الحوار والفكر الأصولي
الحوار والفكر الأصولي
بديهيّاً، يُمكن القول إنّ لكلّ ظاهرةٍ معياراً، فبدون المعيار لا يُمكن معرفة الظاهرة وفهمها وتقييمها. فالأصوليّة، بمعاييرها الدوغمائيّة، سواء أكانت ميتافيزيقيّة، أم وضعيّة/علمويّة، ظاهرةٌ متعاليةٌ نكوصيّةٌ، وذلك بادّعائها امتلاك الحقيقة المعزّزة بـ (أل) التّعريف العتيدة، بوصفها الحقيقة المُطلقة، أو الحقيقة الجوهريّة الوحيدة، ودونها كلّ الحقائق مزيّفة؛ حيث يترتّب على ذلك جملةٌ من الأمور اللاحضاريّة الكارثيّة، كالانغلاق، والسكونيّة، والنرجسيّة الثقافيّة، وعدم التّسامح، والاقصاء، والهيمنة، وعبادة الماضي، ارتهاناً لنصوصه، وخطاباته المحصّنة ضد مجريات التاريخ وحركته الطبيعيّة ومتغيّراته اللازمة؛
وبالتالي، فإنّ الأصوليّات ظواهر لا تاريخيّة، وإنْ ادّعت ذلك ونظّرت له، مع النّظرة الفوقيّة الشوفينيّة للآخر، بوصفه كائناً قاصراً دونيّاً، أو غير مؤهّلٍ للمشاركة في صناعة التاريخ، كما هو الحال مع الغرب الاستعماريّ بأصوليّته العلمويّة ورأسماليّته المتوحّشة، التي فضحها المفكّر الراحل "إدوارد سعيد" في كتابيه الرائدين "الاستشراق" والثقافة والإمبرياليّة"، من خلال إعادة قراءة الأعمال الإبداعيّة المواكبة للحقبة الكولونياليّة ـ وعلى وجه التحديد الروايات ـ عبر آليّات النّقد الثقافيّ، التي تسعى للتحرّي عن الخطابات والأنساق الثقافيّة الثاوية في تلافيف التراكيب الجماليّة، والكشف عن أهدافها الحقيقيّة؛ وهي في مجملها خطاباتٌ وأنساقٌ وسرديّاتٌ تُدشّن وتُمهّد لتسويغ استعباد وإخضاع واستلاب "الآخر"، من خلال "إحداثه"، أي تمثيله تعسّفاً، وفرض الوصاية عليه، انطلاقاً من أحدوثة الأعراق العليا، وامتيازات الأقوى الداروينيّة، واستغلال موارده أبشع استغلالٍ، بعيداً عن أيّ وازعٍ أخلاقيٍّ، كما هو معروف؛ بالإضافة إلى الأصوليّات العلمويّة/الوضعيّة الشموليّة، كالستالينيّة والفاشيّة والنّازيّة؛ الأولى استناداً إلى الصّراع الطبقيّ والحتميّة التاريخيّة، بتذويب الذات واستلابها، وتحجيم إمكانات الفرد الخلّاقة لصالح الحزب الأوحد، أو الزعيم الأوحد، والثانية باختزال السّلطات بيد سلطةٍ واحدةٍ مطلقةٍ، والثالثة بالتفوّق العنصريّ، وتعاليه على الأجناس البشريّة الأخرى؛ والأمر ينطبق شوفينيّاً على الأصوليّة الصهيونيّة.
كما أنّ الأصوليّة، أيّ أصوليّة، تعتقد بأنّها عقيدةٌ مكتفيةٌ ذاتيّاً على المستوى المعرفيّ، والسياسيّ، والسوسيو ثقافيّ، وبذلك فإنها تُغلق باب الاجتهاد ـ إنْ جاز التّعبير ـ على طريق التّطور، والنموّ، والتّحديث، وتكبيل أو إذابة الفرد في منظومتها الماحقة لذاتيّته ووعيه الحرّ، ومطاردة أيّ معرفةٍ أو أفكارٍ وافدةٍ، بوصفها عناصر دخيلةً، وأخطاراً كبرى، ينبغي محاربتها بشتّى الوسائل؛ ومن تلك الوسائل، الإرهاب بشتّى صوره. فالأصوليّات، وعلى حدّ تعبير المفكّر "علي حرب"، "سواءٌ أكانت دينيّة أم قوميّة أم ماركسيّة، تتعامل مع الفرد بوصفه ذا هويّةٍ مسبقةٍ ومتعاليةٍ أو مكتملةٍ ونهائيّةٍ"؛ وبهذا المعنى، فالأصوليّ هو من ختم على عقله، ووجدانه، وجسمه، بختم عقيدته، أو إيديولوجيّته. والمُحصّلة من ذلك هي الاستقالة من التّفكير الحرّ والنقديّ ...
وذلك هو مآل الأصوليّة أو مقتلها: تقويض الفرادة والأصالة بدعوى تعالي الأصل، ووحدانيّته وثباته ومركزيّته. فالأصوليّة بوصفها فكراً شموليّاً منطوياً على ذاته، أوعقيدةً دوغمائيّةً متحجّرةً، هو نقيضٌ بالضرورة للحوار، كما يذهب إلى ذلك الفيلسوف والمفكّر الفرنسيّ "روجيه غارودي" بعبارته الجامعة المانعة : "الحوار نقيض الأصوليّة، أو الأصوليّة نقيض الحوار". وذلك أنّ الحوار المتكافيء، وليس حوار السيّد والعبد، أو حوار المتبوع والتابع، هو الممارسة الحضاريّة الوحيدة القادرة على خلق فضاءٍ عموميٍّ، هو بمثابة منطقةٍ حرّةٍ منزوعةٍ من الألغام، والأسلحة الأصوليّة الفتّاكة، للوصول إلى حقيقةٍ مركّبةٍ من عدّة حقائق، عبر نقاشٍ ومدخلاتٍ مستفيضةٍ مشروطةٍ بتقبّل الرأي والرأي الآخر، إذ إنّ الحوار، حسب "روجيه غارودي": "يهدف إلى اكتشافٍ مشتركٍ للقيم المُطلقة، التي يُمكنها وحدها في المرحلة الراهنة أن تسمح لنا بالتفلّت من الأدغال الانتحاريّة، من غابات الفرديّات والقوميّات، ومن عصبيّات المعتقدات أو الحزبيّات".
إنّ مراجعةً دقيقةً لعبارات "غارودي"، تكشف لنا أنّ الأصوليّة ظاهرةٌ مشدودةٌ لعصور وحِقَبِ ما قبل الثقافة والتحضّر والمدنيّة، من خلال استخدامه لعباراتٍ تتماهى مع الحقل الدلاليّ للبدائيّة والطبيعة، كالأدغال والغابات والفرديّات والعصبيّات، وهو ما يُناقض مفهوم الثقافة والتطوّر، إذ بمُقاربة مقارنة مع توصيفات الفيلسوف والمفكّر الطليعيّ "تيري ايغلتون" للثقافة، كما ورد في كتابه "فكرة الثقافة"، نجد أنّ الثقافة نشاطٌ إنسانيٌّ لتهذيب الجانب "الطبيعيّ" للكائن البشريّ، أي الجانب البدائيّ المتوحّش، حيث يتّضح بأنّ الأصوليّة قرينة التوحّش والبربريّة، نظراً لتزمّتها وتعاليها عن أيّ حراكٍ حضاريٍّ.
وبطبيعة الحال، فلن يكون هناك حوارٌ حقيقيٌّ بين الأمم، والشّعوب، والشرائح الاجتماعيّة المختلفة من دون تنازلاتٍ طوعيّةٍ صادرةٍ عن قناعةٍ تامّةٍ، بأنّ سموّ الحياة والارتقاء بها إلى أعلى درجةٍ في سلّم القِيَم الإنسانيّة لن يتحقّق من دون مشاركةٍ فعليّةٍ، واعتمادٍ متبادلٍ على مستوى صياغة بيان الحقيقة، وتأصيل الحوار، كممارسةٍ إصلاحيّةٍ فعّالةٍ للأصوليّة، واستراتيجيّةٍ بعيدة المدى، للحدّ من هيمنة أفكارها وممارساتها الإقصائيّة وتقوقعها على ذاتها، وإشاعة ثقافة الاختلاف والتفاعل والإغناء المتبادل، بعيداً عن العنف والتعسّف وردّات الفعل. فللخلاص من الأصولية، كما يقول "غارودي"، لا يحتاج العالم إلى "قيصرٍ" أو "نابليون"، بل يحتاج إلى نهوض ملايين الرّجال والنّساء تلبيةً لنداء "لوثريّين جدد"، أو "غانديين جدد".
حسن السلمان
المصدر: http://www.husseinalsader.org/inp/view.asp?ID=3511