حرية مسلوبة .. قامت من أجلها ثورات.. كيف نفهمها ونمارسها؟

تائب خالد الهنداوي

إن الحرية شعار ضحت من أجله وثارت في سبيله الشعوب، وأريقت من أجله الدماء الزكية، فمنذ العصور الحديثة أصبحت الحرية شعاراً للشعوب والطبقات المضطهدة ضد مغتصبي الثروة والسلطة والمسيطرين على رقاب الناس في المجتمعات البشرية، وكأنها معركة تحرّر وتحرير يخوضها الناس على مرّ الزمن إلى يومنا هذا، بالرغم من اختلاف أشكال المعركة وألوانها وأهدافها وأساليبها باختلاف القيم الفكرية التي ترتكز عليها.

فالحريَّة: ضد العبودية.. والحرُّ: ضد العبد.. وتحرير الرقبة: عتقها من الرق والعبودية.. فالحرية: هي الإباحة التي تُمكِّن الإنسانَ من الفعل المعبِّر عن إرادته، في أي ميدان من ميادين الفعل، وبأيِّ لونٍ من ألوان التعبير.

الحضارات الغربية ومفهوم الحرية:

حرصت الحضارات الغربية الحديثة على توفير أكبر قدر من التحرير في السلوك الفردي ورفع كثير من القيود عنه بالقدر الذي لا يتعارض مع حرّيات الآخرين، فلا تنتهي حرية كل فرد إلا حيث تبدأ حرّيات الأفراد الآخرين. ولم تهتم هذه الحضارات بعد ذلك  لطريقة استعمالها والنتائج التي تتمخض عنها وردود الفعل النفسية والفكرية لها، ما دام كل فرد حرّاً في تصرفاته وسلوكه وقادراً على تنفيذ إرادته في مجالاته الخاصة، فالمخمور مثلًا لا حرج عليه أن يشرب ما شاء من الخمر، ويضحّي بآخر ذرّة من وعيه وإدراكه، لأن من حقه أن يتمتع بهذه الحرية في سلوكه الخاص، ما لم يعترض هذا المخمور طريق الآخرين أو يصبح خطراً على حرياتهم بوجه من الوجوه.

ولكن ما لبثت هذه الحضارات فترة من الزمن حتى رأينا فيها القوي يأكل الضعيف والغني يأخذ حق الفقير ويصطف فيها البشر طوابير هائلة إما للحصول على معونات معيشية أو للعلاج من أزمات نفسية وصحية أصابت الكثيرين من أفراد مجتمعاتهم. كما رأينا هذه الحضارات المزعومة تغزو بلادا آمنة وتستعمرها وتنهب مقدراتها وتسترق شعوبها وتجبرها على التبعية لها وتسلب إرادتها وتجعلها رهينة لها من خلال القيود التي فرضتها عليها، سواء في المعاملات التجارية أو الثقافية.

وسلطت على هذه الشعوب دكتاتوريات جديدة تحكم فيها برغبة هذه الحضارات المزعومة وتسكت عن جرائم هؤلاء المستبدين الذين نصبتهم حكاما ما داموا يحققون مصالحها ولو قتلوا أو هجروا شعوبا بأكملها كما يحدث الآن في سورية مثلا وفي غيرها سابقا، وكل ذلك نتيجة لأن الحضارات الغربية تخلصت من العبودية الظاهرة وارتضت بالحرية السطحية فقط بينما ما زالوا عبيد أنفسهم وشهواتهم التي لم تحررهم هذه الحضارات منها، فحصلت حالة من الإباحية المطلقة -إباحية الأعراض، إباحية الأموال، إباحية الأفكار، إباحية الدم- جعلت هذه الحضارات تثمل وتغرق في مفهوم الحرية بدلا من أن تصبح الحرية طوق نجاة للإنسانية.

مفهوم الحرية في الإسلام:

ولئن كانت الحرية في الحضارات الغربية تبدأ من التحرّر لتنتهي إلى ألوان من العبودية والأغلال، فإنّ الحرّية الرحيبة في الإسلام على العكس فإنها تبدأ من العبودية المخلصة لله تعالى، لتنتهي إلى التحرّر من كل أشكال العبودية المهينة.

ولمفهوم الحرية في الإسلام علاقة مباشرة مع جوهر وجود الإنسان، ومن أجل ذلك المفهوم اعتبر الإنسان نفسه مخلوقاً مميزاً عن بقية مخلوقات الأرض، وجعل أعلى مفاهيم الحرية في توحيد الله عز وجل، حيث تتحرر النفس البشرية والعقل الإنساني من القيود الوثنية وعبادة الفرد لغير الله، قال تعالى: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ) [آل عمران 64].

فبدأ القرآن العظيم بتحرير الإنسان من كل العبوديات بجميع أشكالها على أساس العبودية المخلصة لله وحده، كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم ابن عباس رضي الله عنهما والأمة من خلفه أن يرفعوا الأغلال عن عقولهم لأن الآجال والأرزاق والنفع والضر بيد الخالق، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: “يا غلام، إني أعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، وأعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف”، ونهاهم عن التبعية المقيتة والسلبية القاتلة فقال صلى الله عليه وسلم فيما رواه حذيفة رضي الله عنه: “لا تكونوا إمعة تقولون إن أحسن الناس أحسنا، وإن ظلموا ظلمنا، ولكن وطنوا أنفسكم، إن أحسن الناس أن تحسنوا، وإن أساؤوا فلا تظلموا” [أخرجه الترمذي وقال: حسن غريب]. ومن هنا فهم صحابة رسول الله مفهوم الحرية الحقيقي فأيدته أقوالهم وأفعالهم كما فعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه مع عمرو بن العاص واقتص للمصري منه وقال قولته المشهورة “متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً”.

إن الحرية في المفهوم الإسلامي قيمة كبرى تحتل من سلم المقاصد الدينية الدرجات العليا، وهي قيمة ثابتة تتصف بالديمومة في الزمان والمكان، وهي من صميم أصول الدين وليست من فروعه كما يبدو واضحا من في عقيدة الإقرار بوحدانية الله والتحرر من كل شيء سوى الأمر الإلهي سواء كانت دوافعه داخلية كشهوات النفس أو خارجية كسلطان غاشم، أو تقليدا أعمى أو تسلط رجل دين لم يفهم مقاصد شريعة الإسلام.

فالحرية التي جاء الإسلام يشرعها للناس هي هذه الحرية التي تتضمنها عقيدة التوحيد، ولذلك استحق التشنيع والتوبيخ كل من جعل هواه متحكما بإرادته بعد أن حرره الله منه فقال تعالى: (أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا) [الفرقان 43]، كما جعل الإسلام عبودية المال التي لها مخاطرها التي يعلمها كل ذي لب منقصة للإيمان ومناقضة لجوهر التوحيد فقال صلى الله عليه وسلم: “تعس عبد الدينار والدرهم والقطيفة، والخميصة”.

لذلك فإن الحرية في النظرة الإسلامية ضرورة من الضرورات الإنسانية، وفريضة إلهية، وتكليف شرعي واجب.. وليست مجرد حق من الحقوق، يجوز لصاحبه أن يتنازل عنه إن هو أراد. تحرر الإنسان من كلِّ الطواغيت، فشهادة التوحيد «لا إله إلا الله» هي جوهر التدين بالإسلام، فإنها في مفهومه ثورة تحرير الإنسان من العبودية لكل الطواغيت، وقيمة الحرية أيضا في الممارسة والتطبيق، وذلك عندما حرر الإنسان من أغلال الجاهلية وظلمها وظلماتها.

وإننا إذا صنعنا ذلك  كله حتى جعلنا الإنسان يتحرّر من عبودية شهواته وينعتق من سلطانها الآسر ويمتلك إرادته فسوف نخلق الإنسان الحرّ القادر على أن يقول: لا أو نعم، دون أن تكمّم فاه أو تغلّ يديه هذه الشهوة الموقوتة أو تلك اللذة المبتذلة.

وهذا ما صنعه القرآن حين وضع للفرد المسلم طابعه الروحي الخاص وطوّر من مقاييسه ومُثُله وانتزعه من الأرض وأهدافها المحدودة إلى آفاق أرحب وأهداف أسمى، فلنستمع إلى الله عز وجل يقول: (زيِّن للناس حبّ الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذّهب والفضّة والخيل المسوّمة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا واللَّه عنده حُسن المآب* قل أؤنبّئكم بخير من ذلكم للذين اتقوا ربهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وأزواج مطهرة ورضوانٌ من اللَّه واللَّه بصيرٌ بالعباد) [آل عمران 14,15].

هذه هي معركة التحرير في المحتوى الداخلي للإنسان، وهي في الوقت نفسه الأساس الأول والرئيس لتحرير الإنسانية في نظر الإسلام، وبدونها تصبح كل حرّية زيفاً وخداعاً، أو أسراً وقيداً.

المصدر: https://alfajrmg.net/2014/07/19/%D8%AD%D8%B1%D9%8A%D8%A9-%D9%85%D8%B3%D9...

الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك