داعش.. بين إحراج الفقيه واختزال المثقف

كريم محمد

 

الوقائع الكبرى التي تقع في التاريخ، سواء أكانت وقائع نظريّة أو عمليّة، تفرض دائمًا تفسيرًا مُلتبسًا من قبل متلقّيها، ربّما لجدّتها الزمانيّة، وطابعها الفُجائي، الأمر الذي يحدث ارتباكًا تأويليًّا لوضعها في الزمان. بيد أنّ ثمّة ارتباكًا غير أصيل، نابعًا من تشبُّث التكرار بالعقل، بحيث إنّ كلّ واقعة عمليّة أو نظريّة تسير ضمن دائرة من التكرار لما حدث، فليس في الإمكان التاريخي إلّا أن يكرّر نفسه في صورة حوادث ووقائع. وفي هذه الحال، فإنّ التأويليّة لهذه الوقائع تكون مريحة للعقل: ردّ الفرع إلى الأصل بعمليّة قياسيّة؛ وكأنّ التاريخ مؤسّس قبلي لـ”الوقائع الكبرى”، وما يحدثُ لاحقًا ما هو إلّا “وقائع صغرى” يُقاس عليها.

العقل العربي عمومًا هو عقل فقهي، لا بدّ من التأكيد على هذه الفرضيّة. وهذه الفرضيّة غير تحكميّة نابعة عن تشهٍّ، وهي، أيضًا، ليست فرضيّة معياريّة تعمل على تصنيف هذا العقل بالموجب أو السالب؛ بل هي فرضيّة إجرائيّة تلتمس صحّتها العمليّة من خلال طريقة عمل وإعمال هذا العقل في التدبر بنفسه، وبما يقع له في التاريخ. ومعنى أنّه عقل فقهي؛ أي إنّه قياسي، يقوم على ترسيمات كبرى في مخياله، ونماذج عليا، بحيث يردّ كلّ حادثةٍ إلى “حديثها الكبير” السابق، القديم، والعمل على بلورة موقف نظريّ، ومن ثمّ عمليّ، بسحب الواقعة المعياريّة الأولى وما لها من أحكام على تلك الواقعة الثانية.

نحن نعاني دائمًا من إشكاليّة التأويل عربيًّا، ليس التأويل هاهنا بمعناه اللغوي، إنما قصدت التأويل التاريخي للوقائع التي تقع في حواضر أنفسنا، ويبدو أنّ ذلك ناجم عن كوننا لم ننتج بعدُ معنًى لأنفسنا في الزمان ضمن عصور معيّنة، ولم نبدع استراتيجيات لتسمية أنفسنا تاريخيًّا؛ فليس لدينا تقاليد في الانتماء إلى إسلامنا وعربيّتنا سوى انتماء هويّاتي صاخب وعنيف، نحن لا نمتلك تسمية متغيّرة لأنفسنا رغم أنّنا ثقافة تقوم على ضربٍ هائل من “الكلام” و”المعنى” و”السرد”.

لكنّ ذلك لم ينصبّ في قوالب مفهوميّة يمكنُ أن نحسّن من وجودنا المتعيّن من خلالها، وأيضًا الاشتغال على ما تبقّى منّا. وذلك لأنّ انتماءنا إلى تراثنا هو انتماء جِداري يعمل على فصْل حواسّنا عن الآن وهنا، وليس انتماءً “ريزوميًّا”، فيغدو التراث أرضًا متّصلة، وحصيلة هائلة من نوابت المعنى والتأويل.

بالاتّكاء على جيل دولوز، فإنّ التاريخ في التصوّر الفقهي (أتحدّث عن الفقه هاهنا ليس كمادّة علميّة متراكمة في ذاكرتنا الإسلاميّة، إنما عن نمط تفكير ليس إلّا) عبارة عن شجرة، وليس مسطّحًا، فالشجرة لها جذور وهي خطيّة، ولها أصل ثابت، وكل ما ينتج ليس سوى “فروع” لأصل ما، هو أصل هذه الشجرة. وطبعًا لأنّ هذه الوقائع قد وقعت في بدء التاريخ الإسلامي، في عصور التأسيس، فإنّها تتبوأ منزلة معياريّة وتكتسب صلاحيّة نظريّة في تفسير ما بعدها من وقائع.

الفضاء الإسلامي بين نزاعي السلطان الفقهي والسلطان الثقافي

لا ينطبق ذلك على الفقيه فحسب، بل ينطبق كذلك على المثقف “المستنير”. ولعلّه من الملاحظ أن الجدل بين الفقيه والمثقف هو جدل اخترعته الدولة العربية التحديثيّة؛ إلّا أنهما يمتلكان المخيال نفسه في التعاطي مع الأمور، الخلاف فقط هو في مرجعيّات هذا المخيال من ذاك، فلكلٍّ منهم نماذجه وأصوله الثابتة، لكلّ منهم “شجرته” ذات الأصل الوطيد التي لا تتبدل، والتي تسير عليها الفروع إلى الأصول، وليس العكس. فالمثقف يمتلك عدّة نظرية جاهزة، ونماذج للتفكير مسبقة، كأن الحاضر ملعبٌ لتحقيق هذه النماذج، وفضاءٌ عارٍ من نفسه.

داعش، والتي مثّلت الشرّ في تجلٍّ غير إنساني، في أقسى ما يمكن أن يبتدعه الإنسان، أعني القتل، صنعت هذا الزخم الهائل قبالة الجميع، ولمّا كان الفضاء الإسلامي – العربي يتنازعه السلطان الفقهي والسلطان الثقافي، أعني لما كان هذا الفضاء مشدودًا بين قبضة الفقيه ومسرح المثقف، فإنهما، المثقف والفقيه، قد امتلاكا القول عن ظاهرة داعش، وحاولا أن يقيما تأويليّة لفهمها. فهل أفلحت النخبة الفقهية والنخبة الثقافية في الإمساك بداعش؟ أو، كيف “تملّكت” هاتان النخبتان داعش؟

بناءً على التحليل عاليه، فإنّ الفقيه حاول أن يسري بداعش إلى جذور هذا الفكر، وحينما فعل ذلك فإنّه لم يجد سوى الخوارج كمشجب أنيق يمكن أن يعلّق عليه واقعة داعش، وبذلك يكون قد تملّك تأويلها، وامتلك ناصية فهمها والتعامل معها. الفقيه السُّني لا يفهم الواقع إلا كخروج ودخول: خروج عن الجماعة الكبيرة التي تسمّى “أهل السنة”، ودخول إليها، وأعلى من مثّل هذا الخروج في مخياله هم الخوارج؛ لذا فأي خروج تاريخيّ لاحق سيكون نبتة لها أصل في الخوارج الذين سنّوا هذه السّنّة، سنّة الخروج.

ولكن السؤال الذي يلحّ هاهنا: على مَن خرجت داعش؟ أو ما هي الدور التاريخي لها؟

إن كلّ حركة كبيرة تنشأ يكون لها دور تاريخيّ منوطة به، هذا الدور هو الذي يكوّن سرديتها المؤسّسة والتي من خلالها تكتسب شرعيّة للحياة وللفعل معًا. كلّ جماعة هي استمرار لسرديّة متفق عليها ضمنيًّا بين حامليها، وتكسُّر هذه السرديّة يعني الانتهاء الرمزي لتلك الجماعة الكبيرة. بهذا المعنى، فالخوارج تاريخيًّا كان لهم دور تاريخيّ مناسب لزمنهم، ويعملون من خلال سرديّة لها تفاصيلها التاريخيّة، واستنادها المرجعي للنصوص، وهذا ما بلورها لاحقًا كـ”فرقة”، أي كتمايُز عن الغير، الفرق الأخرى.

ومحاولة الفقيه بإرجاع داعش إلى نموذج الخوارج فيه خلطٌ بين الأدوار التاريخيّة: فداعش ليست فرقة، فإن عصر الفرق قد انتهى وولّى، لأنّنا لم نعد نعيش عصر الفرق الكبرى، المتناحرة مذهبيًّا وعمليًّا، كما أنّ الدور التاريخي لداعش والسرديّة المؤسّسة لها لا علاقة لها بالدور التاريخي لحركة الخوارج في القديم، ولا لسرديتها المؤسّسة. هذا الخلط يؤدّي إلى تفسُّخ الظواهر، ليس ردّ الظواهر إلى وقائع تاريخيّة قديمة يكسبها تفسيرًا، بل ربّما يكسبها تفسُّخها ويجعلها غير مفهومة ومنطقيّة.

إن داعش مثّلت إحراجًا كبيرًا للفقيه، فهي شرّ نابت، وظهر فجأة كقوّة تجسّد الشر وتمارسه، وإن كانت لها أصول تكوينية سحيقة، الجميع يتفق عليها. هذا الإحراج الكبير الذي مثّلته داعش كان بمثابة استقالة للفقيه لحساب النماذج، لأن ردّ داعش إلى حركة الخوارج هو أكثر إشكاليّة من تركها بلا تفسير.

ففجأة، سيجد الفقيه نفسه أمام ترسانة من الأسئلة:

على من خرجت داعش؟

ما هي الفرقة المقابلة التي تقاتلها؟

هل الطموح الميتافيزيقي والتاريخي لداعش يتعلّق بما تعلّق به طموح الخوارج؟

إلى آخر تلك الأسئلة المشروعة لكلّ من يفكّر من خلال النماذج. وبالنهاية، يدخل الفقيه في نقاش علمي بسبب هذا التورُّط بين النماذج ويتناسى الظاهرة.

على إثره، يمارس المثّقف حفرًا جينالوجيًّا في ظاهرة داعش، ولأنّ العنف لا يتمثّل عنده إلّا في “الوهابيّة” كانتماء مخصوص، و”السلفيّة” عمومًا كبوابة كبيرة، فإنّه يردّ داعش إلى تلك الأصول الوهابيّة والسّلفيّة ليس إلّا. استراحة كسولة على بوابة البحث، ومحاولة لإفضاء التاريخ إلى تمثّلات ذهنيّة قد لا يسعف بها واقع الظاهرة.

لا يعني ذلك أنه لا توجد مصادر انتماء لداعش، أو أنّها مفصولة عن الجذور البنيويّة للعنف عربيًّا، أو أنها بلا سند تتكئ عليه، بل هذا مفروغ منه، غاية ما هناك هو ألّا نشغّل الأصول كتفتيت للظاهرة، خاصّة وأن داعش تعمل وفق أجندات مختلفة عن الحركات التي دائمًا ما يردّها الباحثون إليها.

ليست داعش بهذا القدر من التخفّي والتستّر كما يمكن أن يُفهم، إنّها محاولة فقط لإظهار أن النماذج قد تجعل الواقع يستقيل من ظرفه إلى أفق نقاش غير متعلّق به. وكلّ إقامة جديّة مع الظاهرة لا بدّ أن تأخذ في حسبانها البحث عن أصولها الأيديولوجيّة والفكريّة، لكن هذه الأصول لا ينبغي رسمها قبل اختبار الواقعة. علينا أن نترك الأصول لنعود إليها مرّة أخرى ونحن مظّفرون بدم الواقعة.

استراتيجية التكرار في العقل العربي

فثمّة استراتيجيّة من التكرار تعمل في عقلنا العربيّ بشكل مريب، استراتيجيّة تلغي كلّ اختلاف، وتلغي طابع “الجدّة” على الظواهر التي لا تفتأ تظهر في الزمان. هل نعيشُ كلّ هذا التكرار في واقع أنفسنا منذ القدم بلا أيّ اختلاف يقلب جذور هذا التكرار؟ لماذا هذا التكرار يكتسب شرعيّة، في حين أنه في أصله ليس سوى استراحة كسولة من الفقيه وسفه بحثي من المثقف… ما أسهل أن نردّ كلّ ظاهرة إلى أصول تاريخيّة، وما أصعب الفهم.

وداعش، بما أنّها تمثيل للشرّ العتيّ، وقد أُخضعت لهذا التكرار لسرديّة الخوارج أو لسرديّة الوهابيّة السلفيّة، قد فقدت طابعها الجديد. حتّى الشرّ نفسه عاد مكرورًا في أفقنا، مع أنّ بول ريكور يشير إلى أنّ الشرّ له طابع جديد في كلّ مرّة، فإن ناره لا يتكرّر رمادها، رمادها جديد في كلّ مرّة. ولو اتّبعنا ما يقوله الفقيه عن داعش فإنّنا “سنبرّر” لها فعلها ضمن سياقات ليست لها، وكذا لو اتبعنا ما يقوله عنها المثقف فإنّنا “سندحرها” وهي قائمة.

نحن بحاجة لأن “نفهمها” في أفق من العلاقات: نشوء مثل هذه الحركات الراديكاليّة في الدولة التحديثيّة العربيّة، علاقتها بالعولمة، تصوّرها الهوياتي عن نفسها، علاقة العولمة باصطناع هذه الراديكاليّات… إلى آخر العلاقات القائمة فعليًّا.

قد تكون داعش مخيفة حقًّا، لكنّها تافهة، لها جذور سحيقة في الشر، لكنّها مسطحة، مجرّد يأس ميتافيزيقي من العصور الحديثة، ومحاولة لإنشاء عدميّة صاخبة تعيد تأسيس نوع من السرديّة المناسبة لعقولهم ولأنفسهم. إن داعش مخيّم كبير للعدميين، الذي يمتلكون فائضًا من المعنى، عدميّة من فرط المعنى، وليست من غيابه.

إن غياب المعنى ككثرته سواء بسواء، وهذه العلاقة المسافاتيّة بالمعنى هي من تجعلنا نحتمل أنفسنا في الزمان: لا يغيب فنقع في عدميّة خاملة، ولا ينفرط منّا فنقع في عدميّة صاخبة. إن الحرب حرب على المعنى، ليس إلّا.

المصدر: http://feker.net/ar/2014/08/25/23964/

الحوار الخارجي: 
أنواع أخرى: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك