النّقد حين يعتبر حرباً

د. بندر آل جلالة

 

خلال الخمس عشرة سنة الماضية كثر الحديث عن تنمية الشخصيّة, وكان النّقد من أهم الأفكار التي تمّ طرحها, ولكنّ المشكلة أنّ أغلب الطّرح كان يغرس في أذهان المتلقّين أنّ الشّخص الذي يتعرّض للنّقد هو ناجح وعظيم, وأنّ ذلك مؤشّر على ارتفاع منزلته, وقد يكون ذلك صحيحًا، ولكنّ الإشكال أنّ هذا الفهم أثّر بشكل سلبيّ و فظيع على الكثير, فتجدهم ينظرون لمعظم النّقد على أنّه أداة هدم ومعول تحطيم, فحين يفكّر الشّخص بهذه الطّريقة سيكون على حافّة منزلق خطير يهوي به في جوف الفشل الحقيقيّ, ومع أنّ التّفرقة بين النّقد السّلبيّ والإيجابيّ صعبة في بعض الأحيان إلاّ أنّ الشّخص مطالب بأن يتجرّد من رغبات ذاته حتى يتمكّن من معرفة مكمن الحقيقة.

يمارس النّاس النّقد بشكل يوميّ باختلاف اهتماماتهم، وكلّما ارتقى وعيهم كلّما كان نقدهم بناءً ومحفّزًا للتّطوير، لذا فكلّ شخص معرّض لتقييم الآخرين مهما كانت مكانته ومعرفته، خصوصًا في ظلّ الانفتاح الإعلامي المبهر، فلا مناص للمرء من أن يتآلف مع النّقد ويتعايش معه كجزء أساسيّ في تنمية قدراته وتحسين أدائه.

فصاحب الثّقة العالية والشّخصيّة القويّة هو الأقدر على تقبّل النّقد، بينما المهزوم من داخله والمتهالك في ذاته يعتبر النّقد سكينًا لقطع شريان الحياة في جسمه.

ومن المؤسف أن نجد معظم المسؤولين يحيطون أنفسهم بكمية هائلة من الأجساد التي تكيل المدح والتأييد والتّطبيل ليل نهار، ويجدون في ذلك أوكسجين لا يقدرون العيش بدونه.

إنّ من المؤكّد أنّه لا يمكن لأيّ مجتمع أن ينمو إذا لم ينتشر بين فئاته ثقافة تقبّل النّقد، ولقد ضرب لنا القرآن الكريم أروع الأمثلة في توجيه النّقد بهدف التقويم والتّعديل، حيث إن الربّ – جل وعلا – انتقد بعض أفعال نبيّه – صلّى الله عليه وسلّم، في عدّة مواضع منها قوله تعالى: (مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)، وقوله: (عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ)، وقوله: (وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ).

إنّ النّهضة مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالنّقد، فهو لها أشبه بالحبل السّري للجنين لا يمكن أن تحيا بدونه، فكلّ نظريّات التّقدم والإصلاح حملت في معانيها روحًا نقديّة للواقع، والتّاريخ يحتفظ في بيته بنماذج كثيرة.

ينبغي أنْ ننظر للنّقد على أنّه مرآة لمظهرنا، وأنّه جوهرة ثمينة بغضّ النّظر عن العلبة التي توضع فيها؛ فالآخرون عاشوا وقرؤوا وجرّبوا بطرق تختلف عنّا، والاستماع لرأيهم يمنحنا قدرًا كبيرًا من التوازن الداخليّ، ويشعرنا بنقصنا الإنسانيّ الطبيعيّ ويحمينا من الغرور والتّكبّر.

فمعظم ما نعتقده أو نفعله أو ندعو له  قابل للمراجعة والنّظر، والنّقد كفيل بأن يمنحنا مساحة للتأمّل والتّصحيح، فإنْ كان صحيحًا فلنتحرّر من رغبة النّفس ولنعمل به, وإنْ كان خاطئًا جارحًا فلنعتبره وجهة نظر نحتفظ بها؛ فقد يأتي يوم نجد أنّها قمّة الحقيقة، وهذا يمكّننا من القيام بعكس ما كنّا نظنّ بصحتّه، بينما لو حاربنا ذلك بشدّة فقد يصعب علينا العمل به حين نكتشف صحّته، فكم من نقد وُجّه لشخص ما فاعتبره حربًا، وحين تقدّمت به السّنّ أيقن أنّه لو أزال تلك القضبان المتصلّبة من أمام تفكيره لأصبح نجمًا شامخاً.

المصدر: http://feker.net/ar/2012/01/04/10288/

الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك