النّظرية الجهاديّة التكامليّة المعاصرة نظرية لم تكتمل بعد (سورية أنموذجاً)

أحمد الحسن

 

استقرّ الفكر الدعوي المعاصر على اعتماد نظرية في العمل الإسلامي تقوم على أركان ثلاثة (دعوي، جهادي، سياسي) هي آخر ما انتهى إليه بعد تجارب مريرة وفاشلة في العصر الحديث، أهدرت فيها دماء، وبدّدت طاقات، وفتحت لقوافل المؤمنين الصادقين سجون، واهتزّت بأجسادهم الطاهرة أعواد المشانق.

بعض الفشل في تلك التجارب كان لأسباب وظروف موضوعية لا قبل لنا بها، ولسنا مسؤولين مباشرة عن تشكّلها وتركيبها. فالظرف المحلي والإقليمي والعالمي ما كان يسنح للدعاة والمجاهدين الأبرار بلوغ غاياتهم، وحالة شعوبنا التي غزتها أفكار ومنهجيات فاسدة حاقدة جذبت غالبية رجال الثقافة والأدب وأغرقت السواد الأعظم من شعبنا البسيط في الجهل والمنكرات واللهو والفقر والعيش بلا قضية ولا هويّة. هذه العوامل ما كانت لتساعد الدعاة والمجاهدين وأنصارهم على إحراز انتصارات كبرى وكسب جولات في الصراع مع أنظمة الظلم والطغيان.

لكن ثمّة عوامل وأسباب ذاتية حالت دون ذلك أيضا تمثلت في القصور المعرفي والثقافي والسياسي وضعف في التأصيل الشرعي لكثير من قضايا العصر والسياسة والمستجدات الطارئة عند معظم الجماعات الإسلامية، وعفوية وحماسة وارتجال، ونقص في التخطيط والتنظيم والإمكانيات.

تلك العوامل الذاتية هي ما وسمت طبيعة الصراع الذي اتخذ شكلا دامياً ومأساوياً في أكثر من بلد عربي في مرحلة الخمسينيّات والستينيّات والسبعينيّات من القرن المنصرم، ولعلّ من أشدّها مرارة وقسوة تجربة (الطليعة المقاتلة) في سوريا أواخر السبعينيات وبداية الثمانينيات، التي انجروا مرغمين ومدافعين عن النفس فيها الإخوان المسلمون لاحقا.

المسألة السياسية كانت النقطة الأضعف في فكر الجماعات الإسلامية، ومن جرّاء إهمالها لهذه المسألة وضعفها فيها وخوفها من عدم شرعيّتها لم يكن لديها من الخبرة السياسية ما يمكّنها من تقدير الموقف الدولي الصحيح ولا الوسيلة الأجدى للتعامل مع الأنظمة القائمة، وحَبَسَها التوجس من كل ما يسمى سياسة، والخوف على الأصول الشرعية من تحليل حرام أو تحريم حلال أو إضفاء الصفة الشرعية على أنظمة الحكم الجبري عن ولوج ميادين العمل السياسي، وصار سؤال السياسة ومشروعيّتها وجواز العمل بها وسبل ذلك أزمة في العمل والعقل الإسلامي المعاصر؛ وهي أزمة قديمة الجذور بدأت من اليوم الذي أعلن فيه إلغاء الخلافة الإسلامية العثمانية التي كانت رابطة الوحدة السياسية بين المسلمين ومرجعيتهم الروحية والمعنوية، وتبلورت الإشكالية السياسية أكثر بعد جلاء المستعمر الغربي واستقرار الحكم في بلاد العرب والمسلمين لأنظمة الحكم الجبري التي أخبر عنها النبي صلى الله عليه وسلم حيث وقفت الجماعات والعلماء والدعاة مصدومين من الحال الذي آلت إليه أمور المسلمين، وحيارى إزاء ما ينبغي فعله لاسترجاع القيادة السياسية وفريضة الإمامة المسلوبة.

 

فقد وجدوا أنفسهم أمام واقع جديد لم يكن معهودا في التاريخ الإسلامي كلّه من قبل. وجدوا أنفسهم بلا مظلة وقيادة سياسية جامعة رابطة، ورأوا كيف نُحِّيَ الإسلام عن رقعة الحياة العامة، والشريعة عُطّلت، وصار الجهاد في سبيل الله إرهابا. فمِن هذا الواقع المظلم راحت الجماعات الإسلامية تبتدع من الأساليب والوسائل ما يتناسب مع خلفياتها الفكرية وتأصيلاتها الشرعية وفهمها للواقع ولوازمه وأولوياته.

فمنها من رأى في القوة والجهاد في سبيل الله سبيلا لذلك، ومنها من أوجب العمل التربوي والدعوي طريقا للوصول إلى تلك الغاية، ومنها من ظنّ أنّه سيحرز قصب السبق من خلال الإصلاح السياسي واقتحامه لكل ميدان وعملية سياسية. وبعد أن جرّب الجميع مشاريعهم وبرامجهم اصطدموا بالفشل ولم ينجز واحد منهم أهدافه كاملة ويصل مبتغاه.

هنا وقف العقلاء والمفكرون والمنظرون متأملين تلك التجارب، محاولين استكشاف الأسباب والعوامل التي أدت إلى نتائج غير مرجوة. فبان لهم أنّ جميع تلك الجماعات لا تحمل مشروعا إسلاميا أو جهاديا متكامل الأركان يستوعب تفاصيل ومحاور العمل الإسلامي كافة.

فالمولعون بأزيز الرصاص وحب الجهاد والاستشهاد في سبيل الله لن يدركوا مآربهم ما لم يوقنوا أنّ ثمّة نقصاً في تفكيرهم ومشروعهم يكمن في إهمالهم -وربما صدودهم عن شبهات عرضت لعقولهم- للعمل التربوي والدعوي الجاد الذي من شأنه تربية نفس المجاهد على البذل والتضحية، والإقدام والاستبسال ضمن مشروع يستهدف الدنيا والآخرة، ويبغي النصر قبل الشهادة، وليس الجهاد كما يظنّ عشّاقه اليوم مجرد أنشودة حماسية وعملية استشهادية يفوز فيها بنعيم الآخرة بينما تبقى الدنيا محكومة بأفكار وقيادات جاهلية تستطيل على أهل الإيمان وتسومهم سوء العذاب.

وكذلك تربية عقله بالعلم الشرعي الصحيح وقواعد الفقه والأصول وضوابط العلماء الكبار –لا سيّما الأقدمين منهم- الذين أرسوا أصول وقواعد الفقه الإسلامي، الذي لا غنى لمجاهد في هذا العصر عنه.

ويخطئ كثير من المجاهدين حين يعتمدون مرجعيات شرعية تنتمي لتوجهاتهم وطريقة تفكيرهم فقط ليفتوهم وفق أهوائهم وأفهامهم ويتجاهلون آباء الفقه الإسلامي وعمالقته الأوائل الذين حفظ الله بهم العلم والدين، ويستبدلون الذي هو أدنى كبعض المعاصرين بالذي هو خير كالإمام الشافعي ومالك وأبي حنيفة وأحمد وابن تيمية والشاطبي…

إنّ تربية المجاهد لعقله بالعلم الشرعي الصحيح يعصمه من الجنوح إلى غلو وتكفير، أو ميوعة ولين، ويبقيه في دائرة الاعتدال والوسطية، وصدّ هؤلاء المولعون بأزيز الرصاص وحب الجهاد والاستشهاد في سبيل الله أنفسهم عن ممارسة الإصلاح والعمل السياسي في جميع الظروف والأحوال.

وقد ارتبك المسلمون عموما في موقفهم من العمل السياسي المعاصر بعد سقوط الخلافة وإعلان قيام الحكم الجبري كما قلنا سابقا؛ فجماعات (الاغتراب عن الواقع) من الصوفية والدراويش ذهبوا إلى أنّ السياسة نجاسة، وأنه من السياسة ترك السياسة والالتفات إلى الشؤون الأخروية فحسب.

والتيار الجهادي –لا سيّما السلفي منه– رأى في السياسة المعاصرة كفرا أكبر مخرجا من الملّة، وزعموا أنّ الدّين لا سياسة فيه؛ وإنّما هو جهاد وتحكيم للشريعة وإقامة للحدود وأخذ بالعزائم فحسب! وأمّا عوام المسلمين فقد رسخ في أذهانهم بسبب ممارسات أنظمة الحكم الجبري الفاسدة الظالمة أنّ السياسة كذب وخيانات ولصوصية كلّها، وأثّر ذلك عندهم على أصل تصورها الإسلامي الصحيح، والحق أنّ السياسة –حتى في شكلها المعاصر- حق وفريضة وشرف إن هي استندت إلى مرجعية شرعية ضابطة وبندقية واعية؛ تمنع الشطط والاسترسال مع التنازلات وتحفظ الثوابت والتصورات من التأرجح والاهتزاز، وتفهم أنّ الغرب والشرق المعادي لا يريد منها فهما وتفسيرا معينا للإسلام دون فهم بل لا يريد إسلاما أصلا، وتحمي السياسي وتدفعه إلى الصدع بالحق واتخاذ مواقف العزّة والكرامة –إن كان الظرف يوجب حمل السلاح جزما– كما هو حال الثورة السورية اليوم، وحال الاحتلال الأمريكي للعراق الذي امتزج فيه العمل الجهادي والسياسي معاً.

وتبيّن أيضا أنّ الغارقين في جزئيات العلم والتحقيق والتدوين والدعوة الشعبية فقط، المهتمين بإصلاح عقائد الناس وإحياء السنن وقمع البدع، كمن ينحت في الهواء أو كمن يضيف إلى البحر دلوا من ماء أو يغرف منه دلوا. فلن تصطلح أحوال الناس الدنيوية والأخروية، ولن يسود العلم الصحيح وتخمد البدع وتعمّ السنن ما لم يقترن ذلك كله بإصلاح السلطة السياسية أو إقامة سلطة سياسية صالحة، (كالمدرسة العلمية التقليدية-والمدرسة السلفية العلمية).

وظهر جليّاً أنّ المرهقين أنفسهم في تفاصيل السياسة فقط، المقتحمين لكل ميدان وعملية سياسية، الذين يزهدون بالعلم الشرعي وذروة سنام الإسلام، ويظنون السياسة محض اجتهادات واقعية لا مرجعية لها ولا ضابط فيقدمون على كل عمل سياسي دون دراسات شرعية وافية تقدّر المصالح والمفاسد، والنفع والضرر، والسلب والإيجاب، ويرون في الجهاد وسيلة غير مجدية ولا عصرية. فلا يدعون إليه، ولا ينسّقون مع المجاهدين ضمن خطّة تبادل أدوار. بل يمضون لوحدهم كأنّهم أصحاب حق مطلق. هؤلاء أيضا سينتهون إلى فشل دائم محتّم، ولن يبارك الله عملهم ويوفقهم ما داموا يزهدون بالشرعيّات ويستصغرون المجاهدين الذين هم أعزّ أهل الأرض، ويتملّصون من ضوابط الفقه وعزائم الإيمان بلعلّ الضرورية وعسى المصلحية  التي لا حدّ ولا نهاية لها عندهم.

بعد هذا النقد والتأمل في تجارب الجماعات الإسلامية المختلفة اكتمل الحدّ الفكري والوصف الشرعي  للعمل الجهادي المعاصر، وصار معلوما بالحجة والتجربة أنّه لا نجاح لعمل جهادي ما لم يقم على أركان ثلاثة: ركن (تربوي دعوي علمي) هو بمثابة القلب الموزّع وخط الإمداد والإنتاج الخلفي الذي يضمن استمرار العمل وثباته في جميع مراحله وتقلباته. وركنان سياسي وجهادي هما بمثابة الميمنة والميسرة لذلك القلب الموزّع.

فالمجاهد يضرب في أعداء الله ويثخن ويلوذ بالثوابت والأصول والتصورات الجذرية وخطاب التحريض والحشد والتعبئة، والسياسي في ميدانه يناور ويحاور، وينكر سلمياً، ويطّلع على أسرار السياسة وحقيقة المواقف ليضعها بين يدي الشرعيين والمجاهدين لتقدير الخطوة والموقف اللازم. كل هذا يجب أن يجري ضمن خطة تبادل أدوار وتنظيم وتنسيق بين جماعات العمل الإسلامي كافة، كلّ حسب اختصاصه ومشروعه وخبرته، ويكون كل واحد من هؤلاء ممثلا ونائبا ووكيلا عن الآخرين في ميدانه.

فهل انتقل العمل الجهادي المعاصر بعد أن اكتمل حدّه الفكري ووصفه الشرعي من الفردية والحماسة والارتجال إلى الجماعية والتخطيط والتنظيم والتنسيق وتبادل الأدوار؟ نستطيع الإجابة بكل صراحة ووضوح : لا. لم يحدث ذلك أبدا. فما زال النفور بين الجماعات ورفض اعتراف كل جماعة للأخرى بأحقيّة وجودها ومشروعها قائما! وما زال التفرد ورفض التنسيق مستمرا، ولا زلنا نضحي ونبذل والأعداء يحصدون، وبالتأمل في أحدث تجربتين جهاديتين ندرك ذلك بوضوح:

الأولى: تجربة الجهاد العراقي: فالمجاهدون زهدوا بالسياسة وأنكروها في ظل جثمة الاحتلال، ولم يستطيعوا صياغة رؤية سياسية وانتداب رجال لهم تمثلها، ولو فعلوا لأصغت لهم أمريكا ربما بسبب قسوة ضرباتهم لها وبأسهم، ولم ينسّقوا مع السياسيين والتكتلات السياسية السنية، وبعضهم -كالقاعدة وأخواتها- لا يجيزون ذلك أصلا ويعتبرونه مروقا من الشريعة، والسياسيون من أبناء السنة وجماعاتها -كالحزب الإسلامي العراقي- زهدوا بالجهاد والبندقية، واستصغروا المجاهدين وحسبوا أنّهم بالعمل السياسي والإنكار السلمي سيخرجون أمريكا ويحفظون حقوق أهل السنة.

لكنّ الفشل كان مصير الجميع بسبب قصورهم وتعنتهم وعدم تجردهم للدّين والأمة واستيفاء أركان العمل الجهادي. والذي يتحمل أكبر الوزر في فشل تجربة جهاد العراق هم السياسيون ممثلين بالحزب الإسلامي، والجهاديون ممثلين بتنظيم القاعدة ومن نحا نحوها. مع أنّ واقع الجهاد العراقي أعقد من أن يختزل سبب فشله بأداء الإسلاميين والمجاهدين لكنّنا نقف فقط على ما كان ينبغي فعله ولم يفعلوه.

الثانية: تجربة الجهاد الشامي: فقد تكررت الأخطاء ذاتها وكأنّها أول تجربة جهادية في التاريخ الحديث كله، وننتظر لها أن تنتهي لكي نتأمل فيها ونستنتج مكامن الخطأ والصواب لتستفيد منها التجارب اللاحقة!

فقد عجزت الفصائل الجهادية رغم أنّها كانت أمام فرصة ذهبية في أول عامين من عمر الثورة عن تشكيل جبهة سياسية داخلية عريضة تشمل كافة القوى والفصائل والدعاة والمثقفين والشعراء والضباط والمدرسين والموظفين الذين التحقوا بالثورة، وتنتدب لها رجالا في الخارج يمثلونها، وتتلطف مع المجاهدين الشعبيين الذين لا يحملون تصورا إسلاميا واضحا فتعاملهم بالحسنى وتصبر على نقصهم وضعفهم ليكونوا جنودا في خدمة الدين والقضية، وتقدّم للدول والمنظمات مشروعا واضح المعالم محكوما بالظرف والقدرة والاستطاعة، وتدعو إلى اجتماعات ومؤتمرات مع كافة الإسلاميين لتقريب وجهات النظر والتنسيق فيما بينهم، وتنتقي الكفاءات السياسية والقانونية والاقتصادية والعلمية للبدء بإعداد ملفات بناء الدولة حجرا حجرا، وتلتقي مع العلمانيين أيضا لا لتقدم لهم التنازلات وتحاول إرضاءهم؛ بل لتبيّن لهم الحدّ الأقصى الذي يمكن أن نتعاون فيه، وأنّه لن نسمح أبدا بعلمنة الدولة وفصل الدين عن السياسة وشؤون المجتمع التي يجهرون بها ليل نهار… إلخ.

لكن لم تفعل الفصائل المجاهدة شيئا من ذلك بسبب قصورها الثقافي والمعرفي والسياسي وضعف تأصيلها الشرعي لمسائل السياسة المعاصرة واعتبارها رجسا من عمل الشيطان؛ لأنّها تتطلب احتكاكا وانفتاحا على المخالفين والخصوم والمستفزّين والأعداء، وفهموا أنّ المفاصلة الشعوريّة والعقديّة تعني المفاصلة الحركية والسياسية فمنعهم ذلك من الانفتاح على المخالفين والعلمانيين ورؤساء الدول والمنظمات العربية والأجنبية للتعريف بقضيتهم ومشروعهم الذي يبغون.

وبسبب هذا الفراغ السياسي طفق المعارضون في الخارج بالاجتماعات والحوارات لتشكيل قيادة سياسية للثورة، والمجتمع الدولي والعربي يضغط في هذا الاتجاه ليكون للثورة رأس يسمع منه ويتحدث إليه فكان تشكيل المجلس الوطني الذي أفشلته لاحقا الدول التي طالبت بتشكيله وبعض المعارضين والتكتلات التي لم تتمثل فيه كهيئة التنسيق الوطنية، ثم تشكّل الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية بعد أن صدّع المجتمع الدولي والعربي رؤوس السوريين بأنّ المجلس الوطني لا يمثل الشعب السوري حقيقة.

هنا أخطأت الفصائل المجاهدة مرة ثانية حين لم تتكتّل مع بعضها مصطحبة معها كل قوى الداخل العسكرية والشرعية والسياسية والثقافية والمدنية للمشاركة في التأسيس ووضع قدم لها في المجلس والائتلاف، ولو أنهم فعلوا ذلك لكانوا ربّما الكتلة الراجحة والوزن الحرج فيهما، وكيف لا يكون ذلك وهم أهل الأرض والميدان والثقل والمشروعية! ولاكتسبوا خبرة ومكنة سياسية تصقل عقولهم وتنضج مداركهم  وتهيؤها لمراحل أصعب.

لقد حظي الائتلاف بالاعتراف السياسي ونال بعض الدعم وقد يتطور حاله ويزداد دعمه ليحظى بالاعتراف القانوني ويبدأ في بناء مؤسسات الدولة وإعداد ملفات المرحلة الانتقالية، بينما المجاهدون ما زالوا يبحثون جواز تشكيل الأحزاب والمشاركة السياسية مع المخالفين والخصوم والثابت من المتغيّر في الشريعة الغرّاء، والإسلاميون الّذين في الائتلاف بعضهم من المتميّعين والتبريريين الذين لا يؤتمنون على الجهاد والدماء لحمق اجتهاداتهم وتأويلاتهم وضمور معاني العزّة الإيمانية وأخلاق الفروسية في نفوسهم، والبعض الآخر ليس ممثلا للمجاهدين على الأرض ومثل هذا لا ينفع كثيرا.

أمّا أخطاء الفصائل المجاهدة في الجانب التربوي والدعوي والعلمي فهي أكبر من أن تغتفر؛ فقد حصر كل فصيل مرجعيّته الشرعية في شخصيات محدّدة وحجب الثقة عن علماء الأمة الآخرين حرصا على العقيدة والشريعة من الضياع كما يتوهمون! وحفاظا على عقول المجاهدين وأبناء الأمة من اجتهاد لا يوافق أهواءهم وأمزجتهم كما يظنون، واختزلوا الشريعة –على رحابتها وأصولها وفروعها- بمسائل معدودات منها: كفر الديمقراطية وعدم جواز دخول البرلمان وحرمة مشاركة العلمانيين في العمل السياسي ووجوب إقامة دولة إسلامية عاجلة وتطبيق الشريعة، وأنّ راية الجيش السوري الحر راية غير واضحة المعالم، وبعضهم يصفها بالعلمانية، فصنّفوا بذلك عشرات الألوف من مقاتلي الجيش الحر (البسطاء، ذوي التدين الفطري) بأنهم علمانيون! فأدّى ذلك إلى ردّة فعل كبيرة من قبل كثير من هؤلاء البسطاء على الإسلام والمجاهدين الذين استفزّوهم، وطفقوا يردّدون أقوالا وأفكارا لا يفقهون أبعادها ومعانيها كقول بعضهم إنهم يريدون دولة مدنية لا إسلامية.

وهكذا استقرّ الوضع الجهادي في سوريا كأمثاله من التجارب السابقة دون الاستفادة منها بشيء. فالمجاهدون على الأرض يبذلون ويضحون بلا قيادة سياسية حكيمة تستثمر تضحياتهم وبذلهم وتوظفها بشكل صحيح، والإسلاميون السياسيون ليس لديهم قوة على الأرض ليكتمل عملهم، وبعضهم غير مؤتمن على الجهاد وإن ولّيته أمرك وأسندت إليه القيادة السياسية، والطرفان تفصل بينهما هوة فكرية وحظوظ نفس وضعف تجرد تمنع أن يكون كل واحد منهما وكيلا عن الآخر في ميدانه، ونخشى أن تتكرر نتائج التجارب الجهادية السابقة نفسها؛ بأن يزرع الإسلاميون والمجاهدون ويحصد العلمانيون والنفعيون! لكنّ بركة بلاد الشام وخيريّتها ونباهة أبنائها وأقدار الخير التي رافقت مسيرة ثورتهم من أولها حتى الآن ستدفع السوريين إلى استدراك وتصحيح، وسيؤول أمر ثورتهم إلى عزّ ونصر وتمكين وما ذلك على الله بعزيز.

المصدر: https://alfajrmg.net/2014/09/29/%D8%A7%D9%84%D9%86%D9%91%D8%B8%D8%B1%D9%...

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك