بناء الفرد

فاتح حسن حوى

 

إن المجتمع المسلم الصالح لا يقوم صلاحه إلا إذا صلَح الفردُ فيه، فإذا صلح الفرد منه أصلح غيرَه، وبالتالي يصلُح الحيُّ فالمجتمعُ.

ولو نظرنا في القرآن الكريم للاحظنا ذلك جلياً، حين دعا الله سبحانه إلى عبادته وطاعته وحسن الأخلاق بعد تقواه، وجعل من ثمرات ذلك محبةَ الناس والقبولَ في الأرض في الدنيا، ورضا الله ومحبتَه في الدنيا والآخرة، وقص علينا في ذلك قصصاً كثيراً، الأنبياء مع أقوامهم، وبعض الصالحين أيضاً مع أقوامهم، قال تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ، وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [فصلت 33 – 35].

ولنأخذ آيات من كتاب الله في ذلك، حين قص علينا مواعظ لقمان عليه السلام الذي آتاه الله الحكمة {وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} [لقمان: 12].

وبدأ لقمان الحكيم عليه السلام بالتوصية بتوحيد الله تعالى: {يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم}، وهذا هو البناء العقَدي للفرد والجماعة، فالإنسان بدون عقيدة إنسان بدون هدف ولا مبدأ يسير عليه في حياته، فالإيمان بالله وحده وتنزيهه عن كل نقصان أو عيب هو أساس العقيدة الصحيحة، ويترتب عليه إيمانه بالملائكة والكتب السماوية والرسل المبعوثين من الله، واليومِ الآخِرِ، والقدرِ خيرِه وشرِّه، لما له من الأثر الكبير على راحة الإنسان نفسياً، وتسلميه لأمر الله في كل شيء، والرضا بذلك، قال تعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [البقرة 285]، {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 62]. وعرَّف النبي عليه الصلاة والسلام الإيمان: “«أَنْ تُؤْمِنَ بِاللهِ، وَمَلَائِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ، وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ» متفق عليه.

فإذا أسست هذه العقيدة الصحيحة كانت البنيان الرئيس لما بعده، وكان الإنسان جديراً بتلقي الأوامر والنواهي.

ثم بر الوالدين، {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ}، وهذه اللبنات الأساسية للفرد في أسرته، لأنها من أهم مراحل حياته، حيث يبني فيها سلوكه تربوياً وعلمياً. ولا تقع هذه التربية على عاتق الوالدين فحسب، بل تقع على عاتق الولد بعد ذلك ليبر بوالديه، طاعةً لله وبراً بوالديه اللذين ربياه صغيراً، تعبا عليه حتى كبر، وعليه بعد ذلك أن يحنو عليهما، وفي هذا دلالة على أن النسيج الأسري يجب أن يكون متكاملاً، مبنياً على أساس متين.

 

وقد قرن الله عبادته وتوحيده ببر الوالدين، {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا، وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} [الإسراء: 23 – 24]، وفي ذلك إشارة إلى أن البر من أهم لوازم الإيمان وتوابعه. ونقرأ ذلك واضحاً في وصف القرآن للابن المؤمن الصالح، والابن المشرك العاق، {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ، أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ، وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ، أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ} [الأحقاف: 14 – 18].

وبعد ذلك عليك اختيار الصاحب والمربي {واتبع سبيل من أناب إليّ}، وقد قيل: الصاحب ساحب، وهو ساحب إما إلى الهدى والرشاد، أو إلى الفجور والضلال، فاختيار الصاحب بعناية ممن يتقي الله ويرشد إلى الخير وينهى عن كل سوء ورديء. قال النبي عليه الصلاة والسلام: “مَثَلُ الْجَلِيسِ الصَّالِحِ، وَالْجَلِيسِ السَّوْءِ، كَحَامِلِ الْمِسْكِ، وَنَافِخِ الْكِيرِ…“.

واختيار المربي الذي يخشى الله ويراقبه فيزرع في الفرد الشخصية المسلمة الصالحة البناءة وينصحه ويوجهه لما فيه صلاحه في دينه ودنياه كما قال موسى عليه السلام لصاحبه {هل أتَّبعك على أن تُعَلِّمَنِ مما عُلِّمْتَ رُشداً} [الكهف: 66].

ثم إن المربي الصالح يزرع في الإنسان مخافة لله ومراقبته ليدله على مرتبة الإحسان: {يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ}، فكلما همَّ بعمل جعل مراقبة الله له عنواناً يمشي عليه في كل صغيرة وكبيرة، ويأتي بجوانب الخير ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، {وهو معكم أينما كنتم}، {يعلم سركم وجهركم}، {وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ}.

وتمام بناء الفرد لا يأتي إلا بالطاعة لله في كل ما أمر، {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ}، فبإقامة الصلاة – ونركز على إقامة الصلاة، فهي عمود الدين وأساسه المتين – يصبح سلوكه قويماً وأمره رشيداً، فيبني به حب البذل والعطاء والسخاء، وينمي به مكارم الأخلاق وأعلاها، {إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر} [العنكبوت: 45]، وبالتالي ترى المصلي مزكياً متصدقاً صائماً فرضاً ونفلاً. وبذلك يصنع الفرد الداعي، الذي يجعل الدعوة هَمَّه، ويبذل في سبيلها الغالي والنفيس، ويصبر على ما أصابه في ذلك، فيكون عليه برداً وسلاماً.

وأخيراً لا ننسى السلوك والقيم التي يجب أن يتحلى بها الفرد ليكون داعياً، {وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ، وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ}، فالداعية هو النموذج الذي يحتذى به في كل شيء، فيكون صاحب صدر واسع وعلم جيد، ولا يستحقر الناس عن جهل أو غيره، ولا يميل عنهم بالخد أو الوجه، وسلوكه أبرز دليل على  صدق دعوته، فلا يمشي خيلاء، بل يمشي معتدلاً في مشيته، غير مسرع ولا متباطئ، ولا متكبر ولا ضعيف.

وعليه بخفض الصوت، أي أن يأتي بالصوت مسموعاً واضحاً، ليس فيه ضجيج، لأنه لا يحتاج إلى أكثر من أن يسمع صوته للناس، وهذا من علامات تمام الرجولة، ودليل على وعيه وعلمه وحلمه، ونحن نرى أن معظم من يرفعون صوتهم إما يرفعونه لفحشهم واستهتارهم، أو لجهلهم وجهالتهم.

ولا ريب أن هذه الآداب في شكل الحوار ترتبط بآداب أخرى في مضمون الحوار، فعلى المحاور أن يجادل بالتي هي أحسن حتى يصل الحوار الهادئ البناء إلى ما يرجوه الداعية، وهذا يقوم على هذه الدعائم من كلمة “الحوار”:

ح: حرية، و: وضوح، أ: أدلة، ر: رؤية واضحة وصحيحة.

والله أعلم، وهو الهادي إلى سواء السبيل.

المصدر: https://alfajrmg.net/2014/09/28/%D8%A8%D9%86%D8%A7%D8%A1-%D8%A7%D9%84%D9...

أنواع أخرى: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك