القراءة المؤسسة للإبداع
تشكل الانطباع السائد على أن القراءة في العالم العربي في حالة ضعف وانحسار بالمعيار الكمي المنشئ لسوق ناجحة ومزدهرة للنشر، أو هي أقل من المستوى المطلوب والكافي لتطوير حالة اجتماعية ثقافية، تجعل القراءة بخاصة والثقافة بعامة في سياق صحيح، لتحقيق التنمية والتقدم وتحسين الحياة وتطوير المهارات العامة والمعرفية للأفراد والمجتمعات وتعزيز مستوى الإبداع في التعليم والعمل والحياة.
ولكن تبدو مقولة ضعف أو انحسار القراءة والنشر في الفضاء العربي متسرعة وغير كافية، أو لا تعبر عن المشهد كاملا، إذ يمكن القول ثمة مؤشرات سلبية وأخرى إيجابية على حالة القراءة والقراء في العالم العربي؛ فمازالت دور النشر العربية تعمل وتصدر كتبا جديدة، ويمكن للمثقف والمتابع أن يلاحظ حركة إيجابية في التأليف والنشر، ومعارض الكتب أيضا تواصل عملها في كثير من العواصم والمدن العربية على نحو منتظم، وتعمل حركة الترجمة إلى العربية جيدا، وتقدم إلى المكتبة العربية عددا كبيرا ونوعيا من الكتب والإصدارات، وهناك دور نشر ومؤسسات رائدة في الترجمة، قدمت إلى القارئ العربي مكتبة مهمة، وأتاحت له الاطلاع على الإنتاج الفكري العالمي، وإن كان بعض المثقفين ينتقد الخلل التخصصي والموضوعي في اتجاهات الترجمة، وضعف الترجمة عن لغات تقدم اليوم إنتاجا مميزا في عالم الفكر والعلم والثقافة، مثل اللغات الصينية واليابانية.
وتواصل مراكز الدراسات العربية عملها، ويتزايد عددها، وتنظم المؤتمرات والندوات وتصدر الكتب والدراسات كما تعمل في الترجمة والنشر، وكذلك المجلات والصحف ومحطات الإذاعة والتلفزيون والمواقع العربية الثقافية والعامة، فإنها تواصل دورها وعملها في نشر الإنتاج الفكري والثقافي والإبداعي.
وبطبيعة الحال، فإن عمليات التعليم في المدارس والجامعات تتضمن عمليات قراءة منهجية وغير منهجية، كما أن الوزارات والمؤسسات والروابط والجمعيات الثقافية تقوم بدور إيجابي وعملها ينمو ويتواصل في النطاق الرسمي والمجتمعي، وتؤشر الجوائز الثقافية والإبداعية الإقليمية والوطنية إلى حراك ثقافي واهتمام رسمي واجتماعي بالثقافة والفنون، ويتضمن ذلك القراءة بطبيعة الحال. وتقدر مؤسسة الفكر العربي أنه يصدر حوالي عشرين ألف عنوان سنويا في العالم العربي.
وفي المقابل، يمكن رصد حالات ومؤشرات واضحة على ضعف القراءة وانحسارها؛ مثل غياب أو ضعف العلاقة بين التعليم المدرسي والجامعي والتدريبي والقراءة غير المنهجية أو الإضافية، وضعف حركة النشر تجاريا وعجز الناشرين والمؤلفين عن تسويق الكتب والمجلات، وتواضع أرقام النشر والتسويق والتأليف. وعزوف المؤلفين والأدباء والأكاديميين عن النشر بسبب عدم جدواه، وضعف محتوى الكتاب العربي وعجزه عن المنافسة العالمية وعن تلبية التطلعات المعرفية والإبداعية والفنية. وبطبيعة الحال، فإن ذلك يعكس ضعفا في القراءة، لأن الطلب ينشئ العرض! وغياب أو هشاشة المكتبات المنزلية والمكتبات العامة في المدن والبيوت والأحياء. وانحسار أو ضعف أو غياب الأنشطة وأنماط الحياة والتمدن والسلوك الاجتماعي التي تعكس ضعف القراءة والثقافة الراقية، مثل الحضور والمشاركة في الندوات والمحاضرات والمسرحيات والحفلات الموسيقية، واتجاهات الغناء والموسيقى الأقل ارتقاء بالنفس والروح وعلاقة بالحياة ومعانيها الجميلة والمتنوعة، وشيوع كثير من الحالات التي تعكس غياب الثقافة الاجتماعية المتقدمة، مثل ضعف الالتزام بالقانون والسلوك غير الاجتماعي.
ويمكن بوضوح ملاحظة الخلل في اتجاهات النشر والتأليف والترجمة؛ ففي عمليات تصنيف الكتب المنشورة حسب الموضوعات والتخصصات أو حسب تقييمهما ومستواها الفكري والعلمي، أو حسب انتشارها وترجمتها إلى أكثر من لغة، نجد أن ثمة غيابا مفزعا في حقول معرفية مهمة ورائدة أو عن الحضور في لغات وحضارات أخرى، وأن ثمة حضورا مفزعا وكثيفا في مجالات واهتمامات واتجاهات تحتاج إلى تهذيب، إن لم يكن استغناء أو تقليلا منها.
وهناك أيضا ضعف في المستوى المعرفي فيما يقدم في وسائل الإعلام؛ وضعف مستوى الجدل الفكري؛ ما يظهر ضعفا في القراءة، وغياب أو ضعف مستوى الفلسفة والفنون والإبداع في التعليم والحياة يعني بالضرورة ضعف القراءة وانحسارها، وغياب تأثير الثقافة على الموارد وتحسينها والأسواق واتجاهاتها ومستوى المعيشة والحياة وأسلوبها، إذ يفترض أن تشكل الثقافة الراقية والقراءة النافعة حضورا في السياسة والاقتصاد والمجتمعات والذوق والاستهلاك وتصميم البيوت والأثاث والملابس، وأن تنشئ للأفراد والمجتمعات موارد جديدة، أو تحسن الموارد القائمة.
ويعاني النشر والإنتاج الفكري العربي من ضعف المساهمة العالمية في الفكر والثقافة في تصدير المنتجات الثقافية والإبداعية واستيرادها، ما يعني ضعف مستوى الثقافة والإبداع، وربما يكون لذلك أيضا علاقة بالتطرف والنظرة إلى العرب، وتحولهم (ربما) إلى أمة غير قادرة على تقبل العالم وأن يتقبلها العالم، ويمكن الإشارة على سبيل المثال، إلى العرب المتوطنين في بلاد الغرب، والذين انتقلوا للمشاركة مع الجماعات الإرهابية أو شاركوا في عمليات إرهابية في بلادهم التي استوطنوها.
في الحديث عن الإقبال على القراءة، يمكن رصد ثلاثة تحديات رئيسة: أن تنشئ القراءة سوقا واتجاهات استهلاكية واقتصادية وتجارية تجعل الكتاب المهم والجيد سلعة ناجحة اقتصاديا، وبناء اتجاهات اجتماعية وثقافية إيجابية تجاه القراءة، وتحويل الثقافة والقراءة والفنون والإبداع إلى مكون اجتماعي ومورد يظهر على نحو مباشر وغير مباشر في تحسين الموارد والحياة، وبناء علاقة طردية بين القراءة والتعليم والتدريب والتعليم المستمر والعمل والارتقاء والإبداع والتقدم في العمل.
وتواجه صناعة النشر تحديات عدة، منها التحولات الرقمية والقدرة على تحويلها إلى مجالات وأسواق للقراءة والنشر، وتنظيم وتطبيق قوانين وقضايا لملكية الفكرية وحقوق المؤلف، وتنظيم التسويق، والبيئة الاجتماعية والاقتصادية التي تجعل/لا تجعل القراءة اتجاها اجتماعيا وثقافيا يؤثر في الموارد وتحسين الحياة وفرص العمل والمكانة الاجتماعية، والتكاليف الناشئة عن الارتقاء بالتأليف والنشر والتصميم والتسويق والترجمة وحقوق الملكية الفكرية ما يجعل الكتاب مرتفع الثمن!
وعلى نحو عام، فإن اتجاهات القراءة تتشكل في بيئة اجتماعية واقتصادية وثقافية تجعل القراءة والإبداع والتعليم المستمر مصدرا لتحسين الحياة والتطور في العمل والارتقاء فيه.
ماذا يمكن أن تقدم الحكومات لتعزيز القراءة وتفعليها؟ سؤال بديهي، وأخشى من القول إن كثيرا من سياسات دعم الثقافة والقراءة تؤدي إلى نتائج عكسية تضرّ بالثقافة والقراءة حتى مع افتراض حسن النية، ولذلك يجب أن تكون السياسات الحكومية حذرة وحكيمة، حتى لا تضر بالثقافة من حيث تريد نفعها.
يمكن الحديث في المجال الحكومي عن ربط التعليم والامتحانات المدرسية والجامعية والتقييم والتدريب والتعليم المستمر والارتقاء الوظيفي بالفكر النقدي والإبداع وبعمليات القراءة والاطلاع الواسع، حيث تزيد فرص من يقرأ أكثر في التقدم والحصول على مرتبة ونتائج تقييمية أفضل، وإنشاء بيئة عمل في المؤسسات العامة والخاصة تحفز على القراءة واقتباس وتقديم التجارب وتقييمهما، مثل أن يكون للمؤسسات والشركات والمجتمعات والبلديات منظومات للتواصل الاجتماعي أو مواقع إعلامية تشجع على تقديم الأفكار والتجارب وتحفز على الاطلاع على ما ينشر في مجالات العمل والمجالات الأخرى بنسبة 70 في المائة في مجال العمل والاهتمام، 30 في المائة في الثقافة والفكر والإبداع والمعارف العامة، وإدخال عمليات القراءة والاطلاع في الإنجازات والأعمال والتقارير السنوية، وتشجيع وتحفيز البرامج المجتمعية والتطوعية لإنشاء أندية للقراءة والحوار والجدل حول الكتب في المنتديات الاجتماعية والثقافية والصحف والإذاعات ووسائل الإعلام، وإدراج القراءة والبرامج الثقافية بعامة في الجوانب والبرامج الاجتماعية للمؤسسات العامة والخاصة وبرامج المسؤولية الاجتماعية للقطاع الخاص.
وفي مجال التعليم، يمكن الحديث عن إدخال الفلسفة والفنون والذائقة البصرية والفكر الناقد والمنطق والقراءات الإضافية الرصينة في العمليات التعليمية والتدريبية وإضافتها إلى المؤهلات العلمية والمهارات العامة في التوظيف والاختيار والترقية.
إن القراءة تمثل مكونا ضروريا للإنسان للارتقاء بالذات، وعملا متواصلا لأجل التطوير والإبداع على المستوى الفردي والمؤسسي، ويجب النظر إليها باعتبارها كذلك في السياسات العامة وفي المجتمعات والأسواق وفي نطاق الأفراد، فليس ممكنا استيعاب التجارب والاطلاع عليها والإضافة إليها من غير قراءة دؤوبة واسعة وجادة تكون جزءا من العمل ومن التكوين الذاتي.
يمكن بناء الخطط والمشروعات والتصورات المؤسسة للنجاح والإبداع، ولكنها خطط لن تعمل من غير إنسان قادر على استيعابها وتنفيذها .. ونقدها وتطويرها أيضا، وفي ذلك فإننا نتحدث عن الإنسان القارئ الذي يعلم نفسه باستمرار ويرقى بها، فالمواطنة تقتضي بالضرورة القدرة على المشاركة في العمل والولاية على الموارد والجدل العام والمؤسسي حول السياسات والتشريعات والقدرة على التأثير فيها، .. لقد انتهت مرحلة تقديم الخدمات ووضع السياسات في معزل عن مشاركة ومسؤولية الأفراد والمجتمعات في التعليم والصحة والتقدم والتنمية والتكامل الاجتماعي، ولكنها اليوم قضايا يتشارك في إدارتها وتنظيمها والولاية عليها والمسؤولية تجاهها الحكومات والمجتمعات والأفراد والشركات، ولم يعد واردا أن تتولى الحكومات كل شيء نيابة عن الأفراد والمجتمعات، ولا يمكن بطبيعة الحال التوازن بين الأفراد والمجتمعات وبين الشركات والأسواق من غير فاعلية للأفراد وقدرة على التأثير والمشاركة، فالشركات اليوم تتولى تقديم خدمات أساسية وحيوية للأفراد والمجتمعات، مثل الاتصالات والماء والطاقة والتعليم والتدريب والسلع الأساسية والكمالية، ولا يمكن التأثير في اتجاهات الأسواق والخدمات باتجاه العدالة والجودة والكفاءة من غير مستهلك متقدم في وعيه ومعرفته وقدرته على التقييم والتأثير أو أن المجتمعات والأفراد ستكون ضحية للاحتكار وضعف المستوى والتراجع في الخدمات، ومن ثم في مستوى الحياة والتنمية.
ثمة حالة سائدة ليست نهائية وليست المشهد كله تعكس عدم مواكبة الإنسان العربي للمعرفة واطلاعه الجاري والمستمر عليها، وعدم إنتاج المعرفة أيضا، فحركة النشر والتأليف والترجمة تبدي خللا في الاتجاهات والانتشار، ولكن يمكن الحديث أيضا عن حركة ترجمة واسعة ورائدة اليوم، ومؤكد أن الترجمة تتيح الاستيعاب وتؤسس للتأليف والمشاركة في المعرفة.
وفي موجة التطرف والكراهية التي تعصف بعالم العرب والمسلمين تتزايد الحاجة والضرورة إلى نشوء فكر نقدي ومراجعة حقيقية لأفكارنا وأوضاعنا، ... وأن نكون جزءا من العالم نتقبله ويتقبلنا، .. أصبحت المشاركة العالمية المعرفية والإبداعية ضرورة لتلافي الانحسار والانقراض، ولنجعل العالم يفهمنا ونفهم العالم، ففي مواصلة العزلة المعرفية لم نعد نعاني فقط من التطرف والتراجع، ... ولكننا مهددون في وجودنا ووعينا لأنفسنا وللعالم من حولنا.
وهكذا، فإن المواطن القارئ والناقد هو حجر الأساس في الارتقاء الفردي والمؤسسي أيضا، .. يقول عالم النفس إريك فروم: "وبودي أن أقول إن على المرء أن يبدأ بالقراءة، وبقراءة الكتب المهمة، وبقراءتها بجدية. ولديّ الانطباع بأن المنهج الحديث في القراءة هو منهج توجّهه الفكرة القائلة بأن على المرء ألا يبذل الكثير من الجهد، فيجب أن تكون سهلة، ويجب أن تكون مختصرة، ويجب أن تكون ممتعة على الفور، وحتماً هذه أوهام كلها. فما من شيء مفيد يمكن أن يعمله المرء أو يتعلمه من دون أي جهد، ومن دون بعض التضحية، ومن دون تدريب".
المصدر: http://www.mominoun.com/articles/%D8%A7%D9%84%D9%82%D8%B1%D8%A7%D8%A1%D8...