حتى لا تختلط الأوراق ويغتال الغلاة المشروع الإسلامي

مشروعنا السياسي الإسلامي

حتى لا تختلط الأوراق ويغتال الغلاة المشروع الإسلامي

زهير سالم

 

في المرجعية

 

مشروعنا السياسي يتعرض المشروع الإسلامي، في هذه الأيام، إلى حزمة من المخاطر والتحديات تتعانق فيها عمليات التشويه مع محاولات الإقصاء والعزل والحرف مشفوعة بالكيد والمكر والتهديد. ولم يجتمع أعداء المشروع الإسلامي يوماً عليه كما يجتمعون اليوم؛ حيث يتآلب الدولي والإقليمي والمحلي، ويأتلف الجميع على حرب (المشروع الإسلامي) المعتدل، ويرون فيه نقيضهم العملي بخلفياته الدينية والمذهبية والفكرية، بمنهجه الوسطي وتجاربه الواعدة، وقواعده البشرية المستنيرة والمبشرة. وينخرط في حرب هذا المشروع كلُّ من رأى فيه بَعد (الربيع العربي) تهديداً لمصالحَ أَمرَع أصحابُها وهم يفسدون في الأرض ولا يصلحون، تحت عنوان الاسلام وباسم عقيدته وشريعته، أو باسم الإنسان إرادته وحريته وحقوقه…

 

ولعل أخطرَ ما يتعرض له المشروع الإسلامي اليوم هو استعلانُ أمر فئةٍ من الغلاة تُسيءُ إلى الإسلام ومشروعه باسمه، وتسبقُ إلى تقديمِ أنموذجٍ شائهٍ عنه. أنموذج خِداج يتقدم به أغمارٌ وأخلاط طالما ابتُليَت بهم دعوة الإسلام ومجتمعاته على مرّ التاريخ. ومع تآلب أعداء المشروع الإسلامي عليه، واجتماعهم عليه، واستعانتهم في حربه بما يفعله الغلاة الأدعياء المشوهون (بفتح الواو وكسرها)، لم يعد يكفي حَمَلةَ المشروع العصري في الإعلان عن أنفسهم، وفي التعريف بمشروعهم أن يكتفوا بوصف مشروعهم بأنه (وسطي معتدل) أو بأنه يعتمد رؤيةً عصرية (لإسلام متجدد) أو أنه يختار (الأيسر والأقرب ما لم يكن إثماً)…

 

بل غدا من الضروري أن يتقدمَ حملةُ المشروع الإسلامي الوسطي خطوات على طريق تقديمه وشرحِ أبعادِه، والوقوفِ عند مفاصله. وعليهم أن يفعلوا ذلك في هذه الجولة من الصراع على محورَين؛ الأولُ يعتمد المزيدَ من البيان والتوضيح من المجملَ إلى المفصَّلِ، ومن العام إلى الخاص، والثاني محور التميّز عما ينهجه الغلاة الضُّلّال الذين يدّعون تمثيل الإسلام الحق، أو أنهم يقدمون أنموذجاً عنه…

 

 

لقد تمثلت المرجعية الإسلامية كما حددها حملة المشروع الإسلامي من قبل في (المحكم من الكتاب والسنة الصحيحة)، وفي الاختيار مما يناسب العصر من اجتهادات فقهاء الإسلام، ثم في الاستفادة من تجارب وخبرات الأمم والشعوب، ولكن هذا المجمل العام لم يعد يكفي في تقديم هذا المشروع وشرح أبعاده وتمييزه عما ينهج الضالون…

 

دائماً كان النص الشرعي وسيبقى مصدراً أساساً يصدر عنه كل الذين يُمَسِّكون بالكتاب، ويُصِرون على أن يدوروا معه حيث دار، ودائماً كان أهم ما اختلف فيه العلماء والمجتهدون هو (المنهج) في التعامل مع هذا النص القدسي، الذي ظل دائماً موضع الاحترام والتوقير..

 

إن الأمر الأول الذي يجب أن يكون واضحاً وفارقاً في الوقت نفسه أن رؤيتَنا المستقبليةَ تَنتَصِبُ في أفق إعادة بناء المجتمع المسلم والدولة المسلمة بناء عصرياً جديداً، على الأسس والقواعد الكلية والعامة التي أقرها القرآنُ الكريم. وأكّدتها شريعةُ الإسلام في مقاصدها الكلية العامة.

 

ثم إنه يجب أن يكونَ واضحاً للقريب والبعيد أن جوهرَ مشروعِنا الإسلامي لكل عصر قد احتوته سورة العصر: إيمان.. وعمل صالح.. وتواصٍ بالحق.. وتواصٍ بالصبر. إيمان بأركانه ومبادئه، وعمل صالح بضوابطه، وتواصٍ بالحق في الالتزام وتواصٍ بالصبر في القبض على جَمرِ ردّ كيد الكائدين.

 

ثم لقد أصبح من واجب الوقت أن نُبادرَ، أصحابَ المشروع الإسلامي، إلى إعلان التزامنا المتميز والفارق بعقلِ عُمرَ الفاروقِ وفقهِه بدون تردد ولا تلعثُم، عقل عمر وفقهه ليس في الوقائع الفردية التي سَنَّها عمر، بل في منهج عمر في فقه النصّ والتعامل معه، وفي موقفِه منه..

 

فبعد بضع سنواتٍ من وفاة الرسول الكريم صلى الله وسلم عليه، بل بعد بضع سنوات فقط من نزول قوله تعالى: {اليومَ أكمَلتُ لكُم دينَكُم وأتممَتُ عليكُم نعمتي ورَضِيتُ لكمُ الِإسلامَ ديناً} [المائدة: 3] وضعَ عمرُ رضي الله عنه الأساس لمدرسةٍ في الفقه لم تَجدْ لها في حياة المسلمين، مع الأسف، بقاءً أو نماءً. ولقد نهجَ عمرُ رضي عنه للمسلمين منهجاً في الفهم والفقه كان وما زال يستحقُّ أن يَجِدَ على مر العصور متابعين وأنصاراً. إن المشروعَ الإسلامي الوسطي اليوم هو الأحوج إلى المنهج العُمري في الفقهِ وبُعدِ الرؤية في الاستنباط. المشروعُ الإسلامي بحاجة إلى الجهر بالمنهجية العُمرية كعلامة مميِّزة وفارِقة لمنهجِ أصحاب المشروع الإسلامي وفقههم..

 

فهل سيرتقي حَمَلة المشروع الإسلامي الوسطي الذين يتقدمون بالإسلام إلى أفق عُمري، في منهجه وليس في وقائعه وجزئياته؟ عُمَر الذي قال عن المؤلفة قلوبهم: إن الله أغنى عنهم بعز الإسلام، فأوقَفَ العمل بسَهمهم الذي نصت عليه آية من كتاب الله، وعُمَر الذي نظر إلى سواد العراق فرآه أكبرَ من أن يكون فَيئاً للجند الفاتحين، فقال: ومَن مِن بَعدُ لذراري المسلمين؟ عُمَر الذي رأى خَصاصةَ الناس وجوعَهم في عام الرَّمادة فوضع عنهم حد السرقة، لأن الخَصاصة التي كان فيها الناسُ تشكِّل ظَرفاً مخفِّفاً للعقوبة، عمر الذي كان يمتلك الرؤيةَ ويمتلك القوةَ لينظرَ بنور الله، وليعملَ على المقصد الأَسمى للفقه الذي استقاه نقياً من سيدنا رسول الله…

 

فهل سترتقي القياداتُ الإسلامية إلى أفق رسم المشروع الإسلامي في مقاصده الغائية العليا، وليس في وقائعة الزمنية المحدودة.

 

ثم في حديثنا عن المرجعية الإسلامية، وحين يعود المسلم إلى خزانة الفقه الإسلامي، هذا التراث العلمي والفكري والقانوي العظيم، سيجد أبواباً فيه نَسَخَ الحديثَ عنها الزمانُ، ومكانُها الحقيقي هو تاريخُ الحضارة وتاريخُ الإنسان وتاريخُ الشرائع، وليس فقه الحياة. والمسائل في ذلك أكثرُ من أن يُحيطَ بها مقال. ولو أردنا أن نستقصي لأَطَلْنا ولو ضربْنا مثلاً أو مثَلَين لأخلَلْنا. ولكن عند أي استعراض لأبواب وفصول موسوعةٍ فقهية من مثل “المجموع” للنووي أو “المبسوط” للسرخسي أو “الحاشية” لابن عابدين سنجد أبواباً كثيرة تَطرحُ موضوعاتٍ هي للحياة التاريخيَّة أقربُ، وبمواضعاتِها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية ألصَقُ. فأين ستقعُ في سياق هذا العصر أبواب من الفقه تعالجُ موضوعاتِ مثل الرقيقِ والإماء والتَّسَرِّي والاستيلاد والعِتق والتدبير والولاء؟ والمَثَلُ فيما لا مجال للتردّد فيه يُغني عما عداه.

 

لقد آن الأوان لحسم القول، وهو محسوم، في هذه الموضوعات، والصَّدعِ فيها بالحق، والتأكيدِ على أنها لم تعد من قضايا الحياة العامة، كما لم أنها ليست من متعلقات مشروعِ الإسلام. ووراءَ ما ذُكِرَ الكثيرُ مما لم يُذكرْ مما لا يحتمل ذكره في مقال..

 

وبيانٌ أخير لا بد منه في إطار الحديث عن المرجعية، وهو أننا إذا اعتبرنا تراث الإسلام الفقهي ثروةً وغنىً نتخير منه ما يصلح لعصرنا، ويحقق مصالح شعوبنا، فإن من تمام هذا الإعلان أن نؤكد أن كل ما سَبَقَ إلى تسطيره أو تقريره قياداتُ العمل الإسلامي المعاصر، ولا يُستثنى منهم في هذا السياق أحد، هو مجرد اجتهادات شخصية، يُقبل من أصحابها ويُرد عليهم. وإن بعض هذه الاجتهادات كان ابنَ ظَرْفِه ووقتِه وشرطِه، ولا يُلزِمُ أصحابَ المشروع الإسلامي في شيء. فانتماءُ المشروع الدعوي الإسلامي المستنير هو دائما للحق والحكمة، وهو في مراجعات دائمة، يُعيد استقبال ما استدبر ليكون فيه مع الحكمة ومع الصواب.

 

ورائده في كل ما يقررُ ويدبرُ قولُه تعالى: [قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف: 108].

المصدر: https://alfajrmg.net/2015/05/09/%D8%AD%D8%AA%D9%89-%D9%84%D8%A7-%D8%AA%D...

 

الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك