (!)

ومن الآفات والإصابات أيضاً: عدم الإيمان بالحوار أصلاً، وسيطرة فكرة الغلبة والهيمنة وصراع الحضارات، واتخاذ الحوار ذريعة ومدخلاً لدراسة (الآخر) واستطلاع مواقعه الدفاعية، ووضع الخطط المطلوبة لمواجهته والسيطرة عليه.

إن انطلاق مبدأ الحوار إنما يكون من الإيمان ابتداءً بالحرية والاختيار الإنساني في الوجهة والاعتقاد، والاقتناع بأن التنوع حقيقة وواقع، وأن الاختلاف حق من حقوق الإنسان وكرامته، وأن الحوار لا يعني ولا يُطلب منه إلغاء التنوع ومصادرة حق الاختلاف وإكراه الناس على ما لا يختارون.. فأصحاب الرؤية الآحادية، الذين لا يمتلك تراثهم وقيمهم حق التنوع والاختلاف غير مؤهلين ثقافياً وحضارياً لتقنية الحوار، ولو ادعوا ذلك؛ لأنهم يعتقدون أن الصراع هو السبيل الوحيد للقضاء على (الآخر)، وترويضه وتعبيده للسيد المهيمن. لذلك نجد أن كل المعلومات والمعارف والمخترعات والتكنولوجيا، إذا قُرئت أهدافها بدقة تبين منها أنها إنما أنتجت للسيطرة والصراع والمواجهة وتأمين الغلبة، ولعل هذا يفسر التقدم الهائل في العلوم التكنولوجية على حساب الإنسان نفسه.

لذلك قد لا يكون مستغرباً أن نجد دولاً حديثة وحضارات قام كيانها كله وأدواتها ومكوناتها ومخترعاتها وأنظمتها السياسية وأدبياتها على المواجهة، لأنه من الصعب عليها البقاء والاستمرار بدون وجود عدو، وعند عدم وجوده فعلاً لا بد من اصطناعه، حتى ولو كان شبحاً غير موجود. ولعل هذا يفسر الكثير من الأبعاد الإعلامية والاستراتيجية واللوجستية والتحالفية التي تخطط لها الدول المهيمنة اليوم، وأن الندوات ودعوات الحوار لا تخرج عن كونها غطاءً لا بد منه للظهور بالمظهر الإنساني.

نعود إلى القـول: إن مشهد الحـوار في الكتاب والسنة، وما عرض له من حوار الأنبياء مع أقوامهم، ابتداءً من نشأة الخلق الأولى، والامتداد به في الرسالة الخاتمة، حتى النشأة الآخرة، استغرق كل جوانب الحياة، وعرض لكل الحالات، وطرح كل الموضوعات، وناقش جميع المعتقدات، والملفت حقاً أنه أفرد لمعتقـدات (الآخر) المساحات التعبيرية الكبيرة.

لقد كان الحوار هو وسيلة الأنبياء في دعوتهم إلى أقوامهم، مع أنهم يمتلكون الحقيقـة المطلقـة، المؤيدة بالوحي، المسدده به، وأن النبوة تاريخياً لم تعمد إلى المواجهة وكان شعارها الكبير -كما أسلفنا-: ((لا إِكْرَاهَ))، ((فَإِنَّمَا عَلَيْكَ ٱلْبَلَـٰغُ ٱلْمُبِينُ))، ((لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُسَيْطِرٍ))، ((وَمَا أَنتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ)). إلا في حالات استثنائية جداً، وذلك لحماية عملية الحوار وضمان استمرارها؛ لأنها تؤمن أن القوة والمواجهة ليست وسيلة إقناع ودعوة، الأمر الذي يشكل رصيداً ثميناً ومنجماً ضخماً لأصحاب الرسالة الخاتمة، ورثة النبوة التاريخية، وذلك عندما يكونون حقاً من ورثة النبوة، ويمارسون باستمرار حوار أنفسهم ومراجعتها لتصويب أدائهم ومحاولة الإفادة من الأساليب الحوارية بكل أجناسها وأشكالها وموضوعاتها، والتدرب عليها عملياً، ولا يكتفون بالفخر والمباهاة بها، ويعلمون علم اليقين أن فاعليتهم أو سلاحهم الفاعل ونصرة مبادئهم الإنسانية إنما هو الحوار، وأن هزيمتهم والسيطرة عليهم إنما تتحقق باستفزازهم وجرهم إلى الصراع والمواجهة.

فخصومنا وأعداؤنا هم الأقوى في المواجهة، ونحن تاريخياً لم ننتصر بعدد ولا عدة، وإنما كان نصرنا بهذا الدين، حيث كنا ولا نزال، بما نمتلك من قيم إنسانية تعترف بإنسانية الإنسان وتقرر كرامته وتدعو إلى السلم والتعايش والتعارف، الأقوى في الحوار.

وبعد:

فهذا الكتاب، الذي يجيء في الوقت المناسب، يعتبر دعوة إلى عمل تأصيلي، ومساهمة في تغيير المسار النفسي وإشاعة ثقافة الحوار، التي كادت تغيب بالأقدار المطلوبة عن الذهنية الإسلامية، سواءً مع الذات أو (الآخر) على حد سواء، والدعوة إلى ممارسة الحوار الداخلي ابتداءً من الحوار مع النفس والانطلاق به إلى الأسرة والمدرسة والنادي والمجتمع والدولة، حتى يشمل فعاليات الحياة كلها، وانتهاءً بالحوار مع (الآخر) المختلف في عقيدته وتاريخه وثقافته، والعمل على تصويب عملية الحوار ذاتها، وإيضاح شروطها وأدواتها وعناصرها وأخلاقياتها، والمعارف النوعية المطلوبة لها، سواءً على مستوى الذات أو (الآخر) حتى تؤتي ثمارها، وتخلص الذهنية الإسلامية من الآفـات التي انتهت إليها بسـبب من المعاناة وردود الأفـعال، لتدرك أن ما تمتلكه من القيم المعصومة في الكتاب والسنة ورصيد النبوة التاريخي هو سلاحها الفعال، وهو سفينة النجاة للإنسانية جميعاً، بعد هذه التجارب المريرة من المواجهات التي لم تحمل لنا إلا الصابّ والعلقم، وكانت السبب الرئيس في محاصرتنا وشل حركتنا وتلفيق التهم لديننا.

ولله الأمر من قبل ومن بعد.

المقدمة

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، سيد الأولين والآخرين.. وبعد،

فالحوار فن من فنون الكلام والمحادثة، وصيغة متقدمة من صيغ التواصل، والتفاهم، وأسلوب من أساليب العلم والمعرفة، ومنهج من مناهج الوعي والثقافة، ووسـيلة من وسـائل التبليغ والدعوة، استعمله البلغاء والفصحاء في صناعتهم، وعمدت إليه الشـعوب في تواصلها وتفاعلها مع غيرها ممن يحيط بهم، واختطه المفكرون والمربون أسـلوباً ومنهجاً في تعليمهم، واعتمده الأنبياء والرسل والمصلحون في دعوة الناس إلى الخير والفضيلة والرشاد.

ومع إفرازات النظام العالمي الجديد، سـواء على صعيد الثقافة والقيم، أو على صعيد السياسة والاقتصاد، تزايد الاهتمام بالحوار، وتعمق الاقتناع به وبدوره في تحقيق وفاق ثابت بين أبناء الأمة الواحدة، وتفاهم مشترك بين الشعوب المختلفة على أساس قاعدة الكرامة والعدالة والمساواة، حتى شاع استخدام الحوار على مختلف الصعد، وفي شتى الميادين، الثقافية والفكرية والحضارية، فأصبح أحد الظواهر المهمة للعصر الحالي، الذي يتميز بثورة المعلوماتية والاتصال، التي هي إحدى ثمرات العلم المتفجرة عنه، وبهذا قوي التواصل بين بني البشر، واتسعت دائرة الحوار، وتنوعت موضوعاته بصورة لم تعرفها الإنسانية من قبل.

ومن خلال هذه المعطيات يبرز دور الحوار وتظهر أهميته في تأسيس صيغة معرفية متجددة تعتمد تزاوج الأفكار، وتبادل الرؤى، وتداول الطروحات، من خلال سماع الرأي (الآخر) والإصغاء إليه والاهتمام به، تحقيقاً للتواصل العلمي والمعرفي، وابتعاداً عن العزلة والانكفاء الذي لم يبق لهما مكان في عالم اليوم.

ولابد من الإشارة إلى تنوع أشكال الحوار وتعدد موضوعاته بتنوع مقاصده وأغراضه، ليواكب الحاجات الفطرية الإنسانية، فكان منه ما يُعنى بالمناهج الفكرية، ومنه ما يُعنى بالجوانب التربوية التعليمية، ومنه ما يُعنى بالجوانب الثقافية المعرفية، ومنه ما يُعنى بتحديد العلاقة بين الأمم والشعوب، الأمر الذي يتطلب البحث والدراسة لتحديد آثاره وثمراته في كل جانب من تلك الجوانب، وعلى هذا الأساس جاءت هذه الدراسة بعنوان: «الحوار الذات .. والآخر» لتعالج أبرز موضوعاته وأغراضه ومقاصده.

ولما كان الهدف من هذه الدراسة هو إبراز أهمية الحوار، ومنهجيته ومقوماته، ومقاصده وأغراضه، من حيث الحوار مع الذات والحوار مع (الآخر)، فقد اقتضى ذلك أن توزع الدراسة إلى تمهيد وفصلين وخاتمة.

حددت في التمهيد مفهوم الحـوار وبعض المصطلحات المماثلة المقاربة له في المعنى، كما تكلمت عن طبيعة الحوار في عصر النهضة والعصر الحديث، الذي ارتبط بظهور العديد من النظريات التربوية والأيديولوجيات الفكرية مما عمل على توسيع دائرة المعارف وانتشار الثقافة والفكر.

أما الفصل الأول فقد كان عنوانه: «منهجية الحـوار» وقد تم توزيعه إلى ثلاثة مباحث، كان المبحث الأول فيه بعنوان: مقـومات الحوار، حيث أوضحت فيه أبرز تلك المقومات من الأركان والقواعد العامة التي يجب أن يشتمل عليها الحوار؛ وتطرقت في المبحث الثاني إلى شروط الحوار، وضوابطه، والآداب التي ينبغي أن تسود العملية الحوارية ويتمثل بها أطراف الحوار؛ وخصصت المبحث الثالث للتطرق إلى جملة من المعوقات الشخصية المرتبطة بالمتحاورين أو الموضوعية التي تؤثر سلباً على عملية الحوار.

أما الفصل الثاني فقد جاء تحت عنوان: « أنواع الحوار وأساليبه» وتم تقسيمه إلى مبحثين أساسين، كان المبحث الأول متعلقاً بالحوار مع الذات، حيث تطرق إلى حـوار النفس الإنسانية مع ذاتها، وإلى حوار أبناء الأمة فيما بينهم، من خلال حوار أتباع المذاهب والفرق، والعلاقة بين الإسلام والعروبة، وحوار الشعوب مع الحكام؛ واختص المبحث الثاني بالحوار مع (الآخر) الذي يشمل حوار الحضارات والثقافات والأديان.

ثـم أنهيت الدراسـة بخاتـمة ذكرت فـيها أهم وأبرز النتائج التي توصلت إليها.

أما المصادر التي اعتمدتها، فقد كانت متعددة ومتنوعة تبعاً لتنوع الموضوعات التي يتطرق إليها الحوار، كان في المقدمة منها القرآن الكريم ومجموعة من تفاسيره، والسنة النبوية من خلال كتب الصحاح والسـنن والمسانيد، كذلك أفدت من عدد من المصادر التاريخية وكتب الحضارة الإسلامية، إضافة إلى العديد من الكتب الفكرية والثقافية العامة، وبعض مواقع الشبكة العالمية «الإنترنت» ودراسات أخرى لها علاقة بهذا الموضوع.

ولا بد من الإشـارة هنا إلى أنني عنيت ببحث هذا الموضوع بروح الحيادية العلمية والإنصاف الفكري، معتمداً وضوح المنهج، ومرونة الطرح، وسلاسة العبارة، ودقة الإحالة، وسعة الأفق في المعالجة، بعيداً عن التعصب لطرف على حسـاب طرف آخر، قاصداً بذلك صياغة منهجية حوار إسلامي يتعامل مع عصر الثورة المعلوماتية بعقلية المسلم المثقف الغيور على دينه وعقيدته.

ومهما يكن من أمر، فإنه لا يمكن أن أدعي الكمال لهذه الدراسة، فهي لا تعدو أن تكون محاولة مخلصة للكشف عن مقومات الحوار في الإسلام، ومنهجيته العلمية في الحوار مع الذات، والحوار مع (الآخر)، من خلال التفاعل الحضاري مع الشعوب والأمم الأخرى، فإن كان صواباً فهذا ما وفقني الله إليه، وإن كان غير ذلك فحسبي أنني لم أدخر جهداً في سبيل الوصول إلى الحقيقة وإبراز رأي من منظور إسلامي في هذه المسألة المهمة والملحة، والله من وراء القصد.

تمهيد أولاً: مفهوم الحوار

الحوار وعلاقته بالمصطلحات المماثلة:

إذا رجعنا إلى كتب اللغة ومعاجمها فإننا نجد فيها مصطلحات تتفق في جانب من مفاهيمها ومعانيها مع مصطلح الحوار، وإذا أردنا أن نقف على مفهوم الحوار فإن ذلك يتطلب الوقوف على مفاهيم تلك المصطلحات التي لها علاقة وثيقة به وهي الجدل، والمناظرة، لأن هناك تداخلاً كبيراً في مستوى الدلالة بين هذه المصطلحات الثلاثة (الجدل - المناظرة - الحوار) وسنحاول هنا الوقوف على مفهوم كل مصطلح على حدة لنرى أوجه الاتفاق والاختلاف بينها.

مفهـوم الجـدل.

جاء في كتب اللغة أن الجَـدْل : شِدَّة الفَتْل( )، والجَـدَل : اللَّدَدُ في الخُصومـة والقدرةُ عليها، والجَدَل: مقابلة الحجـة بالحجـة( ). وفي الحديث عن رسـول الله أنه قال: «مَا ضَلَّ قَوْمٌ بَعْدَ هُدًى كَانُوا عَلَيْهِ إِلا أُوتُوا الْجَدَلَ»( ).

ويتضح لنا أن كلمة الجدل تدور حول معنيين هما:

المعنى الأول: الغلبة والقوة والصلابة، وهو مأخوذ من الجَدْل الذي هو شدة فتل الحبل، وإذا نقلنا هذا المعنى اللغوي المحسوس إلى الجوانب الفكرية والعقلية فسنجد بينهما تطابقاً واتفاقاً؛ لأن كل واحد من المتجادلين يحاول بقوته وفكره أن يجادل (الآخر) ويفتله «يثنيه» عن رأيه، ولا يمكن أن يتحقق ذلك إلا بقوة الدليل وصلابة الفكرة.

المعنى الثاني : اللَّدَد في الخصومة مع القدرة عليها، وهذا المعنى اللغوي يتفق مع نوع من أنواع الجدل الفكري وهو اللجاج الذهني، الذي لا يكون الغرض منه الوقوف على الحقيقة أو الوصول إلى الصواب وإنما مجرد الجدل لأجل الجدل وهو ما يطلق عليه العلماء الجدل المذموم ومنه قوله تعالى: ((وَقَالُواْ ءأَالِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاَ بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ)) (الزخرف:58).

أما في الاصطلاح : فقد عرفه الجرجاني بأنه: القياس المؤلف من المشهورات والمسلمات، يكون الغرض منه إلزام الخصم، وإفحام من هو قاصر عن إدراك مقدمات البرهان، ودفع المرء خصمه عن إفساد قوله بحجة أو شبهة.. أما المعجم الوسيط فقد عرفه بأنه: طريقة في المناقشة والاستدلال صورها الفلاسفة بصور مختلفة، وهو عند مناطقة المسلمين قياس مؤلف من مشهورات أو مسلمات.

وقد قسم علماء المسلمـين الجدل إلى جدل محمود وجـدل مذموم.. أما المحمود فهو: ما كان من أجل تقرير الحق، وهو مهنة الأنبياء في الدفاع عن العقيدة، ومنه قوله تعالى: ((وَجَـٰدِلْهُم بِٱلَّتِى هِىَ أَحْسَنُ )) (النحل:125)، ذلك أن المجادلة بالتي هي أحسن هو الحوار، لأن الهدف منه هو الإقناع والتربية والتوجيه( ).. وأما الجدل المذموم فهو: الذي يتعلق في تقرير الباطل ويراد به الجَدَلُ على الباطل وطَلَبُ المغالبة فيه. وقد أشار إليه القرآن الكريم في قوله تعالى: ((مَا يُجَـٰدِلُ فِى ءايَـٰتِ ٱللَّهِ إِلاَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فَلاَ يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِى ٱلْبِلاَدِ)) (غافر:4) وقولـه تعالى: ((وَجَـٰدَلُوا بِٱلْبَـٰطِلِ لِيُدْحِضُواْ بِهِ ٱلْحَقَّ)) (غافر:5).

مفهوم المناظرة:

المناظرة لغة من النظير، أو من النظر بالبصـيرة، فهي من النظر تفيد الانتظار والتفكير في الشيء تقيسه وتقدره، ومن التناظر تفيد التقابل( )، ومن النظير تفيد التماثل.

أما في الاصطلاح فهي النظر بالبصيرة من الجانبين في النسبة بين الشـيئين إظهاراً للصواب، وهي بـهذا المعنى تفيد المحاورة بين شخصين أو فريقين حول موضوع معين، لكلٍ منهما وجهة نظر تخالف وجهة نظر الفريق الآخر، بحيث يريد إثبات وجهة نظره وإبطال وجهة نظر خصمه، مع توفر الرغبة الصادقة بظهور الحق والاعتراف به عند ظهوره.

مفهوم الحوار:

الحوار في اللغة:

ذكر علماء اللغة ل ( حَـوَرَ ) معاني متعددة تبعاً لتفعيلاتها الصرفية، فقد جاء أن الحَوْرُ: الرجوع عن الشيء وإِلى الشيء، يقال حارَ إِلى الشيء وعنه حَوْراً و مَحاراً و مَحارَةً رجع عنه وإِليه( ).

وكل شيء تغير من حال إِلى حال، فقد حارَ يْحُور حَوْراً، قال لبيد:

وما المَرْءُ إِلاَّ كالشِّهابِ وضَوْئِهِ يَحُورُ رَماداً بعد إِذْ هو ساطِعُ.

والمحَاوَرَةُ: المجاوبة. و التَّحاوُرُ: التجاوب، تقول أحرت له جواباً وما أَحارَ بكلمة. والحَوْر: الجَواب، يقال كلّمته فما رَدَّ إلىَّ حَوْراً أو حَوِيراً. 

واستحاره أَي استنطقه. يقال: كلَّمته فما رَدَّ إِليَّ حَوْراً أَي جواباً، وهم يَتَحاوَرُون أَي يتراجعون الكلام، و المُحَاوَرَةُ: مراجعة المنطق في المخاطبة. ( )

والحواريون في اللغة الذين أُخْلِصُوا ونُقُّوا من كل عيب؛ وكل شيء خَلَصَ لَوْنُه، فهو حَوَارِي.

ويتضح لنا من خلال ما تقدم أن كلمة الحوار تدور حول المعاني التالية :

1- الرجوع إلى الشيء وعن الشيء، والمتحاورون قد يرجع أحدهم إلى رأي الآخر أو قولـه أو فكره رغبة في الوصول إلى الصواب والحقيقة، ومنه قوله تعالى: ((إِنَّهُ ظَنَّ أَن لَّن يَحُورَ)) (الانشقاق:14) أي لن يرجع مبعوثاً يوم القيامة.

2- التحول من حال إلى حال، فالمحاور يتنقل في حواره من حالة إلى أخرى، فمرة يكون مستفسراً، وأخرى يكون مبرهناً، وثالثة يكون مفنداً، وهكذا.

3- الإجابة والرد، وهو قريب من المعنى الاصطلاحي للحوار؛ لأن كلاً من طرفي التحاور يهتم بالإجابة عن أسئلة صاحبه، ويقدم مجموعة من الردود على أدلته وبراهينه.

4- الاستنطاق ومراجعة الحديث، فكل واحد من المتحاورين يستنطق صاحبه ويراجع الحديث معه لغرض الوصول إلى هدفه وقصده.

5- النقاء والتخلص من العيوب، والواقع أن طبيعة الحوار والمناقشة تؤدي بالنتيجة إلى التخلص من العيوب الفكرية، من خلال طرح الأفكار المتعددة واختيار الراجح منها.

الحوار في الاصطلاح:

وبعد هذا العرض للمدلول اللغوي يمكن لنا أن نحـدد المعنى الاصطلاحي للحوار بأنه: أسلوب يجري بين طرفين، يسوق كلٌ منهما من الحديث ما يراه ويقتنع به، ويراجع الطرف الآخر في منطقه وفكره قاصداً بيان الحقائق وتقريرها من وجهة نظره.

ومما لا شك فيه فإن كل واحد من المشتركين في الحوار لا يقتصر على عرض الأفكار القديمة التي يؤمن بها وإنما يقوم بتوليد الأفكار في ذهنه، ويعمد إلى توضيح المعاني المتولدة من خلال عرض الفكرة وتأطيرها وتقديمها بأسلوب علمي مقـنع للطرف الآخر، بحيث يظل العقل واعياً طوال فترة المحاورة ليستطيع إصدار الحكم عليها، سلباً أو إيجاباً. ( )

وبعد هذا العرض الذي قدمناه لمدلولات المصطلحات المتداخلة (الجدل- والمناظرة - والحوار ) يتضح لنا أن الحوار وإن كان مناوبة الحديث بين طرفين إلا أنه لا يشتمل على الخصومة والمنازعة والمراء كما هو الجدل، وإنما هو أداة أسلوبية تستخدم لمعالجة موضوع من الموضوعات المتخصصة في حقل من حقول العلم والمعرفة أو جانب من جوانب الفكر والعقيدة، للوصول إلى حقيقة معينة بهذا الشكل من أشكال الأسلوب والمحادثة، وهو عملية تتضمن (طرحاً) من طرف، يتمثله الطرف (الآخر) ويجيب عليه فيحدث (تجاوب) يولّد عند كل منهما (مراجعة) لما طرحه الطرف (الآخر)، وهذه العملية هي التي يطلق عليها الحوار أوالمحاورة.

ثانياً: الحوار.. نظرة تاريخية

خلق الله تعالى الإنسان تواقاً إلى التواصل مع من حوله، والتفاعل مع بني جنسه، وعلّمه الأسماء كلها ((وَعَلَّمَ ءادَمَ ٱلاسْمَاء كُلَّهَا)) (البقرة:31) فإذا هو يعتمد اللغة وسيلة لهذا التواصل، بحيث يكون الحديث أقوى المتع في هذه الحياة، لأن الحياة بدون التفاعل مع الآخرين تبعث إلى السـئم والضجر، ولقد ذكر ابن السـراج فقال: دخلنا على ابن الرومي في مرضه الذي قضى فيه فأنشدنا:

ولقــد ســئمت مآربي فكــان أطيبـها خبيـث

إلا الحـــديث فإنــه مثـل اسـمه أبداً حـديث

إضافة إلى أن الحـوار ضروري لاكتساب العلم وتلقي المعرفة، وهو السبيل الوحيد لذلك في رحلة عمر الإنسان، إذ بدونه لا يمكن أن تنتقل الخبرات من جيل إلى جيل ومن أمة إلى أمة، كما أن الحوار كفيل بأن يجعل الفكر ينبض بالحياة والحركة والتجدد من خلال تواصل عقلين أو مجموعة عقول لإدراك المعلومة أو تمحيصها أو تفهم معانيها، ومن هنا فقد كان لكل فترة من فترات التاريخ الإنساني شكلاً من أشكال الحوار، وصيغة من صيغ التفاعل العلمي والثقافي، وسنحاول هنا التعرض بشكل سريع لطبيعة الحوار في المجتمعات الإسلامية وصولاً إلى شكل الحوار الذي اصطبغ به عصر النهضة الحديثة.

إذ يظهر لنا أنه مع نهاية القرن الرابع الهجري تراجعت الحركة الفكرية وتوقفت الترجمـة، ولم يعد هناك مكان للفكر والفكر المضاد، كما أن العلماء والمفكرين في هذه الفترة خلدوا إلى الراحة وقنعوا بما خلفه لهم السابقون من العلوم والمعارف فقد غلب التقليد في العلماء ورضوا به خطة لهم، إذ أصبح كثير منهم راضين بخطة التقليد وتاركين الاجتهاد المطلق، لشعور الناس باكتمال جوانب المعرفة وعدم حاجتهم إلى الإبداع والابتكار فيها.

وهناك سبب آخر لهذا التراجع الفكري، وهو انشغال العلماء بتدوين المعارف السابقة والقيام بتمحيصها وتعليلها، مما أبعدهم عن التفكير في أي شكل من أشكال الحوار الجديد، إضافة إلى الملل الذي أصاب النفوس من جراء الجدل والنقاش الذي ساد المجتمعات الإسلامية فترة طويلة من الزمن دون الوصول إلى حسم أي من مسائل الخلاف العقائدي أو المذهبي.

هذه الأسباب مجتمعة أدت إلى تراجع الحوار وعدم انتشاره وازدهاره كما كان عليه الأمر في القرون السابقة، وما وجد من حوارات ومناقشات علمية ومساجلات كلامية بعد القرن الرابع الهجري بقيت حبيسة المصنفات والكتب بسبب انتشار التدوين، وتوسع رقعة الدولة الإسلامية، وبعد المسافات، وعدم توفر المناخ العلمي القائم على أرضية مشتركة بين المفكرين.

وإذا كان الغرض من الحوار فيما سبق هو الوصول إلى معرفة حكم من الأحكام أو تأصيل فكرة معينة، أو اسـتنباط قاعدة من قواعـد الشـرع، أو معرفة علل الأحكام، فإن الغرض منه في هذه القرون المتأخرة هو التنافس والتعصب أو نصرة مذهب على مذهب، أو تحقيق غاية شخصية، أو إرضاء نهمة التعصب، أو مغالطة الخصم ومغالبته. ( )

واستمر الحال على ذلك طوال القرون اللاحقة حتى عصر النهضة الحديثة، وإن كان قد برز بين الحين والآخر علماء ومفكرون كانت لهم بصمات واضحـة في الثقافة والمعرفة وباع طويل في الحوار والمناقشة أمثال ابن تيمية وابن القيم والنووي وابن قدامة، رحمهم الله، الذين قاموا بمناقشة الآراء والأفكار دون تعصب أو ميول شخصية، إذ تسوق مؤلفاتهم الفتاوى والأحـكام الواردة فيها بأدلتها وعللها من غير غمط للآخرين أو تجاوز على توجيهاتهم، وقد أدى هذا المسلك من قبل أولئك النخبة إلى نشـر الود والسماحة بين المسلمين على اختلاف مذاهبهم، واستئصال شأفة العداوة والبغضاء من نفوسـهم، وفي هذا يقول الإمام النووي: «واعلم أن معرفة مذاهب السلف بأدلتها من أهم ما يحتاج إليه؛ لأن اختلافهم في الفروع رحمة، وبذكر مذاهبهم بأدلتها يعرف المتمكن المذاهب على وجهها والراجح من المرجوح ويتضح له ولغيره المشكلات، وتظهر له الفوائد النفيسات، ويتدرب الناظر فيها بالسؤال والجواب، ويتفتح ذهنه ويتميز عند ذوي البصائر والألباب، ويعرف الأحاديث الصحيحة من الضعيفة، والدلائل الراجحة من المرجوحة، ويقوم بالجمع بين الأحاديث المتعارضات، والمعمول بظاهرها من المؤولات، ولا يشكل عليه إلا أفراد من النادر».( )

أما في عصر النهضة الحديثة الذي يمثل الفترة التاريخية التي تبدأ بالقرن الرابع عشر الميلادي وتمتد لتشمل القرون اللاحقة حتى العصر الحديث، فإن هذا العصر يتميز بظهور حركات الاحتجاج ضد الكنيسة، والمطالبة بأن تكون الثقافة تحت إشراف السلطة المدنية، والتقليل من مدارس الأديرة، وظهور مبدأ الاختيار في نشر التعليم والثقافة. ( )

وبينما بدأت أوربا تنفض عن نفسها غبار قرون من التراجع الفكري تراكم على نشاطاتها المختلفة، كان الكسل يدب في أوصال الحضارة العربية، حيث هبت جيوش من المغول والتتار تارة، وظهرت أعاصير من نزعات داخلية أصابت جسم الأمة بالتمزق والوهن، وراحت في نوم عميق لم تستفق منه إلا بعد فترة طويلة من الزمن.

إنه مع بروز الدعوة الإسلامية وانتشار حضارتها كانت كلمة الثقافة والعلم قرينة هذه الدعوة، فغمرت العالم بالفكر والمعرفة. ولكنه مع تراجع الأمة العربية من جديد بفعل عدة عوامل، أشرنا إليها، صحا الأوربيون من نومهم ليبدأوا مع شروق شمس حضارتهم عصراً جديداً من المعرفة والعلم والثقافة، وهو ما أطلق عليه مؤرخو الفكر بـ «عصر النهضة».

وقد تميز هذا العصر بمجموعة من الخصائص كان من أبرزها الاهتمام الكبير بالتعليم والمدارس، مما نتج عنه مجموعة من النظريات التربوية والأفكار التعليمية كانت أساساً لبوادر النهضة المعاصرة التي يشهدها العالم اليوم. ( )

وكان أبرز الحركات التي ظهرت في عصر النهضة، هي الحركة الإنسانية التي ترى أن التربية لابد أن تعمل على تدريب وتنمية المواهب العقلية، ويرى فيرجيريو، وفيتورينو وسيليفياس، وهم إيطاليون من أنصار الحركة الإنسانية، أن التربية إنما هي نتاج الفرد الذي يتمتع بثقافة واسعة وأخلاق راقية وشخصية متزنة متكاملة، إلا أن هذه الأهداف التقدمية التي نادى بها أنصار الحركة الإنسانية سرعان ما أصبحت غير صالحة، حيث وصفها أنصار التقدمية خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر بالتخلف والجمود والقدم. ( )

ورغم هذا التقدم العلمي والثقافي الذي شهدته تلك الفترة التاريخية، فإن المفكرين فيها انكـفأوا على أنفسـهم، فلم يعيروا أهمية لحوار علمي أو مناظرة ثقافية، لأنهم انشغلوا بالرجوع إلى النظريات القديمة ومحاولة تحليلها والإضافة إليها، وبقي الأمر على ذلك حتى بداية معالم العصر الحديث وثقافته الشاملة.

أما العصر الحديث، فقد تميز بمجموعة من الخصائص، من أبرزها:

1 - ظهور المنهج التجريبي في المعرفة، هذا المنهج الجديد الذي وسع دائرة المعرفة وأضاف إليها وسائل جديدة، وهو ما يعد ثورة في عالم المعرفة ميزت العصر الحديث عما قبله.

2 - اختراع الطباعة وانتشار التصنيف بشكل كبير، مما أدى إلى انتشار الثقافة وسهولة انتقالها بين شعوب العالم.

3- ظهور القوميات وتبلورفكرة القومية، بدلاً من الإمبراطوريات التي كانت سمة العصور السابقة.

4- ظهور فكرة العالمية وإحساس الدول بارتباط مصيرها بالأجزاء الأخرى من العالم، وارتباط أفراد البشرية كلهم بمصالح مشتركة.

5- ظهور الأيدلوجيات الفكرية التي اعتمدت البعد المادي والقومي والديني، التي وظفت لخدمة أهداف سياسية واقتصادية واجتماعية.

6 - تطور وسائل الاتصال، مما أدى إلى سـهولة التواصل بين أجزاء العالم المختلفة.

7 - ظهور الصحافة وانتشارها في دول العالم، مما سهل نقل المعلومة والخبر بأسرع وقت، مقارنة بالعصور السابقة.

8 - انتشار وسائل الإعلام المختلفة ( المسموعة والمرئية ) وظهور القنوات الفضائية المتعددة والمختلفة الأغراض، وتوسع دائرة الشبكة المعلوماتية العالمية «الإنترنيت»، مما كان لها الأثر الواسع والكبير في جعل العالم اليوم أشبه ما يكون بقرية صغيرة.

هذه العوامل مجتمعة عملت على توسيع دائرة المعارف وانتشار الثقافة والفكر على أوسع مدى، مما جعل الحوار والمناظرة ضرورة ملحة أملتها ظروف التقدم الحضاري والعلمي بين شعوب العالم المختلفة، من أجل تزاوج الأفكار وتلاقح الرؤى والتصورات عن الكون والإنسان، حتى أصبح من المحتم وضع ضوابط وشروط وآداب للحوار والمناقشة لتحديد شكل المحاورة وطبيعتها بما يتلائم والتقدم العلمي والثقافي الذي يمر به العالم اليوم، وهو ما سنعرض له في الفصل الأول.

الفصل الأول: منهجية الحوار

من الطبيعي جداً في حياة البشر أن يختلفوا في وجهات النظر، ويتباينوا في الآراء والأفكار، فهذا ليس عيباً علمياً ولا خطأ منهجياً، بل هو في الحقيقة خطوة جادة في طريق تصحيح المفاهيم والوصول إلى الحقيقة، فليس من الشر أن يختلف الناس في مفاهيمهم، ولكن الشر في الإصرار على الخطأ والاستمرار فيه.

إن ظروف الحياة وما يحيط بها من تقلبات وتغيرات عامل أساس من العوامل التي تدعو إلى الاختلاف في الرأي والتباين في التفكير، وإن الطريق الصحيح لمعالجة تلك الاختلافات هو الاحتكام إلى الحق، وهو طريق سـهل ويسـير إذا صدقت النفوس في التوجه إليه، وقد ثبت جلياً أن أقـرب طريق للوصول إلى الحق هو الحوار العقلي المجرد عن اتباع الهوى، ولا بد لهذا الحوار من منهجية علمية تعتمد أسـس وقواعد البحث العلمي في الوصول إلى الحقيقة، ومعالجة أسباب الخلاف وتسويته.

ولأن الحوار مساجلة كلامية تجري بين طرفين أو أكثر في موضوع عقائدي أو علمي أو أدبي، ويتم إجراؤه في مـنتدى أو مؤسـسة ثقافـية أو جمعية علمية، أو عن طريق وسائل الإعلام المسموعة والمرئية، وهو في صورة أخرى كلام مطبوع في صحيفة أو مجلة أو كتاب ليكون على شكل عرض وجهات نظر أو تعقيبات أو مداخلات، فإن كل هذا يستوجب توفر مجموعة من القواعد والشروط لغرض تحقيق الأهداف التي تم إجراء الحوار من أجلها.

ويكتسب الحوار أهميته من ماهية أو طبيعة الموضوعات التي يتم تناولها، وخطورة القضايا المثارة، أو بسـبب الثقافة العميقة للمتحاورين، أو من خلال المركز العلمي والفكري التي يتمـتع بـها كل طرف من أطراف ذلك الحوار.

ومن هنا فإن البحث في منهجية الحـوار يتطلب منا الوقوف على جملة من المحاور الأساس التي تتضمنها تلك المساجلة الكلامية، ابتداءً من أركان الحوار مروراً بأسـسه وعناصره التي يقوم عليها، والشروط التي يجب أن تتوفر فيه، وانتهاءً بالآداب التي ينبغي أن يتمـتع بـها كل طـرف، ومن ثم البحث في المعوقـات التي تقف حـائلاً دون إتمام المحاورة.. وتأسيساً على ذلك، فسوف نتناول في هذا الفصل هذه المعطيات جميعاً وفقاً للمباحث الآتية:

المبحث الأول: مقومات الحوار (أركانه وقواعده).

المبحث الثاني: شروط الحوار وآدابه (آداب الحوار ومعوقاته).

المبحث الثالث: معوقات الحـوار (بين الحوار والمواجهة).

المبحث الأول: مقومات الحوار (أركانه وقواعده)

أركان الحوار:

للحوار ركنان أساسيان، هما:

1 - وجود طرفين متحاورين.

2 - وجود قضية يجري الحوار بشأنها.

الركن الأول: وجود طرفين متحاورين:

لا بد للحوار من وجود أكثر من طرف في عملية المحاورة، لأن الحوار لا يتحقق إلا عندما يتم طرح أكثر من رأي وأكثر من فكرة في موضوع محدد، أما الحوار مع النفس فهو حوار ذاتي يحاول فيه المحاور أن يصنع لنفـسه طرفاً من داخله يتفـاعل معه، ولـكنه مع ذلك يبقى حواراً روحياً داخـلياً، أو سـراً شخصياً لا يمكن الإطـلاع عليه إلا إذا أفصح عنه المحاور.

ولكي يتمكن كل طرف من طرفي الحـوار إجراء المحاورة في مناخ طبيعي يتحقق من خلاله الوصول إلى صيغة علمية في الأداء والطرح والتفكير، فإن ذلك يتطلب جملة من الشروط، نذكر أبرزها:

1- توفر الحرية الفكرية:

إذا أردنا للحوار أن ينتهي إلى نتيجة منطقـية يسلّم بـها الطرفان، فلا بد أن يملك كل منهما حرية الحركة الفكرية التي تحقق له الثقة بشخصيته المستقلة، بحيث لا يكون واقعاً تحت هيمنة الإرهاب الفكري والنفسـي الذي يشعر معه بالانسحاق أمام شخصية الطرف الآخر، لما يحس به في أعماقه من العظمة المطلقة التي يملكها الطرف الآخر. 

إن عدم توفر الحرية الفكرية تجعل ثقة المحاور بنفسه تتضاءل شيئاً فشيئاً حتى يفقد بعد ذلك ثقته بفكره وقابليته لأن يكون طرفاً في الحوار والمناقشة، كما أن ذلك يعمل على إرباك المحاور وتشتيت أفكاره، فبدلاً من أن يستحضر حججه وبراهينه لمعالجة القضية التي يحاور من أجلها، يجد نفـسه مضطراً للدفاع عن شخصيته الفكرية وفك قيدها من أسـر وهيمنة الإرهاب الفكري المصاحب لذلك الحوار.

والمتتبع للحوارات التي أجراها النبي يجد أنه حاول في أكثر من مناسبة توفير المناخ الطبيعي للأطراف الذين أدار عملية الحوار معهم من خلال تأكيده على جانب البشرية فيه، فهو بشـر مثلهم لا يملك أية قوة غير عادية في تكوينه الذاتي، فلا يستطيع تنفيذ المعجزات التي يقترحونها عليه، ولا يعلم الغيب، وإنما هو إنسان يتلقى الوحي من ربه باعتباره رسول رب العالمين، ومهمته في ذلك هي تبليغ الرسالة بالوسائل المقنعة والصيغ العلمية إلى الناس، عن طريق الحوار والمناظرة دون أن يشعرهم بتميّزه عنهم، أو إملاء أفكار يفرضها عليهم، فلا مكان عندئذ للإرهاب أو الضغط على الحرية الفكرية، وهو لا يملك طاقة سحرية تدفعهم إلى الإيمان بما يدعوهم إليه، وإنما لهم الحرية الكاملة في ذلك كله، فإن استجابوا له واقتنعوا بدعوته فـذلك هـدف الرسالة وغايتها، وإن لم يستجيبوا فحسبه أنه أدى الرسالة وبلّغ الأمانة وقام بواجب تجاه الوحي المنـزل إليه، وفي هذا يقول الله تعالى: ((قُل لا أَمْلِكُ لِنَفْسِى نَفْعًا وَلاَ ضَرّا إِلاَّ مَا شَاء ٱللَّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ ٱلْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ ٱلْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِىَ ٱلسُّوء إِنْ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ)) (الأعراف:188)، ويقول أيضاً: ((قُلْ يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ قَدْ جَاءكُمُ ٱلْحَقُّ مِن رَّبّكُمْ فَمَنُ ٱهْتَدَىٰ فَإِنَّمَا يَهْتَدِى لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ)) (يونس:108).

2- الاستعداد النفسي للاقتناع بالنتائج:

لا بد لمن يدخل في عملية الحوار أن يعد نفسـه إعداداً تاماً لتقبل النتائج التي يؤول إليها الحوار ويهيئ عقله للاقتناع بها، لأن رفض النتائج وعدم تقبلها يقلب الحوار إلى جدل عقيم لا يراد منه سوى المماحكة وعرض القدرات الكلامية وتقديم المزايدات الجدلية المقيتة التي تعود بالحوار إلى ما يناقض هدفه وغايته.

إن عدم استعداد طرفي الحوار لقبول النتائج يعني أن فكرة كل واحد منهما كانت معدة سلفاً ولا مجال عنده للتراجع عنها مهما ظهر له من الأدلة والبراهين، فهو في هذه الحالة يكون تابعاً لدوافعه الذاتية والاجتماعية التي لا علاقة لها بالقناعة الفكرية والعلمية المرتكزة على البرهان والدليل.

لقد عاب القرآن الكريم على أولئك الذين يحاورون رسـول الله ولكنهم ليسوا مستعدين لتقبل نتيجة المحاورة، فقال تعالى: ((وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِى ءاذَانِهِمْ وَقْراً وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ ءايَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا حَتَّىٰ إِذَا جَاءوكَ يُجَـٰدِلُونَكَ يَقُولُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَـٰذَا إِلاَّ أَسَـٰطِيرُ ٱلاْوَّلِينَ)) (الأنعام:25) فهؤلاء يستمعون إلى الدعوة ولكن قلوبهم مغلقة وآذانهم مسدودة عن الإصغاء إليها ولذلك فهم معرضون عن الإيمان بها لعدم استعدادهم لقبول نتائج الحـوار، إنكـاراً وكفراً وعـناداً، وليس لديهم ما يواجهون به الدعوة إلا كلمة لا تعبّرعن أية مسؤولية فكرية وهي قولهم: ((إِنْ هَـٰذَا إِلاَّ أَسَـٰطِيرُ ٱلاْوَّلِينَ)) دونما حجة أو برهان على ذلك.

إن المحاور الذي لا يكون مسـتعداً لتقبل النتائج التي يؤول إليها الحوار يدخل دائرة المكابرة والجهل، ويبتعد عن الموضوعية العلمية، وفي هذا يقول الله تعالى: ((وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ ٱلْمَلَـئِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ ٱلْمَوْتَىٰ وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَىْء قُبُلاً مَّا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ إِلاَّ أَن يَشَاء ٱللَّهُ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ)) (الأنعام:111) فهذا الصـنف من الناس يبـرر الامتناع عن الإيمان بالمطالبة بما يكون خارقاً للعادة رغم أن قضية الإيمان ليست مرتبطة بذلك، فالآيات الخارقة للعادة خاضعة للحكمة الإلهية، لا تتحقق إلا بمقدار الضرورة التي يدعو إليها ما يثبت النبوة والوحي في بعض حـالات التحدي التي تواجهها بقوة.. أما ما يطالبون به أثناء محاوراتهم ومناظراتهم فلا يخرج عن دائرة المكابرة والتبريرات الواهية التي لا تستند إلى أساس علمي، وهو ماأشارت إليه الآية الكريمة: ((وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ ٱلْمَلَـئِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ ٱلْمَوْتَىٰ وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَىْء قُبُلاً مَّا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ إِلاَّ أَن يَشَاء ٱللَّهُ)) فليست القضية قضـية آيات تقـترح ليستجاب لها أو لا يستجاب، بل القضية هي فقدان الاستعداد النفسي لتقبل الإيمان مهما كانت الأدلة والبراهين، وهذا يثبت أنه متى ما فقد أي طرف من المتحاورين الاستعداد لقبول نتائج الحوار فإنه يكون قد فقد شرطاً أساسياً من شروط المنهج الذي يوفر المناخ الطبيعي للمحاورة.

3 - عدم التعصب لفكرة مسبقة:

ويعني هذا الشـرط أن يتخلى كل من الطرفين المشـاركين بالمحاورة حول موضوع معين، عن التعصب لوجهة نظر مسبقة وعن التمسك بفكرة يرفض نقضها أو مخالفتها، لأن التمسك بوجهة النظر السابقة يتباين مع منهجية الحوار في تبادل الأفكار وتداول الطروحات وسماع الرأي (الآخر).

إن طبيعة الحوار تقتضي الإعلان من الطرفين عن الاستعداد التام للكشف عن الحقيقة والأخـذ بـها عند ظهورها، سـواء أكانت وجهة نظر سابقة، أو وجهة نظر الطرف (الآخر) الذي يحاوره، وقد أكد القرآن الكريم على هذا المفهوم بصراحة واضـحة، وأرشدنا إلى الأخذ بهذا المبدأ عندما وجـّه رسول الله بأن يقول للمشركين في محاورته لهم: ((وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَىٰ هُدًى أَوْ فِى ضَلَـٰلٍ مُّبِينٍ)) (سبأ:24) وفي هذا غاية الابتعاد عن التعصب لفكرة سابقة، وكمال الرغبة في البحـث عن الحقـيقة أنـى كانت ومن أين صدرت.

ونظراً لأن موضوع المحاورة التي تتحدث عنه هذه الآية توحيد الله تعالى أو الإشراك به، وهما أمران على طرفي نقيض لا يلتقيان بأي حال من الأحوال، وهما يدوران حول أصل عظيم من أصول العقيدة الإسلامية، كان من البديهي أن الهداية في أحدهما إذ هو الحق، وأن الضلال في الآخر إذ هو الباطل، ومن أجل ذلك كان التخلي عن التعصب لفكرة سابقة يتضمن الاعتراف بهذه الحقيقة. ( )

وقد ذكر الإمام الغزالي أن على المحاور أن يكون في طلب الحق كناشد ضالة لا يفرق بين أن تظهر الضالة على يديه أو على يد غيره، بحيث يكون المحاور رفيقاً ومعيناً له لا خصماً عليه. ( )

الركن الثاني: وجود قضية يجري الحوار بشأنها:

ذلك أن الحوار لا يتحقق من فراغ، وإنما يدور حول فكرة أو موضوع يستحق البحث والمناقشة وتبادل الآراء مع (الغير)، لأن عدم وجود الفكرة أو القضية التي يجري الحوار بشأنـها يجعل عملية التحاور ليست ذي بال ولا طائل منها، بل إنها تتحول من محاورة علمية إلى سفسطة كلامية توصل أطرافها إلى اللجاج الذي يقتصر الأمر فيه على النقاش لذاته، ويكون همّ المتنافسين إحراز غلبة على الخصم ونيل الشهرة دون هدف علمي منشود.

إن من حقوق البشر: حق الاتفاق، وحق الاختلاف، فإذا جاء من يلغي الحق الأخير فهذا هو الاسـتبداد المقيت؛ لأنه ينظر إلى بني الإنسان كما ينظر إلى مجتمع النحل، وفي هذا المفهوم يقول الدكتور يحيى الجمل: كوننا لا نعرف كيف نتفق أصبح أمراً شائعاً، ولكن المشـكلة الحقيقية أننا لا نعرف كيف نختلف.. فالاختلاف في الرأي ظاهرة صحيحة تعرفها كل المجتمعات المتحضرة، إلا أنها تنقلب إلى مأساة عندما يتحوّل الاختلاف إلى درجة العداء والتحزب الضيق والخروج على مصالح الأمة.. فالاختلاف من طبائع البشر، وهم يختلفون لأسباب أبرزها اختلاف المصالح واختلاف المكوّنات الحضارية والثقافية مما يؤدي إلى اختلاف النظرة العقلية للأمور، وهناك ثلاثة طرق للتصدي للخـلافات هي: الحوار، والتعايش، والحرب. فأما الحوار فهو الوسيلة الأولى والأكثر أهمية وتنوعاً. ( )

وبهذا يتضح أن من الطبيعي جداً في حياة الأفراد والمجتمعات أن تكون هناك قضايا يجري الحوار بشأنها، وأفكار ومفاهيم متباينة يتم تزاوجها وتبادل الآراء فيها للوصول إلى الحقيقة.. هذه القضايا وتلك المفاهيم هي الأرض الخصبة التي تمد المتحاورين بالقضايا العلمية، وبدونها لا يكون هناك حوار، ولا يتحقق التزاوج في الأفكار بين بني البشر.

وأهم ما يتم التركيز عليه في هذا الجانب هو معرفة الطرفين المتحاورين للموضوع المطروح للتحـاور، والوقوف على الفـكرة التي يريدان إثباتها أو نفيها لأن الجهل بها وعدم الإطلاع على تفاصيلها يحـوّل الحوار إلى أسلوب من أساليب الشـتائم والمهاترات بدلاً من طرح الفكرة المعنية والدفاع عنها، ذلك أن المعرفة التامة بالقضية التي يجري الحوار بشأنها تجعل المحاور يعلم كيف يبدأ الحوار، وكيف يعالج مفرداته، وكيف ينتهي منه، في وضوح الرؤية وهدوء الفكر وقوة الحجة ووداعة الكلمة.

وقد أشار القرآن الكريم إلى بعض النماذج البشرية التي وقفت ضد رسول الله ودعوته من دون أن يكون لها علم بها أو إحاطة بعناصرها، إذ قال تعالى: ((هأَنتُمْ هَـٰؤُلاء حَـٰجَجْتُمْ فِيمَا لَكُم بِهِ عِلمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَٱللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ)) (آل عمران:66)، وقال تعالى: ((إِنَّ ٱلَّذِينَ يُجَـٰدِلُونَ فِى ءايَـٰتِ ٱللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَـٰنٍ أَتَـٰهُمْ إِن فِى صُدُورِهِمْ إِلاَّ كِبْرٌ مَّـا هُم بِبَـٰلِغِيهِ فَٱسْتَعِذْ بِٱللَّهِ إِنَّـهُ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْبَصِيرُ)) (غافر:56) فهذه الآيات تثبت أن القرآن الكريم يأخذ على كل هؤلاء الذين يخاصمون الأنبياء، أنهم يدخلون معركة الحوار دون سلاح، لأنهم لا يملكون علماً أو حجة، وليس لديهم إحاطة بالموضوع الذي يتحاورون فيه، مما يجعل حوارهم ورفضهم لنتائجه قضية مزاج، وعقدة نفسية تتحكم بهم فتدفعهم إلى اللف والدوران وإلى التكذيب بلا مبرر، الأمر الذي لا يؤدي إلى أية نتيجة لحساب المعرفة أو لمصلحة الحق. ( )

ومن هنا فإن الواجب على من يتصدى للحوار أن يكون على بينة من الموضوع الذي يحاور فيه، والقضية التي يجري النقاش فيها، حتى لا يكون بعيداً عن منطق المعرفة والموضوعية في عملية التحاور، كما أنه ينبغي عليه أن يتزود بالثقافة العامة التي تجعله قوياً في حجته أمام خصومه من خلال إحاطته بعناصر القضية التي يتحاور فيها، كما أن عليه أن يكون ملماً بالثقافة المضادة التي يملكها الطرف (الآخر) ليسهل عليه الوقوف على نقاط الضعف والقوة عند خصمه، وليستطيع الموازنة والمفاضلة بين الفكرتين بمنطق العقل والعلم والدليل.

القواعد العامة للحوار:

هناك قواعد عامة للحوار يجب الحفاظ عليها، وهي:

القاعدة الأولى: اعتماد العقل والمنطق:

ويعني ذلك أن يلتزم أطراف الحوار بالطرق المنطقية السليمة أثناء المحاورة، ويمكن أن نحدد معالم هذا الالتزام بما يلي: ( )

1- تقديم الأدلة المثبتة أو المرجّحة لكل فرضية أو دعوى يقدمها المحاور.

2- صحة النقل للنصوص المنقولة والمروية.

ومن هنا أخذ علماء آداب البحث والمناظرة قاعدتهم المشهورة التي يقولون فيها:

إن كنت ناقلاً فالصحة، أو مدّعياً فالدليل. ( )

وقد وردت الإشارة إلى مضمون هذه القاعدة في كثير من الآيات القرآنية التي تطالب الطرف (الآخر) بتقديم البراهين والحجج المنطقية، منها قولـه تعالى: ((أَمَّن يَبْدَأُ ٱلْخَلْقَ ثُمَّ يُعيدُهُ وَمَن يَرْزُقُكُم مّنَ ٱلسَّمَاء وٱلاْرْضِ أَءلَـٰهٌ مَّعَ ٱللَّهِ قُلْ هَاتُواْ بُرْهَـٰنَكُمْ إِن كُنتُمْ صَـٰدِقِينَ)) (النمل:64)، وقوله تعالى: ((قُلْ هَاتُواْ بُرْهَـٰنَكُمْ هَـٰذَا ذِكْرُ مَن مَّعِىَ وَذِكْرُ مَن قَبْلِى بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ ٱلْحَقَّ فَهُمْ مُّعْرِضُونَ)) (الأنبياء:24).

ففي هذه النصوص يأمر اللهُ نبيهَ بأن يطالب المشركين بتقديم براهينهم وأدلتهم على ما يقدمون من دعاوى إن كانوا على يقين من الأمور التي يعتقدونها: ((وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ ٱلْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُودًا أَوْ نَصَـٰرَىٰ تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُواْ بُرْهَـٰنَكُمْ إِن كُنتُمْ صَـٰدِقِينَ)) (البقرة:111).

وهكذا نجد أن المحاورة في القرآن الكريـم تعتمد على العقل والمنطق، ولا تتأثر بأي عامل أو مؤثر خارجي كالنبوة والرسالة والوحي.. ولاشك أن الحوار الذي يعتمد على الحجة الواضحة والدليل المنطقي القوي سيؤدي في النهاية إلى الحرية في التفكير، والتخلص من التعصب والانحياز، فنحن نرى أن إبراهيم عليه السلام في حواره مع الله عز وجل يتقدم للمحاورة وكأنه متجردٌ من النبوة، بل من الإيمان: ((وَإِذْ قَالَ إِبْرٰهِيمُ رَبّ أَرِنِى كَيْفَ تُحْىِ ٱلْمَوْتَىٰ قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَىٰ وَلَـٰكِن لّيَطْمَئِنَّ قَلْبِى)) (البقرة:260) فإبراهيم في هذه المحاورة يريد التحاور ضمن قواعد العقل والمنطق، ويرفض وجود أي مؤثر في المحاورة غير العقل.

ومن هنا فإنه لابد أن يتسم الحوار بطابع الاعتماد على العقل وتطبيق المقدمات المنطقية السليمة، سـواء ما يتعلق بتقديم الفكرة والتدليل عليها، أو ما يتعلق بقبول ما يطرحه الطرف الآخر مادام أنه قد وصل إليها بالمنطق السليم والحجة القوية.

القاعدة الثانية: عدم التناقض:

وتفيد هذه القاعـدة : أن لا يكون في الدعوى أو في الدليل الذي يقدمه المحاور تعارض واضـح، أو أن يكون بعض كلامه ينقض بعضه الآخر، فإذا كان كذلك كان كلامـه ساقطاً وفكرته لاغية، ذلك أن التناقض في الأفـكار يجعل المحاور صـيداً سهلاً لغريمه ومحاوره، بحيث يدينه من خلال طروحـاته المتناقضـة وأفـكاره المتباينة دونما حاجة إلى عناء ومشقة.

ومن أمثلة التناقض في الدعوى ما حكاه القرآن الكريم على لسان الكافرين في قولهم عن الآيات بأنها سحر مستمر: ((ٱقْتَرَبَتِ ٱلسَّاعَةُ وَٱنشَقَّ ٱلْقَمَرُ A وَإِن يَرَوْاْ ءايَةً يُعْرِضُواْ وَيَقُولُواْ سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ)) (القمر:1-2) ففي قولهم هذا تعارض وتناقض واضح لا يستحق رداً ولا يحتاج مناقشة، فهو ساقط علمياً، لأن من شأن الأمور المستمرة أن لا تكون سحراً، أما أن يكون الشيء سحراً ومستمراً معاً في وقت واحد فذلك جمع بين متضادين لا يجتمعان.. ومثل ذلك أيضاً قول فرعون عن موسى عليه السلام حينما جاء بالحجج الدامغة والآيات الباهرة بأنه: ((سَـٰحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ)) وذلك في قولـه تعالى: ((وَفِى مُوسَىٰ إِذْ أَرْسَلْنَـٰهُ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ بِسُلْطَـٰنٍ مُّبِينٍl فَتَوَلَّىٰ بِرُكْنِهِ وَقَالَ سَـٰحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ)) (الذاريات:38-39) وهذان أمران متناقضان، إذ من غير المقبول منطقياً أن يكون الشخص الواحد متردداً بين كونه ساحراً وكونه مجنوناً، لأن من شأن الساحر أن يكون كثير الفطنة والذكاء والدهاء، وهو أمر يتنافى مع الجنون الذي من شأنه الغفلة وعدم الإدراك.

إن التناقض في الفكرة، والتباين في طرحها، يجعل كلام المُحاور متهافتاً لا يُلتفت إليه، ولايستحق صاحبه إجابة؛ لأنه متهرب من منطق الحق بعيد عن الموضوعية العلمية.

القاعدة الثالثة: إنصاف المحاور:

ويقصد به: المحافظة على حق الطرف الآخر وإنصافه من كل وجه، بغض النظر عن صفة المحاور أو مركزه العلمي والاجتماعي، لأن الأمر المهم في الحوار هو إبراز حق الخصم وإنصافه حتى لا تنقلب المحاورة إلى مكابرة.. ويمكن تحديد النواحي التي يجب أن تراعى مع الطرف الآخر بما يلي:

1- التجرد من المؤثرات الجانبية -عقائدية كانت أو ذاتية- مثال ذلك أن يحاور مؤمن كافراً في إثبات وجود الله، فلو قال المؤمن للكافر: أنا مؤمن بوجود الله ثم ذكر فكرة أخرى مبنية عليها، فهذه ليست محاورة، بل هي إلزام للخصم، أو هي محاورة فاشلة، لأنه ابتدأ الحوار معه بناء على مؤثرات عقائدية خاصة به ولم يتجرد عن ثوابته التي يؤمن بها، والأصل في المحاور أن يكون متجرداً عن المؤثرات لضمان إنصاف الطرف (الآخر)، ذلك أن المحاورة المنطقية السـليمة تقتضي أن يتجرد كل من الطرفين أثناء المحاورة، افتراضاً، من عقيدته ومن انتمائه وأي شيء يؤثر على حياده فيما يتعلق بموضوع المحاورة، وفي هذا يقول الشعراني: إن احتاج إنسان إلى رد خصم ينكر الشرائع وجب علينا تجـريد النظر في رد مذهبه، لكن بالأمور العقلية لا بالشـرع، فإن الشرع هو محل النـزاع بيننا وبينه. ( ) وهذا يعني أن الخصم في هذا الموقـف لا يؤيد مفهـوم: قال الله، وقال الرسـول، لأنه غير مقتنع بها، فيحـتاج إلى محاورة ومناظرة وإقناع بالعقل في المسائل المتنازع عليها.

2 - حماية الخصـم أثناء المحاورة: ذلك أن طرفـي المحاورة قد اتفقا، ولو ضمناً، على افتراض تجردهما من العقـيدة والانتمـاء، وهذا يقتضي أن لا يوصف أحدهما بأنه مخطئ أو مصيب إلا بانتهاء المحاورة، فالإساءة إلى أي طرف قبل انتهاء الحوار ظلم له وتجاوز على أفكاره وطروحاته، بحيث يكون أسلوب المحاورة قائماً على الإقناع ثم الإلزام دون إهانة للخصم. ( )

3 - المساواة بين الطرفين: وهي درجة أعلى من مجرد حماية أطراف الحوار؛ لأن إشعار المحاور بمساواته مع خصمه صفة تبعث في نفسه الطمأنينة وتدفعه لمزاولة الحوار بدرجة عالية من الثقة بالنفس.

إن المتتبع للحوارات القرآنية يتلمس فيها المساواة بين طرفي الحوار، فعلى الرغم من أن النبي على حق، وأن مناظريه على الباطل إلا أن الله تعالى يوجهه إلى افتراض أنه لا يعلم أيهما على الهدى، وأيهما في الضلال، أهو أم هم؟: ((قُل رَّبّى أَعْلَمُ مَن جَاء بِٱلْهُدَىٰ وَمَنْ هُوَ فِى ضَلَـٰلٍ مُّبِينٍ)) (القصص:85).. وفي موقف آخر يصرح القرآن الكريم بالمساواة لطرفي الحوار حتى ولو كان ذلك بين فريقين مختلفين في الفكر والعقيدة، فيقول الله تعالى: ((قُلْ يٰأَهْلَ ٱلْكِتَـٰبِ تَعَالَوْاْ إِلَىٰ كَلِمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ ٱللَّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مّن دُونِ ٱللَّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ ٱشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ)) (آل عمران:64) فهذه الآية تقدم دعوة لأن يكون طرفا الحوار على درجة واحدة من المساواة لا يتميز أحدهما عن الآخر ((تَعَالَوْاْ إِلَىٰ كَلِمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ)).

القاعدة الرابعة: تحديد الغاية وتوضيحها:

من قواعد الحـوار الأسـاسية إبراز الهدف الذي تدور حوله المحاورة، مع التركيزعلى أن تكون الغاية واضحة والهدف محدداً ومقبولاً من النفوس والمشاعر بعد اجتيازه مرحلة القبول العقلي، ومن أمثلة ذلك ما جرى في محاورة إبراهيم عليه السلام مع المشركين من عبدة الكواكب، وتدرجه العقلي والنفسي معهم حتى وصل إلى تقمصه عبادة الشمس معهم: ((فَلَماَّ رَأَى ٱلشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَـٰذَا رَبّى هَـٰذَا أَكْبَرُ)) ليصل بهم إلى النتيجة بعد أن انتزع اعترافهم بأن الإله لا يغيب ولا ينبغي أن يغيب، ومن هنا برزت النتيجة: ((فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يٰقَوْمِ إِنّى بَرِىء مّمَّا تُشْرِكُونَ Z إِنّى وَجَّهْتُ وَجْهِىَ لِلَّذِى فَطَرَ ٱلسَّمَـٰوٰتِ وَٱلاْرْضَ حَنِيفاً وَمَا أَنَاْ مِنَ ٱلْمُشْرِكِينَ)) (الأنعام:78-79).. وهكذا ركّـز إبراهيم على النتيجة من خلال هذه الكلمات الموجزة التي راعى فيها جملة من النواحي، أبرزها( ):

1- المحافظة على صلته بالخصوم وتقريبهم إليه بقوله: ((يٰقَوْمِ)) أملاً في كسب إيمانهم.

2- أعلن الحكم على عبادتهم للكواكب بأنها شرك، وأنه مستنكر له: ((إِنّى بَرِىء مّمَّا تُشْرِكُونَ)).

3- تقديم البديل الصحيح الذي يجب أن يتجهوا إليه وهو الإيمان بالله: ((إِنّى وَجَّهْتُ وَجْهِىَ لِلَّذِى فَطَرَ ٱلسَّمَـٰوٰتِ وَٱلاْرْضَ)).

كل هذه المفاهيم التي أراد إبراهيم عليه السلام توضيحها كانت منصبّة على تحديد الغاية وإبراز الهدف من هذا الحوار، وهو إثبات وحدانية الله تعالى وإبطال ما عداه من الآلهة، وقد سلك في سبيل تحقيقها كل الوسـائل الممكنة لجعلها في غاية الوضوح عن طريق المحاورة التي لا تقصد هدفاً شخصياً ولا مصلحة ذاتية وإنما تهدف إلى إصلاح العقيدة وتثبيتها في النفوس.

القاعدة الخامسة: خلق الأجواء الهادئة للتفكير السليم:

إن من أشد الأمور ضرورة للوصول بالحوار إلى هدفه وتحقيقه لغاياته، توفر الأجواء الهادئة للتفكير الصحيح، الذي يمثل فيه الإنسان نفسه وفكره، والابتعاد عن الأجواء الانفعالية التي تبعد الإنسان عن الوقوف مع نفسه وقفة تأمل وتفكير، لأن الانخراط في محيط الأجواء الانفعالية يفقد المحاور اسـتقلاله الفـكري وشخصـيته المميزة، فيبتعد رويداً رويداً عن الحقيقة، أما الفكر الهادئ الواعي فإنه يضع القضية في موقعها الطبيعي لينتهي بالإقرار بنتيجة المحاورة، سلباً أو إيجاباً.

لقد دعا القرآن الكريم إلى التجـرد عن الأجواء الانفعالية في حال أردنا أن نتبنى فكرة أو نرفضها، أو ننسجم مع موقف أو نبتعد عنه، حيث نقل القرآن أسلوب النبي في الحوار مع خصوم العقيدة -عندما واجهوه بتهمة الجنون- فقال تعالى: ((قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوٰحِدَةٍ أَن تَقُومُواْ لِلَّهِ مَثْنَىٰ وَفُرَادَىٰ ثُمَّ تَتَفَكَّرُواْ مَا بِصَـٰحِبِكُمْ مّن جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ لَّكُمْ بَيْنَ يَدَىْ عَذَابٍ شَدِيدٍ)) (سبأ:46).

فقد اعتبر القرآن موضوع الاتهام للنبي بالجنون خاضعاً للجو الانفعالي الذي كان يسيطر على التجمع العدائي لخصومه آنذاك، مما يجعلهم لا يملكون أفكارهم ولا يستطيعون أن يزنوا بها صحة القضايا وفسادها، ولذلك دعاهم إلى الانفصال عن هذا الجو المحموم بأن يتفرقوا مثنى وفرادى في موقف تفكير وتأمل ليصلوا إلى النتيجة الحاسمة، حيث إن التفكير الهادئ سوف يعيد الأمور إلى نصابها ويرفض تلك التهمة جملة وتفصيلاً، لينتهي بالإقرار بأنه رسول الله إلى الناس. ( )

والواقع أننا نجد هذه الأجواء الانفعالية في أكثر من مناسبة عندما يكون الأمر متعلقاً بالصراع الذي يخوضه الإسلام مع أعدائه، حيث يتم إطلاق الاتهامات بلا حساب ولا روية، ويرفض الطرف (الآخر) الجلوس للحوار، وأبرز دليل على ذلك ما يجـري هذه الأيام من اتـهام لبعـض الـدول أو الجماعات الإسلامية واعتبارها مسؤولة عن تنفيذ جملة من أعمال العنف من دون تقديم دليل مقنع على تلك الاتهامات.

فنحن نرى أنه في ظل هذه الأجواء الانفعالية المشحونة ترفض الدول الغربية مجرد إبداء الرأي أو سماع الطرف (الآخر)، فضلاً عن الدخول معه في حوار هادئ للوقوف على حقيقة الأمور والبحث عن حلول أو معالجات منطقية لها.

إن الأجواء الانفعالية والمشحونة تجاه الإسلام تأخذ اليوم أشكالاً متعددة وصيغا مختلفة لتأليب الناس على هذا الدين وأحكامه، ومن الأمثلة على ذلك ما يفعلونه في تصويرهم القانون الإسلامي بقطع يد السارق بأنه من الأساليب الوحشية التي لا تنسجم مع قوانين العصر الحديث، الذي يحاول معالجة الجريمة بالطرق المعتمدة على أساس قواعد علم النفس والاجتماع بعيداً عن جانب العنف والقسوة، وهكذا ينطلقون من أجواء انفعالية وعاطفية، ويتناسون أن التجارب المعاصرة الكثيرة لم تستطع أن تحقق أية نتيجة ملموسة في هذا المجال، في حين أن حكم الإسلام بقطع يد السارق كان عاملاً مهماً من عوامل منع السرقة في المجتمعات الإسلامية وأمن الناس على أموالهم وممتلكاتهم.

وقد نجد تلك الأجواء الانفعالية عند معالجة عدد من القضايا الإسلامية كقضية الطلاق، وتعدد الزوجات، وقضية الحجاب والسفور حيث يتم الحوار فيها وفقاً لما تمليه العاطفة والرغبات الشهوانية دون الالتفات إلى الإيجابيات التي يرمي الإسلام إلى تحقيقها في تشريعاته وأحكامه، مما لا يدع مجالاً للمحاور الإسلامي أن يبدي رأيه ويبين وجهة نظره في توضيح المفاهيم الشرعـية التي تتعلق بمجمل القضايا المطروحة، الأمر الذي يؤدي إلى طغيان الجو الانفعالي المحموم على الأجواء الهادئة التي تتيح التفكير السليم والحوار العلمي البنّاء.

القاعدة السادسة: إعداد خطة علمية للحوار:

ويعني ذلك: وجود ضوابط نظامية تحكم عملية الحوار، وتنأى به عن أن يكون ارتجالاً واعتباطاً، خاصة إذا كان ذلك الحوار بين مدرستين فكريتين، أواتجاهين علميين.. والقيام بإعداد خطة علمية يقتضي اللجوء إلى أربع خطوات هي: تحديد الموضوع، وتحديد المفاهيم، وتحديد الهدف، وتحديد الآليات، وسنتكلم عن كل خطوة منها بإيجاز( ):

1 - تحديد الموضوع:

لابد من تحديد موضوع الحوار قبل بِدء عملية التحاور، لأن موضوع الحوار هو جوهر العملية برمتها، وإذا ما جرى الاتفاق على ذلك كان الحوار معلوماً وواضحاً للأطراف المشاركة فيه، وسواء كان موضوع الحوار قديماً أو معاصراً فإن تحديده عامل أساس من عوامل نجاح المحاورة؛ لأن تحرير محل النزاع يضمـن عدم تحوّل الحوار إلى نوع من اللجاج، كما أنه يضمن عدم بعثرة الأفكار وضياعها بسبب ضبابية الفكرة وعدم وضوحها، إضافة إلى أن عدم تحديد الموضوع لا يتيح فرصة للحكم عليه، فالقاعدة تقول: «الحكم على الشيء فرع عن تصوره» فلا يمكن إصدار حكم في مسألة معينة بدون تحديد عناصرها وملامحها الأساسية.

2- تحديد المفاهيم:

يتطلب الحوار الاتفاق على معاني المصطلحات والمفاهيم التي سوف يتم استخدامها في المحاورة، لأنه إذا أصبحت المصطلحات محل نزاع وخلاف بين المتحاورين فهذا يعني أن مهمتهم تزداد عناء ومشقة ولا يستطيعون مواصلة مشوار الحوار، بل ربما يتوقفون عنه في منتصف الطريق، لاختلافهم في تفسير المصطلحات والمفاهيم التي يتداولونها.

3 - تحديد الهدف:

والمقصود بالهدف: هو الغاية التي يريد الطرفان الوصول إليها من وراء عملية التحاور، وإذا ما كان الحوار صادقاً ونافعاً فلابد أن يحدد له هدف يمكن الإشارة إليه صراحة، ويمكن الإشارة إليه ضمناً، ومهما يكن من أمر فإن أهداف الحوار لا تخرج عن الغايات التالية:

1- الوصول إلى تفسير متفق عليه حول موضوع المحاورة.

2- الرغبة في تخطي حالة العقم الفكري، الذي يعني: «تجاوز ثقافة البعد الواحد ورفض الانسياق وراء المذهب المتسلط السائد».

3- الرغبة في تخطي حالة الانغلاق الفكري، الذي يعني: «تجاوز التعصب المذهبي أو الفكري أو السياسي أو الاجتماعي».

4- تحديد الآليات:

والمقصود بالآليات: مجمل الإجراءات التنظيمية التي تساعد على بلوغ الحوار إلى مسعاه النهائي، وهذه الإجراءات والأدوات يجب أن تكون واضحة ومحددة من خلال الآتي :

1- ضرورة التأكد من صحة المعلومات المعروضة في الحوار.

2- ضرورة مناقشة القضايا دون أن يكـون في الذهن قرار مسـبق أو حكم ثابت أو موقف صارم.

3- ضرورة الاستئناس بذوي الخبرة والمختصين الذين لهم علاقة بالموضوع المطروح للمناقشة.

4- استخدام المناهج العلمية والمنطقية أثناء الحوار من خلال التفكير والتحليل والاستنباط ليكون الحوار عقلانياً ورشيداً.

5- ترتيب عناصر الحوار خطوة خُطوة، ابتداءً بالمبادئ الجزئية وصولاً إلى الكليات والنتائج الكبرى، التي هي هدف الحوار وغايته.

وتأسيساً على ما تقدم نقول: إن مقومات الحوار تتطلب توفر أركانه متمثلة بالطرفين المتحاورين، والقضية التي يجري الحوار بشأنها.. وقد بينا في هذا المبحث الشروط والضوابط التي يجب أن تتوفر في كل ركن من هذه الأركان.. كما أن مقومات الحوار تتطلب جملة من القواعد والأسس التي تتعلق بالعملية الحوارية من خلال اعتمادها على العقل والمنطق، وعدم التناقض في المقدمات والأدلة، وإنصاف الخصم وحمايته، وتحديد الغاية والهدف، وتوفير الأجواء الهادئة والمناسبة للتفكير السليم، وإعداد خطة علمية مبرمجة للشكل والمضمون، وبهذا نضمن حواراً علمياً ومنطقياً يعتمد الحجة والدليل، ويقدم الفكرة بعقلية مرنة وأسلوب واضح، بعيداً عن الأهواء والشهوات.

المبحث الثاني: شروط الحوار وآدابه

إذا أردنا للمحاورة أن تنجح وتحقق أهدافها، فلا بد أن تتوافر فيها مجموعة من الشروط والضوابط.. والمتتبع لآليات الحوار وعناصره الأساسية يجد أن هناك شروطاً تتعلق بعملية المحاورة نفسها، وشروطاً أخرى تتعلق بالمحاور الذي يباشر عملية الحوار، وسنتعرض هنا لهذه الشروط.

شروط المحاورة:

يشترط في المحاورة ما يأتي:

1- استخدام اللغة القوية:

نظراً لأن المحاورة هي محاولة لإقناع الطرف (الآخر) بوجهة نظر معينة، فإن ذلك يتطلب استخدام لغة قوية عن طريق وضوح الألفاظ، وترتيب الأفكار، وتسلسل المقدمات، وصولاً إلى النتائج المرجوة.

ومن هنا فإن المحاورة تتطلب ضرورة استخدام أقل الكلمات المعدّة إعداداً دقيقاً للتعبير عن الفكرة وبيان الحقيقة، كما أن من الضرورة اصطفاء أفضل الألفاظ وأكثرها وقعاً في النفس وتأثيراً على المحاور.

وإذا استخدم المحاور اللغة الواضحة فإن ذلك سيوصله إلى الكلام الحسن الذي يخدم الحقيقة دون لبس ولا غموض، وقد أوصى الحكماء بأن لا ينطق الإنسـان إلا بما يفيده أو يفيد الآخرين، أو أن يمتنع عن الكلام، كما أن كتب التراث زاخرة بالحكم والأمثال المتعلقة بضبط الكلام والتحكم به، فقد جاء في الأمثال:

«من نطق في غير خير فقد لغا، ومن نظر في غير اعتبار فقد لها، ومن سكت في غير فكر فقد سـها».

«الكلام كالدواء، إن أَقْلَلَت منه نفع، وإن أكثرت منه صدع».

«من كثر كلامه كثر سقـَطه، ومن كثر سقـَطه قَلّ حياؤه، ومن قل حياؤه قل وَرَعُه، ومن قَلّ ورعه مات قلبه».

«صد اللسان إلا في أربعة : في الحق توضحه، وفي الباطل تدحضه، وفي النعمة تشكرها، وفي الحكمة تظهرها»( ).

2- اختيار الأسلوب الأمثل:

هناك طريقتان للحوار الفكري في جميع مجالاته، فهناك طريقة العنف التي تعتمد مواجهة المحاور بأشد الكلمات وأقسى العبارات، بحيث يتم التركيز على كل ما يساهم في إيلامه وإهانته، دون مراعاة لمشاعره وأحاسيسه، ولا شك أن هذه الطريقة إنما تنتج المزيد من الحقد والعداوة والبغضاء، وتبعد عن الأجواء التي تساهم في الوصول إلى النتائج الطيبة.

وهناك طريقة أخرى تعتمد اللين والمحبة، وتعتبر الحوار وسيلة للوصول إلى الهدف، وهذه الطريقة تعتمد الكلمات الطيبة المرنة التي تقرّب الأفكار وتعمل على توحيد المفاهيم بعيداً عن العنف والشدة.

وقد ركـّز الإسـلام على الطريقة الثانية في جميع أساليب الحوار من أجل الوصول إلى المعرفة، وأطلق على هذا الأسلوب مصطلح: «التي هي أحسن» ليكون طابع الحوارات الإسلامية في كل المجالات، وذلك في قولـه تعالى: ((وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مّمَّن دَعَا إِلَى ٱللَّهِ وَعَمِلَ صَـٰلِحاً وَقَالَ إِنَّنِى مِنَ ٱلْمُسْلِمِينَ)) (فصلت:33) وفي قولـه تعالى: ((ٱدْعُ إِلِىٰ سَبِيلِ رَبّكَ بِٱلْحِكْمَةِ وَٱلْمَوْعِظَةِ ٱلْحَسَنَةِ وَجَـٰدِلْهُم بِٱلَّتِى هِىَ أَحْسَنُ)) (النحل:125) ولا شك أن الجـدال بالتي هي أحسن إنما يتمثل في اتباع أفضل الأساليب وأحسنها في إقناع الطرف الآخر بالفكرة التي يدور حولها الحوار.

3- احترام التخصص:

من شروط المحاورة احترام التخصص وعدم التحاور في موضوعات ليس لها علاقة بفكر المحاور واهتماماته.. والواقع أن هذا شرط يتسع ليشمل جميع وسائل المعرفة ولا يقتصر على الحوار فحسب.. عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ أَنَّ رَجُلاً جَاءَ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَقَالَ: إِنِّي أَجْرَيْتُ أَنَا وَصَاحِبٌ لِي فَرَسَيْنِ نَسْتَبِقُ إِلَى ثُغْرَةِ ثَنِيَّةٍ، فَأَصَبْنَا ظَبْيًا وَنَحْنُ مُحْرِمَانِ فَمَاذَا تَرَى؟ فَقَالَ عُمَرُ لِرَجُلٍ إِلَى جَنْبِهِ: تَعَالَ حَتَّى أَحْكُمَ أَنَا وَأَنْتَ.. قَالَ فَحَكَمَا عَلَيْهِ بِعَنْزٍ، فَوَلَّى الرَّجُلُ وَهُوَ يَقُولُ: هَذَا أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَحْكُمَ فِي ظَبْيٍ حَتَّى دَعَا رَجُلاً يَحْكُمُ مَعَهُ ! فَسَمِعَ عُمَرُ قَوْلَ الرَّجُلِ فَدَعَاهُ فَسَأَلَهُ: هَلْ تَقْرَأُ سُورَةَ الْمَائِدَةِ؟ قَالَ : لاَ، قَالَ: فَهَلْ تَعْرِفُ هَذَا الرَّجُلَ الَّذِي حَكَمَ مَعِي؟ فَقَالَ: لاَ.. فَقَالَ: لَوْ أَخْبَرْتَنِي أَنَّكَ تَقْرَأُ سُورَةَ الْمَائِدَةِ لأَوْجَعْتُكَ ضَرْبًا.. ثُمَّ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَقُولُ فِي كِتَابِهِ: ((يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مّنْكُمْ هَدْياً بَـٰلِغَ ٱلْكَعْبَةِ)) وَهَذَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ ( ).. فنحن نرى أن عمر بن الخطاب تعامل مع هذا الحكم بطريقة علمية تخصصية، ولكن السائل لم يستطع إدراك الموقف وتفهمّه لعدم تخصصه، ولذلك دعاه عمر إلى احترام التخصص واستكمال عدة العلم قبل أن يعترض على الطرف الآخر في المحاورة، ويؤيد هذا ما روي أن عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، خطب الناس فقال:

من أراد أن يسأل عن القرآن فليأت أُبيَّ بن كعب.

ومن أراد أن يسأل عن الحلال والحرام فليأت معاذ بن جبل.

ومن أراد أن يسأل عن الفرائض فليأت زيد بن ثابت.

ومن أراد أن يسأل عن المال فليأتني فإني له خازن( ).

وفي هذا دعوة إلى اعتماد التخصص في جميع الفنون والعلوم، لأنه ينتج التحري الدقيق عن المعرفة، والتحقق من الفكرة، والوثوق من الهدف، وكل ذلك عامل من عوامل نجاح الحوار وموضوعيته.

4- طلب الحق بتجرد عن العاطفة:

وهذا يعني أن مجرد الادعاء لا يحقق الغرض المطلوب للوصول إلى الحقيقة، وأن الحماس للفكرة ظاهرة صحية، ولكنه لا يكفي وحده للوصول إلى عقول الناس وقلوبهم، بل لا بد من أن يُطلب الحق بتجرد عن الحماس والعاطفة، فقد روي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: تخاصم أهل الأديان فقال أهل التوراة: كتابنا خير الكتب، ونبينا خير الأنبياء، وقال أهل الإنجيل مثل ذلك، وقال أهل الإسلام: لا دين إلا الإسلام، وكتابنا نسخ كل كتاب، ونبينا خاتم النبيين، وأمرتم وأمرنا أن نؤمن بكتابكم ونعمل بكتابنا، فقضى الله بينهم وقال: ((لَّيْسَ بِأَمَـٰنِيّكُمْ وَلا أَمَانِىّ أَهْلِ ٱلْكِتَـٰبِ مَن يَعْمَلْ سُوءا يُجْزَ بِهِ... )) ، وخيَّر بين الأديان فقال: ((وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ واتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرٰهِيمَ حَنِيفاً وَٱتَّخَذَ ٱللَّهُ إِبْرٰهِيمَ خَلِيلاً)) (النساء:123- 125) .

وقال مجاهد: قالت العرب: لن نبعث ولن نعذب، وقالت اليهود والنصارى: لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى، وقالوا لن تمسنا النار إلا أياماً معـدودات، وتعني هـذه الآيات أن الدين ليس بالتحلي ولا بالتمني ولكن ما وقر في القلوب وصدقته الأعمال، وليس كل من ادعى شيئاً حصل له بمجرد دعواه، ولا كل من قال إنه هو على الحق سمع قوله بمجرد ذلك حتى يكون له من الله برهان، ولهذا قال تعالى: ((لَّيْسَ بِأَمَـٰنِيّكُمْ وَلا أَمَانِىّ أَهْلِ ٱلْكِتَـٰبِ مَن يَعْمَلْ سُوءا يُجْزَ بِهِ)) أي ليس لكم ولا لهم النجاة بمجرد التمني بل العبرة بطاعة الله سبحانه واتباع ما شرعه على ألسنة الرسل الكرام، ولهذا قال بعده: ((مَن يَعْمَلْ سُوءا يُجْزَ بِهِ)) كقوله: ((فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ G وَمَن يَعْـمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ)) ( ).

وهكذا فإنه يجب أن يكون الحـوار في مسائل الدين بالقدر الذي يساعد على إحقاق الحق في موضوع النـزاع، فإذا انحرفت بالحوار أهواء قوم لا يريدون إلا كسب الوقت وإضاعة الجهد فنحن مأمورون بقفل النقاش احتراماً لعقولنا أن تشغل بما ليس نافعاً، واحتراماً للحق الذي يقتضي البعد عن المراء والجدل العقيم.

هذه هي أبرز شـروط المحاورة التي أمكننا استخلاصها من خلال متابعة طبيعة الحوار وضوابطه، والتي يجب أن تتوفر لتكون المحاورة محققة للأهداف المرجوة منها في الوصول إلى الحقيقة.

وهناك شروط أخرى ذكرها الدكتور جمال شلبي في رسالته: «آداب البحث والمناظرة»، حيث قال : يشترط في المناظرة أربعة شروط( ):

الشرط الأول: أن يكون المتناظران على معرفة تامة بما يحتاج إليه كل منهما من قوانين المناظرة وقواعدها حول الموضوع الذي يريدان المناظرة فيه.

الشرط الثاني : أن يكون المتناظران على معرفة بالموضوع الذي يتناظران فيه، حتى يتمكن كل واحد منهما من الإحاطة بعناصر القضية بكل جوانبها، فإذا تكلم لم يخبط خبط عشواء ولم يناقش في البديهيات بغير علم، وإذا ألزم بالحق التزم به من غير مكابرة.

الشرط الثالث : أن يكون موضوع المناظرة مما يجوز أن يجري فيه التناظر وتختلف فيه وجهات النظر، فالمفردات والبديهيات الجلية لا تجرى فيها المناظرة أصلاً.

الشرط الرابع : أن يجري المتناظران مناظرتهما على عرف واحد ومصطلح متفق عليه، فإذا كان كلام أحدهما جارياً على عرف الفقهاء مثلاً فلا يجوز أن يكون كلام الطرف الآخر جارياً على عرف النحاة، لأن المناظرة في هذه الحالة لا يكون فيها قاسم مشترك يجمع الطرفين ويحرر محل النـزاع.

شروط المحاور:

أما المحاور فلا بد أن تتوفر فيه الشروط التالية( ):

1- أن يتخلى عن النرجسية والأنانية، لأن لجوء المحاور إلى رؤية الآخرين بمنظار معتم أو ضيق، أو تجاهل رؤيتهم أحياناً من خلال عدم الاعتراف بمهارتهم الفكرية إنما هي سياسة نرجسية ذميمة لابد من التخلي عنها، ولا شك أن هذا المنظار الضيق يؤدي إلى ضعف الحوار واختناق مسيرته وغياب السجال والنقاش العلمي عن واقعنا الفكري.

إن ضوابط الحوار تقتضي وجوب التخلي عن النرجسية لأنها مرض نفسي غير مرغوب فيه، كما أن من الضرورة أن يتخلى أطراف الحوار عن مبدأ تعظيم (الأنا) أو تضخيم الذات، ليكون الحـوار علمياً وفعالاً، لأن الذاتية والنرجـسية سياسة غير مجدية، وليس هناك سـبب منطقي يبرر اعتناقها من قبل فرد يحترم إنسانيته وشخصيته ويحترم شخصيات الآخرين.

2- أن يكون المحاور صاحب نظر وتفكير مستقل، بحيث لا يكون مقلّداً لغيره، وفي هذا يقول الإمام الغزالي: «أن يكون اعتماده في علومه على بصـيرته، وإدراكه بصفاء قلبه، لا على الصحف والكتب، ولا على تقليد ما يسمعه من غيره... فلا يسمى عالماً إذا كان شأنه الحفظ من غير إطلاع على الحِكم والأسرار» ( ).

فالغزالي يعبر بهذا عن وجهة النظر الصحيحة في الفكر الإسلامي للتعامل مع الطـروحات الفكرية، لأن تفاوت الأحكام عند عدم وجود النصوص أمر لا ينبغي التخوف منه، بل من حقنا أن نستمد منه حرية عقلية وفكرية مطلقة، ذلك أن الحكم الثابت بالنص لا مجال فيه للفكر والاجتهاد ولا مكان معه لحرية الرأي، وإنما تتعدد الآراء وتتباين الطروحات في الميادين السياسية والاقتصادية وأنواع المعاملات الأخرى التي أسهم فيها العقل البشري بحظ وافر.

3- أن يكون المحاور سريع البديهة، فإن من حسن المحاورة أن يكون المحاور ذواقاً للكلام، مدركاً لأبعاده، متجاوباً مع العواطف؛ لأن عدم التجاوب السريع مع الطرف الآخر قد يفوّت عليه الكثير من المعلومات التي ينبغي أن يتوقف عندها ويعالجها بلباقة وحنكة.

4- أن يحسن المحاور الاستشهاد بآيات القرآن الكريم في الموضوعات الشرعية بحيث تتوفر لديه القدرة على فهم آيات القرآن وأحاديث النبي فإن ذلك مما يعينه على ظهور الحق، خاصة فيما يتعلق بمحاورة غير المسلمين.

يقول الدكتور عناية الله: خرجت يوم الأحد من أيام سـنة 1909م، وكانت السماء تمطر بغزارة، فإذا بي أرى الفلكي المشهور السير جيمس جينز - الأستاذ بجامعة كمبردج - ذاهباً إلى الكنيسة، والإنجيل والمظلة تحت إبطه، فدنوت منه وسلّمت عليه فلم يرد علي، فسلّمت عليه ثانية فلم يرد علي، ثم سلّمت عليه مرة أخرى، فسألني: ما ذا تريد مني ؟

فقلت له: أمرين!

الأول: هو أن مظلتك تحت إبطك رغم شدة المطر، فابتسـم وفتح مظلته على الفور.

وأما الأمر الآخر: فهو ما الذي يدفع رجلاً ذائع الصيت في العلم مثلك أن يتوجه إلى الكنيسة ؟

وأمام هذا السؤال توقف السير جيمس لحظة ثم قال:

أدعوك اليوم أن تأخذ شاي المساء عندي، فلما دخلت غرفته وجدته منهمكاً في أفكاره، فبادرني: ماذا كان سؤالك ؟

ودون أن ينتظر ردي بدأ يلقي محاضرة عن الأجرام السماوية ونظامها المدهش ومداراتها وجاذبيتها حتى أنني شعرت بنفسـي تهتز من هيبة الله وجلاله، وأما السير جيمس فوجدت شعر رأسه قائماً والدموع تنهمر من عينيه ويداه ترتعدان من خشية الله، ثم توقف فجأة، وبدأ يقول:

يا عناية الله! عندما ألقي نظرة على روائع خلق الله يبدأ وجودي يرتعش من الجلال الإلهي، وعندما أركع أمام الله وأقول له: «إنك لعظيم» أجد أن كل جزء من كياني يؤيدني في هذا الدعاء، وأشعر بسكينة وسعادة عظيمتين، أفهمت يا عناية الله لِمَ أذهب إلى الكنيسة؟

يقول الدكتور عناية الله: لقد أحدثت هذه المحاضرة طوفاناً في عقلي، وقلت له لقد تأثرت جداً بالتفاصيل التي رويتموها لي، وتذكرت بهذه المناسبة آية من كتابي المقدس، فلو سمحتم لي بقراءتها، فهزّ رأسه قائلاً: بكل سرور، فقرأت عليه قوله تعالى: ((وَمِنَ ٱلْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوٰنُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ a وَمِنَ ٱلنَّاسِ وَٱلدَّوَابّ وَٱلاْنْعَـٰمِ مُخْتَلِفٌ أَلْوٰنُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى ٱللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ ٱلْعُلَمَاء)) (فاطر:27-28) فصرخ السير جيمس قائلاً: ماذا قلت؟ إنما يخشى الله من عباده العلماء، مدهش وغريب جداً!! إن الأمر الذي حدثتك عنه كان نتيجة دراسـة اسـتمرت أكثر من خمسين عاماً، من أنبأ محمداً به؟ هل هذه الآية موجودة في القرآن حقـيقة؟ لو كان الأمر كذلك فاكتب مني شهادة أن القرآن كتاب موحى به من عند الله. ( )

لقد تمكن الدكتور عناية الله من مجاراة محاوره الذي كان يتمتع بمكانة علمية في تخصصه بفضل حسـن استشهاده بالنص القرآني الذي استخدمه في موطنه، ليكون بذلك على درجة المساواة مع محاوره، بل ربما تفوق عليه وجعله يؤمن بأحقية دينه وصدق كتابه.

5- أن يحاور من يتوقع الاستفادة منه ممن هو مشتغل بالعلم( )؛ لأن محاورة الجهلاء توقع المحاور في متاهات الجهل وتشغله عن مصادر المعرفة، كما أن محاورة المغترين بالعلم الذين يريدون الظهور والبروز تقضي على الموضوعية العلمية فتنقلب المحاورة إلى استعراض للقدرات ومهاترات بعيدة عن الحق.

ويعيب الإمام الغزالي على قوم لا خلاق لهم في المحاورة فيقول: «اعلم وتحقق أن المناظرة الموضوعة لقصد الغلبة والإفحام وإظهار الفضل والشرف والتشدق عند الناس وقصد المباهاة والمماراة هي منبع جميع الأخلاق المذمومة عند الله»( ).

آداب الحوار:

الحوار ظاهرة إنسانية مرتبطة بوحي العقل وإلهامه، وراجعة في نشأتها إلى طبيعة الإنسان المفكرة الناطقة، فهو يؤمن بفكرة معينة فيعرضها ويوضح أهدافها ويدافع عنها، فإذا خالفه في الرأي أحد ما من البشر استجمع أفكاره وقدّمها عن طريق حوار يبعث إلى إشغال الذهن وإعمال الفكر ليضيف إلى عقولنا معلومات جديدة، وليفتح أمام أهل العلم آفاقاً واسعة في المعرفة.

وإذا أردنا للحـوار أن يبقى عذباً رقيقاً، بعـيداً عن التنكيل والمهاترة، فلا بد أن يرتبط بمجموعـة من الآداب الفاضـلة والأخـلاق النبيلة من أجل أن يبقى الفكر متقداً والعطاء موصـولاً.. وسنعرض هنا لأبرز وأهم آداب الحوار وأخلاقه:

1- عفة اللسان والقلم:

من أدب الحديث أن لا يتجاوز المتكلم في مدح ولا يسرف في ذم، ومن هنا فإن على المحاور أن لا يبالغ في الذم فهـو طريق الشـر والرذيلة، ولا يسرف في المديح والثناء لأن المبالغة فيه ملق ومهانة.

إن من أقبح الصـفات أن يتنـزل العلماء في حوارهم إلى جارح اللفظ وسيئ العبارة، معللين ذلك بضيق الصدر ونفاذ الصبر، فقد قِيلَ لرسول الله: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ادْعُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ.. قَالَ: «إِنِّي لَمْ أُبْعَثْ لَعَّانًا وَإِنَّمَا بُعِثْتُ رَحْمَةً»( )، كما قال : «سِبَابُ الْمُسْلِمِ فُسُوقٌ، وَقِتَالُهُ كُفْرٌ»( ).

والمتتبع للحوارات التي يزخر بها تراثنا يدرك الأدب الرائع بين المتحاورين في أدق قضايا الإسلام وأحكامه، ويطلع على النماذج المشرقة التي حواها ذلك التراث الفكري والمعرفي، ولعل أبرز دليل على ذلك الحوار الرائع الذي جرى بين عمر بن الخطاب رضي الله عنه وعدد من صحابة رسول الله حول توزيع الأراضي على المقاتلين، فقد كان موضوع الحوار منصباً على تفسير آيات عديدة من القرآن الكريـم، ومع ذلك لم يشتد عمر في كلمة، ولم يعنف أحداً في عبارة، وإنما تبادل الجميع الرأي بالرأي والحجة بالحجة حتى اقتنع الجميع برأيه وقالوا: نِعْم ما قلت وما رأيت( ).

ومن النماذج الحـوارية الفاضلة الحـوار المكتوب الذي تم تبادله بين عالميـن جليلين من علماء الأمة هما: إمـام دار الهجرة مالك بن أنس، رحمه الله، وإمام مصر وعالمها الكبير الليث بن سـعد، رحمه الله، فعـلى الرغم مما اشتملت عليه تلك الرسالتان من عرض لمسائل وأحكام عديدة فقد جاءتا آية مشرقة من آيات الحوار الراقي العفيف الذي نحن بحاجة إلى مثله في هذه الأيام، وسنعرض لبعض ذلك الحوار.

يقول الإمام مالك، رحمه الله: واعلم - رحمك الله - بلغني أنك تفتي الناس بأشياء مختلفة لما عليه الناس عندنا وببلدنا الذي نحن فيه، وأنت في أمانتك وفضلك ومنزلتك من أهل بلدك وحاجة من قبلك إليك، حقيق بأن تخاف على نفسك.. فانظر رحمك الله فيما كتبت لك، واعلم أني أرجو أن لا يكون قد دعاني إلى ما كتبت به إليك إلا النصيحة لله وحده والنظر لك، فأنزل كتابي منزلته، فإنك تعلم «أني لم آلك نصحاً».

ويجيب الإمام الليث عن هذه الألفاظ والمعاني الطيبة بمثلها قائلاً: قد أصبت بالذي كتبت به من ذلك، ووقع مني بالموقع الذي تحب.. ثم يقول: وقد بلغنا عنكم شيء من الفتيا، وقد كنت كتبت إليك في بعضها فلم تجبني، فتخـوفت أن تكون استثقلت ذلك فتركت الكتاب إليك في شيء مما أنكرت... ثم يبين الإمام الليث أنه ثابت على رأيه مخالف في ذلك رأي الإمام مالك في العديد من المسائل والآراء دون مجاملة أو مداراة على حساب الحق، ثم يختم كتابه بقوله: وأنا أحب توفيق الله إياك وطول بقائك، لما أرجو للناس في ذلك من المنفعة، وإن نأت الديار فهذه منـزلتك عندي ورأيك فيه فاستيقنه، ولا تترك الكتابة إليّ بخبرك وحالك وحال ولدك وأهلك وحاجة إن كانت لك أو لأحد يوصل بك فإني أسر بذلك. ( )

إن هذه النمـاذج الحوارية الرائعـة تدعو الناس إلى أن يرجعوا إلى أدب الإسلام في الحـوار بدل أن يُنَصّب بعـض الناس أنفسهم أوصياء على الأمة وعقولها وتفكيـرها، فيتهمـون هـذا ويفسّقـون ذاك، ويشيعون الخوف من المشـاركة في الفـكر وإبداء الرأي، حتى توقـف العلماء عن الخوض في كثيـر مما يحتاج إليه الناس من اجتهاد، وأقفلت بسبب ذلك أبواب الحوار بالتي هي أحسن لتفتح بدلاً عنها أبواب الصراع والشغب والمشاجرة.

2- حسن الصمت والإصغاء :

الصمت هو السـكوت بعد الكلام وتقديم الفكرة، أما الإصغاء فهو الاستماع، ولكي يتحـقق حسن الصمت والإصغاء في المحاورة فإن ذلك يتطلب عدة أمور هي: السـكوت، والانتباه، وعدم مقاطعة الطرف الآخر، والتأمـل والربط والمقارنة.. وسنبين أهمية كل من الصمت والإصغاء. ( )

- الصمت:

الصمت بالنسبة للحوار ليس موقفاً سلبياً، وإنما هو إجراء إيجابي يمثل خطوة نحو الكلام الصائب، وفي هذا تقول العرب: «إذا أردت أن تقول الصواب في اللحظة المناسبة فعليك أن تسكت أغلب الوقت»، كما أن الصمت غالباً ما يكون طريقاً إلى العلم والحلم، يقول أحد الحكماء: «إذا جالست العلماء فأنصت لهم، وإذا جالست الجهّال فأنصت لهم أيضاً، فإن في إنصاتك للعلماء زيادة في العلم، وفي إنصاتك للجهّال زيادة في الحلم».

- الإصغاء:

كما أن الإصغاء أدب رفيع وخلق حسن يوصل إلى الفهم والتفهم، فإن من حسن الأدب أن لا تغالب أحداً على كلام، وإذا سئل غيرك فلا تجب عنه، وإذا حدّث بحديث فلا تنازعه إياه ولا تقتحم عليه فيه. وقد جاء في كتاب العقد الفريد لابن عبد ربه، قال أحد الحكماء لابنه: «يا بني: تعلم حسن الاستماع كما تتعلم حسن الحديث، وليعلم الناس أنك أحرص على أن تسمع منك على أن تقول»( ).

ومن هنا يتضح أن حسن الصمت والإصغاء دليل على احترام الآخرين وعدم الانتقاص منهم، وهو أدب رفيع من آداب الحوار والمناظرة.

3- التواضـع:

التواضع أدب من آداب العلماء، وصفة من صفاتهم الكريمة، ولأن الحوار مهنة العلماء وصنعتهم فلا بد أن يتصف المتحاورون بالتواضع الذي يفتح الطريق أمام الطرف (الآخر) ويتيح له المجال لإبداء الرأي والفكرة، يقول الزمخشري: «ألهم الله الهدهد فكافح سليمان بهذا الكلام على ما أوتي من فضل النبوة والحكمة والعلوم الجمة والإحاطة بالمعلومات الكثيرة، ابتلاءً له في علمه، وتنبيهاً له أن في أدنى خلقه وأضعفه من أحاط علماً بما لم يحط به، لتتحاقر إليه نفسه ويتصاغر إليه علمه، ويكون لطفاً له في ترك الإعجاب الذي هو فتنة العلماء، وأعظم بها فتنة».( )

ويتحقق التواضع بعدم الثناء على النفس، وفي هذا يقول الله تعالى: ((فَلاَ تُزَكُّواْ أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ ٱتَّقَىٰ)) (النجم:32)، جاء في إحياء علوم الدين للإمام الغزالي: قيل لحكيم ما الصدق القبيح ؟ قال: ثناء المرء على نفسه، ولا يخلو المناظر من الثناء على نفسه بالقوة والغلبة والتقدم بالفضل على الأقران، ولا ينفك في أثناء المناظرة عن قوله: لست ممن يخفى عليه أمثال هذه الأمور، وأنا المتفنن في العلوم كلها والمستقل بالأصول وحفظ الأحاديث وغير ذلك، مما يتمدّح به تارة على سـبيل الصلف، وتارة للحاجة إلى ترويج كلامه، ومعلوم أن الصلف والتمدّح مذمومان شرعاً وعقلاً( ). فالغزالي يعتبر أن هذه الأساليب نوع من أنواع الكبر والغرور، وهي منافية للتواضع الذي يجب أن يتصف به العلماء وأهل الفكر.

إن من الحكمة في الحوار أن يتجنب المحاور الحديث عن نفسه، أو عن أولاده، أو عن أعماله وإنجازاته، أو عن الدعوات التي تلقاها ورفضها؛ لأن شر المتحدثين من آثر الحديث عن أحواله وأكثر الكلام عن نفسه، فإن فعل ذلك فإنه يفقد شرط الحوار الناجح.

4- احترام شخصية المحاور:

ويتم احترام شخصية المحاور من خلال الأمور التالية( ):

أ- اهتمـام المحاور بالطرف (الآخر) اهتماماً ودياً بالانتباه لكلامه، وعدم اللجـوء إلى تجاهله أو الشـرود والانشـغال عنه بشـخص آخر أو بموضوع آخر.

ب- تحاشي تحقـير الطرف (الآخر)، أو اللجوء إلى النقد الشخصي فيما يخص سيرته الفردية أو العائلية، وتجنب استخدام اليد دفعاً أو تهديداً.

ج- فسح المجال أمام الطرف (الآخر) للدفاع عن وجهة نظره كاملة، والتعامل مع طروحاته بصـدر رحب عن طريق إتاحة الوقت الكافي لعرضها وبيانها.

وبهذا يكون من أدب الحوار احترام آدمية الإنسان وإنسانيته، بغض النظر عن الاختلاف في الرأي والتباين في الفكرة والتباعد في وجهات النظر.

5- الحوار بهدوء وروية:

لأن الانفعال والتوتر النفسي في الحوار يعني بالنتيجة فشل المحاورة وعدم الإفادة منها، فلا داعي للاستمرار فيها، بل إن ضرر الحوار الذي يسوده الانفعال يكون أكثر من نفعه.

وهذا يعني أن يكون الحوار مبنياً على المرونة والتسامح، فقد يكون المحاور على خطأ في الفكرة أو المعلومة التي يطرحها ولكن المرونة والهدوء يعملان على استمرار الحوار واستكمال موضوعاته، أما التوتر والتعصب فهي حالات لاتشجع على الحوار ولا تخدم أهدافه، وإذا جـرى الحوار في ظل تلك الأجواء فمصيره إلى الإخفاق والفشل.

ولتحقيق ذلك ينبغي على المحـاور أن يكون صوته هادئاً دون ارتفاع أو صراخ حتى لا ينقلب الحوار إلى مهاترات كلامية عقيمة( ).

6- الحوار بمودة واحترام :

فقد روى أبو هريرة عن رسـول الله أنه قـال: «الْكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ صَدَقَةٌ»( ) كما أن الذي يأتـي للحـوار والمناظرة إنما يأتي ليقنع أو يقتنع، ولم يأت للاحتراب أو الاعـتداء، وكلما أبدى المحاور مودة أكثر واحتراماً أعمـق للطرف (الآخر) كان اسـتمرار الحـوار أكثر نفعاً وفائدة.

ومن ضوابط الحـوار الذي يقوم على المودة والاحترام أن يتجنب كل منهما السخرية والاستهزاء وكل ما يشعر باحتقار المحاور وازدرائه لصاحبه، أو وصمه بالجهل أو قلة الفهم.

بعد هذا كله نقول: إن مراعاة هذه الآداب والأخلاق أثناء الحوار يضمن حواراً علمياً رزيناً بعـيداً عن المهاترات الكلامية، والألفاظ البذيئة، والأساليب القبيحة التي تؤدي بالنهاية إلى فشل الحوار وانعدام أهدافه.

المبحث الثالث: معوقات الحوار

يتعرض الحوار شأنه شأن أي عمل فكري أو نشاط اجتماعي لمعوقات تصادفه وصعوبات يصنعها بعض المتحاورين، وهذه العوائق والصعوبات قد تكون شخصية وقد تكون موضوعية، وفيما يلي عرض لأبرز تلك المعوقات( ):

المعوقات الشخصية:

ونقصد بها: بعض التصرفات التي تصدر من أحد أطراف الحوار وتؤدي إلى إفقاد الحوار جدواه وفائدته بحيث لا يصل إلى أهدافه المرجوة منه.

وتشمل تلك التصرفات: الثرثرة، والإطناب في الكلام، واللف والدوران، والابتعاد عن الوضوح في العرض، وغياب الأدلة والبراهين، وإخفاء جزء من الحقيقة، والغضب والانفعال، والتعصب الشديد.

وفيما يلي بيان موجز لكل من هذه المعـوقات:

1- الثرثرة:

وتعني الرغبة في الكلام من أجل الكلام دون هدف محدد، والثرثار هو الذي لا يهدف إلا إلى إبراز شخصيته أو فرضها على (الغير)، وكأنه يحكم على الطرف (الآخر) بعقوبة الإصغاء الكامل للكلام الفارغ الذي يشتت الحقيقة ويذهب مذاهب شتى، فمن موضوعات سياسية إلى اجتماعية إلى اقتصادية دون أن يتطلب الحوار هذا الانتقال في الكلام.

ومن سلبيات الثرثرة أن الشخص الذي يدخل في حوار مع آخر ثرثار فإنه يجد نفسه في مأزق لا يحسد عليه، لأن الثرثرة من الناحية الفسيولوجية مرض عقلي لا يخدم الجوانب المعرفية، فإذا استطاع المحاور إيقاف الثرثار عند حده وإبقائه في صلب موضوع المحاورة أمكنه المواصلة معه، أما إذا أخفق في الحد من الثرثرة فإن الحوار معه يصبح غير مجد.

ولذلك فإنه يجب على المحاور أن يقتصر في حديثه على القليل الجميل النافع، فحديث الإنسان ترجمان عقله ودليل فضله، ولا يوجد أفضل من حبس اللسان الذي يعجز عن الصـواب، ولهذا ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «البلاء موكل بالمنطق» ( ) كما ورد في الأثر: «ولا تكونن مكثاراً بالمنطق مهذاراً، إن كثرة المنطق تشـين العلماء»  وفي مناسـبة أخرى يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «... وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ - أَوْ عَلَى مَنَاخِرِهِمْ- إِلا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ »، وفي هذا المعنى يدعو الشاعر العربي إلى وزن الكلام قبل النطق به فيقول:

وزن الكلام إذا نطقت فإنما يبدي عيوب ذوي العيوب المنطق

2- الإطناب في الكلام:

وهو الاهتمام بالصياغة اللفظية للفكرة أو الرأي على حساب المعنى والجوهر، بحيث يولي المحاور عناية خاصة بالبيان والبديع والطباق والجناس، فيهمل أصل الفكرة وجوهرها والمقصود منها، ويروح يلهث وراء شكلياتها.

ومما لا شك فيه، فإن هناك تناسباً حقيقياً في الأفكار والحقائق بين الشكل والمضمون، ولا يمكن أن يختل أي منهما على حساب الآخر، فإذا طغى أحدهما على الآخر فإنه يشكل مساساً بحق الجانب الثاني، وذلك أن للمضمون لباسه الملائم لخصائصه النوعية، كذلك لكل شكل مضمونه النوعي الخاص به.

فإذا حصل أن كان في الحوار من يطنب في الكلام فاعلم أنه يهتم بشكل الفكرة أكثر من اهتمامه بمضمونها وموضوعها، والحقيقة أن الإطناب لا ينصرف فقط لاستخدام الألفاظ الطنانة والمصطلحات الرنانة، وإنما يمتد إلى استخدام الصوت الجهـوري والتعمد بالضغـط على بعض الكلمات، أو تجسيم صوتي للكلمات الأخيرة من الجملة فيبدو الافتعال في الكلام واضحاً.. ونظراً لأن البشر يختلفون في الطباع والسلوك فإن من يدخل عالم الحوار سيجد أمامه أحياناً من يطنب في الكلام لغرض تزويقه وتنميقه، وهو أمر إذا كان يلائم عالم الأدب فإنه لا يلائم العلم.

3- اللف والدوران:

وهو عبارة عن الكلام في أمور جانبية لا علاقة لها بموضوع الحوار، وعدم الدخول في صلب الموضوع وحقيقته قصداً، لغرض التهرب من مواجهة حقائق معينة أو الاعتراف بشيء لابد من الاعتراف به.

وفي هذه الحالة يجب على المحاور إعادة الطرف (الآخر) إلى جادة الصواب والكف عن تضييع الوقت بمثل هذا الأسلوب.

والحقيقة أن مثل هذا النهج لا يخلو من أغراض سـيئة، لأن من يتـّبعه يهدف إلى تحقيق غاية معينة، هي: التعمية عن الحقيـقة، والبعد عن الصواب، أو إيصال معلومات ناقصة تؤثر سلباً على طبيعة الحوار ومنهجيته.

4- عدم الوضوح في العرض:

ويكون ذلك عندما يلجأ المحاور إلى الغموض والإبهام لكي يُشعر الآخرين بأهميته الفكرية أو لزيادة وزنه الثقافي دون وجه حق.

وهذا النهج يشبه كثيراً اللف والدوران من حيث الهدف، ولكنه يختلف عنه من حيث الوسيلة والشكل، لأن من يفتقر إلى العمق في التفكير أو الكثافة في المعلومات هو الذي يلجأ إلى العرض المبهم الذي يثير اللبس والشكوك.

إن الغموض العلمي نوعان، الأول: غموض حقيقي ناتج عن عمق الأفكار وقوة الرأي، من خلال عرض الجوانب غير البارزة والتي تحتاج إلى شيء من التفكير لإدراكها وتصورها، وهذا هو الفكر الفلسفي الذي يعني الغور في دهاليز الفكرة وزواياها المتعددة. والثاني: غموض مفتعل، يلجأ إليه العاجزون عن تقديم المعلومة من أنصاف المتعلمين الذين تخيّـل لهم عقولهم أنهم على درجة كبيرة من العلم والإدراك، فيحاولون امتطاء الإبهام والغموض لتغطية عجزهم وقصورهم العلمي.. وهذا النفر من الباحثين والكتاب يصعب على المحاور الموضوعي والعالم أن يتحاور معهم، لعدم مقدرتهم على عرض أفكارهم بوضوح وجلاء، فالأفكار إما أن تكون محدّدة وجليّة يمكن التعامل معها وإجراء الحوار فيها، وإما أن تكون غامضة غموضاً مفتعلاً، وعندئذ تصبح غير قابلة للحوار العلمي الفعال، وفي هذه الحالة تصبح عائقاً من معوقات الحوار.

5- غياب الأدلة والبراهين:

ونعني بذلك: إطلاق الكلام من دون أدلة وبراهين، ومن غير مستند علمي أو حجة منطقية.

فالكلام عملية سهلة إذا نظرنا إليها كحركة ميكانيكية للسـان، ولكنه إنما يوزن ويقاس في الحقيقة بجوهره، فإذا تضمن رأياً أو فكرة أو وجهة نظر شاذة فإن من حق المحاور (لآخر) أن يطلب منه ما يحوّل ذلك الكلام إلى حقيقة علمية أو واقع مشاهد، فإذا عجز عن ذلك أصبح عائقاً للحوار والمناظرة.

إن الأدلة والبراهين تعد بمثابة ضوابط نظامية للفكرة أو الرأي تحوله من كلام عادي إلى معلومة حقيقية تعتمد على دليل عملي وبرهان منطقي، فإذا غابت تلك البراهين كان من حق المحاور أن يطالب الطرف (الآخر) بما يدعم أفكاره ويؤيد آراءه، لكي تتم المحاورة على أرض صلبة من الحقائق والوقائع.

6- إخفاء الحقيقة:

ويتم ذلك من خلال التستر على جزء من الحقيقة لأغراض التعمية على الطرف (الآخر) والتضبيب عليه.

فقد يعمد بعض المتحاورين إلى عدم ذكر جميع عناصر الموضوع وحيثياته حتى لا ترى الفكرة بوضوح، ولا تدرك عناصرها الداخلية بدقة.

إن هذا الأسلوب له علاقة كبيرة بالنزاهة العلمية والمبدئية الفكرية، فمن لا يملك تلك النزاهة وليس لديه مبدئية فكرية، لا يمكن إقامـة حوار علمي معه؛ لأنه يفتقد أخلاقيات المهنة التي تتطلب الدقة والأمانة العلمية.

إن الكلام في العموميات والتعريج على الأطر العامة يضفي على الحوار نوعاً من الغموض، ويزيد الضبابية فيه، فتضيع الفكرة الصادقة وتختفي المعلومة الدقيقة، ومن هنا فإن إخفاء الحقيقة أو جزء منها يكون عائقاً من معوقات الحوار وعاملاً من عوامل فشله.

7- الغضب والانفعال:

ويعني ذلك: أن يتحلى المحاور برباطة الجأش وهدوء الأعصاب والسيطرة على انفعالاته، لأن الهدوء يعد من الأمور الضرورية لتحقيق مناخ طبيعي للحوار والمناظرة.

إن الحوار العلمي بحاجة قصوى إلى ضبط النفس والتحكم بالأعصاب والهيمنة على الانفعالات، وهذا لن يتحقق في حالة غضب المحاور أو انفعاله دون مبرر، ومن هنا يتحتم على طرفي الحوار أن يوقف حواره ويؤجله إلى وقت آخر حيث تبرد الأعصاب وتهدأ الخواطر وتزول الانفعالات.

8- التعصب الشديد:

ويعد هذا أشد معوقات الحوار وأكثرها ضرراً، ذلك أن المعوقات الأخرى قد تكون مما يمكن معالجتها أو التغلب عليها، أما التعصب فهو آفة فكرية واجتماعية يصعب السيطرة عليها أو معالجتها.

إن الحوار مع المحاور المتعصب لأفكاره والمتمسك برأيه يحوّل جو المناظرة إلى مناخ مشحون بالتفكير العقيم البعيد عن الموضوعية، لأن المتعصب يكون جامداً عند أفكاره، رافضاً لكل فكر نقيض، إذ هو يستخدم مفاهيم غير مقبولة في الأفكار الأخرى، كما أنه يستعمل معايير ومقاييس خاصة به لا تلقى قبولاً إلا في ظل فكر المتعصب ورأيه.

ومن المنطقي أنه إذا أصر المحاور على رأيه فليس هناك مجال لاستمرار الحوار معه، بل يصبح من الضرورة قطعـه أو تأجيله، لأنه لا طائل من الحوار مع هذا الصنف من المحاورين.

لا بد من الإشارة هنا إلى أن التعصب في الحوار إنما ينطلق من موقع الاستبداد السياسي أو الاجتماعي، أو ربما يكون ناتجاً عن الأفكار التي ترفض الديمقراطية كنظام متكامل وفلسفة للحياة، وهذا كله يشكل بالنتيجة معوقات للحوار تؤدي إلى فشله وعدم تحقيق أهدافه.

المعوقات الموضوعية:

وهي عبارة عن الصعوبات والمعوقات التي لا تكون مرتبطة بأحـد أطراف الحوار، وإنما تتعلق بالجـو المحيط بالمحاورة، أو بالمصطلحات والمفاهيم التي يتم استعمالها، أو باختلاف العقليات والأفكار التي يتم تبادلها. وتشمل هذه المعوقات الضوضاء والتشويش، وتباين المفاهيم، واختلاف الأجيال.

1- الضوضاء والتشويش:

ويحصل الضوضاء بسبب قاعة المحاورة أو من قبل الأشخاص القائمين فيها، أو من خلال تدخلات خارجية تؤثر على سير المحاورة، فقد يعمد بعض الحاضرين من الجهلة أو المتنفذين إلى إيقاف عملية الحوار السـياسي أو الاجتماعي لأسباب واهية أو لحجج غير منطقية، وربما تكون قاعة الحوار غير مهيأة بشكل صحيح لإقامة المحاورة فيها بسبب خلل في جهاز المذياع أو أجهزة التصوير، أو بسبب تأثير أجهزة جانبية أخرى كالتكييف مثلاً.. وقد يحصل الضوضاء والتشويش من جراء تحدّث أحد المحاورين مع شخص آخر لا علاقة له بموضوع المحاورة أو الاتصال به هاتفياً، مما يؤثر سلباً على عملية استمرار الحوار.

ومما لا شك فيه، فإن وجود واحد من الأسباب التي ذكرناها أو غيرها من عوامل التشويش والضوضاء يعد معوقاً من معوقات الحوار ويؤثر على العملية الحوارية تأثيراً مباشراً.

2- تباين المفاهيم:

يتطلب الحـوار أن يقوم كل طرف بتحديد مفاهيمه قبل الدخول في صلب المحاورة وجوهرها، لغرض أن يعرف الطرفان أسلوب تفكير بعضهما والغايات الفكرية والعلمية التي يسعى إليها.

إن لكل علم مفاهيمه الخاصة به، ولكل فن مصطلحاته المميزة، ومن هنا فإن كل مصطلح يختلف مضمونه من علم لآخر، يضاف إلى ذلك أن بعض الباحثين يلتزم معاني خاصة ومفاهيم محددة لبعض المصطلحات، لذلك فإن مجموع هذه المداخلات تتطلب أن يقوم كل طرف بتحديد مفاهيمه ومصطلحاته حتى لا يكون التباين في ذلك مؤثراً سلبياً على سير عملية الحوار واستمرارها.

3- اختلاف الأجيال:

إذا اسـتند الحوار إلى أسس موضوعية، وجرى الالتزام فيه بأخلاقيات الحوار العلمي وآدابه، كان ذلك الحوار مفيداً ونافعاً لجميع الأجيال والمستويات الثقافية، حيث يزداد كل جيل منه معرفة ومعلومات وخبرات، أما إذا كان حواراً منعزلاً قائماً على تبادل الاتهامات، وعدم الشعور بالمسؤولية، فإن هذا الحوار لن يتعدى مجال الاتهامات التي سيكون من الصعوبة التغلب عليها وتجاوزها.

إن تباين عقلية الأجيال واختلاف مصالحها وتباعد فلسفاتها نحو الحياة يجعل من الحوار بينها وكأنه معركة بين متحاربين، كل منهم يحاول إخماد أنفاس الآخر والتغلب عليه، وهذا أمر يعني أن الحوار بات في بؤرة خانقة ومناخ سـقيم لا يستطيع بناء تواصل علمي ومنطقي سليم.

الفصل الثاني: أنواع الحوار وأساليبه

اتضح لنا من خلال ما تقدم أن الحوار يتناول معظم جوانب الحياة، ويتطرق إلى موضوعات مختلفة: دينية، أخلاقية، اجتماعية، سـياسية، اقتصادية، فلسفية، كما تبين أن الحوارات تأخذ أشكالاً ونماذج وأساليب متعددة، فأحياناً تكون مشافهة، وأحياناً أخرى تكون مراسلة عن طريق تأليف كتاب أو الرد عليه، وقد تكون تلك الحوارات طويلة أو قصيرة حسب الموضوع الذي يتم بحثه أو المسألة التي يتم معالجتها ونقاشها.

ومن هنا تعددت أشكال الحوار، وتباينت عناصره، واختلفت أنواعه وأساليبه، تبعاً للموضوع المطروح على بساط البحث، فهناك حوار داخلي يفترض فيه المحاور طرفاً آخر من ذاته، وهناك حوار خارجي يبرز فيه الطرف (الآخر) من خلال المشاركة في الطرح والمعالجة والتدليل.

والواقع أنه عندما هممت بتقسيم الحوار وجدت تداخلاً كبيراً بين أنواعه وأساليبه، فهناك من يوزعه على أساس الشكل، وهناك من يوزعه على أساس المضمون، ومنهم من يوزعه باعتبار الأشخاص المشاركين فيه، وبهذا تعددت أنواع الحـوار وكثرت أشـكاله، حيث لا يوجد إطار محدد لتلك الأنواع، ولا تتوفر صياغة منهجية وموضوعية لأساليبه وصيغه وأشكاله، فاجتهدت في وضع تقسيم أحسب أنه يتفق مع مفهوم الحوار وأركانه، ويعمل على حصر أبرز الموضوعات التي ربما تطرح في مجال المناظرة والحوار.

ومن خلال هذه المعطيات يمكن تقسيم الحوار تقسيماً أولياً إلى نوعين:

النوع الأول: الحـوار مع الذات.

النوع الثاني: الحـوار مع (الآخر).

ولكل واحد من هذين النوعين أقسام ونماذج وأشكال تفصيلية، سنحاول الوقوف عندها بشكل من التوضيح والبيان.

ومن هنا فإننا سنقوم بتوزيع هذا الفصل إلى المباحث التالية :

المبحث الأول : الحوار مع الذات، ويشمل :

- الحوار مع النفس الإنسانية.

- الحوار الداخلي «الحوار الوطني».

المبحث الثاني: الحوار مع الآخر «حوار الحضارات».

المبحث الأول : الحوار مع الذات

المقصود بالحوار مع الذات: العمل على مراجعة الإنسان لنفسه وأفكاره، والوقوف معها وقفة تأمل وتصحيح لتحديد مواطن الخلل وإصلاحها، وتحديد مواطن الصحة لتعزيزها ودعمها.

وبهذا، يعد الحوار مع الذات أحد نوعي الحوار العلمي الذي يذكي في نفس المحاور العمل على مراجعة الأفكار، وتصحيح المواقف، من خلال الاعتماد على خلجات النفوس وأحاسيسها الداخلية، مما يؤدي بالنتيجة إلى رقابة الإنسان على نفسه وأفكاره من جهة، أو من خلال محاورة الإنسان لبني جنسه الذين يلتقون معه في قدر كبير من المصالح المشتركة، الأمر الذي يعمل على تفعيل النقد الذاتي البناء مما يصـح أن يطلق عليه «حوار الأنا» أو «حوار الذات» ليكون هذا النوع من الحوار فاتحاً لآفاق واسعة من الحوار مع (الآخر)، ذلك أنه «إن لم تستطع محاورة نفسك فإنك لا تستطيع محاورة الآخرين».

ويمكن لنا أن نحدد نماذج الحوار مع الذات بالأشكال التالية :

1 - المناجاة والدعاء.

2 - اللوم والمعاتبة للذات «النفس اللوامة».

3 - الحوار الداخلي «الحوار الوطني».

المناجاة والدعاء:

يحتاج الإنسان إلى مناجاة الله تعالى لإذكاء الشعور برحمته وعظمته وعنايته، وإخلاص التوجه إليه بالدعاء والاستغفار، وفي هذا يقول الله تعالى: ((وَقَالَ رَبُّكُـمْ ٱدْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ ٱلَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِى سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دٰخِرِينَ)) (غافر:60)

جاء في تفسير ابن كثير أن هذا من فضله تعالى وكرمه، حيث إنه ندب عباده إلى دعائه، وتكفل لهم بالإجابة( )، ويقول الله تعالى: ((قُلْ مَن يُنَجّيكُمْ مّن ظُلُمَـٰتِ ٱلْبَرّ وَٱلْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً لَّئِنْ أَنجَـٰنَا مِنْ هَـٰذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ ٱلشَّـٰكِرِينَ K قُلِ ٱللَّهُ يُنَجّيكُمْ مّنْهَا وَمِن كُلّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنتُمْ تُشْرِكُونَ)) (الأنعام:63-64) وفي تفسير هذه الآية يذكر سيد قطب: أنها تجربة يعرفها كل من وقع في ضيقة، أو رأى المكروبين في لحظة الضيق.. وظلمات البر والبحر كثيرة، فالمتاهة ظلام، والخطر ظلام، والغيب الذي ينتظر الخلق في البر والبحر حجاب، وحيثما وقع الناس في ظلمة لم يجدوا في أنفسهم إلا الله يدعونه متضرعين أو يناجونه صامتين( ).. ويذكر سيد طنطاوي أن لفظ الآية يدل على أنه عند حصول الشدائد يأتي الإنسان بأمور:

أحدها: الدعاء.

وثانيها: التضرع.

وثالثها: الإخلاص بالقلب وهو المراد بقوله (خفية).

ورابعها: الالتزام بالشكر.

والمقصود من ذلك أنه عند اجتماع الأسـباب الموجبة للخوف الشـديد لا يرجع الإنسان إلا إلى الله، وهذا الرجوع يحصل ظاهراً وباطناً، لأن الإنسان في هذه الحالة يعظم إخلاصه في حضرة الله وينقطع رجاؤه عمن سواه. ( )

ومن خلال هذه المعطيات يمكن لنا أن نعتبر الدعاء والمناجاة لوناً من ألوان الحوار مع الذات، حيث إن دعاء الإنسان نابع من حسن الظن بالله تعالى والثقة باستجابته، وفي ذلك يقول الله تعالى: ((ٱدْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ ٱلْمُعْتَدِينَ)) (الأعراف:55) وقد جاء في تفسير القرطبي: أن هذا أمر من الله بالدعاء، وتعبد به، ثم قرن به صفات تحسن معه وهي الخشوع والاستكانة والتضرع ومعنى خفية : أي سراً في النفس ليبعد عن الرياء، وبذلك أثنى على نبيه زكريا عليه السلام إذ قال مخبرا عنه: ((إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُ نِدَاء خَفِيّاً)) (مريم:3)، ونحوه قول النبي : «خَيْرُ الذِّكْرِ الْخَفِيُّ، وَخَيْرُ الرِّزْقِ مَا يَكْفِي»( ) والشريعة مقررة أن السر فيما لم يعترض من أعمال البر أعظم أجراً من الجهر، قال الحسن بن أبي الحسن: لقد أدركنا أقواماً ما كان على الأرض عمل يقدرون على أن يكون سراً فيكون جهراً أبداً، ولقد كان المسلمون يجتهدون في الدعاء فلا يسمع لهم صوت إن هو إلا الهمس بينهم وبين ربهم، وذلك أن الله تعالى يقول: ((ٱدْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً)) (الأعراف:55)، وذكر عبداً صالحاً رضي فعله فقال: ((إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُ نِدَاء خَفِيّاً)) (مريم:3). ( )

وقد ثبت ذلك أيضاً في أحاديث قدسية يرويها رسول الله عن ربه: «يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي وَأَنَا مَعَهُ إِذَا ذَكَرَنِي، فَإِنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي، وَإِنْ ذَكَرَنِي فِي مَلإٍ ذَكَرْتُهُ فِي مَلإٍ خَيْرٍ مِنْهُمْ، وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ بِشِبْرٍ تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعًا، وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ بَاعًا، وَإِنْ أَتَانِي يَمْشِي أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً»( ) وفي هذا دليل على أن الدعاء حوار تعبدي نابع من ذات الإنسان وداخله، ذلك أن مبررات الدعاء ودوافعه ناتجة مما يلي:

1 - حالة الخوف من المجهول.

2 - حالة الشدة والكرب.

3 - حالة الطمع في الثواب والرزق.

4 - حالة الضعف الإنساني.

وفي جميع هذه الحالات يشعر الإنسان بالحاجة إلى مراجعة نفسه، فيعمل على الدخـول معها في حوار يمـكن أن نطلق عليه حوار الذات، أو الحوار مع الذات بحيث تكون الخلجات الداخلية والأحاسيس الذاتية دافعاً أساسياً لتكوين ذلك الحوار الذي ينتهي بالنتيجة إلى طلب العون والمساعدة والنجدة من قوة خارقة فوق قوة البشر تعينه على مساعدته وخروجه من المأزق الذي يقع فيه.

ومما يؤكد هذا المعنى أن الدعاء والمناجاة يذكي في نفس صاحبه جملة من المفاهيم التي تعمل على طمأنينته واستقراره، وهذه المفاهيم هي:

1 - إعداد النفوس من خلال إيقاظ الإيمان فيها، وإشعارها بعظمة معانيه وما يتطلبه من عبادة وصبر.

2 - الاستعانة به على مواقف الشدة والكرب من خلال الصلة بالله تعالى ومناجاته وعبادته، والقيام بها كلما حزبهم أمر أو أصابتهم مصيبة.

3 - الوعد المحتم من الله تعالى للصابرين بالتأييد والتثبيت، وعداً يؤنسهم ويشد عضدهم ويمدهم بطاقات تجدد عزائمهم وتزيدهم قوة أمام الشدائد.

وفي هذا يقول السمرقندي: يستحب للإنسان أن يدعو الله تعالى في كل وقت ويرفع إليه جميع حوائجه، فإن ذلك علامة العبودية، وإن أحب العباد إلى الله تعالى من يسأله، وأبغض العباد إلى الله تعالى من استغنى عنه، وأحب العباد إلى الناس من استغنى عنهم ولم يسألهم شيئاً، وأبغض العباد إلى الناس من يسألهم، وفي هذا يقول الشاعر:

لا تسـألن بني آدم حـاجة وسـل الذي أبوابه لا تحجب

الله يغضب إن تركت سؤاله وبني آدم حين يسأل يغضب( )

إن كل هذه المفاهيم والمعطيات التي أشرنا إليها تثبت بوضوح أن الدعاء والمناجاة يعدان بحق من أبرز أشكال حوار الإنسان مع ذاته، اعتماداً على كونها صادرة من خلجات النفوس وأحاسيس الذات.

اللوم والمعاتبة للذات «النفس اللوامة»:

النفس: هي الجوهر اللطيف الحامل لقوة الحياة والحس والحركة الإرادية، وسماها الحكيم الروح الحيوانية، فهي جوهر مشرق للبدن، فعند الموت ينقطع ضوؤه من ظاهر البدن وباطنه، وأما وقت النوم فينقطع ضوؤه عن ظاهره، فثبت أن القادر الحكيم دبر تعلق جوهر النفس بالبدن على ثلاثة أضرب. إن غلب ضوء النفس على جميع أجزاء البدن ظاهره وباطنه فهو اليقظة، وإن انقطع ضوؤها عن ظاهره فقط فالنوم أو بالكلية فالموت. ( )

وقد شرح الإمام أبو حامد الغزالي النفس فقال: إنه مشترك بين معان، ويتعلق بغرضنا منه معنيان، أحدهما: المعنى الجامع لقوة الغضب والشهوة في الإنسان، وهذا الاستعمال هو الغالب على أهل التصوف، لأنهم يريدون بالنفس الأصل الجامع للصفات المذمومة من الإنسان، فيقولون لابد من مجاهدة النفس وكسرها وإليه الإشارة بقوله : «أعدى عدوك نفسك التي بين جنبيك»( )، أما المعنى الثاني: فهي حقيقة نفس الإنسان وذاته، ولكنها توصف بأوصاف مختلفة بحسب أحوالها، فإن سكنت تحت الأمر وزايلها الاضطراب بسبب معـارضة الشـهوات سميت النفس المطمئنة، قـال تعالى في مثلها: (( يأَيَّتُهَا ٱلنَّفْسُ ٱلْمُطْمَئِنَّةُ a ٱرْجِعِى إِلَىٰ رَبّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً)) (الفجر:27-28) وإذا لم يتم سكونها ولكنها صارت مدافعة للنفس الشهوانية ومعترضة عليها سميت النفس اللوامة، لأنها تلوم صاحبها عند تقصيره في عبادة مولاه، قال الله تعالى: ((وَلاَ أُقْسِمُ بِٱلنَّفْسِ ٱللَّوَّامَةِ)) (القيامة:2) وإن تركت الاعتراض وأذعنت وأطاعت لمقتضى الشهوات ودواعي الشيطان سميت النفس الأمارة بالسوء، قال تعالى حكاية عن قصة يوسف: ((وَمَا أُبَرّىء نَفْسِى إِنَّ ٱلنَّفْسَ لامَّارَةٌ بِٱلسُّوء)) (يوسف:53)، ويجوز أن يقال: المراد بالأمارة بالسوء: هي النفس بالمعنى الأول. ( )

ومن خلال ما تقدم، وبناء على مجمل الآيات القرآنية الواردة في النفس الإنسانية، يمكن تقسيم النفس إلى ثلاثة أقسام، هي:

1 - النفس المطمئنة: وهي التي تنورت بنور القلب حتى انخلعت عن صفاتها الذميمة وتخلقت بأخلاقها الحميدة. ( )

2 - النفس اللوامة: وهي النفس المتيقظة التقية الخائفة المتوجسة التي تحاسب نفسها، وتتلفت حولها، وتتبين حقيقة هواها، وتحذر خداع ذاتها. ( )

3 - النفس الأمارة بالسوء: وهي التي تميل إلى الطبيعة البدنية وتأمر باللذات والشهوات الحسية، وتجذب القلب إلى الجهة السفلية، فهي مأوى الشرور ومنبع الأخلاق الذميمة. ( )

والذي يعنينا من هذه الأقسام الثلاثة هو القسم الثاني الذي يمثل النفس اللوامة، فقد أقسم الله تعالى بها باعتبارها التواقة للمعالي، التي تندم على الشر: لم فعلته ؟ وعلى الخير: لِم لم تستكثر منه؟ فهي لم تزل لائمة وإن اجتهدت في الطاعة، قال الفراء: ليس من نفس برّة ولا فاجرة إلا وهي تلوم نفسها، إن كانت على خير قالت هلا ازددت، وإن كانت على سوء قالت ليتني لم أفعل، وعلى هذا فهو مدح للنفس والقسم بها سائغ حسن. ( )

وقد روي عن الحسن البصري رحمه الله أنه قال: إن المؤمن والله ما تراه إلا يلوم نفسه، ما أردت بكلمتي؟ ما أردت بأكلتي؟ ما أردت بحديث نفسي؟ وإن الفاجر يمضي قدماً ما يعاتب نفسه. ( )

ومن خلال ما تقدم يتضح لنا أن النفس اللوامة تعد صيغة متقدمة من صيغ نقد الذات، حيث يدخل الإنسان في حوار كبير ومتعدد الجوانب مع نفسه عندما يريد الإقدام على عمل معين في جانب الخير أو جانب الشر، ويؤكد هذا المعنى عدد من الأحاديث الواردة عن النبي ، منها ما روي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : «إِنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ لأُمَّتِي مَا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا مَا لَمْ يَتَكَلَّمُوا أَوْ يَعْمَلُوا بِهِ»( )، ومنها ما روى النواس بن سمعان الأنصاري، قال: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ عَنِ الْبِرِّ وَالإِثْمِ فَقَالَ: «الْبِرُّ حُسْنُ الْخُلُقِ وَالإِثْمُ مَا حَاكَ فِي صَدْرِكَ وَكَرِهْتَ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِ النَّاسُ»( ) ومنها مارواه النبي عن ربه في الحديث القدسي: «يقول الله عز وجل: يا ابن آدم إن حدثت نفسك بحسنة فلم تعملها كتبتها لك حسنة، وإن عملتها كتبتها لك عشراً، وإن هممت بسيئة فحجزك عنها هيبتي كتبتها لك حسنة وإن عملتها كتبتها سيئة واحـدة هذا»( ).. ومـنها ما روي عَنْ وَابِصَةَ ابْنِ مَعْبَدٍ، «قَالَ: أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ لا أَدَعَ شَيْئًا مِنَ الْبِرِّ وَالإِثْمِ إِلا سَأَلْتُهُ عَنْهُ وَإِذَا عِنْدَهُ جَمْـعٌ، فَذَهَبْتُ أَتَخَطَّى النَّاسَ فَقَالُوا: إِلَيْكَ يَا وَابِصَةُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ إِلَيْكَ يَا وَابِصَةُ، فَقُلْتُ: أَنَا وَابِصَةُ دَعُونِي أَدْنُو مِنْهُ فَإِنَّهُ مِنْ أَحَبِّ النَّاسِ إِلَيَّ أَنْ أَدْنُوَ مـِنْهُ، فَقَـالَ لِي: ادْنُ يَا وَابِصَةُ، ادْنُ يَا وَابِصَةُ.. فَدَنَوْتُ مِنْهُ حَتَّى مَسَّتْ رُكْبَتِي رُكْبَتَه،ُ فَقَالَ: يَا وَابِصَةُ أُخْبِرُكَ مَا جِئْتَ تَسْأَلُنِي عَنْهُ أَوْ تَسْأَلُنِي؟ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ فَأَخْبِرْنِي، قَالَ: جِئْتَ تَسْأَلُنِي عَنِ الْبِرِّ وَالإِثْمِ.. قُلْتُ: نَعَمْ.. فَجَمَعَ أَصَابِعَهُ الثَّلاثَ فَجَعَلَ يَنْكُتُ بِهَا فِي صَدْرِي وَيَقُولُ: يَا وَابِصَةُ اسْتَفْتِ نَفْسَكَ، الْبِرُّ مَا اطْمَأَنَّ إِلَيْهِ الْقَلْبُ وَاطْمَأَنَّتْ إِلَيْهِ النَّفْسُ، وَالإِثْمُ مَا حَاكَ فِي الْقَلْبِ وَتَرَدَّدَ فِي الصَّدْرِ وَإِنْ أَفْتَاكَ النَّاسُ.. قَالَ سُفْيَانُ: وَأَفْتَوْكَ»( ).

فهذه النصوص من أحاديث النبي تشير إلى أن النفس تحدث ذاتها دون أن تتكلم أو يجري على لسانها حديث: «يا ابن آدم إن حدثت نفسك بحسنة فلم تعملها كتبتها لك حسنة»، كما أنها تدخل في صراع فكري ومبدئي عندما تريد الإقدام على فعل معين فيراودها التردد وعدم الرضا عن بعض التصرفات: «الْبِرُّ مَا اطْمَأَنَّ إِلَيْهِ الْقَلْبُ وَاطْمَأَنَّتْ إِلَيْهِ النَّفْسُ، وَالإِثْمُ مَا حَاكَ فِي الْقَلْبِ وَتَرَدَّدَ فِي الصَّدْرِ» وهذا يعني أن النفس الإنسانية تحاور ذاتها وتدخل معها في صراع فكري قبل أن تقدم أو تحجم عن عمل ما.

إن جميع المعطيات التي أشرنا إليها تثبت بوضوح أن خلجات النفس اللوامة وأحاسيسها واحدة من أشكال الحوار الداخـلي، الذي يعمل على تصحيح المواقف والاستزادة من الخير، وهي بالتالي صيغة من صيغ الحوار مع الذات.

الحوار الداخلي «الحوار الوطني»:

يعد هذا الشكل من الحوار الداخلي أبرز أشكال الحوار مع الذات، ذلك أن التعايش الثقافي والتساكن الحضاري هما اللذان يمهدان للحوار الذي هو من ضرورات الحياة، فالحوار بين أهل البيت الواحد الذين يتفقون في المنهج ويلتقون في المصير المشترك هو الوسيلة المثلى لتحقيق التوازن في الحياة الإنسانية.

ويكتسب الحوار في تراثنا الثقافي مكانة تدل على مجموعة من القيم والمبادئ التي هي جزء أساس من الحضارة والثقافة الإسلامية، ويؤكد هذا المعنى ما ورد في القرآن الكريم من آيات استخدمت لفظ الحوار في أكثر من مناسبة، كما في قولـه تعالى: ((وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لَصَـٰحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ)) (الكهف:34)، ((قَالَ لَهُ صَـٰحِبُهُ وَهُوَ يُحَـٰوِرُهُ)) (الكهف:37) ((قَدْ سَمِعَ ٱللَّهُ قَوْلَ ٱلَّتِى تُجَادِلُكَ فِى زَوْجِهَا وَتَشْتَكِى إِلَى ٱللَّهِ وَٱللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُما)) (المجادلة:1) مما يثبت أن الحوار أصل من الأصول الثابتة للحضارة العربية الإسلامية ينبع من رسالة الإسلام وهديه، ومن طبيعة ثقافته وجوهر حضارته.

لقد اقترن الحوار في مجمل النصوص الشرعية بالعقل والتشريع مما يمنحه معنى سامياً في سياق تحديد مدلوله، ذلك أن الحوار العاقل هو الذي يقوم على أساس راسخ ويهدف إلى غاية نبيلة هي القبول بمبدأ المراجعة الذي يتجاوز الرجوع عن الخطأ إلى مراجعة الموقف برمته إذا اقتضت لوازم الحقيقة هذه المراجعة وصولاً إلى جلاء الحق وتوضيح الحقيقة.

فالحوار قيمة من قيم الحضارة الإسلامية المستندة إلى مبادئ الدين الحنيف وتعاليمه السمحاء، باعتباره تعبيراً عن أبرز سمات الشخصية الإسلامية السوية وهي سمة التسامح والمرونة في التفكير، فالحوار لا يكون إلا بالتي هي أحسن، أي أحسن الوسائل وأقوم الأساليب وأقوم الطرق.

وبهذا المعنى، فإن الحوار قوة وسلاح من أسلحة السجال الثقافي، وهو وسيلة ناجعة من وسائل الدفاع عن كيان الأمة وعقيدتها ومنهجها لغرض تبليغ رسالتها وإظهار حقيقتها وإسماع صوتها وكسب الأنصار لها، وفق الصيغة والمنهج الذي يأمر به القرآن: ((ٱدْعُ إِلِىٰ سَبِيلِ رَبّكَ بِٱلْحِكْمَةِ وَٱلْمَوْعِظَةِ ٱلْحَسَنَةِ وَجَـٰدِلْهُم بِٱلَّتِى هِىَ أَحْسَنُ)) (النحل:125).

وتأسيساً على ما تقدم، فإن الحوار الذي يدعو إليه الإسلام لابد أن يستند إلى الأسس والمنطلقات التالية( ):

1 - الاحترام المتبادل.

2 - الإنصاف والعدل.

3 - نبذ التعصب والكراهية.

ومن هنا فإن الاحترام المتبادل بين الأطراف المتحاورة هو المنطلق الأول الذي يجب أن يرتكز عليه الحوار وفقاً للتوجيهات القرآنية: ((وَلاَ تَسُبُّواْ ٱلَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ فَيَسُبُّواْ ٱللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ)) (الأنعام:108)، وبذلك نضمن أن لا يكون الحوار ساحة للجاج العقيم والتطاول على أقدار الناس والمس بمكانتهم وتبادل الإسـاءة فيما بينهم، حتى لا يفقد الحوار صيغته الحضارية.

وإذا كان الاحترام المتبادل هو المنطلق الأول للحوار فإن الإنصاف والعدل هو المنطلق الثاني، ولنا في التوجيه القرآني قاعدة ثابتة وهداية دائمة، يقول الله تعالى: ((وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَانُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ ٱعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ)) (المائدة:8) فالعدل هو أساس الحوار الهادف، الذي ينفع الناس ويمكث أثره في الأرض ويستدعي الاعتراف بالفضل لذويه، ويعمل على إقرار الحق حتى ولو يكن في صالح جميع الأطراف.

ومن خلال اجتماع الاحترام المتبادل والإنصاف والعدل تتوفر قاعدة ثالثة من قواعد الحوار التي تقوم عليها منطلقات الحوار وهي نبذ التعصب والكراهية، وإننا لنجد أصل هذه القاعدة في قوله تعالى: ((يَنْهَـٰكُمُ ٱللَّهُ عَنِ ٱلَّذِينَ لَمْ يُقَـٰتِلُوكُمْ فِى ٱلدّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مّن دِيَـٰرِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُواْ إِلَيْهِمْ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلْمُقْسِطِينَ)) (الممتحنة:8).

ولا شك أن هذا التوجيه القرآني يرقى من مستوى نبذ التعصب والكراهية إلى مقام أرفع وهو البر بالناس الذي يعني الإحسان بكل دلالاته الأخلاقية ومعاملتهم بالقسط الذي يعني العدل في الطرح والتوجيه: ((وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْنًا )) (البقرة:83)، فالحسن هنا ليس معناه مجرد التلطف بالقول والمجاملة بالخطاب وإنما هو الحسن النافع في الدين والدنيا( ).

وما دمنا نتكلم عن نوع محدد من الحوار وهو الحوار بين أبناء الأمة الواحدة باعتباره حواراً داخلياً وصيغة من صيغ الحوار مع الذات، فإن ذلك يتطلب أن يشمل الحوار كل ما فيه مصلحة الأمة ومنفعة المجتمع الإسلامي، فلا يقتصر الحوار على موضوع دون آخر ولا يعالج مسألة دون أخرى، بل يجب أن يتسع ليتناول جميع الموضوعات ذات الصلة بحياة المجتمع، حاضراً ومستقبلاً، ويغطي كافة القضايا التي ترتبط بجميع نواحي الحياة السياسية والاقتصادية والثقافية والعلمية والتربوية.

إن مما لاشـك فيه أن المجتمعات الإسلامية اليوم بأمس الحاجة إلى أن ينفتح فيها الحوار بشكل يتفق مع معطيات العصر وآفاقه الواسعة، ولن يتحقق ذلك إلا بما يلي( ):

1 - تحصين الذات من خلال إصلاح أحوال الفرد والمجتمع.

2 - استخدام لغة العصر وأسلوبه، ليكون الحوار مدخلاً إلى تحقيق التعامل مع المستجدات بقدرات أكبر وإمكانات أوفر وفرص أكثر.

وبذلك تسود روح الحوار أرجاء العالم العربي والإسلامي، ويتعمق من خلاله ما يمكن أن نطلق عليه «الحوار الوطني» داخل المجتمعات العربية والإسلامية.

إن الأمة اليوم مطالبة بفتح باب الحوار الوطني فيما بينها لتحقيق الوحدة الوطنية من جهة، ولتعزيز المواقف الإيجابية ودعمها، وتصحيح المواقف السلبية ومعالجة الأخطاء من جهة أخرى، ومن هنا ينبغي أن يهدف الحوار الوطني إلى رصد العوامل التي تؤدي إلى تفاقم الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية واحتوائه ومعالجتها بروح مخلصة وعقلية بناءة هادفة، كما أنه ينبغي أن يهدف هذا الحوار إلى تدعيم سبل الاستقرار والتنمية، لتكون تلك الحوارات بمثابة نقطة تحول وانطلاق إلى آفاق جديدة في واقعنا الاجتماعي والسياسي وفي ميادين الحياة كافة.

إن هذا النوع من الحوار الذي يمكن أن نطلق عليه «الحوار الداخلي» هو خطوة أولى نحو الحوار مع الخارج لأنه يقوي النسيج الوطني بين أفراد الأمة، ويكسب المجتمع مناعة للتعامل مع العالم المحيط بنا، ذلك أننا لا يمكن أن نفلح في الحوار مع العالم ما لم نفلح في الحوار مع أنفسنا.

وبناء على ما تقدم، فإنه ينبغي أن يشمل الحوار الداخلي كل موضوع يهم الفرد والمجتمع، سواء كان ثقافياً أو فكرياً أو سياسياً، لأن نجاح الحوار وفاعليته تكمن في شموليته واستيعابه لحاجة العامة، كما أنه يجب أن يرتكز هذا الحوار على الأسس النظرية، التي أشرنا إليها أثناء الحديث عن مقومات الحوار وقواعده وشروطه وآدابه، ذلك أن الحوار على هذا النحو الراقي يعد ضرورة من الضرورات التي تقتضيها عملية انتظام الحياة وتفرضها طبيعة التواصل البشري، فالحوار حركة مطردة وقوة دافعة وطاقة للإبداع يجب أن تعتمد على أسس متينة لضمان استمرارها وديمومتها، وقد كان للإسلام في جميع هذه الأمور رؤية واضحة وموقف مبدئي من خلال التعاليم التي تحث على التعاون من أجل كل ما فيه الخير والحق لتحقيق السعادة لجميع بني البشر.

إن المتتبع لوضع العالم الإسلامي اليوم وما يمر به من أحداث عصيبة ومتنوعة يجد أن أمام أبنائه مهاماً كبيرة لبناء الذات وتصحيح المواقف وازدهار الحياة، ولذلك فهو مدعو الآن أكثر من أي وقت آخر إلى أن يتعامل مع تلك الأحداث بعقلية مرنة وتفكير ناضج يستطيع من خلالها الانفتاح على آفاق العصر ومعطياته المتجددة، والدخول في حوارات جدية وهادفة مع جهات عديدة وعلى مستويات متنوعة ليثبت جدارته وأهليته للمساهمة في صياغة حضارة إنسانية تسود فيها قيم الخير والحق والفضيلة ويبرز فيها مبدأ التعاون والتسامح.

ويمكن لنا أن نحدد الموضوعات التي يجب أن يشملها الحوار الداخلي «الحوار مع الذات» بالمحاور التالية:

1 - الحوار بين الفرق والمذاهب الإسلامية.

2 - الحوار بين العروبة والإسلام.

3 - حوار الشعوب مع القادة والحكام.

الحوار فيما بين الفرق والمذاهب الإسلامية:

تلقت الأمة الإسلامية القرآن الكريم مكتوباً محفوظاً عن رسول الله، وانتشرت رواية الحديث من قبل الصحابة والتابعين في مختلف الأمصار، ورحل العلماء يجوبون الأقطار ويدونون السنة، وكان من نتيجة ذلك أن تكونت المدارس الفقهية، وتحددت أصول ومناهج تلك المذاهـب، واختلف العلماء فيما بينهم حول بعض الأصول الشرعية وتقديم بعضها على بعض، وقد أدى الاختلاف في بعض الأصول إلى الاختلاف في الفروع الفقهية، وكثر الجدل بين علماء هذه المذاهب وعقدت المناظرات والمساجلات، وشجع على هذا كله اهتمام الخـلفاء بالعلوم، وخاصة علم الفقه، ومشـاركتهم في هـذه العلوم ورعايتهم لتـلك المناظرات والمداولات.

وقد ساعد اشتغال بعض العلماء بالفقه الافتراضي في توسيع دائرة الخلاف، ولكن الخلاف كان محكوماً بالدليل والبرهان، فقد كان العلماء في تلك الفترة يرفضون التقليد، وينظرون في الدليل، وينهون عن التعصب، ويأخذون الحق ممن جاء به.

وإذا كان الصحابة والتابعون ومن بعدهم من العلماء المجتهدين قد اختلفوا في العديد من المسائل الفقهية، فإن اختلافهم كان ضرورة علمية وأمراً طبيعياً اقتضاه الفهم والإدراك للنصوص والأدلة الشرعية، وليس اختلاف تقليد وتعصب، أما المقلدون من أتباع المذاهب فإن الواحد منهم يظهر له الدليل فلا يدع مذهبه.

ولم يؤد اختلاف الصحابة والتابعين والأئمة المجتهدين إلى التباغض والتفرق، فكان بعضهم يدعو لبعض، ويصلي بعضهم وراء بعض، أما هؤلاء المقلدون فقد تعادوا وتباغضوا وتركوا الصلاة خلف من يخالفهم في المذهب، وطعن أتباع المذاهب بعضهم في بعض، يقول الشيخ محمد رشيد رضا: «المتعصبون للمذاهب أبوا أن يكون الخلاف رحمة، وتشدد كل منهم في تحتيم تقليد مذهبه، وحرّم على المنتمين إليه أن يقلدوا غيره ولو لحاجة فيها مصلحتهم، وكان من طعن بعضهم في بعض ما هو معروف في كتب التاريخ وغيرها حتى صار بعض المسلمين إذا وجد في بلد يتعصب أهله لمذهب غير مذهبه ينظرون إليه نظرتهم إلى البعير الأجرب بينهم»( ).. ويذكر الشوكاني أن بعض الذين ادعوا العلم من الزيدية كفّر رجلاً صالحاً بسبب رفع الأخير يديه في الدعاء مخالفاً لطريقة الزيدية، ويذكر أن لقب سني في اليمن في عهده كان لقب ذم لأنه استقر في أذهانهم أنه لا يطلق إلا على من يوالي معاوية ويعادي علياً، رضي الله عنهما. ( )

وقد وصل الخلاف والخصام بين مقلدي وأتباع المذاهب إلى درجة خطيرة، فقد عادى بعضهم بعضاً، وصار يسعى بالكيد والأذى لبعضهم الآخر، وقد تسبب ذلك في حدوث الفتن الكثيرة، ويروي التاريخ لنا حوادث متعددة من هذا القبيل، فمن ذلك ما ذكره الحافظ ابن كثير أن عزيز مصر، وهو الملك الأفضل ابن صلاح الدين، كان قد عزم في السنة التي توفي فيها، وهي سنة 595هـ، على إخراج الحنابلة من بلده وأن يكتب إلى بقية إخوته بإخراجهم من البلاد. ( )

ومنها ما ذكره أيضاً من وقوع فتنة كبيرة ببلاد خراسان بسبب وفود فخر الدين الرازي إلى ملك غزنة الذي أكرمه وبنى له مدرسة في هراة، ولكن أهل البلاد الذين كانوا على غير مذهبه أبغضوه وناظروه وانتهت المناظرة بالسب والشتم حتى أثاروا الناس عليه، فأمر الملك بإخراج الرازي من بلاده. ( )

ومنها ما روي عن الخلاف الشديد بين الحنفية والشافعية حتى كان يؤول الأمر في بعض الأحيان إلى خراب البلاد، فقد ذكر ياقوت الحموي عند الكلام على مدينة أصفهان بعد أن ذكر مجدها القديم: «وقد فشا فيها الخراب في نواحيها لكثرة الفتن والتعصب بين الشافعية والحنفية والحروب المتصلة بين الحزبين، فكلـما ظهرت طـائفة نهبت محلة الأخرى وأحرقـتها وخربتها، ولا يأخذهم في ذلك إلاًّ ولا ذمة، وكذلك الأمر في رساتيقها وقراها».( )

لقد أدى التعصب المذهبي المقيت إلى زرع الخلاف والشقاق بين أبناء الأمة وتفتيت وحدتها وتقسيمها إلى أمم متخاصمة تتقاتل وتتنازع، فاستغل العدو المتربص بها هذا الانقسام والفوضى، فبسط سيطرته عليها وأمعن في إذلالها وقهرها، وكان السبب المباشر في كل هذا انعدام المنهجية الصحيحة للحـوار بين أبناء الأمة الواحدة، ذلك أن الحـوار بين الفرق والمذاهب الإسلامية لا يكاد يبدأ جدالاً بالتي هي أحسن حتى تتسلل إليه الحدة والشدة، وتستولي عليه روح الضيق بالمخالفين والمسارعة إلى اتهامهم في أفكارهم ونياتهم وأخذهم بالشـبهة وسـوء الظن، فقد تصور الكثير من العاملين في حقل البحوث الفقهية من أبناء الأمة أن الحقيقة لا يمكن أن تتعدد وجوهها اعتماداً على التفسير الحرفي للنصوص وعزلها عن سياقها المقصود وعدم ربط الأحكام بعللها وغاياتها.

إن التأمل الهادئ والتأني في التعامل مع النصوص الشرعية والجمع بينها وبين نصوص أخرى عديدة يثبت بما لا يقبل الشك الدعوة إلى النظر العقلي والاجتهاد في البحث عن الحق والصواب، مما يؤدي إلى موقف مختلف تماماً عن التنازع والشقاق، حيث يتسع صدر «الإسلام» لاختلاف الآراء وتعدد وجهات النظر ولا يضيق عن الاجتهاد حتى ولو انتهى صاحبه إلى الخطأ ومجانبة الصواب.

وبناء على ذلك: فإن أطراف الحوار حول قضايا الإسلام وأحكامه يجب عليهم أن يدركوا أن وحدة «الحقيقة» لا تنفي تعدد زواياها واختلاف العقول في تفسيرها، ومن هنا سجل التاريخ اختلاف الصحابة في أمور عديدة وردت فيها نصوص قرآنية وأحاديث نبوية، كما سجل التاريخ اختلاف التابعين وتابعيهم والأئمة المجتهدين من أصحاب المذاهب من بعدهم في الكثير من المسائل الفقهية دون نزاع بينهم أو إيغار للصدور أو جرح للكرامة، فالقاعدة عندهم: «أن الاختلاف في الرأي لا يفسد للود قضية»، والأصل الذي يسيرون عليه يثبت أن: «مذهبنا راجح يحتمل الخطأ ومذهب غيرنا مرجوح يحتمل الصواب».

إن من الضروري للحوار فيما بين المذاهب والفرق الإسلامية وضع الحدود بين ما هو «وحي» لايصح تجاوزه ولا يكون لمؤمن ولا مؤمنة بعده الخيرة من أمرهم، وبين ما هو من أمور الدنيا أو من أمور العادات بحيث يستطيع المتحاورون في شأنه أن ينطلقوا في حوارهم باحثين عما يحقق للناس مصالحهم وحاجاتهم دون أن يواجهوا عند كل منعطف بأنهم مارقون من الإسلام، أو مستخفون بأحكامه، أو هادمون لأركانه.

الحوار الديني المنضبط:

إن الحوار بين المذاهب والفرق الإسلامية اليوم إذا أردنا له النجاح في مسيرته والوصول إلى أهدافه، يجب أن يعتمد على جملة من الحقائق هي:

1 - إن تطبيق أحكام الإسلام في عصرنا يحتاج إلى اجتهاد عقلي واسع، ذلك أن النصوص الشرعية - قرآناً وسنة - محدودة ومتناهية، والحوادث متجددة غير متناهية تبعاً لحركة الزمن وتطور أنماطه، ولا بد للتشريع أن يساير حركة الزمن وتطوره ليتحقق من خلال ذلك خلود الإسلام وصلاحية شريعته لكل زمان ومكان، وقد ثبت بالنص اعتماد الاجتهاد سبيلاً للوصول إلى الحكم الشرعي عند عدم وجود النص، وذلك في حديث معاذ بن جبل، رضي الله عنه، حين ولاه النبي قضاء اليمن وسأله عما يفعل إذا عرض له قضاء، وافترض عليه أموراً ربما لا يجد لها حلاً في كتاب الله وسنة رسوله، فقد أقره النبي على اجتهاده وأعلن أن ذلك مسلكاً يرضى عنه الله ورسوله، فقد روي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ بَعَثَ مُعَاذًا إِلَى الْيَمَنِ فَقَالَ: كَيْفَ تَقْضِي، فَقَالَ: أَقْضِي بِمَا فِي كِتَابِ اللَّهِ، قَالَ: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي كِتَابِ اللَّهِ، قَالَ: فَبِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ قَالَ: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ ، قَالَ: أَجْتَهِدُ رَأْيِي، قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَفَّقَ رَسُولَ رَسُولِ اللَّهِ .( ) ويؤيد ذلك ما تواتر من اجتهاد النبي واجتهادات الصحابة في تفسـير النصـوص عند ورودها والبحـث عن الحكم عندما لا يسعفهم النص، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ قَالَ النَّبِيُّ لَنَا لَمَّا رَجَعَ مِنَ الأَحْزَابِ: لا يُصَلِّيَنَّ أَحَدٌ الْعَصْرَ إِلا فِي بَنِي قُرَيْظَةَ، فَأَدْرَكَ بَعْضَهُمُ الْعَصْرُ فِي الطَّرِيقِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ لا نُصَلِّي حَتَّى نَأْتِيَهَا وَقَالَ بَعْضُهُمْ بَلْ نُصَلِّي لَمْ يُرَدْ مِنَّا ذَلِكَ فَذُكِرَ لِلنَّبِيِّ فَلَمْ يُعَنِّفْ وَاحِدًا مِنْهُمْ. ( )

وفي هذا دليل واضح على أن النبي أقر اجتهاد صحـابته الكرام ولم يعنف أحداً منهم على فهمه وإدراكه، ليكون التشريع ملبياً لمستجدات الأحداث غير المحدودة وغير المتناهية.

2 - إن الإسلام نظام حياة تدور أحكامه مع العلل، وترتبط تشريعاته بالمقاصد المنضبطة التي تدركها العقول السليمة ولا تنفصل عنها، ولو انفصلت لذهبت الرحمة وسقط العدل واستحال التكليف « فإن الشـريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها، ورحمة كلها، ومصالح كلها، وحكمة كلها، فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور وعن الرحمة إلى ضدها وعن المصلحة إلى المفسـدة وعن الحكمة إلى العبث فليست من الشـريعة وإن أدخلت فيها بالتأويل، فالشـريعة عدل الله بين عباده، ورحمته بين خلقه، وظله في أرضه، وحكمته الدالة عليه وعلى صدق رسوله أتم دلالة وأصدقها»( ).. والقول بغير هذا يتعارض مع توجيه الشريعة في ربط الأحكام بمصالح الناس وتيسير القرآن للذكر ليعملوا به، ومن هنا فإن الإسلام الذي يجب أن نقدمه للناس هو إسلام التفكير الناضج والاجتهاد المرن الذي يبحث عن العلل والمقاصد ولا يقف عند حرفية النصوص إلا حيث يتطلب الأمر ذلك في العبادات التي لا يمكن للعقل البشري أن يغور في عللها وأحكامها. ( )

ومن هنا يمكن للعقل البشري أن يتعامل مع الأحكام الشرعية المرتبطة بالعلل والمقاصد، بحيث يكون الحوار العلمي وسيلة لفهم النصوص الشرعية وتفسيرها والوصول إلى مراد الله تعالى منها.

3 - إن الإسلام لا يضع أتباعه في صراع مع الحياة، لأن المسلم الحق هو الذي لا يكره الناس والدنيا، ولا يقضي عمره في معركة وهمية مع طبيعتها ونواميسها، فهو يعتقد أن الحياة صنع الله تعالى الذي أحسن كل شيء خلقه ثم هدى، وقد خلق الله له ما فيها جميعاً، ثم دعاه إلى تعميرها، كما قال تعالى: ((وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَـٰئِكَةِ إِنّي جَاعِلٌ فِى ٱلارْضِ خَلِيفَةً)) (البقرة:30)، وقولـه تعالـى: ((هُوَ أَنشَأَكُمْ مّنَ ٱلاْرْضِ وَٱسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا)) (هود:61)، ولا يجوز أن يعيش المسلم فيها منغصاً معقداً محزوناً تملؤه الشكوك والريب والظن السيئ بالنفس وبالناس وبالحياة من حوله، وإنما عليه أن يتمثل بقول النبي : «من كان هيناً ليناً سهلاً قريباً حرّمه الله على النار»( ).

إن موقف المسلم من الحياة اليوم قضية مهمة، فلا يصح أن يعزل المسلم نفسه عن مشكلات الحياة المعاصرة، ولا يقف موقفاً انعزالياً يتسم بالهروب من الواقع والفرار من المشكلات المستجدة، بل يجب عليه أن يتفاعل معها ويعيش ظروفها بروح مرنة وعقلية ناضجة معتمدة على نور المعرفة وإشـراقات السماحة، كما يجب عليه أن يدخل في حوار علمي مع الطروحات التي يواجهها في جميع مجالات حياته.

إن الملاحظ على أتباع المذاهب والفرق الإسلامية في هذه الأيام أنهم يتعاملون بسـلبية بعضهم مع بعضهم الآخر، وهذا لاشـك موقف انهزامي لا يحل مشكلة ولا يوصل إلى نتيجة ولا يحقق هدفاً، ولذلك فإننا نوجه دعوة مخلصة إلى كل مسلم أيًّا كان مذهبه وإلى أي مدرسة فقهية ينتمي أن يوطن نفسه للحوار والمناقشة مع الأطراف الأخرى لنبدأ سوية رحلة «الحوار مع الذات» فالاخـتلاف في الرأي لا يفسـد للود قضية، ومن لا يستطيع محاورة نفسه لا يستطيع أن يحاور الآخرين، ولتكن قاعدة الحوار فيما بينهم: «مذهبنا راجح يحتمل الخطأ ومذهب غيرنا مرجوح يحتمل الصواب» وليحيا الجميع في ظل القاعدة الذهبية للاجتهاد الإسلامي التي روي مضمونها عن رسول الله بقوله: « إِذَا حَكَمَ الْحَاكِمُ فَاجْتَهَدَ فَأَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ وَإِذَا اجْتَهَدَ فَأَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ»( ).

سلبيات الحوار الديني:

قلنا فيما مضى : إن السـبب المباشر في التنازع والشقاق بين المذاهب والفرق الإسلامية راجع بالدرجة الأساس إلى عدم اعتماد الحوار الحق فيما بينهم، وربما يكون السبب كامناً في عدم قدرتهم على إدارة الحوار بعقلية مرنة وروح صادقة تهدف الوصول إلى الحقيقة، وإذا كان النزاع والخلاف بين أتباع المذاهب في فترة زمنية معينة راجعاً إلى التعصب المذهبي، فإن هذا التعصب المقيت لا يزال يلقي بظلاله على مسيرة المذاهب والفرق الإسلامية، مما يشكل عائقاً كبيراً من معوقات الحوار بين أتباع تلك المذاهب، إضافة إلى ذلك التعصب، فإن هناك جملة من السلبيات التي تقف بوجه الحوار الديني بين أتباع المذاهب والفرق الإسلامية المعاصرة، لعل من أبرزها: ( )

1 - المنهج الحُرّ في تفسير النصوص الشرعية :

ويعتمد هذا المنهج على انتقاء آيات وأحاديث معينة والتمسك بحرفية النصوص من غير التفات للمقاصد العامة للتشريع، ومن دون اعتبار لأسباب النزول ولا معرفة بأصول الاستدلال اللغوي والفقهي.

2 - أخذ المعرفة الدينية عن طريق السماع :

فقد عمد بعض أتباع المذاهب والفرق الإسلامية إلى أخذ المعلومة الشرعية عن طريق الخطباء والوعاظ، والاسـتخفاف بآراء الأئمة المجـتهدين بغير علم ولا هدى، وادعى بعضهم أنهم يأخذون الحكم الشرعي من القرآن أو من السنة مباشرة، ولاحاجة لهم للاستئناس بآراء علماء الأمة وتوجيهاتهم على امتداد تاريخ الإسلام، وكان من نتيجة ذلك أن تورط عدد منهم في إصدار فتاوى تخالف صريح المعقول والمنقول وتخالف الشريعة مخالفة لا تحتمل التأويل.

3 - العزلة عن المجتمع:

فقد نادت بعض الجماعات الإسلامية بفكرة العزلة عن الحياة العامة، وتكوين مجتمع خاص بهم تطبق فيه مبادئ الإسلام وأحكامه، مبررين ذلك بأن الجماعة الإسلامية تعيش هذه الأيام «مرحلة العهد المكي» حيث كان المسلمون مستضعفين لم تقو شوكتهم بعد، ولا شك أن هذه الدعوة إلى العزلة وعدم مشاركة الأمة في حياتها العامة هي من أخطر السلبيات التي تواجه الحوار الديني فيما بين أتباع المذاهب والفرق الإسلامية بعضهم مع بعضهم الآخر، وفيما بينهم من جهة وبين أصحاب الأفكار التحررية من جهة أخرى.

ويكمن العلاج الدقيق لهذه السلبيات بالعمل على تصحيح الأفكار وتقويم العـوج المستشري في فهم الإسلام من خلال طرح المجاملات جانباً وتهيئة النفوس لقبول الحق وطرح رداء التعصب المذهبي وإزالة الغبار عن روح التشريع الإسلامي ومقاصده العامة.

إن الحوار الديني مطالب اليوم بترتيب الأولويات الشرعية في إطارعمل إسلامي يسعى لتحقيق المصلحة العامة، بغض النظر عن المذهب أو الجماعة التي ينتمي إليها، ليكون الهدف الأساس من ذلك رصد مشاكل الأمة ودراستها بعقلية مرنة وتقديم الحلول المناسبة لها.

ويمـكن لنا أن نحـدد أبرز الأولويات التي يطالب بـها الحوار الديني بما يلي: ( )

1- المشاركة في تحقيق الاستقلال السياسي والاقتصادي :

إن الجماعات الإسلامية على اختلاف مذاهبها وفرقها مطالبة أن تشارك مع القوى السياسية والاجتماعية الأخرى في دفع أخطار التبعية السياسية والاقتصادية للعرب والمسلمين، ولابد من وضع هذا الأمر في المرتبة الأولى من سلم الأولويات، لأن الأمة التي لا تملك استقلالها السياسي وإرادتها الاقتصادية لا يمكن لها أن تمارس واجباتها الدينية على الوجه الأكمل، ولا يمكن لها أن تساهم في إصلاح أوضاعها الداخلية مادامت تخضع لقوى خارجية في رسم سياستها وتحديد طبيعة علاقتها مع الآخرين.

2 - تشخيص أزمة الإنسان المعاصر:

فالفكر الإسـلامي يمتاز عن الأفكار الأخرى بما يحمله من وسائل فعالة في معالجة الآثار السيئة للثورة العلمية والتقنية المعاصرة، ويجب على الجماعات الإسلامية أن تلفت أنظار الناس إلى هذه الميزة بدل أن تشغل نفسها في الوقوع بالخلافات والنزاعات المقيتة التي تجر الويل عليها وعلى علاقات الحوار بينها، ومن هنا يجب على المـذاهب الإسـلامية تحديد الوعي لحقيقة «العالمية» كما يفهمها الإسلام، بحيث لا يكون الولاء والانتماء الوطني والإقليمي والقومي عائقاً من عوائق تطبيق الحكم الشرعي بصيغته العالمية خاصة بعد أن تحول العالم اليوم إلى «قرية صغيرة» نتيجة للثورات العلمية والتقنية في ميدان تبادل المعلومات وتطور وسائل الاتصال.

إن إطلاق قوى العقل ونشاطها الهائل قد كرس مفهوم الحضارة المادية النفعية بدلاً من مفهوم الحضارة الإنسانية، فأصبح الإنسان المعاصر يجتهد في حيازة ألوان وأشكال المكاسب المادية، في مقابل فتور وتراجع حرارة العلاقة مع الآخرين المبنية على الجوانب الإنسانية، ومن هنا فإن الأمة الإسلامية مطالبة بأن يكون لها إسـهام حقيقي مبدع وفعال في علاج هذه الآثار المدمرة من خلال فهم مبادئ الإسـلام وتجديد عرضه بأسـلوب العصر، وتجاوز عدد من التفسـيرات التي فرضتها ظروف سابقة للأمة، ولم تعد اليوم صالحة لمعالجة ما يحمله هذا العصر من تحديات هائلة تعترض مسيرة الأمة وكيانها الثقافي والقيمي والأخلاقي.

وبناء على هذه المعطيات يجب أن يكون الحوار بين المذاهب والفرق الإسلامية موجهاً نحو المشـاكل الكبيرة التي تواجه الأمة، بعيداً عن المنازعات الفقهية التفصيلية التي ينبغي أن تكون ضمن إطارها الفني التخصصي المعتمد على القاعدة الفقهية التي تقول: «مذهبنا راجح يحتمل الخطأ ومذهب غيرنا مرجوح يحتمل الصواب» والمتمثل في صيغة وجهات النظر العلمية المتعددة بناء على أن الاختلاف في الرأي لا يفسد للود قضية، واسـتناداً إلى قول النبي : « إِذَا حَكَمَ الْحَاكِمُ فَاجْتَهَدَ فَأَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ وَإِذَا اجْتَهَدَ فَأَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ»( ) وبذلك نضمن حواراً هادفاً يسعى لوحدة كلمة الأمة ويحفظ لكل مذهب خصوصـيته ولكل فرقة اسـتقلالها بما لا يتعارض مع شمولية البناء الحضاري للأمة ومصالحها العامة.

الحوار بين العروبة والإسلام:

الحـوار حول العروبة والإسلام حوار قديم في تاريخ الفكر العربي الإسلامي ويمثل جبهة من جبهات الصراع الداخلي في مجتمعاتنا وبلداننا العربية والإسلامية، وإذا أردنا أن نقف على ملامح هذا النوع من الحوار فإن ذلك يتطلب تحديد مفهوم عدد من الألفاظ والمصطلحات؛ لأن التجربة أثبتت أن التساهل في استعمال المصطلحات يفتح الأبواب لمعارك وهمية وصراعات بين فرقاء غير مختلفين، ولأنه لا يمكن الوقوف على شـكل العلاقة وطبيعة الحوار لأي جانب من جوانب المعرفة إلا بعد تحديد المفاهيم، فالحكم على الشيء فرع عن تصوره، ومن هنا فإننا سنحاول تحديد مفهوم كل من العروبة والإسلام لنستطيع من خلال ذلك الوصول إلى تحديد شكل العلاقة وطبيعة الحوار بينهما.

فالعروبة: «تعبير عن الانتماء إلى أمة لها مقومات مشتركة أبرزها اللغة والتاريخ والمصير المشترك، وهي بـهذا المفهوم ليس مـذهباً ولا فلسـفة ولا فكراً، وإنما هي واقعة اجتماعية ونفسية ذات جذور تاريخية.. ومن هنا فإن انتماء الجزائري أو المصري أو السوري أو البحريني أو العراقي إلى الأمة العربية لا يمثل انتماءً لمذهب سياسي أو صياغة فكرية معينة وإنما هو جزء من ارتباط عصبي بالمجتمع العربي. ( )

أما الإسلام: فهو دين الأنبياء والمرسلين من لدن آدم عليه السلام وحتى رسالة محمد الذي ختم الله به الرسالات استناداً إلى قوله تعالى: ((إِنَّ الدّينَ عِندَ ٱللَّهِ ٱلإِسْلَـٰمُ)) (آل عمران:19) وهو بهذا دعوة شاملة ونظام متكامل يقيم حياة الناس على أساس من الأصول العقائدية والفكرية والتنظيمية التي جاء بها رسول الله ، خاتماً للأديان، مفصلاً إياها عن طريق الوحي قرآناً يتلى ويعمل به، وسنة تروى وتتبع.

ومن البديهي القول: إن الله تعالى اختار العرب لحمل رسالة الإسلام بناء على ما يتمتعون به من المواهب والقدرات العقلية التي تحتاجها عملية حمل الرسالة وتأديتها، ولعل أبرز الأدلة على قوة العقلية العربية تلك اللغة التي جعلها الله وعاءً للقرآن الكريم مما يدل على نضوج فكري ورقي عقلي، أهّلها لاحتواء أسـاليب القرآن الكريم وأغراضه المتعددة من تشريعات ونظم وقصص وأمثال وغيرها( )، الأمر الذي جعلهم مؤهلين للإيمان به وفهم أحكامه ومستعدين للدفاع عنه وقادرين على نشره، كما أثبتت الوقائع التاريخية اللاحقة لظهوره.

ولهذه الأسباب حق للعرب أن يفخروا بانتمائهم الإسلامي، فالعربية لسان الإسلام ووعاء ثقافته ولغة كتابه وسنته، والعرب هم عصبة الإسلام، وهم الذين بعث فيهم رسول الله من أنفسهم يتلو عليهم آيات الله ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة، لينطلقوا في الأمم دعاة ومعلمين، وأرض العرب هي أرض المقدسات الإسلامية «المسجد الحرام» قبلة أهل الإسلام، نحو شطره يوجهون عبادتهم وإليه يحجون، وبه يطوفون، ومن حوله يسعون ويقفون، وفيها أيضاً مسجد النبي مركز العلم الأول للأمة ومثوى رفاته الشريف، وفيها كذلك المسجد الأقصى الذي بارك الله حوله. ( )

ومن هنا كانت العروبة وثيقة الصلة بالإسلام، كما أن الإسلام موصول الرحم بالعروبة، فهو الذي علّم العرب من جهالة، وهداهم من ضلالة، وأخرجهم من ظلمات الشرك والجاهلية إلى نور الإسلام والتوحيد، وهو الذي وحّدهم بعد فرقة وجمعهم من شتات القبيلة، وأكرمهم بنعمة الأخوة وألف بين قلوبهم فأصبحوا بنعمة الله إخواناً، وجعل منهم أمة تواجه أعتى أمم الأرض بدينها الذي أصبحت تباهي به وتعتز بقيمه وتنتصر له.( )

إن تعدد الشعوب في الأمة المسلمة لا يجعل منها مشكلة إذا كان الإسلام هو الموجِّه لها والحاكم لتصرفاتها، فالإسلام يذيب الفوارق بين مختلف الشعوب التي تدين به، ويصهر الجميع في بوتقته، ليصبح الاختلاف عندئذ اختلاف تنوع وإثراء لا اختلاف تضاد وصراع، باعتبار أن ولاء الجميع لله ولرسوله وللمؤمنين، وأن تباين وجهات النظر بين شعوب الأمة لا يلغي اعتزازهم بهذا الدين الذي أكرمهم الله به وارتضاه لهم ((ٱلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ ٱلأسْلاَمَ دِيناً)) (المائدة:3).

وبناء على هذه المعطيات، التي أشرنا إليها، فإنه لا تناقض بين الوطنية والقومية والإسـلامية والعالمية إذا وضع كل منها في موضعه الصحيح، وفق الفهم والمنهج الإسلامي، إنما ترفض الوطنية والقومية إذا جعلناها بديلاً عن الإسـلام أو طعّمناها بعناصـر غريبة عـنها معادية للإسلام أو مناقضة لعقيدته وشريعته مثل «العلمانية» أو «المادية» التي تتضمن محتوى أيدلوجياً بعيداً عن فكر الإسلام ونظرته للحياة. ( )

إن المسـلم الحق هو الوطني المخلص، وهو القومي المناضل، وهو العالمي الأصيل، وقد أثبت التاريخ المعاصر أن أبطـال الوطـنية في بلادنا العـربية والإسلامية كانوا إسلاميين أمثال الأمير عبد القادر في الجزائر، وأحمد عرابي في مصر، وعمر المختار في ليبيا، وعبد الكريم الخطابي في المغرب، وأمين الحسيني في فلسطين، والشيخ ضاري المحمود في العراق، ومحمد ناصر في أندونيسيا وأبو الكلام آزاد في الهند، وأبو الأعلى المودودي في باكستان، وغيرهم الكثير، مما يثبت أنه لا يوجد تقاطع كبير بين الخصوصية القومية أو الوطنية وبين الالتقاء تحت مظلة الإسلام باعتباره الوطن الأكبر لأبناء الأمة.

واقع العروبة والإسلام وضرورة الحوار:

بعد أن حددنا مفهوم العروبة والإسلام، كلاً على حدة، وأشرنا إلى شكل العلاقة التي ينبغي أن تكون بينهما، وأن الانتماء إلى الإسلام لا يلغي الانتماء إلى الأوطان والأقوام، نشير هنا إلى واقع العلاقة وضرورة الحوار بينهما فنقول:

يحاول بعض حملة الدعوة الإسلامية التقليل من شأن العرب والعروبة من خلال إظهار أثر الإسلام وقيمته في حياة العرب والمسلمين والناس أجمعين، حتى أن بعض هؤلاء يحاول إنكار عروبته والتقليل من شأنها فيتساءلون مستغربين: ومن هم العرب ؟

وفي جانب آخر يقف فريق من دعاة القومية العربية محاولين التقليل من شأن الإسلام والمسلمين، من خلال إظهار أثر العرب وفضلهم على الحضارة العالمية ويحاول هؤلاء إنكار الإسلام أو التنكر له زاعمين أنه ليس سوى صفحة ماضية من حياة العرب، وإذا كان قد صلح للسابقين من أبناء الأمة فإنه لا يصلح للاحقين في عصر العلم والتكنولوجيا، ولذلك فهم يصفونه بالرجعية ويصفون أتباعه بالرجعيين والمتخلفين عن ركب الحضارة.

إن نظرة متفحصة وهادئة لواقع العلاقة بين الإسلام والعروبة تثبت أن الخطر على الإسلام لا يتأتى من العروبة ولا من دعاتها المستنيرين، ولكنه يأتي من أعداء العروبة ومن دعاتها الذين لم يعرفوا أحكام الإسلام ونظمه وقوانينه فجحدوا فضله على العرب، كما أن الخطر على العروبة لا يأتي من الإسلام ولا من المسلمين المستنيرين، وإنما يأتي من الذين يحاولون تشويه الإسلام والعروبة على السواء، ويسعون لتعميق الخلافات بين الأخـوة بداعي الخوف والحذر، وكذلك يأتي من بعض الجهلة الذين لم يصلوا إلى اكتشاف العلاقة التكاملية بين الإسلام والعروبة، وليس أظلم ممن يصدر أحكاماً دون استيفاء ودراسة جميع المعطيات والأدلة والبراهين.

ومن هنا فإننا نقدم دعوة مخلصة إلى الطرفين، فليقبل دعاة القومية والعروبة الذين لا يعرفون من الإسلام سوى اسمه إلى هذا الدين يتدارسونه ويتعرفون عليه، وليقبل دعاة الإسلام على العروبة يتدارسونها ويتعرفون عليها، وعندها لا يبقى في ميدان الجدل والخصومة في معركة العلاقة بين الإسلام والعروبة سوىالأعداء الحقيقيين والجهلة المتعصبين، فالإسلام والعروبة منذ ظهور الدعوة الإسلامية وجهان لعملة واحدة أو صفحتان لورقة واحدة يكمل كلاهما الآخر( )، ومن هنا أصبح الناس لا يفرقون بين العروبة والإسلام، ولا بين العرب والمسلمين، وإذا قال الخطيب في المسجد: اللهم انصر العرب، فهي تساوي اللهم انصر المسلمين، والعكس صحيح أيضاً، وقد عبر عن هذا التلاقي والتوحد الشاعر العربي المسلم محمود غنيم، رحمه الله، بقوله( ):

إن العـروبة لفظ إن نطقت به فالشرق والضاد والإسلام معناه

ومن هنا فإن وحدة العرب ضمن نطاق التضامن الإسلامي كفيلة بإعادة ازدهار الحضارة العربية الإسلامية وإحياء القيم العليا التي قامت عليها، كما أنه سيمكـّن العرب والمسلمين من الظهور كتلة قوية في عالمنا المعاصر، تستطيع من خلالها التفاعل مع شعوب العالم الأخرى وفق أرضية صلبة لتسهم في تطوير التعاون الدولي، ولتعمل على إرساء نظام اقتصادي جديد يعالج الفجوة الكبيرة القائمة بين الدول الغنية والفقيرة، وسيكون لحركة الإحياء الروحي الذي يمتاز به الإسلام أثر كبير على صعيد بناء شخصية الإنسان المعاصر الذي يجتهد في البحث عن بعده الروحي في تربية النفس الإنسانية وتزكيتها، وصولاً إلى إنسان العصر المتوازن الذي عجزت الحضارة الغربية الحديثة عن الوصول إليه رغم ما وصلت إليه من حضارة وتقدم، وبهذا ينجح الفكر العربي الإسلامي في طرح إسـلام العصر الذي يجسد في مفهومه الجمع بين الأصالة والمعاصرة. ( )

وبناء على ما تقدم نقول : إن إطار الحـوار الذي نريد تحقـيقه بين العروبة والإسلام يفيد أن العروبة واقع تاريخي، والإسلام دعوة شاملة ونظام مستوعب للحياة، والحديث عن تناقضهما أو توافقهما حديث لا معنى له أصلاً، ولذلك فإن صيغة الحوار بينهما يعتمد على الأسس التالية( ):

1- لا يجوز أن تكون العروبة حركة تمزيق للوحدة الإسلامية، وإنما يجب أن ينظر إليها على أنها دعوة «توحّـد» وتجميع تعلو على الإقليمية وتحارب نوازع الانحياز الإقليمي الضيق، وخصمها الأكبر هو الانحصار داخل الحدود الإقليمية وليس خصمها الإسلام بأي معيار من معايير الخصومة.

2 - ليست العروبة موقفاً عنصرياً يزعم تفوق «الجنس العربي» على بقية الأجناس لأنها بذلك تكون مناقضة لما حرص الإسلام على تقريره من وحدة «النوع الإنساني» ورفض العصبية والعنصرية بكل أشكالها.

3 - إن عملية التوحّد العربي التي تمت تاريخياً هي في الوقت نفسه عملية توحّد إسلامي، فالفتوحات الإسلامية وحركة نشر الدعوة عن طريق التجـار إنما تمت على يد العرب المسلمـين، مما يؤكد أن نتائجها لم تكن مجرد توحّد عربي بل كان في جوهره توحّداً إسلامياً بأيد عربية.

4 - إن الدعاة إلى الإسلام اليوم مطالبون بوقفة هادئة أمام الشعارات التي يرفعها دعاة الوحدة العربية، لأن تلك الوحدة إذا تجردت من العنصرية والعصبية فإن الإسلام سيكون هو المكوّن الرئيس لها، وهذا ليس شراً يستعاذ منه، بل إنها في الحقيقة ستكون سبيلاً إلى تحقيق الحضارة المنشودة، وليس أدل على ذلك من أن نبينا محمداً قد بدأ دعـوته من خلالها عملاً بقـوله تعالى: ((وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ ٱلاْقْرَبِينَ)) (الشعراء:214) ثم انطلق بعدها لنشر الإسلام بين سائر الشعوب والأمم، مما يشير إلى أن هذا المسلك مناسب لأوضاع الأمة وطبيعة تعاملها في نشر الدعوة وتحقيق دين الله في الأرض.

واستناداً إلى هذه المعطيات، التي أشرنا إليها، فإنه ينبغي أن يكون الحوار بين العروبة والإسلام قائماً على هذه الأسس والقواعد التي تضمن حواراً علمياً هادئاً بعيداً عن التشنجات العاطفية، وملبياً لتطلعات الأمة العربية والإسلامية، محققاً للإسلام عالميته وحافظاً للأمة خصوصيتها، بعيداً عن الإفراط والتفريط.

حوار الشعوب مع القادة والحكام:

يعد هذا النوع من الحوار أخطر وأهم أنواع الحوار الداخلي بين أبناء الأمة «الحوار مع الذات» حيث لا يعرف تاريخ الفكر الإنساني قضية ثار حولها الجدل والخلاف مثل ما أثارته قضية نظام الحكم، وليس غريباً أن ترتفع في كثير من الأحيان حرارة الحوار ارتفاعاً تذوب معه معاني الكلمات والمصطلحات وتختلط بسببه على أطراف الحوار مواضع الخلاف بينهم، فيتبادل أصحاب تلك الرؤى ألواناً من الاتهامات.

أما من وجهة نظر الإسلام فإن إقامة الحكم الصالح جزء من رسالة الإسلام، والسياسة الشرعية قسم من أقسام شريعته، والنبي كان رسولاً ونبياً، وكان ابتداءً من الهجرة حاكماً ورئيساً وأميراً للأمة، وإن استقراء نصوص القرآن الكريم وسـيرة وسنة النبي تثبت أن الإسلام نظام شامل لا يتخلى عن هذا الجانب المهم من جوانب حياة الإنسان، لأنه إذا كان اجتماع الناس ضرورياً للحياة فإن حاجتهم لسلطان ينظم ذلك الاجتماع أمر متمم لذلك الاجتماع، ولهذا يقول الإمام الغزالي: «الدين أساس والسلطان حارس، وما لا أساس له فمهدوم، وما لا حارس له فضائع»( ).

وإذا أردنا أن نحـدد ملامح الحوار الذي ينبغي أن يتحقق بين الشعوب وقادتها فإن ذلك يتطلب منا الوقوف على ما تريده تلك الشعوب من حكامها، ولعل أبرز ما تريده الشعوب من الحكام يتمثل في الأمور التالية( ):

1 - سلطة سياسية تعتمد رضا المحكومين وقبولهم، وهو أمر يتفق مع تصور الإسلام وتصور الديمقراطية، مما يمنح الحاكم شرعية حكمه للجماعة.

2 - ضمانات قانونية تضمن للأفراد تمتعهم بالحقوق المدنية والشخصية، وتمنح الجميع المساواة أمام القانون والقضاء.

3 - مجتمع يعتمد العقائد والأخلاق والقيم الفاضلة، ويستمد أنظمته من شريعة الأغلبية، وهذا معنى استمداد التشريع من مصادره الإسلامية.

4 - منهج عقلي ناضج يتم به تدبير أمور الحكم والسـياسة، وتلبية الحاجات الأسـاسية للأمة.

ولا شك أن تحقيق هذه الأمور يتطلب جهداً كبيراً وسعياً دؤوبًا وحواراً متواصلاً بين الرعية والحكام، لتحديد المشاكل الحقيقية للمجتمع ووضع الحلول المناسبة لها، يشـارك في ذلك أهل الرأي وأصحاب المصلحة وأهـل الحل والعقد في الأمة، بعيداً عن الأغراض الشخصية والأهواء والرغبات الفردية.

وفي ضوء ما تقدم، كان مـبدأ الشـورى الذي أوجـبه الله تعالى على رسـول الله باعتباره ولي أمر الأمـة: ((وَشَاوِرْهُمْ فِى ٱلاْمْرِ)) (آل عمران:159) فعلى الرغم من أنه كان يتلقى الوحي عن ربه لكنه مأمور بتطبيق المشورة والأخذ بها، ليسن للأمة من بعده قواعد نظام الحكم في المجتمعات الإسلامية اللاحقة.

إن استقراء نصوص القرآن الكريم والسنة النبوية وعمل الصحابة رضوان الله عليهم تكشف أن الإسلام قد وضع للحكم مبادئ أساسية وقيماً عليا اعتبرها مما علم من الدين بالضرورة، وترك للناس بعد ذلك أن يضعوها موضع التطبيق بما يناسب ظروفهم ويلائم مستجدات حياتهم، وعلى رأس تلك المبادئ كان مبدأ الشورى ومبدأ العدل واحترام حريات الناس وحقوقهم، ومن هنا فإن الحوار الذي نريده أن ينشأ بين الشعوب وحكامها داخل المجتمعات العربية والإسلامية يجب أن يعتمد على الأسس التالية :

1 - أن يتيح الحكام لشـعوبهم الحـرية الكاملة لأن تقول كلمتها وتبدي رأيها في مجمل القضايا التي تهم الأمة وقضاياها المركزية.

2 - القضاء على أزمة الثقة بين الحكام وشعوبهم التي نشأت بسبب فقدان لغة التواصل والحوار بينهما.

3 - سماع الحاكم للرأي الآخر ومحاولة تفهمه واعتماده، أو مناقشته والرد عليه حين يتطلب الأمر ذلك.

وبذلك يسود الحوار الهادف والبنّاء بين كلٍ من الشعوب وقادتها داخل المجتمعات العربية الإسلامية، ويصبح هناك مجال للالتقاء والتواصل من أجل تحقيق المصالح العامة للأمة والنهوض بها نحو الغد المشرق.

إن منطق العقل يثبت أن الناس يحتاجون إلى السلطان كما يحتاجون إلى العلماء، وأنهم يكونون أقرب إلى الصلاح والخير وأوفر نصيباً منه عندما يلتقي في حياتهم حزم الأمراء وعدلهم بحكمة العلماء وعلمهم، وفي هذا يقول رسول الله : «صنفان من أمتي إذا صلحاً صلح الناس وإذا فسدا فسد الناس: العلماء والأمراء»( ) وقد ورد أن أصحاب الحكم والسلطان مسؤولون أمام الله تعالى عن رعيتهم، وأن العلماء كذلك مسؤولون عما حملّهم من أمانة العلم والبحث عن الحقيقة ونشرها بين الناس، مما يشير إلى حتمية التلازم الوثيق بين هاتين الطبقتين في قيادة الأمة ورعاية مصالحها.

وقد حدثنا القرآن الكريم عن ثمرة التعاون بين أهل العلم والثقافة والخبرة والدراية من جهة وبين أهل الحكم والسلطة من جهة أخرى حين روى لنا قصة سليمان عليه السلام وملكة سبأ التي تلقت جملة من العروض من سليمان فحرصت على أن يكون قرارها مستنيراً بنور العلم مهتدياً بنصيحة أهل الخبرة من العلماء: ((قَالَتْ يٰأَيُّهَا ٱلْمَلاَ أَفْتُونِى فِى أَمْرِى مَا كُنتُ قَـٰطِعَةً أَمْراً حَتَّىٰ تَشْهَدُونِ)) (النمل:32) والملأ هم خاصة القوم وأهل الرأي والمكانة فيهم، كما ورد في تاريخنا الإسلامي دعوات صريحة إلى ضرورة التعاون بين العلماء والأمراء عملاً بهدي القرآن الكريم: ((وَشَاوِرْهُمْ فِى ٱلاْمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى ٱللَّهِ)) (آل عمران:159) وقد سارت الأمة على هذا الهدى فترة طويلة من الزمن تمثلت في التعاون الهادئ بين الطائفتين واتسعت صدور الحكام لنصائح العلماء، وقام العلماء بواجبهم في تقديم النصيحة وقول الحق وإعلانه بين يدي السلطان.

ولكن سرعان ما تغيرت أحوال الأمة، واتسعت الفجوة بين العلماء والأمراء، وتصور عدد من الحكام أنهم بما يحملون من مسؤوليات جسام جديرون بأن يسلم الناس لهم قيادهم بدون مناقشة أو إبداء رأي، فلا قرار بعد قرارهم، ولا وجهة للأمة إلا الوجهة التي يريدونها ويختارونها، وهكذا تكرر في تاريخنا ما حدث في تاريخ الأمم والشعوب الأخرى من مواقف الصدام والمواجهة بين السلطة والمثقفين من أبناء الأمة ما حصل حتى سجن منهم من سجن، وشرد منهم من شرد، وآثر الصمت من عجز عن المواجهة وتحمل تبعات الصدام، بسبب بعض القضايا الفقهية والفكرية والفلسفية، وتطور الأمر مع تتابع حلقات التاريخ فلم تعد تلك القضايا الفكرية محور الصراع في علاقة المثقفين بالسلطة، وإنما صارت القضايا السياسية والاجتماعية هي محور المد والجزر في رسم معالم تلك العلاقة.

ويرى الدكتور محسن عبد الحميد( ): أنه لا بد من القيام بنقد تاريخي شامل لنظام الحكم في المجتمعات الإسلامية من بعد معركة صفين وإلى اليوم، وإثبات أن الاستفراد بالحكم والاستبداد فيه الذي كان سائدًا في فترات متعددة من تاريخنا، مخالف لنظام الحكم الشوري في الإسلام مخالفة أكيدة، وإنه جلب على الأمة الإسلامية عبر العصور مآس جمّة وخرابًا شاملاً، وإنه من أعظم أسباب سقوط المجتمع الإسلامي وأزماته قديمًا وحديثاً.

إن نظام الشورى في الإسلام كما طبّقه الرسول وخلفاؤه الراشدون، وكما يمكن أن يلجأ اليوم إلى الآليات والأساليب المعاصرة المنسجمة مع روح الإسلام لتحقيق مقاصد الشورى، هو الذي يحقق كرامة الإنسان المسـلم، ويعيد إليه حقـه في المعارضـة والتعبير عن آرائه بحرية أخلاقية منضبطة.

إن العقلاء جميعًا متفقون على أنه ما من مصيبة من مصائب هذا القرن قد حلت بالإسلام والمسلمين إلاّ كانت نتيجة مباشرة لصراعات بعض الحكام واستبدادهم، ومحاربتهم لأهل الرأي السديد، وعدم سماعهم قول الحق، وعدم رجوعهم إلى موازين الإسلام عقيدة وشريعة وأخلاقاً.

إن معظم حكام المسلمين في القرن الأخير قد أحدثوا فرقة كبيرة بين المسلمين، أولم يهيئوا صفوف الأمة للجهاد والحركة والتغيير والبناء، وضيعوا ثروات الأمة على مباذلهم وقصورهم، أو على حروب خاسرة لم يخططوا لها ولم تكن لهم فيها إرادة للقتال أصلاً.

وإذا أردنا أن نتحدث عن طبيعة العلاقة بين المثقفين والحكام هذه الأيام فإن ذلك يتطلب تحديد جملة من المعطيات التي تمر بها أنظمة الحكم المعاصرة من حيث طبيعتها وعلاقتها بالنخبة من أبناء الأمة، والتي تتمثل بما يلي( ):

1 - إن أنظمة الحكم المعاصرة ينبغي أن لا تبقى أنظمة فردية خالصة تعتمد على رأي الشخص الواحد، بل يجب أن تأخذ طابع المؤسسة أو مجموعة المؤسسات بحيث يتراجع معها إلى حد كبير الدور الشخصي للحاكم.

2 - إن مهمة الدولة الحديثة اليوم هو البحث عن حلول عملية للمشاكل المعقدة التي تواجه المجتمعات، الأمر الذي دفع إلى الإحساس بالحاجة إلى ضرورة ترشـيد قرارت أجهزة الحكم وإلى عظم المسؤولية الملقاة على عاتق العلمـاء والمثقفيـن في المعاونة على هـذا الترشيد وإبداء النصح والتوجيه.

3 - إن اتخاذ القرارات السياسية والاجتماعية من قبل الحكام أصبح اليوم بحاجة إلى هيئات متخصصة من العلماء تقدم المشورة والنصيحة في معالجة الكثير من المشاكل التي تتعرض لها المجتمعات، ولم تعد الفطنة وسلامة النظر كافية لمواجهة تلك المشاكل، بل لا بد من الدراسات المنهجية التي يقوم بها المتخصصون من أهل الخبرة والدراية والفكر لمعاونة الحاكم في اتخاذ القرار.

لكن الملاحظ من خلال المتابعة لما يجري في العالم العربي والإسلامي أن وسائل الترغيب والترهيب التي يلجأ إليها الحكام لمواجهة المثقفين أو احتوائهم أو إبعادهم عن مصادر اتخاذ القرار عملت على عدم التواصل والتحاور بين المثقفين من جهة والحكام والقادة من جهة أخرى، فقد عملت مؤسسات الدولة وأجهزتها وتنظيماتها على إغراء واستقطاب عدد ليس بالقليل من المثقفين والعلماء من أصحاب الفكر والرأي تستهويهم بالاقتراب منها والارتباط بمؤسساتها، وقد ساعد على ذلك رغبة بعضهم الإفادة من الجاه والمال والمنصب الذي توفره له تلك المؤسسات لغرض الارتقاء بالمستوى الاجتماعي لهم وتأمين حياتهم الخاصة، وهذا لا شك منزلق خطير لأنه يدفع صاحبه إلى التخلي شيئاً فشيئاً عن أمانة العلم التي تحملها ومسؤولية الفكر التي يجب أن ينهض بها مما يمنعه من الجهر بالحق وإعلان الرأي، والأخطر من ذلك أنه ينحدر شيئاً فشيئاً فيصبح يرى الأمور كلها بعين السلطة ويزنها بموازينها، وبذلك يفقد دوره التوجيهي في النصح والإرشاد، ويتخلى عن القيام بحق العلم الذي تعلمه والحكمة التي أوتيها.

وليت الأمر وقف عند هذا الحد، بل تعدى إلى أنه كلما انزلق فريق من العلماء والمثقفين إلى أن يكونوا جزءاً من حاشية السلطة وبوقاً من أبواقها، كلما تعرّض فريق آخر منهم لمزيد من الضغط النفسي والاجتماعي وصار من اليسير اتهامهم بأنهم يسرفون في النقد ويتشددون في المعارضة وأن ولاءهم للحكم القائم ولاء منقوص ومشكوك فيه، حتى يحال بينهم وبين إبداء الرأي والمشورة وممارسة النصح والتوجيه، فيحرموا بذلك حقاً طبيعياً لهم، وتحرم الجماعة والأمة من خبراتهم وآرائهم، مستغنين عن ذلك بموافقة الموافقين وتأييد المؤيدين ممن لا يخلصون في النصيحة ولا يجهرون بالرأي، الأمر الذي خلق أزمة حقيقية في علاقة السلطة بأبنائها من المثقفين والعلماء والمفكرين المحايدين.

ونتيجة لذلك كله، تصاعد إحساس المثقفين بالأزمة، واشتد شعورهم بالإحباط، وساء ظنهم بالمؤسسة الحاكمة، بسبب عدم الاستعانة بأهل الخبرة والدراية من أهل الحل والعقد بالأمة القادرين على ترشيد مسيرة العمل الوطني وإنقاذه من عثرات الزمن ومشاكله المعاصرة، وقد أحدث ذلك مشكلة أخرى تتمثل في أن الكثير من الحكام تصوروا أن توجيه النقد وإبداء النصح في الساعات العصيبة التي تمر بها الأمة نوع من المقامرة بالأمن وتهديد الاستقرار، كما دفع ذلك العديد من العلماء والمثقفين إلى تفضيل العزلة والانكفاء عن الحياة العامة للأمة؛ ولاشك أن كلا الحالتين ينذر بخطر كبير يعود على الأمة بكوارث وخيمة عليها، وهنا يأتي دور الدعوة إلى الحوار والتواصل بين هاتين الطبقتين اللتين بأياديهما خلاص الأمة مما يحصل لها من مشاكل وأزمات.

ويمكن تحديد برنامج الحوار وعلاج أزمة الثقة والتصديق بين الحكام والقادة من جهة وبين العلماء والمثقفين من جهة أخرى بما يلي:

1- أن يدرك الحـكام أن المثقفين ليـسوا خطراً على أحد منهم، فهم أصحاب رسـالة ورأي وفكر، وإن أقصى ما يملكونه هو التعبير عن هذا الرأي والفكر بأقلامهم وألسنتهم إذا ما أتيح لهم الجو المناسب لإبداء الرأي وتقديم النصيحة.

2- أن يعمل الحكام على استيعاب المثقفين داخل تيار العمل الوطني باعتبار ذلك جزءاً من مسؤوليتهم، بدلاً من الحرص على إسكاتهم أو شراء ذممهم أو احتوائهم؛ لأن بقاء المثقفين خارج دائرة اتخاذ القرار ينطوي على خسارة فادحة للأمة، ويترك السلطة مهما بلغ صلاحها بعيدة عن خبراتهم ودرايتهم تواجه لوحدها ألواناً من المشاكل والتحديات التي لا يصلح لمواجهتها أسلوب التجربة والخطأ والعمل العفوي الذي تتحكم فيه اختيارات ذاتية فردية.

3 - أن يدرك المثقفون حجم التحديات القائمة، وفداحة الأخطار المحيطة، وأن دورهم العلمي والتوجيهي يتطلب منهم أن يقدموا أكثر من النصيحة المجردة التي يلقيها صاحـبها من برجه العالي ثم يمضي، وإنما يجب عليهم المشاركة الحقيقية في توجيه الناس وتبليغهم، لأن المرحلة الحرجة من حياة الأمم تتطلب عملاً دؤوباً واقتراباً من صنع القرار واستعلاءً على كلمات التجريح واتهامات الجري وراء المصالح الذاتية.

4 - أن يبتعد المثقفون عن دائرة الرؤية الواحدة، وأن يتعاملوا مع الأحداث التي يعيشها المجتمع بمرونة كاملة وعقلية متفتحة بعيدة عن التشنجات العاطفية، انطلاقاً من الحرص على مصلحة الأمة وتقديمها على المصالح الشخصية الضيقة.

ولاشك أن هذا البرنامج من الحوار يتطلب تأمين جو من الحرية الكاملة الذي هو الضمان الكبير لانطلاقة هذه الجهود الخيرة، التي يتقارب بها الحكام والمثقفون ويلتقي في ظلالها سيف الحكم وميزان العدل والحكمة.

وبناء على هذه الأسـس المتقدمة يمكن التأسيس لحوار هادف وبناء يسعى للتواصل بين الحكام وشعوبهم، ويتيح للجميع المشاركة في اتخاذ القرار وتحمل المسؤوليات التي تقع على عاتق الجميع، كل من منصبه، وبأسلوب من الاحترام المتبادل، بعيداً عن الانتقاص من مكانة أي طرف من الأطراف، لأن أبرز مقومات نجاح الحوار هو حفظ مكانة الطرف الآخر والمحافظة على حقه وإنصافه من كل وجه، بغض النظر عن صفة المُحَاوَر أومركزه العلمي والاجتمـاعي؛ لأن الأمر المهم في الحوار هو إبراز حق الخصم وإنصافه حتى لا تنقلب المحاورة إلى مكابرة.

المبحث الثاني: الحوار مع الآخر «حوار الحضارات»

حوار الحضارات، أو حوار الشمال والجنوب، أو الحوار العربي الأوربي، أو الحوار الإسلامي المسيحي، أو حوار الشرق والغرب، كلها مصطلحات وعناوين لموضوع واحد هو الحوار بين الأديان والحضارات المختلفة، التي تعتمد ثقافات متفاوتة في نظرتها إلى الكون والوجود، وهو موضوع جدير بالاهتمام والدراسة والمتابعة عسى أن ينتقل الأمر فيه من مرحلة الفهم والاقتناع إلى مرحلة التعاون على العمل المشترك بين جميع المعنيين باقتلاع جذور الأحقاد بين الشعوب.

ويقصد به من الناحية النظرية الحوار مع الطرف (الآخر) للتعرف على ما يهدف إليه من حيث طبيعة علاقته بالآخرين ورسم مستقبل أفضل لجميع شعوب العالم ضمن دائرة التفاهم المشترك، وعدم التجاوز على الخصوصية الدينية والأخـلاقية بما يطلق عليه في عالـم اليوم المحافظة على الهوية الثقافية للأمم.

وهذا النوع من الحـوار وإن أخذ مسميات حديثة فإنه قديم قدم وجود الشعوب ذات الحضارات المتجاورة، حيث كانت تلك الشعوب تتبادل المعارف والخبرات وأنماط الحياة من قيم وسلوك وتقاليد عن طريق التفاعل العفوي الطبيعي بحيث أصبحت بمجملها جزءاً من مفردات نسيجها الاجتماعي دون قصد بفعل التواصل الحضاري على مدى الأزمان المتعاقبة،( ) وهذا في حقيقته يمثل طرفاً من المفهوم الذي أشار إليه القرآن الكريم بقوله تعالى: ((يأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَـٰكُم مّن ذَكَرٍ وَأُنْثَىٰ وَجَعَلْنَـٰكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَـٰرَفُواْ)) (الحجرات:13) حيث اقتضت حكمته تعالى أن يخلق الناس متفاوتين ومختلفين، وأن يظلوا كذلك ربما من أجل تحقيق التعارف والتبادل والحوار بين بني البشر: ((وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ ٱلنَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ N إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذٰلِكَ خَلَقَهُمْ)) (هود:118-119) وهكذا استمرت العلاقات بين الأمم والشعوب على ربى هذه المعمورة مضطربة مرة ومتفقة مرة أخرى يحدوها الأمل في إقامة علاقات حسنة تقوم على أساس التفاهم والاحترام المتبادل.

ونتيجة لهذا الإحساس بضرورة التلاقي والتواصل والتحاور بين شعوب العالم المختلفة عقدت على مدى العقود الخمسة الأخيرة من القرن الماضي العديد من اللقاءات والمؤتمرات والندوات العلمية والثقافية من أجل تحقيق أرضية مشتركة للتعاون والحوار بين الأديان والحضارات باعتبار ذلك يمثل أرقى صيغ الحوار مع (الآخر) في عصر المدنية والتحضر( ).

وفي مجتمعاتنا العربية والإسلامية يعد الحوار أصلاً ثابتاً من أصول الحضارة الإسلامية ومبدأ من مبادئ الشرع الحنيف، استناداً إلى قوله تعالى: ((قُلْ يٰأَهْلَ ٱلْكِتَـٰبِ تَعَالَوْاْ إِلَىٰ كَلِمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ ٱللَّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مّن دُونِ ٱللَّهِ)) (آل عمران:64) فهذه الآية دعوة صريحة إلى الحوار الهادف بين المسلمين من جهة وبين أصحاب الأديان والحضارات من جهة أخرى.

ومن هنا، فإن الحوار الذي ندعو إليه وندخل فيه هو الذي يستمد الاعتدال من روح الإسلام وتعاليمه التي تدعو إلى الوسطية في كثير من الآيات القرآنية، منها قولـه تعالى: ((وَكَذٰلِكَ جَعَلْنَـٰكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى ٱلنَّاسِ وَيَكُونَ ٱلرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا)) (البقرة:143) والمقصود بالوسط هنا الاعتدال والمثالية وعدم التعصب، بحيث يكون حوراً بالكلمة الراقية والمنهج السوي.

إن العالم العربي والإسـلامي اليوم مدعو أكثر من أي وقت آخر إلى الانفتاح على آفاق العصر والدخول في حوارات جدية وهادفة مع دوائر عديدة وعلى مستويات متنوعة، ثقافية وفكرية وسياسية، ليثبت للعالم كله أهليته للمساهمة في صياغة حضارة إنسانية تسود فيها قيم الخير والحق والفضيلة، وتهدف إلى نشر المعارف والثقافات بين الشعوب، وتنمية العلاقات السلمية بينها، وتمكين كل إنسان من اكتساب المعرفة والمشاركة في التقدم العلمي الذي يشهده العالم اليوم ليفتح الحوار مجالاً واسعاً أمام تفاهم المجتمعات، ويؤدي إلى تقارب الثقافات، ويساهم في تلاقح الأفكار، وهو ما يمكن أن نصطلح عليه اليوم بالتفاعل الحضاري الذي يجب أن يدعم التعاون بين جميع شعوب العالم على مواجهة تحديات العصر ووضع الحلول المناسبة لها.

التفاعل الحضاري بين الأمم :

ويقصد به: أن الحضارة المعاصرة هي نتيجة حتمية لتراكم معرفي وعلمي واجتماعي متواصل منذ بدء الخليقة وإلى اليوم.

وإذا أمعنا النظر في الحضارة الإسلامية فإننا نجدها قد قامت على أساس التفاعل الحضاري، وهي بذلك تعتمد ثقافة الحوار والتواصل، حيث أخذت عن الحضارات السابقة، واقتبست من ثقافات الأمم والشعوب التي احتكت بها، وصهرت جميع ذلك في بوتقة الإسلام، فكانت حضارة إنسانية لها أثر كبير في نقل روح المدنية إلى جميع الشعوب التي تفاعلت معها، وهو الأمر الذي يعترف به معظم الكتاب والمفكرين الأوربيين الذين تخلصوا من التعصب المقيت وكتبوا بإنصاف عن تاريخها، حيث يرون أن الحضارة الإسلامية احتفظت بمركزالصدارة منذ أوائل العصور الوسطى ليس في الشرق فحسب بل في الغرب أيضاً، إذ نمت الحضارة الغربية في ظل الحضارة الإسلامية التي كانت أكثر رقياً منها وقتئذ( ).

ولاشك أن قاعدة التسامح التي يقوم عليها الإسلام هي التي فتحت أمام الأمة الإسلامية السبيل إلى الاحتكاك بالأمم والشعوب، وشجعت المسلمين على التفاعل مع الحضارات والثقافات الأخرى، حيث كان الإسلام بذلك أرقى الأديان في تحقيق مبدأ التسامح الذي هو القاعدة الأساسية للتفاعل الحضاري( ).

ويستند التفاعل الحضاري في مفهوم الإسلام إلى مبدأ التدافع الحضاري وليس فكرة الصراع الحضاري، وهو المبدأ القرآني المحض الذي نجد له أصلاً في قوله تعالى: ((وَلَوْلاَ دَفْعُ ٱللَّهِ ٱلنَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ ٱلارْضُ)) (البقرة:251) وفي قوله تعالى: ((وَلاَ تَسْتَوِى ٱلْحَسَنَةُ وَلاَ ٱلسَّيّئَةُ ٱدْفَعْ بِٱلَّتِى هِىَ أَحْسَنُ فَإِذَا ٱلَّذِى بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِىٌّ حَمِيمٌ)) (فصلت:43) فالتفاعل في الإسلام عملية تدافع لا تنازع، وتحاور لا تناحر، بمعنى: أن كل أمة تدفع الأخرى وتتنافس معها نحو الأفضل والأحسن، لأن التفاعل يفيد استمرار الحياة والتصارع يؤدي إلى الفناء، وبهذا يكون التفاعل الحضاري حواراً دائماً ينشد الخير والحق والعدل والتسامح للإنسانية، بغض النظر عن توجهاتها الفكرية والأيدلوجية( ).

إن التفاعل الحضاري والتواصل الثقافي الذي يوصل إلى الحوار العلمي الهادئ يجب أن لا يكون نوعاً من الترف الفكري الذي ليس له انعكاس على الواقع المعاصر ولا تصل آثاره إلى دوائر صنع القرار في الأمة، كما أن الحـوار بين الأمم ذات الحضارات والثقافات المختلفة يجب أن لا ينطلق من الإحساس بالتفوق العنصري أو الاستعلاء الحضاري أو روح الهيمنة الثقافية، لأن الحوار الذي يكون قائماً على أساس الشعور بالتفوق والاستعلاء لا يؤدي الأهداف التي من أجلها تنشأ علاقات التواصل الثقافي بين الأمم، بل إنه ربما يعود على الهدف بما يناقضه، ومن هنا ينبغي أن يكون الهدف من الحوار هو إقامة قيم التسامح وإذكاء روح التعارف الثقافي والعلمي، ذلك التعارف بالمعنى القرآني السامي الذي هو الأصل في تعامل الشعوب والأمم بعضها مع بعضها الآخر، استناداً إلى قوله تعالى: ((يأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَـٰكُم مّن ذَكَرٍ وَأُنْثَىٰ وَجَعَلْنَـٰكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَـٰرَفُواْ)) (الحجرات:13)

إن التفاعل الحضاري الذي يراد منه أن تتخلى الأمة عن هويتها وخصائصها الذاتية وتصوراتها الفكرية لا يمكن أن يكون في حال من الأحوال تفاعلاً إيجابياً وناجحاً، لأنه بذلك يكون نوعاً من أنواع التبعية الثقافية والفكرية، كمأ أنه يؤدي إلى أن تصبح الأمة متلقية لفكر جديد وتصور مستورد، وعندئذ ستكون مغزوة في فكرها ومهددة في وجودها وكيانها، وستكون ضحية عدوان أيدلوجي وفكري وثقافي، وهو أشـد أنواع العدوان وأعلى مرحلة من مراحل محو الثـقافة( ) ولن ترضى الأمة الإسلامية أن يكون التفاعل الحضاري غزواً لثـقافتها أو محواً لحضارتها وذوباناً في ثقافات الأمم واندماجاً في حضارات الشعوب بدعوى التواصل الثقافي أو التحاور الحضاري، فالعالم العربي والإسلامي الذي يمد جسور التلاقي والتعاون والتفاعل مع الأديان السماوية والثقافات والحضارات الأخرى لا يقبل أن يكون ضحية تغريب العالم من خلال تفاعل حضاري يفقد معنى العطاء المتوازن والمنفعة المتبادلة.

حدود الحوار بين المسلمين والغرب:

المسلمـون: هم الكتلة البشرية التي تدين بالإسـلام وتنتسب إلى عقيدته وحضارته وثقافته، ويوحد بينها الانتماء إلى هذا الدين الذي جعل منها أمة واحدة.

أما الغرب: فهو أقاليم جغرافية تسكنها شعوب متفرقة العقائد مختلفة المشارب مثلت منظومة حضارية من القيم والأفكار والمذاهب والسياسات.

والملاحظ أن الغرب شعوب تبحث عن مصالحها وتضعها في مقدمة أولوياتها، وتتعامل مع العالم من منطلق الحرص على تلك المصالح واسـتثمارها وتنميتها والحفاظ عليها بشتى الوسائل والسبل، حتى ولو كان في ذلك هدر لحقوق الآخرين أو انتقاص من مكانتهم. ( )

إن الحوار الحضاري بين الأمم والشـعوب المتعددة لا يمكن أن يتحقق إلا مع أطراف تجمعها الرغبة المشتركة في تحقيق أهداف معلومة متفق عليها، فإذا افتقر الحـوار إلى هذه الرغبة فسيكون ضرباً من العبث أو إملاءً للرأي وفرضاً له من طرف على طرف آخر مما يجعله فاقداً للشرعية العلمية، مفرغاً من دلالته الفكرية، مكرساً معنى الهيمنة والغطرسة وفرض الأمر الواقع.

ومن هنا فإن حـوار المسلمين مع الغرب ينبغي أن ينطلق من هذه الأسـس والمعاني الواضحة لتحقيق الأهداف المرجوة منه، ولكن يبدو أن الغرب الذي ناصب أمتنا الإسلامية العداء لفترات طويلة، فاحتل أراضينا، واستنـزف خيراتنا وأسـاء إلى مصالحنا، وخضنا معه معارك سـياسية واقتصادية حيناً، ومعارك عسكرية حيناً آخر، فإننا حين نتعامل معه لا نملك أنفسنا من استحضار تلك المشاهد المؤثرة في أعماق نفوسنا، ولكن الإرادة القوية التي تحدونا إلى التواصل والتعاون مع الشعوب الأخرى هي التي تجعل الأمة مقتنعة بالحوار مع (الآخر) للدخول في مرحلة جديدة من التفاهم والتعايش والتفاعل الحضاري، وهذا في الحقيقة يؤكد انتصار المسلمين على مخلفات الماضي بهدي من ديننا الذي يدعو إلى التسامح حرصاً من الأمة على دعم الحوار الحضاري، وتعزيزاً لدوره في إثراء العلاقات الدولية وإنعاش الاتصال بين شعوب العالم وأممه، ولكن هل انتصر الغرب على مخلفاته التاريخية؟ وهل تغلب على عقده المتراكمة؟

إن المسلمين اليوم يؤكدون على تجاوز مخلفات الماضي وعقده بروح من الصفاء والسماحة، وبعقلية مرنة تضع المصالح العليا للأمة فوق كل اعتبار، لأنها ترى أن الحوار مع الآخر (الغرب) أصبح اليوم ضرورة ترقى إلى درجة ومستوى فرض الكفاية، ولكن هذا الحوار والتواصل له حدود وضوابط لابد من الوقوف عندها وعدم تجاوزها، وهي: ( )

1 - أن يكون الحوار متكافئاً، تتوفر فيه شروط المساواة والإرادة المشتركة، بحيث تتعدد مستوياته ليكون حواراً شاملاً يدور مع مختلف الشرائح والفئات سواء على المستوى الحكومي أو على مستوى المؤسسات الأهلية والاجتماعية التي لها علاقة بالقضايا المركزية.

2 - أن يهدف الحوار إلى تحقيق المصالح المشتركة للطرفين التي لها علاقة بالتقدم العلمي في كافة مجالات الحياة الفكرية والثقافية والاقتصادية.

3 - أن يكون الحوار متحضراً ومترفعاً عن الموضوعات التي تتعلق بالخصوصية العقائدية والأخلاقية للأمم والشعوب التي من شأنها إذا أثيرت أن تؤدي إلى إيقاف الحوار أو عدم فاعليته.

4 - أن يكون الحوارمعداً وفق برامج مسبقة يكون الغرض منها التواصل والتفاهم لتحقيق التفاعل الحضاري، بعيداً عن فكرة التصارع والتنازع المقيت.

إن المتابع لجولات الحوار الحضاري يجد أنه قد عقدت خلال العقود الخمسة الأخيرة من القرن الماضي حوالي ثلاثين جولة من حوار المسلمين مع الغرب اتخذت شكل المؤتمرات والندوات والحلقات العلمية، ولكن القضايا والموضوعات التي تطرح في تلك اللقاءات كان الجانب الغربي هو الذي يختارها ويعد برامجها، مما يشير إلى حالة عدم التكافؤ في فرص الطرح والمعالجة، الأمر الذي يدعو إلى مراجعة نقدية لجميع الموضوعات والصيغ التي تطرح في جولات الحوار بما يضمن تحقيق التكافؤ بين طرفي الحوار وصولاً إلى نتائج ومعطيات تلبي الأهداف المشتركة للطرفين وتخدم مصالحهما.

الحـوار بين العالمية والعولمة:

هنالك فرق كبير بين المصطلحين: العالمية والعولمة. فالمصطلح الأول يعني أن أبناء هذا العالم بمختلف قبائله وشعوبه ولغاته وملله ونحله، يعيشون على هذه الأرض، فلا بد أن يتفاهموا فيما بينهم، تمهيداً للتعاون الدائم على خير الجميع، ولا مانع من أن يأخذ بعضهم من بعض. ولا يجوز أن يفرض بعضهم على بعض لغته أو دينه أو مبادئه أو موازينه. فالاختلاف في هذا الإطار طبيعي جداً، والتعاون ضروري أبداً، لمنع الصدام والحروب والعدوان.

وهذه العملية العالمية هي التي تسمى بالتثاقف الحضاري بين الشعوب والأمم، وهي واقع البشرية منذ أقدم العصور إلى اليوم، فاللغات تلاقحت، والمجتمعات تعاونت، والحضارات عبرت من مكان إلى مكان.

والعالمية بهذا المفهوم هي التي يدعو إليها الإسلام من خلال الدعوة الوادعة، والجدال الحسن، دون إكراه لأحد، منطلقاً من هدي القرآن وتوجيهاته، كما في قوله تعالى: ((وَلَوْ شَاء ٱللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وٰحِدَةً وَلَـٰكِن لّيَبْلُوَكُمْ فِى مَا ءاتَـٰكُم فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَىٰ الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ )) (المائدة:48)، وقولـه تعالى: ((لا إِكْرَاهَ فِى ٱلدّينِ قَد تَّبَيَّنَ ٱلرُّشْدُ مِنَ ٱلْغَيّ)) (البقرة:256)، وقولـه تعالى: ((وَقُلْ لّلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَـٰبَ وَٱلاْمّيّينَ ءأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُواْ فَقَدِ ٱهْتَدَواْ وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ ٱلْبَلَـٰغُ)) (آل عمران:20)، وقوله تعالى: ((لاَّ يَنْهَـٰكُمُ ٱللَّهُ عَنِ ٱلَّذِينَ لَمْ يُقَـٰتِلُوكُمْ فِى ٱلدّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مّن دِيَـٰرِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُواْ إِلَيْهِمْ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلْمُقْسِطِينَ)) (الممتحنة:8).

والمتتبع لأحداث التاريخ عامة، وتاريخ الإسـلام خاصة، يقف على أنه لم يرد فيه دليل على أن المسلمين رسموا للبشرية طريقًا واحدًا ووجهة واحدة وحكمًا واحدًا ونظامًا واحدًا وعالمًا واحدًا بقيادة واحدة بالإجبار والإكراه، بل اعترفوا بواقع الأديان واللغـات والقوميات، عامـلوها معامـلة كريمة، بلا خداع ولا سفه ولا طعن من الخلف؛ ولذلك عاش في المجتمع الإسلامي اليهودي والنصراني والصابئي والمجوسي وسائر أهل الشرك بأمان واطمئنان( ).

أما العولمة التي هـي الترجمة العربية للكلمة الإنجليزية Globalization فهي مصطلح يعني جعل العالم عالمًا واحدًا، موجهًا توجيهًا واحدًا في إطار حضارة واحدة، ولذلك قد تسمى الكونية أو الكوكبية. ( )

يقول الفيلسوف الفرنسي روجيه جارودي عن العولـمة: «نظام يُمكّن الأقوياء من فرض الدكتاتوريات اللاإنسانية التي تسمح بافتراس المستضعفين بذريعة التبادل الحر وحرية السوق»( ).

ويثبت هانس بيترمارتن وهارالد شومان، صاحبا كتاب فخ العولمة أن العولمة هي عملية الوصول بالبشرية إلى نمط واحد في التغيير والأكل والملبس والعادات والتقاليد( ).

ويقول الدكتور سـيار الجميل: إنها عملية اختراق كبرى للإنسـان وتفكيره، وللذهنيات وتراكيبها، وللمجتمعات وأنساقها، وللدول وكياناتها، وللجغرافيا ومجالاتها، وللاقتصاديات وحركاتها، وللثقافات وهوياتها، وللإعلاميات وتداعياتها( ).

وأما الدكتور مصطفى محمود فيقول: العولمة مصطلح بدأ لينتهي بتفريغ الوطن من وطنيـته وقوميته وانتمائه الديني والاجتماعي والسياسي، بحيث لا يبقى منه إلاّ خادم للقوى الكبرى. ( )

ومن خـلال ما تقدم يتضـح لنا أن العالمية التي يدعو إليها الإسـلام لا تتعارض في حال من الأحوال مع مبدأ الحوار، وإنما تتفق معه بكل جوانبها، لأنها تعني الاعتراف بواقع الأديان والحضارات والثقافات الأخرى، ولأنها تمهد الطريق للتعاون بين بني البشر وفق معطيات التفاعل الحضاري، دون أن يفرض طرف ثقافته ومعتقداته على الطرف الآخر، فهو بذلك حوار يحفظ للشعوب هويتها وخصوصيتها الثقافية ويمنع الصدام والتناحر والعدوان.

أما العـولمة فهي تحمل نتائج رهيبة أجـمع الباحـثون عليها، حيث لا توجد فيها لغة مشتركة تجمع بين الحضارات والثقافات الإنسانية المختلفة، لأن المجتمعات الفقيرة والضعيفة في عرف العولمة لا تستحق البقاء، ويجب إسقاطها من الحساب على مستوى العلاقات الدولية المعاصرة.

هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإن العولمة تعني بالنتيجة عودة الاستعمار الاقتصادي والسياسي والثقافي والاجتماعي من جديد بصورة العولمة المزعومة من خلال تركيزها على الاقتصاد الحر واتفاقية الجات، والتبعية السياسية، ونشر القيم الاستهلاكية، والجنس والعنف والجريمة المنظمة، حتى غدا العالم الذي خضع للعولمة بدون دولة، وبدون أمة، وبدون وطن، فقد شطرت العولمة العالم إلى شطرين: عالم المؤسـسات والشـبكات، عالم الفاعلين والمسيرين، وعالم آخر هم المستهلكون للمأكولات والمعلبات والمشروبات والصور والمعلومات التي تفرض عليهم( ).

يقول رئـيس وزراء ماليزيا مهاتير محمد الذي عانت بلاده من آثار العولمة في السنوات الأخيرة: إن العالم المعولم لن يكون أكثر عدلاً ومساواة، وإنما سيخضع للدول القوية المهيمنة، وكما أدى انهيار الحرب الباردة إلى موت وتدمير الكثير من الناس فإن العولمة يمكن أن تفعل الشيء نفسه وربما أكثر من ذلك، وفي عالم معولم يكون بإمكان الدول الغنية فرض إرادتها على الباقين الذين لن تكون حالهم أفضل مما كانت عليه عندما كانوا مستعمَرين من قبل أولئك الأغنياء. ( )

وبناءً على ما تقدم، فإن العالم الذي يعيش تحت مظلة العولمة لا يمكن أن يقوم فيه حوار يعتمد أسـس التفاعل الحضاري الذي يؤمن به الإسلام في علاقته مع الأمم الأخرى، وإنما سـيكون الحوار في ظل العولمة حوار الهيمنة والسـيطرة وفرض الأمر الواقع، ثقافـياً واقتصادياً وسـياسياً، وهو ما يرفضه الإسـلام ولا يرضاه لأتباعه.

الأقليات الإسلامية والحوار مع (الآخر):

تمثل الأقليات الإسلامية في دول العالم المختلفة نسبة لا يستهان بها من المسلمين الذين يدينون بهذا الدين، ولذلك فهم جزء من هذه الأمة، تجد نفسها مضطرة للتعامل مع مجتمعات تختلف معها في المعتقد والحضارة والتفكير، وتتباين معها في السلوك والتصرفات الأمر الذي يجعلها أكثر حاجة إلى التفاعل الحضاري والحوار مع (الآخر) الذي وجدت نفسها وسط بيئته وكيانه.

ولا بد من الإشـارة هنا إلى جملة من الحقائق صاحبت نشوء ظاهرة الأقليات الإسلامية في العصر الحديث، أبرزها:

1 - إن السبب الأساس لنشوء ظاهرة الأقليات الإسلامية كان مرتبطاً بالهجرة من البلاد الإسلامية إلى مختلف أقطار العالم، وبخاصة إلى أوربا وأمريكيا وكندا وأستراليا، حيث وصل المهاجرون من المسلمين إلى تلك البلدان وهم يحملون ثقافتهم وحضارتهم وعاداتهم وتقاليدهم ليجدوا أنفسهم وسط مجتمعات لها دياناتها ولغاتها وثقافاتها، ولها أنماط حياة وأساليب معيشة خاصة بها تختلف عما ألفوه ونشـئوا عليه في بلدانهم الأصلية.

2 - إن الأفواج الأولى من المهاجرين المسلمين كان يغلب عليها الطابع الشعبي حيث كان البحث عن موارد الرزق هو الدافع الأكبر على تلك الهجرات الأولى، الأمر الذي جعل أغلب تلك الأفواج تنصهر مع المجتمعات الجديدة التي وفدوا عليها، إلا أنه مع مرور الزمن وبفعل التحولات الدولية الحديثة حصل تغير في نوعية المهاجرين من البلاد الإسلامية إلى الغرب، حيث أخذت أفواج المتعلمين والدارسين وأصحاب الكفاءات الثقافية والعلمية والمهارات المهنية المتميزة تغلب على ظاهرة المهاجرين المسلمين، مما أدى إلى ظهور أوضاع جديدة وبروز مشكلات متنوعة شعر المسلمون في المهجر بوطأتها وصاروا يتطلعون إلى إيجاد حلول لها حتى يستطيعوا التوفيق بين هويتهم وثقافتهم وبين المحيط الاجتماعي والبيئة الثقافية والمناخ العام الذي وجدوا أنفسهم يعيشون فيه.

3 - إن انتشار الإسلام في الدول غير الإسلامية عن طريق إقبال أهل الأديان الأخرى على اعتناقه بعد وصول أفواج المهاجرين من المسلمين إليهم كان سبباً آخر من أسباب نشوء ظاهرة الأقليات الإسلامية وتزايد أعدادهم، الأمر الذي دعا مجدداً إلى ضرورة صياغة برنامج جديد لمعالجة أوضاع المسلمين الجدد وتحديد علاقاتهم مع طبيعة المجتمعات التي نشأوا فيها.

ومن خلال ما تقدم يتضح لنا أن الأقليات الإسلامية هي إحدى الفئات التالية( ):

1 - مسلمون ينتسبون إلى دول غير إسلامية بالأصل والمواطنة، مثل مسـلمي الهند والصين والفلبين المقيمين في أوطانهم الأصلية، وهؤلاء جزء لا يتجزأ من شعوبهم، لهم من الحقوق وعليهم من الواجبات مثل ما على مواطني تلك الدول.

2 - مسلمون يقيمون في دول غير إسلامية ويخضعون لأحكام القانون المحلي لتلك الدول أمثال المسلمين من الدول العربية والإسلامية الذين يهاجرون إلى شتى بلدان العالم.

ومهما يكن من أمر فإن هؤلاء الذين يمثلون الأقليات الإسلامية بحاجة إلى الاهتمام بأوضاعهم العامة باعتبارهم جزءاً من حركة اليقظة الشاملة التي سادت أرجاء العالم، فنتج عنها تزايد مستمر ومتواصل من المسلمين الذين يعتنقون هذا الدين ويلتزمون بأحكامه وشريعته.

ولابد من الإشـارة هنا إلى أن عـدداً من الأقليات الإسلامية في بعض البلدان الأوربية والأمريكية استطاعت أن تكتسـب كياناً قانونياً يوفر لها إمكانية الاندماج في المجتمعات التي وفدت إليها بما لا يفقدها خصوصيتها الثـقافية ولا يؤثر في تركيبتها الاجتماعية، الأمر الذي جعلها تسـتطيع التعايش والحـوار مع مختلف الفئات الاجتماعية، كما وفر لها فرصاً من التعامل المتكافئ مع الظروف المحيطة بها، ولكن هذا الأمر لا ينطبق على الأغلبية الساحقة من تلك الأقليات المقيمة في مختلف أقطار العالم التي تتهدد هويتها الثقافية مجموعة من المشكلات والضغوط التي أملتها طبيعة التباين في المعتقد والمنهج والتفكير، ولذلك فإن المحافظة على تلك الهوية الثقافية تتطلب جملة من المعطيات تتمثل فيما يلي:

1 - إن تلك الأقليات الإسلامية المقيمة في مختلف الأقطار تحتاج إلى أن نتعهدها بالرعاية الكاملة، تربوياً وثقافياً وأخلاقياً وفكرياً، حتى تبقى هذه الأقليات في منأى عن المؤثرات الضاغطة التي تهدد الوجود المعنوي لها وتضعف فيها المناعة الثقافية والأخلاقية، فتصبح فريسة الضياع والانحراف والتيه.

2 – لا بد لتلك الأقليات من أن تتمتع بسلامة العقيدة والفكر وقوة التمسك بالأخلاق والقيم، لأن الجماعات الإسـلامية خارج العالم الإسـلامي كلما كانت متماسـكة عقائـدياً وأخلاقـياً كان ذلك أقـرب إلى التأثير الإيجابي في البيئة والمحيط الذي تعيش فيه، أما إذا ضعف كيانهم بسبب غياب الوعي الديني فإن ذلك سيؤدي إلى انسحابهم من ميدان التفاعل الحضاري وعدم مقدرتهم على التأثير بالمجتمعات المحيطة بهم.

3 - إن العلاقة بين الأقليات الإسـلامية والمجتمعات من حولها ينبغي أن تقوم على أسـاس من القيم الإسلامية التي تصنع الفرد والجماعة، وتجعل من المسلم عضواً فاعلاً ومؤثراً في محيطـه وبيئته التي يعيش فيها، يتفاعل مع ما يسـود المجتمع من أفكار ومواقف، ويستوعب كل ما يجري من حوله بعين فاحصة وعقل مدبر وفكر نير.

إن الأقليات الإسـلامية مطالبة بأن ترتقي إلى مستوى المسـؤولية في التعامل والتجاوب والتحاور مع المجتمعات المحيطة بها، وذلك بأن يكون لها حضور متميز في ميادين العمل العام، وأن تعطي صورة حقيقية للمسلم الذي يقدم الخير والفضيلة للمجتمع الذي يعيش فيه، بحيث لا يكون إنساناً انعزالياً سـلبياً، ولكن تلك المشاركة يجب أن تكون ضمن حدود الأحكام الشرعية بحيث لا تلغي فيها خصوصيته الإسلامية فيضيع وسط التيار المادي الجارف عملاً بقول النبي : «لا تَكُونُوا إِمَّعَةً تَقُولُونَ إِنْ أَحْسَنَ النَّاسُ أَحْسَنَّا وَإِنْ ظَلَمُوا ظَلَمْنَا، وَلَكِنْ وَطِّنُوا أَنْفُسَكُمْ إِنْ أَحْسَنَ النَّاسُ أَنْ تُحْسِنُوا وَإِنْ أَسَاءُوا فَلا تَظْلِمُوا»( ).

ولا شك أن الأقليات الإسلامية إذا ما وفقت في إقامة علاقات ثقافية مثمرة مع المجتمعات التي تندمج فيها وتتعايش معها، فإنها ستحقق لنفسها ولدينها فوائد كثيرة، من أبرزها: تقوية الروابط الإنسانية التي ترسخ الوجود الإسلامي في البلدان غير الإسلامية، وتساهم في إبراز الصورة الحقيقية للإسلام، وتعمل على تصحيح ما يروج ضده من مغالطات وافتراءات لدى الشـعوب غير المسـلمة، كما أن تلك العلاقات ستكون دعوة مفتوحة يتم من خلالها تبليغ الرسـالة الإسلامية إلى العالم بلغة مفهومة ومنطق مقنع وأسـلوب جذاب، من دون إخلال بجوهر العقيدة أو بأصل من أصول الدين الحنيف.

وكل هذه الجهود الخيرة تتطلب التصرف الحسن والفهم الرشيد لمقتضيات العمل الثقافي في قنواته المتعددة، وإن ثقل المسؤولية في هذا الجانب إنما يقع على عاتق منظمات العالم الإسلامي ومؤسساته الدعوية والمعنية بالعمل الثقافي، لأن الأقليات الإسلامية في حاجة شديدة إلى أن تقف تلك المنظمات إلى جانبها وتدعمها وتقدم لها الخدمات التربوية والعلمية والثقافية، وتوفر لها المساندة والمؤازرة في كافة الميادين، لأن نجاح الأقليات الإسلامية في حماية هويتها والمحافظة على عقيدتها يخدم في نهاية المطاف المصالح العليا للأمة الإسلامية.

وبناء على هذه المعطيات، التي أشرنا إليها، يجب أن يكون شكل الحوار وطبيعته بين الأقليات الإسـلامية وبين مختلف الشـرائح والفـئات الاجتماعية والفكـرية والسياسية التي تتعامل معها وتعيش في كنفها، لتثبت وجودها وحضورها داخل تلك المجتمعات، ولتستفيد من الفرص التي يتيحها الحوار والتواصل والتفاعل في خدمة مصالحها وتحقيق حياة أفضل لها.

الحضارات.. صراع أم حوار؟

تبادلت الشعوب والأمم منذ القدم المعارف والخبرات وأنماط الحياة، فأدى ذلك إلى نمو الثقافات وازدهارها، وإلى التواصل والتفاهم بين الحضارات المختلفة، ويهمنا هنا أن نبحث عن العلاقة بين الحضارة الإسلامية والحضارة الغربية، باعتبارهما تشكلان أبرز حضارتين تربطهما مصالح وآمال وآلام مشتركة في عالم اليوم، وللوقوف على شكل العلاقة بين هاتين الحضارتين يمكن لنا أن نطّلع على التوجهات والأطروحات التي تعتمدها كل حضارة.

ففيما يتعلق بالحضارة الإسلامية، فإن المتتبع للعهود التي ازدهرت بها تلك الحضارة وتعاملت فيها مع شعوب مختلفة وأجناس متعددة، يجد أن العلاقة بين المسلمين وغيرهم كانت علاقة احترام وتفاهم وتواصل، ولم يذكر التاريخ أن المسلمين حاولوا استلاب ثقافة الآخرين أو إملاء ثقافتهم عليهم بالقوة، وقد تعامل المسلمون مع غيرهم بهذه المفاهيم بناء على الثوابت الواردة في القرآن الكريم في هذا الشأن، منها قوله تعالى: ((لاَّ يَنْهَـٰكُمُ ٱللَّهُ عَنِ ٱلَّذِينَ لَمْ يُقَـٰتِلُوكُمْ فِى ٱلدّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مّن دِيَـٰرِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُواْ إِلَيْهِمْ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلْمُقْسِطِينَ H إِنَّمَا يَنْهَـٰكُمُ ٱللَّهُ عَنِ ٱلَّذِينَ قَـٰتَلُوكُمْ فِى ٱلدّينِ وَأَخْرَجُوكُم مّن دِيَـٰرِكُمْ وَظَـٰهَرُواْ عَلَىٰ إِخْرٰجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ ٱلظَّـٰلِمُونَ)) (الممتحنة:8-9)، وقوله تعالى: ((يأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَـٰكُم مّن ذَكَرٍ وَأُنْثَىٰ وَجَعَلْنَـٰكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَـٰرَفُواْ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ ٱللَّهِ أَتْقَـٰكُمْ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ)) (الحجرات:13)، وقولـه تعالى: ((وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ ٱلنَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ N إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذٰلِكَ خَلَقَهُمْ)) (هود:118-119)، مما يثبت أن الإسلام يريد للعلاقة بين الحضارات أن تكون علاقة حوار وتفاهم وتواصل، وليست علاقة صراع وصدام وتنافر.

أما الحضارة الغربية، فقد برز فيها اتجاهان متباينان :

الاتجاه الأول : يرى أن العلاقة بين الحضارات يجب أن تكون علاقة صراع وتصادم، وقد برزت دعوات غربية بهذا الاتجاه منها:

المقالة التي نشرها جاك شاهين ( مستشار شبكة سي. بي. إس. التلفزيونية لشؤون الشرق الأوسط ومؤلف كتاب « العربي كما يظهره التلفزيون») وتتضمن عرضاً موجزاً للأفلام السينمائية والمسلسلات التلفزيونية التي أنتجتها هوليود من سنة 1990م إلى سنة 1996م والتي تظهر العرب والمسلمين في صورة كاريكاتورية مشوهة، غالباً ما تكون صورة «الإرهابيين»، حيث توحي تلك الأفلام أن العنف جزء لا يتجزأ من الدين الإسلامي والقرآن الكريم. ( )

ومنها المقالة التي نشرها صموئيل هانتنغتون أستاذ العلوم السياسية في جامعة هارفارد بعنوان «صدام الحضارات» سنة 1993م ووسعها وأصدرها في كتاب خاص سنة 1996م، وهي مقالة تحذر شعوباً من شعوب بسبب ثقافاتها، ويرى كاتبها أن ثقافة الإسلام وحضارته هي مصدر الخطر وعامل التهديد لثقافة الغرب وحضارته بل هي العدو الذي تجب محاربته والقضاء عليه، وفي هذا يقول هانتنغتون: «يعتبر التفاعل بين الإسلام والغرب صدام حضارات؛ إذ أن المواجهة التالية ستأتي حتماً من العالم الإسلامي وستبدأ الموجة الكاسحة التي تمتد عبر الأمم الإسلامية من المغرب إلى باكستان التي تناضل من أجل نظام عالمي جديد»( ).

وقد نالت هذه المقالة منذ نشـرها شهرة مدوية، حتى قيل إنها أصبحت الخطة «الاستراتيجية» للولايات المتحدة في مواجهة تحديات المستقبل.

الاتجاه الثاني: يرى أن العلاقة بين الحضارات يجب أن تكون علاقة تفاهم وتعاون، وبالتالي علاقة حوار وتواصل، وقد برزت دعوات ومواقف لبناء علاقات ثقافية بين الحضارات المتعددة، منها:

الموقف الذي اتخذه الفاتيكان في عام 1969م حيث أصدر كتاباً عنوانه: «دليل الحوار بين المسلمين والمسيحيين» قدم فيه عرضاً موجزاً لبعض مبادئ الإسلام، ومن أهم ما جاء فيه: «يجب أن نعمل على معرفة قيم الإسلام ومثله... » وفيه أيضا: «علينا نحن المسيحيين أن نعترف بالمظالم التي ارتكبت في الماضي، وعلينا أن نتخلص من أسوأ مشاعر تحيزنا، وعلينا أن نذكر فكرة المسلمين عن المسيحية».( )

ويتضح من محتويات الكتاب أن الفهم الصحيح للفريق الآخر من حيث تاريخه وحاضره وثقافته هو أساس التفاهم، ولا يكون الفهم صحيحاً إلا إذا تحلى بروح العدل والإنصاف والموضوعية.

ومن المواقف التي تدخل ضمن هذا الاتجاه موقف الأمير تشارلز ولي عهد بريطانيا عندما وقف محاضراً في مركز أوكسـفورد للدراسـات الإسـلامية عن «الإسلام والغرب» حيث قال: إن سوء الفهم بين الإسلام والغرب ما يزال مستمراً بل ربما أخذ يزداد، وإن الصراع يندلع نتيجة عدم القدرة على الفهم والعواطف الجياشة التي تؤدي نتيجة لسوء الفهم إلى الخوف وانعدام الثقة... فالذي يربط بين عالمينا أقوى بكثير مما يقسمهما... لقد عانى حكمنا على الإسلام من التحريف الجسيم، أرجو أن تتذكروا أن دولاً إسلامية منحت نساءها حق التصويت في نفس الفترة التي منحت فيها أوربا نساءها الحق نفسه، بل قبل فترة طويلة من اتخاذ سويسرا نفس الخطوة، كما أن القرآن الكريم نص قبل أربعة عشر قرناً على حقوق المرأة المسلمة في الأملاك والإرث وبعض الحماية في حالة الطلاق وممارسة التجارة، وفي بريطانيا على الأقل كانت بعض هذه الحقوق غريبة حتى على جيل جدتي، فالتطرف ليس حكراً على الإسلام، بل ينسحب على ديانات أخرى بما فيها الديانة المسيحية.. إذا كان هناك قدر كبير من سوء الفهم في الغرب لطبيعة الإسلام، فإن هناك أيضاً قدراً مساوياً من الجهل بالفضل الذي تدين به ثقافتنا وحضارتنا للعالم الإسلامي، إن هذين العالمين، الإسلامي والغربي قد وصلا الآن إلى ما يشبه مفترق طرق علاقتهما، ولا يجوز أن ندعهما يفترقان، وأنا لا أوافق على مقولة إنهما يتجهان نحو صدام في عهد جديد من الخصومة والعداء، بل إنني على قناعة تامة بأن لدى عالمينا الكثير لكي يقدماه إلى بعضهما( ).

ولا بد من الإشارة هنا إلى أنه إضافة لوجود اتجاهات مختلفة ومفاهيم متباينة في تحديد شكل العلاقة بين الحضارة الإسلامية والحضارة الغربية، فإن هناك مخاوف واتهامات متبادلة بين الطرفين يجب عدم إغفالها أو التغاضي عنها.

فالمسلمون لهم مخاوفهم التي يتوقعونها من الغرب، والتي يرون أن آثار بعضها لا تزال ماثلة أمام أعينهم، وتتمثل تلك المخاوف بما يلي:

1 - خلفية الحروب الصليبية وآثارها على الأمة.

2 - الاستعمار الأوربي بشكليه القديم والحديث.

3 - مناصرة الغرب للقوى الغاشمة «الاحتلال» والتدخل في الشؤون الداخلية لدول العالم الإسلامي.

4 - الطمع في ثروات الأمة للمحافظة على مصالح الدول الغربية.

والغرب له مخاوفه أيضاً، وهي مخاوف لها دويها الإعلامي، ولها علماء ومراكز بحوث وساسة يروجونها، ويقترحون من وسائل مقاومتها ما يصبح خططاً استراتيجية تتبناها الحكومات، وتتمثل تلك المخاوف بما يلي:

1 - هجرة عدد كبير من رعايا العالم الثالث إلى الدول الغربية وخاصة دول الاتحاد الأوربي.

2 - تهديد ما يسمونه «الأصولية الإسلامية» لتلك الدول.

هذه المعطيات تشـير إلى أن مؤتمرات الحوار وندواته بمختلف أنواعها منذ ما يزيد على ثلاثين عاماً، التي كانت ترمي إلى إقامة علاقات ثقافية بين الجانبين، لم تحقق شيئاً ذا قيمة لحد الآن، ولم تصل إلى نتيجة ملموسة، وأن هذا الحوار بقي محصوراً بين نفر محدود داخل غرف مغلقة، مثل مراكز البحوث والدراسات، ذلك أن الحوار لا يتحقق إلا إذا كان هناك بين الطرفين مصالح متبادلة ترمي إلى تحقيق التوازن بين طرفي معادلة الحـوار، ولا بد لهذا التوازن من وجود قوة تقف وراءه، والقوة الوحيدة للمسلمين في الوقت الحاضر تتمثل في التضامن وجمع الكلمة وتوحيد الصف، وبذلك يعود للحوار حرارته وقوته، ويصبح الحديث عن التعاون الثقافي حديثاً مؤدياً إلى الغاية، محققاً للهدف.

ويتضح لنا من خلال ما تقدم: أن طبيعة العلاقة بين الحضارات إذا بقيت داخل مراكز البحوث والدراسة وضمن إطارها الأكاديمي ليقدم المتخصصون لأصحاب القرار السياسي صياغة علمية وتصوراً منطقياً، فإن ذلك يجعل العلاقة بين الحضارات علاقة حوار وتفاهم وتواصل.

إن نموذج الحوار بين الشعوب والأمم والحضارات يحدث عندما تكون الثقافات كلها متساوية، سواء كانت ثقافات عظمى أو ثقافات صغرى، حيث الثقافات كلها نتاج التاريخ وهي من صنع الناس، وإذا كانت الشعوب متساوية في القيمة بغض النظر عن اللون فإن الثقافات تكون هي الأخرى متساوية.

أما إذا تحولت العلاقة بين الحضارات إلى مراكز القرار السياسي ودهاليز الخطط الاستراتيجية، فإنها ستتحول لا محالة إلى علاقة صراع وتصادم وتحدي وسيطرة، مما يقضي على فكرة الحوار الهادئ بين الأطراف.

وهكذا فإن نموذج الصراع والتصادم يحدث عندما تجعل إحدى الثقافات من نفسها الثقافة العظمى، بينما الثقافات الأخرى ثقافات صغرى، حيث تكون العلاقة عندئذ نوعاً من الاستلاب الحضاري والعدوان الثقافي العلمي، وهو أشد أنواع العدوان وقعاً على الشعوب والأمم.

حوار الحضارات ضرورة إنسانية:

وبعد، فقد تكلمنا فيما مضى عن التفاعل الحضاري بين الأمم والشعوب، وعن حدود العلاقة ومجالات الحوار بين المسلمين والغرب، وعن الأقليات الإسلامية وحاجتها إلى الحوار مع المجتمعات التي تعيش وسـطها، وإذا كان لابد من الحديث عن ضرورة الحوار بين الثقافات والحضارات المختلفة فإن ذلك ينبع من طبيعة هذا العصر الذي تزايدت فيه عوامل الاتصال بين الشعوب بفعل معطيات الثورة المعلوماتية التي يعيشها العالم اليوم وسرعة نقل الحدث وانتشاره في أرجاء العالم، مما يجعل الحوار ضرورة من ضرورات العصر.

إن المفكرين اليوم يتفقون على أن العزلة بين شعوب العالم أصبحت مستحيلة بفعل سقوط الحواجز بين بني البشر ابتداء من الثورة الصناعية التي عملت مخترعاتها على التقريب بين الأمم، ثم جاءت الثورة الحديثة في وسائل الاتصال المعاصرة فقضت على البقية الباقية من الانكفاء والانعزال، فالزمن اليوم يتسارع في خطاه نحو التواصل، ومن يتباعد عن ركب الحضارة اليوم يودي بنفسه إلى الضياع، والقاعدة الإسلامية تقول: إن الحكمة ضالة المؤمن حيث وجدها أخذها، وإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية، وإن ما يقدمه العلم من مخترعات وابتكارات يمكن للمسلمين أن يوجهوها وجهة الخير وأن يوظفوها لإشاعة الرشد والصلاح.

وبناء على ذلك فإن أخطر ما يقدم إلى هذا الجيل هو الحديث عن العزلة والانكفاء على الذات بدعوى الإعداد لمولد حضارة متميزة لا يخالطها شيء من أوشاب الحضارة المعاصرة، لأن هذا التفكير يعزل أصحابه ويضعهم خارج دائرة الحركة والصراع الذي يمر به العالم المعاصر.

ومن هنا تبرز الحاجة إلى حوار هادف يقوم بين الحضارات والثقافات تتطلبه طبيعة هذا العصر الذي اشتد فيه الصراع بين الدول والأمم والشعوب وانتشر فيه النزاع حول المصالح والمواقف والسياسات، وأخذ تعامل البشر فيه طابع الحدة والضراوة، بينما تراجعت فيه القيم الإنسانية السامية التي تحث على التسامح والتراحم وتدعو إلى الإيثار وحب الخير، وبالقدر الذي تشتد الحاجة إلى حوار جدي لمد جسور التفاهم بين الشعوب والأمم تبرز حاجة مماثلة لتهيئة الأجواء الملائمة لإجراء ذلك الحوار بغرض توجيهه الوجهة الصحيحة التي تؤدي إلى تحقيق الأهداف المنشودة والغايات المرجوة.

وإن أهم الشـروط والضوابط لتحقيق تلك الأهداف هو تفعيل قاعدة الاحترام المتبادل، وضمان قدر كاف من الموضوعية والجدية في عناصر الحوار المرتقب، الذي يعمل على تعزيز الجهود الإنسانية الصادقة من أجل تقوية أسباب السلم في مدلوله العام، وتدعيم دواعي الأمن في مفهومه الحضاري الشامل.

وإذا كان العدل والحق والمساواة بين الناس هو السند الفكري لقواعد القانون الدولي، فإن هذه المفاهيم أصل ثابت من أصول الإسلام الذي أنزله الله رحمة للعالمين ودعا فيه إلى إقامة الموازين بالعدل والقسط بين الناس أجمعين، حتى أن القرآن الكريم ليشـير إلى أن غاية الرسالات السماوية التي جاء بها الأنبياء جميعاً هو تحقيق العـدل والقسـط بين الناس، وذلك في قولـه تعالى: ((لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِٱلْبَيّنَـٰتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ ٱلْكِتَـٰبَ وَٱلْمِيزَانَ لِيَقُومَ ٱلنَّاسُ بِٱلْقِسْطِ )) (الحديد:25) فإذا استند الحوار بين الثقافات والحضارات إلى هذه القاعدة وكان الهدف منه هو تقوية هذه المفاهيم كان هذا الحوار خيراً للإنسانية في حاضرها ومستقبلها، وكان عملاً صالحاً ومنهجاً قويماً يقره الإسلام ويدفع الأمة باتجاهه.

ولكن المتابع لشـكل الحوارات القائمة بين الحضارات وطبيعتها يدرك أن هذا المنهج الحضاري المطلوب اتباعه، يتم تجاوزه في أغلب الأحيان وعلى أكثر من مستوى بدافع غلبة روح الهيمنة لدى بعض الأطراف، وحرصاً منهم على المصالح المادية الآنية على حساب القيم والمبادئ الأخلاقية السامية، ومن هنا تبرز رغبة بعض أطراف الحوار في الغرب على فرض هيمنة ثقافة الغرب وحضارته على الثقافات والحضارات الأخرى، وهو أمر واقع له آثار ملموسة، وحقيقة ظاهرة لا سبيل لإنكارها أو تجاوزها.

وفي مقابل ذلك نقول: إن المسلمين وعلى مدى تاريخهم القديم والمعاصر أثبتوا أنهم دعاة حوار وتفاهم وتعاون بين بني الإنسان، وهم يصدرون في ذلك عن مبادئ دينهم وتعاليمه وعن قيم الحضارة الإسلامية التي تعايـش في ظلالها أكثر الملل والنحل وأصحاب الحضارات والثقافات المختلفة في أخوة إنسانية بعيدة عن التعصب أو فرض الهيمنة، وهو أمر يشهد به غير المسلمين في أكثر من مناسبة وعلى أكثر من صعيد.

إن التسامح والانفتاح على الثقافات والحضارات والحوار معها والتعاون لما فيه الخير للبشرية، من المقومات الأساسية للمجتمعات الإسلامية، حيث كان الفكر الإسلامي أول الأفكار الذي استطاع استيعاب وجهات النظر العلمية المتعددة وهضمها والتفاعل معها مما كان سـمة بارزة للمبادئ التي جاء بها الإسلام الذي أقر التعدد والاختلاف ودعا إلى التعايش الحضاري والثقافي بين بني البشر، ذلك أن الإسلام دين حياة وطاقة للبناء والتقدم، وليس دين جمود وانكفاء، وهو نظام يدعو إلى تبادل المنافع والخبرات لغرض صياغة حياة فاضلة تحقق لأتباعه المزيد من الاستقرار والازدهار.

وفي الوقت الذي يرفض فيه الإسلام فكرة تقليد الأمم الأخرى في عاداتها وسلوكها ويرفض مظاهر الحضارة التي تتعارض مع قيمه في اللباس وطرائق المعيشة، فإنه في نفس الوقت يسمح بالنقل والاقتباس من تلك الحضارات والثقافات في جميع مجالات الحياة الأخرى حينما لا يشكل النقل خروجاً عن المبادئ والقيم الإسلامية وثوابتها الأساسية، ذلك أن الحضارة الإسلامية لم تكن حضارة قومية أو إقليمية، وإنما هي حضارة إنسانية تمكنت أن تستوعب الجوانب المضيئة في حضارات العالم وتفيد منها إلى أقصى حد ممكن.

وإذا كان الحوار مع (الآخر) «حوار الحضارات والأديان» ضرورة إنسانية أملتها طبيعة الحياة المعاصرة، فإنه في الإسلام واجب شرعي وتكليف ديني ألزم الله به المسلمين حرصاً على إشاعة قيم التعاون والتسامح في إطار وحدة الجنس البشري، وصدق الله تعالى إذ يقول: ((يأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَـٰكُم مّن ذَكَرٍ وَأُنْثَىٰ وَجَعَلْنَـٰكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَـٰرَفُواْ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ ٱللَّهِ أَتْقَـٰكُمْ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ)) (الحجرات:13).

الخاتمة

في نهاية هذه الدراسة عن الحوار مع الذات والحوار مع (الآخر) أمكننا التوصل إلى النتائج التالية:

1- الحوار: أسلوب يجري بين طرفين، يسوق كل منهما من الحديث ما يـراه ويقتنع به، ويراجع الطرف (الآخر) في منطقه وفكره، قاصداً بيان الحقائق وتقريرها من وجهة نظره، وبهذا فإن كل واحد من المشتركين في الحوار لا يقتصر على عرض الأفكار القديمة التي يؤمن بها وإنما يقوم بتوليد الأفكار في ذهنه، ويعمد إلى توضيح المعاني المتولدة من خلال عرض الفكرة وتأطيرها وتقديمها بأسلوب علمي مقنع للطرف (الآخر) بحيث يظل العقل واعياً طوال فترة المحاورة ليستطيع إصدار الحكم عليها، سلباً أو إيجاباً.

2- إن الواجب على من يتصدى للحوار أن يكون على بينة من الموضوع الذي يحاور فيه والقضية التي يجري النقاش فيها، حتى لا يكون بعيداً عن الضوابط المعرفية والموضوعية في عملية التحاور، كما أنه ينبغي عليه أن يتزود بالثقافة العامة التي تجعله قوياً في حجته أمام خصومه من خلال إحاطته بعناصر القضية التي يتحاور فيها، وعليه أيضاً أن يكون ملماً بالثقافة المضادة التي يملكها الطرف (الآخر) ليسهل عليه الوقوف على نقاط الضعف والقوة عند خصمه، وليستطيع الموازنة والمفاضلة بين الفكرتين بمنطق العقل والعلم والدليل.

3- إن مقومات الحـوار تتطلب توفر أركانه متمثلة بطرفي الحوار، وبالقضية التي يجرى الحوار بشأنها، كما أن مقومات الحـوار تتطلب جملة من القواعد والأسس التي تتعلق بالعملية الحوارية من خلال اعتمادها على العقل والمنطق، وعدم التناقض في المقدمات والأدلة، وإنصاف الخصم وحمايته، وتحديد الغاية والهدف، وتوفير الأجواء الهادئة والمناسبة للتفكير السـليم، وإعداد خطة علمية مبرمجة للشـكل والمضمون، وبهذا نضمن حواراً علمياً ومنطقياً يعتمد الحجة والدليل، ويقدم الفكرة بعقلية مرنة وأسلوب واضح بعيداً عن الأهواء والشهوات.

4 - إذا أردنا للحوار أن يبقى عذباً رقيقاً، بعيداً عن التنكيل والمهاترة، فلا بد أن يرتبط بمجموعة من الآداب الفاضلة والأخلاق النبيلة من أجل أن يبقى الفكر متقداً والعطاء موصولاً، وأبرز تلك الآداب عفة اللسـان والقـلم، وحسـن الصمت والإصغاء، والتواضع من قبل الطرفين، واحترام شخصية المحاور، وأن يصطبغ الحوار بالهدوء والروية والمودة والاحترام.

5 - إن من أقبح الصفات أن يتنزل العلماء في حوارهم إلى جارح اللفظ وسيئ العبارة، معللين ذلك بضـيق الصدر ونفاذ الصبـر، فقد قيل: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ادْعُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ.. قَالَ: «إِنِّي لَمْ أُبْعَثْ لَعَّانًا وَإِنَّمَا بُعِثْتُ رَحْمَةً»( )، كما روي عن النبي أنه قال: «سِبَابُ الْمُسْلِمِ فُسُوقٌ، وَقِتَالُهُ كُفْرٌ»( ).

والمتتبع للحوارات التي يزخر بها تراثنا يدرك الأدب الرائع بين المتحاورين في أدق قضايا الإسلام وأحكامه، ويطلع على النماذج المشرقة التي حواها ذلك التراث الفكري والمعرفي، ولعل أبرز دليل على ذلك الحوار الرائع الذي جرى بين عمر بن الخطاب رضي الله عنه وعدد من صحابة رسول الله حول توزيع الأراضي على المقاتلين، فقد كان موضوع الحوار منصباً على تفسير آيات عديدة من القرآن الكريم، ومع ذلك لم يشتد عمر في كلمة، ولم يعنف أحداً في عبارة، وإنما تبادل الجميع الرأي بالرأي والحجة بالحجة حتى اقتنع الجميع برأيه وقالوا : نِعْم ما قلت وما رأيت( ).

6 - يعد الحوار مع الذات أحد نوعي الحوار العلمي الذي يذكي في نفس المحاور العمل على مراجعة الأفكار، وتصحيح المواقف، من خلال الاعتماد على خلجات النفوس وأحاسيسها الداخلية، الأمر الذي يؤدي بالنتيجة إلى رقابة الإنسان على نفسه وأفكاره من جهة، أو من خلال محاورة الإنسان لبني جنسه الذين يلتقون معه في قدر كبير من المصالح المشتركة، الأمر الذي يعمل على تفعيل النقد الذاتي البناء مما يصح أن يطلق عليه «حوار الأنا» أو «حوار الذات» ليكون هذا النوع من الحوار فاتحاً لآفاق واسعة من الحوار مع (الآخر) ذلك أنه «إن لم تستطع محاورة نفسك فإنك لا تستطيع محاورة الآخرين»( ).

7 - إن المتتبع لوضع العالم الإسلامي اليوم وما يمر به من أحداث عصيبة ومتنوعة يجد أن أمام أبنائه مهاماً كبيرة لبناء الذات وتصحيح المواقف وازدهار الحياة، ولذلك فهو مدعو الآن أكثر من أي وقت آخر إلى أن يتعامل مع تلك الأحداث بعقلية مرنة وتفكير ناضج يستطيع من خلالها الانفتاح على آفاق العصر ومعطياته المتجددة، والدخول في حوارات جدية وهادفة مع جهات عديدة وعلى مستويات متنوعة ليثبت جدارته وأهليته للمساهمة في صياغة حضارة إنسانية تسود فيها قيم الخير والحق والفضيلة ويبرز فيها مبدأ التعاون والتسامح.

8 - إن أطراف الحوار حول قضايا الإسلام وأحكامه يجب عليهم أن يدركوا أن وحدة «الحقيقة» لا تنفي تعدد زواياها واختلاف العقول في تفسيرها، ومن هنا سجل التاريخ اختلاف الصحابة في أمور عديدة وردت فيها نصوص قرآنية وأحاديث نبوية، كما سجل التاريخ اختلاف التابعين وتابعيهم والأئمة المجتهدين من أصحاب المذاهب من بعدهم في الكثير من المسائل الفقهية دون نزاع بينهم أوإيغار للصدور أو جرح للكرامة، فالقاعدة عندهم: «أن الاختلاف في الرأي لا يفسد للود قضية».

9 - إن الملاحظ على أتباع المذاهب والفرق الإسـلامية في هذه الأيام أنهم يتعاملون بسلبية، بعضهم مع بعضهم الآخر، وهذا لاشك موقف انهزامي لا يحل مشكلة ولا يوصل إلى نتيجة ولا يحقق هدفاً، ولذلك فإننا نوجه دعوة مخلصة إلى كل مسلم أيّاً كان مذهبه وإلى أي مدرسة فقهية ينتمي أن يوطن نفسه للحوار والمناقشة مع الأطراف الأخرى لنـبدأ معاً رحلة «الحوار مع الذات» فالاخـتلاف في الرأي لا يفسـد للود قضية، ومن لا يستطيع محاورة نفسه لا يستطيع أن يحاور الآخرين، ولتكن قاعدة الحوار فيما بينهم: «مذهبنا راجح يحتمل الخطأ ومذهب غيرنا مرجوح يحتمل الصواب» وليحيا الجميع في ظل القاعدة الذهبية للاجتهاد الإسلامي التي روي مضمونها عن رسول الله بقوله: «إِذَا حَكَمَ الْحَاكِمُ فَاجْتَهَدَ فَأَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ وَإِذَا اجْتَهَدَ فَأَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ»( ).

10- إن نظرة متفحصة وهادئة لواقع العلاقة بين الإسـلام والعروبة تثبت أن الخطر على الإسلام لا يتأتى من العروبة ولا من دعاتها المستنيرين، ولكنه يأتي من أعداء العروبة ومن دعاتها الذين لم يعرفوا أحكام الإسلام ونظمه وقوانينه فجحدوا فضـله على العرب، كما أن الخطر على العروبة لا يأتي من الإسلام ولا من المسلمين المستنيرين، وإنما يأتي من الذين يحاولون تشويه الإسلام والعروبة على السواء، ويسعون لتعميق الخلافات بين الأخوة بداعي الخوف والحذر، وكذلك يأتي من بعض الجهلة الذين لم يصلوا إلى اكتشاف العلاقة التكاملية بين الإسلام والعروبة، ومن هنا فإننا نقدم دعوة مخلصة إلى الطرفين، فليقبل دعاة القومية والعروبة الذين لايعرفون من الإسلام سوى اسمه إلى هذا الدين يتدارسونه ويتعرفون عليه، وليقبل دعاة الإسلام على العروبة يتدارسونها ويتعرفون عليها. وعندها لا يبقى في ميدان الجدل والخصومة في معركة العلاقة بين الإسلام والعروبة سوى الأعداء الحقيقيين والجهلة المتعصبين.

وبناء على هذه المفاهيم السابقة يتقرر أن المسلم الحق هو الوطني المخلص وهو القومي المناضل، وهو العالمي الأصيل، وقد أثبت التاريخ المعاصر أن أبطال الوطنية في بلادنا العربية والإسلامية كانوا إسلاميين أمثال الأمير عبد القادر في الجزائر، وأحمد عرابي في مصر، وعمر المختار في ليبيا، وعبد الكريم الخطابي في المغرب، وأمين الحسيني في فلسطين، والشيخ ضاري المحمود في العراق، ومحمد ناصر في أندونيسيا، وأبو الكلام آزاد في الهند، وأبو الأعلى المودودي في باكستان، وغيرهم الكثير مما يثبت أنه لا يوجد تقاطع كبير بين الخصوصية القومية أو الوطنية وبين الالتقاء تحت مظلة الإسلام باعتباره الوطن الأكبر لأبناء الأمة.

11ـ يمكن تحديد برنامج الحوار بين الحكام والقادة من جهة، وبين العلماء والمثقفين من جهة أخرى بأن يدرك الكثير من الحكام أن المثقفين ليسوا خطراً على أحد منهم، فهم أصحاب رسالة ورأي وفكر، وإن أقصى ما يملكونه هو التعبير عن هذا الرأي والفكر بأقلامهم وألسنتهم إذا ما أتيح لهم الجو المناسب لإبداء الرأي وتقديم النصيحة، كما أن على الحكام استيعاب المثقفين داخل تيار العمل الوطني باعتبار ذلك جزءاً من مسؤوليتهم، بدلاً من الحرص على إسكاتهم أو شراء ذممهم أو احتوائهم.

وفي مقابل ذلك يجب أن يدرك المثقفون حجم التحديات القائمة، وفداحة الأخطار المحيطة، وأن دورهم العلمي والتوجيهي يتطلب منهم أن يقدموا أكثر من النصيحة المجردة التي يلقيها صاحبها من برجه العالي ثم يمضي، وإنما يجب عليهم المشاركة الحقيقية في توجيه الناس وتبليغهم، لأن المرحلة الحرجة من حياة الأمم تتطلب عملاً دؤوباً واقتراباً من صنع القرار واستعلاءً على كلمات التجريح واتهامات الجري وراء المصالح الذاتية.

وبناء على هذه الأسـس المتقدمة يمكن التأسيس لحوار هادف وبناء يسعى للتواصل بين الحكام وشعوبهم، ويتيح للجميع المشاركة في اتخاذ القرار وتحمل المسؤوليات التي تقع على عاتق الجميع، كل من منصبه، وبأسلوب من الاحترام المتبادل بعيداً عن الانتقاص من مكانة أي طرف من الأطراف، لأن أبرز مقومات نجاح الحوار هو حفظ مكانة الطرف (الآخر) والمحافظة على حقه وإنصافه من كل وجه، بغض النظر عن صفة المحاور أو مركزه العلمي والاجتماعي؛ لأن الأمر المهم في الحوار هو إبراز حق الخصم وإنصافه حتى لا تنقلب المحاورة إلى مكابرة.

12- إن المسلمين وعلى مدى تاريخهم القديم والمعاصر أثبتوا أنهم دعاة حوار وتفاهم وتعاون بين بني الإنسان، وهم يصدرون في ذلك عن مبادئ دينهم وتعاليمه وعن قيم الحضارة الإسلامية التي تعايش في ظلالها أكثر الملل والنحل وأصحاب الحضارات والثقافات المختلفة في أخوة إنسانية بعيدة عن التعصب أو فرض الهيمنة، وهو أمر يشهد به غير المسلمين في أكثر من مناسبة وعلى أكثر من صعيد، ذلك أن التسامح والانفتاح على الثقافات والحضارات والحوار معها والتعاون من المقومات الأساسية للمجتمعات الإسلامية، حيث كان الفكر الإسلامي أول الأفكار التي استطاعت استيعاب وجهات النظر العلمية المتعددة وهضمها والتفاعل معها، مما كان سـمة بارزة للمبادئ التي جاء بها الإسلام الذي أقر التعدد والاختلاف ودعا إلى التعايش الحضاري والثقافي بين بني البشر، وإذا كان الحوار مع الآخر«حوار الحضارات والأديان» ضرورة إنسانية أملتها طبيعة الحياة المعاصرة، فإنه في الإسلام واجب شرعي وتكليف ديني ألزم الله به المسلمين، حرصاً على إشاعة قيم التعاون والتسامح في إطار وحدة الجنس البشري، وصدق الله تعالى إذ يقول: ((يأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَـٰكُم مّن ذَكَرٍ وَأُنْثَىٰ وَجَعَلْنَـٰكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَـٰرَفُواْ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ ٱللَّهِ أَتْقَـٰكُمْ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ)) (الحجرات: 13).

13- إن الحوار الذي يراد منه أن تتخلى الأمة عن هويتها وخصائصها الذاتية وتصوراتها الفكرية لا يمكن أن يكون في حال من الأحوال تفاعلاً إيجابياً وناجحاً؛ لأنه بذلك يكون نوعاً من أنواع التبعية الثقافية والفكرية، كمأ أنه يؤدي إلى أن تصبح الأمة متلقية لفكر جديد وتصور مستورد، وعندئذ ستكون مغزوة في فكرها ومهددة في وجـودها وكيانها، وسـتكون ضحية عدوان أيديولوجي وفكري وثقافي وهو أشـد أنواع العدوان وأعلى مرحلة من مراحل محو الثـقافة، ولن ترضى الأمة الإسلامية أن يكون التفاعـل الحضاري غزواً لثـقافتها أو محواً لحضارتها، وذوباناً في ثقافات الأمم، واندماجاً في حضارات الشعوب، بدعوى التواصل الثقافي أو التحاور الحضاري، فالعالم العربي والإسـلامي الذي يمد جسـور التلاقي والتعاون والتفاعل مع الأديان السماوية والثقافات والحضارات الأخرى لا يقبل أن يكون ضحية تغريب العالم من خلال تفاعل حضاري يفقد معنى العطاء المتوازن والمنفعة المتبادلة.

14- إن العالمية التي يدعو إليها الإسلام لا تتعارض في حال من الأحوال مع مبدأ الحوار، وإنما تتفق معه بكل جوانبها، لأنها تعني الاعتراف بواقع الأديان والحضارات والثقافات الأخرى، ولأنها تمهد الطريق للتعاون بين بني البشر وفق معطيات التفاعل الحضاري، دون أن يفرض طرف ثقافته ومعتقداته على الطرف الآخر، فهو بذلك حـوار يحفظ للشعوب هويتها وخصوصيتها الثقافية ويمنع الصدام والتناحر والعدوان.

أما العولمة، فإن العالم الذي يعيش تحت مظلتها لا يمكن أن يقوم فيه حوار يعتمد أسـس التفاعل الحضاري الذي يؤمن به الإسلام في علاقته مع الأمم الأخرى، وإنما سيكون الحوار في ظل العولمة حوار الهيمنة والسـيطرة وفرض الأمر الواقع، ثقافـياً واقتصادياً وسياسياً، وهو ما يرفضه الإسـلام ولا يرضاه لأتباعه.. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

المصدر: http://library.islamweb.net/newlibrary/display_umma.php?lang=&BabId=14&C...

الحوار الداخلي: 
الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك