لغة الحوار أساس السّلام الاجتماعيّ والسياسيّ
لغة الحوار أساس السّلام الاجتماعيّ والسياسيّ
في كثيرٍ من الأحيان، تكتنف لغة الحوار، بين أيّ طرفين اجتماعيين أو سياسيين، احتداماتٌ واحتكاكاتٌ، تعود في غالبها إلى تجسيد تلك اللغة للحالة الانفعاليّة، بما يُمثّل إسقاط البعد الذاتيّ المحدود في التّعامل مع الآخر، فضلاً عن سيادة الأجواء المُمهِّدة لما يُسمّى حوار الطرشان، حيث لا يسمع كلُّ طرفٍ إلّا صوته هو، مواصلاً ما يُدعى تجاوزاً الحوار؛ والحوار يفترض وجود طرفين يسمعان بعضهما بعضاً. وممّا يمكن أنْ يُلاحظه المراقب الموضوعيّ لمثل هكذا (حوار) ابتعاده عن تناول موضوعٍ محدّدٍ، وتشتّت مفرداته، حيث تجري تداعيات الحديث بحسب ما يعنّ لذاكرة كلّ طرف، وما تستدعيه مفردات الآخر وطبيعة اللحظة الانفعاليّة من صورٍ ومفرداتٍ يرميها بوجه مُحدِّثِهِ .
وفي إطار الأوضاع العراقيّة المستجدّة، فإنَّنا سنكون بمجابهةٍ جدّيّةٍ خطيرةٍ مع مثل هذه الإشكاليّة ـ إشكاليّة الحوار ـ في ظروف ما أصاب قطاعاتٍ واسعةً من أبناء الشعب العراقيّ من تخريبٍ أو إجهادٍ، وما اعترى فئاتٍ اجتماعيّةٍ من أوصاب المرحلة المأساوية، وكَلَلٍ لا يُمكن إلّا أنْ يترك آثاره السلبيّة على المزاج العامّ، وعلى احتدام أو اشتداد العوامل الانفعاليّة الذاتيّة؛ وهي ظاهرةٌ إنسانيّةٌ عاديّةٌ، ومن ثمَّ يُمكن معالجتها انطلاقاً من هذا المنظور...
وفي ظاهرة الحوار من التعقيد والتشابك الشئ الكثير, بسببٍ من كونها تتناول تفاعل أطرافٍ وجماعاتٍ متنوّعةٍ، مختلفةٍ في تصوّراتها واعتقاداتها ومكوّنات مفردات سلوكها الاجتماعيّ والسياسيّ, وعدم وقوفها عند إشكاليّة فردٍ بعينه منفصلٍ عن محيطه، بل حتى الأفراد، ومنهم أولئك الذين تحتدم انفعالاتهم، يتبادلون هنا التأثير سلباً، ويُضيفون تعقيداتٍ جديدةً على الحوار الاجتماعيّ والسياسيّ عبر ما يفرضونه من سماتهم السلبيّة على تلك الحوارات؛ حيث تتداخل القيم الفرديّة بالجمعية بغير وعيٍ، وبإرادةٍ تَضْعُف بسببٍ من هذا الخلط والتداخل بين الفرديّ والجمعيّ، وبسببٍ من فرض الطبيعة المزاجيّة الانفعاليّة الذاتيّة على الحوارات الجارية.
وابتغاءَ معالجة هذه الإشكاليّة، ينبغي عدم التوقّف عند الدّعوة للسّلام الاجتماعيّ، وعند عمليّة إدراجه في برامج الجماعات والفئات المختلفة وكذلك الأفراد. ولا بدّ لمثل هذا الهدف الحيويّ الكبير من وسائل تحقيقه، وخططٍ تبحث في تأكيده في الحياة العامّة، بما يُفعِّل اللقاء الأوسع بين مكوّنات المجتمع العراقيّ سلميّاً، بغية حلّ ما يعتريه من عقباتٍ والوصول إلى أهدافنا المنشودة. ففي أجواء الاحتراب، وعدم سماع الآخر، لا مجال لأبسط حالات التنسيق والتعاون، بل المجال الوحيد الذي سيقوم حينها هو خلق فرصٍ مضافةٍ جديدةٍ للروح العدائيّة، ولتعميق تناقضاتٍ وهميّةٍ بين أطراف، تقع مصلحتها في سلّةٍ واحدةٍ.
والسلم الاجتماعيّ مفتاحٌ لتوطيد إرادةٍ إيجابيّةٍ فاعلةٍ في تبادل رؤى البناء والتطوّر. ولطالما اصطدمنا بتلك الروح السلبيّة بين أطراف العمل الاجتماعيّ، وحتّى السياسيّ الواحد، حيث تحتدم بينهم لغة حوارٍ انفعاليٍّ، عرقل، بل أوقف، مشاريع العمل، ومزّق مساراتها، وجعلها في حالةٍ من التّشتّت..
وبالمناسبة، فهذه ليست صورةً سوداويّةً مأساويّةً، بمعنى طغيان وسيادة مثل هذه الروح السلبيّة, بل لدينا ما هو إيجابيٌّ، ممّا يُمكن التعويل عليه، ليدعم الحلول التي نُسجلّها هنا للإشكاليّة. فعند ابتداء حوارٍ ما, ينبغي على أيٍّ من الطرفين أنْ يضعا لنفسيهما المحدّدات والشّروط، التي توفّر فرص نجاح حوارهما، إذا كانا يستهدفان ذلك، وأنْ لا يضعا في حسابهما، أنَّ الفوز لرؤية طرفٍ هو ما يمنحه الوجاهة والمكانة.. ومن ذلك:
1. أنْ يُركّز حوارهما على موضوعٍ واحدٍ: جزئيّة جزئيّة، ومفردة مفردة, وأنْ يمتنع الطرفان في حوارهما من تشتيت الموضوعات، وأن يبتعدا عن الخلط والتداخل الاتلافيين. فالحياة غنيّةٌ بموضوعاتها، وكلّ موضوعٍ يُمكن أنْ يُناقَش بالتركيز عليه، وبإغناء معالجته من جميع جوانبه، من دون عزله أو فصله عن ارتباطاته؛ لكنَّ ذلك لا يعني مطلقاً تشتيته وإضاعة التركيز على معالجته في خضم تداخلاتٍ اتلافيّةٍ.
2. الامتناع[قدر المستطاع]عن الانفعال والخضوع لطقوس تبادل التأثير والتأثّر السلبيين، ممّا ينتمي لأيّ خللٍ أصاب العلاقة بين الطرفين، أو ما اعتراها من مواقف متشنّجة في الماضي القريب أو البعيد.
3. أنْ يوضع هدفٌ محدّدٌ معيَّنٌ للحوار والمناقشة. وأنْ توضع آليّةٌ وضوابط لإنجاز ذلك الحوار.
4. أنْ يوضع سقفٌ زمنيٌّ لكلّ مفردةٍ من مفردات الحوار، وأنْ لا يُسمَح بظهور التداعيات العفويّة والاسترسالات والاستطرادات غير المستهدفة.
5. الامتناع عن ترك الأمور تجري على عواهنها, لأنَّ فسح المجال لتداعيات التنافر، ولاستدعاء سلبيّات أو اختلافات الماضي، سيكون مقدّمةً لوقف الحوار، بعد أنْ يصل بشحنائه إلى وضعٍ لا تحتمله عواطف الطرفين، فيتّجهان إلى القطيعة بدلاً من استكمال حوارهما الإيجابيّ.
إنَّ التداعيات الإيجابيّة مُمكنةٌ، بمعنى الاسترسال في حديثٍ جانبيٍّ، بعيداً عن جوهر أو محور الحديث، وسيكون من ملطّفات الأجواء والدفع بها إلى الأمام. ولكنَّ ذلك سيكون مصيدةً للسماح بأيّة تداعياتٍ أخرى قد تكون منها السلبيّة في تأثيرها. ثم إنَّ التداعيات غير المستهدفة، وغير المقصودة، لا يُمكن إلّا أنْ تكون في جلساتٍ اجتماعيّةٍ وديّةٍ وزيارات صداقةٍ وعلاقاتٍ فرديّةٍ مخصوصةٍ, وهذه ليست أهلاً لكي تظهر في الحوارات الاجتماعيّة الجادّة.
وينبغي لنا إذنْ أنْ نحتاط في لقاءاتنا وفي جلساتنا وحوارتنا لتوفير أجواء التوفيق والنّجاح لتلك الحوارات؛ بالانتباه إلى مستهدفاتنا التي لا يُمكن أنْ تخرج عن تطبيع علاقاتنا الاجتماعية وتعميق روح السلم الاجتماعيّ بيننا, ثمَّ توطيد وحدة نسيج المجتمع العراقي، الذي كان كذلك إذا ما عُدنا إلى استدعاءات ذاكرة أمسنا؛ فكثيراً ما نستمع لتنهّدات حنينٍ لذاك الماضي، الذي كان نسيجه أقرب للتّفاعل والتّعامل العائلي وللتّآخي والودّ والصداقة منه لغربة اليوم وانشطاراتها...
ولعلّنا نُلاحظ في أحايين عديدةٍ حصر مرجعيّة كلّ موضوعات الحياة الإنسانيّة بمرجعيّة موضوعٍ واحدٍ أو حدثٍ واحدٍ... فإنَّ عدم إطفاء جذوة الثأر تجاه تصرّفٍ سلبيٍّ من الآخر، وقع في ماضٍ قريبٍ أو بعيدٍ، يُصادر المنطق العقليّ، لأيّة مستجدّاتٍ تفترضها الحياة من الطرفين.
وممّا يقف حائلا دون تعزيز لغة الحوار ظواهر الاحباط التي صادفت شخصيّةً ما، وشعور تلك الشخصيّة بالغُبن، لما تراه من تحقّق بعض حاجات أفرادٍ آخرين، فترى في النّظام الاجتماعيّ العامّ ما يضع الثروات الروحيّة والماديّة في أيدٍ لا تستحقها؛ ما يُضاعف شحنات العداء والحقد تجاه المُحيط، ومن هذا المحيط الأفراد المقرّبين المُحيطين بتلك الشخصيّة. إنَّ الاحباط وخيبة الأمل يُعمِّقان من التقوقع والانفصال عن المحيط، ثمَّ الابتعاد عن الآخر، بما يزيد من الحواجز والمصدّات بين أطراف الحوار. ومن الطبيعي أنْ تكون مثل هذه السّمة المَرَضية موجودةً حيثما وُجِد ضَعْف الشخصيّة وتخلّفها.. وعلينا السعي لتشخيص ما في أنفسنا، وكبح جماح ما داخَلَها من سماتٍ غير سويّة، في ظلّ تعقيدات الحياة واستلابها حقوقنا، طوال مرحلة الظلام التي خَلَتْ وانتهت بغير رجعةٍ.
نحن بصدد مرحلةٍ جديدةٍ والتمسّك بأيّامٍ مضت، وبما حصل بين الأفراد والجماعات من وقائع سلبيّةٍ، افتُعِلَت في ظروفٍ غير طبيعيّةٍ, هو أمرٌ غير مسوَّغٍ وغير موضوعيٍّ، ولا يسِمُ الشخصيّة إلّا بالتخلّف والسلبيّة، إنْ لمْ نقلْ العدائيّة. إذن ينتظرنا التخلّص من أمراض الشخصيّة السلبيّة، وممّا تفرضه من مُعطياتٍ في العلاقات الاجتماعيّة والسياسيّة. فإذا ما نظرنا إلى جذور الشخصيّة العراقيّة وقوّتها، وطبيعة منطقها الحضاريّ المتفتّح المتنوِّر، فإنَّنا سوف نتّجه إلى منطق حوارٍ يُعزِّزُ وحدة نسيج مجتمعنا، ويتّجه بنا إلى آفاقٍ لا تستطيع عوامل التخريب وأمراض التخلّف من اختراق شخصيّتنا، فنمتلك لغة حوارٍ تؤسّس للسّلم الاجتماعيّ والسياسيّ في عراقنا الجديد.
د. تيسيرعبدالجبار الآلوسي
المصدر: http://www.husseinalsader.org/inp/view.asp?ID=3441