هل يصلح شعار (الحرب العادلة) لتشكيل مجال مشترك للحوار والتضامن؟ إجابة عربية على رسالة المثقفين الأميركيين

الدكتور رضوان السيد

 

وجّهت مجموعة كبيرة من المثقفين والأكاديميين الأميركيين البارزين رسالة إلى المسلمين تتعلّق بالحرب التي تخوضُها الولايات المتحدة منذ هجمات 11 أيلول / سبتمبر على الإرهاب، إيضاحاً من جانب أولئك المثقفين لأصول تلك الحرب، والغايات التي تتوخّاها، ودعوةً من جانبهم للمسلمين للتضامن والتلاقي والتسانُد في مجال دعم تلك الحرب، والمجالات الأخرى للقيم الإنسانية والدينية الكبرى. لقد شعرنا نحن المثقفين العرب، الموقّعين على هذه الوثيقة، أننا معنيون ليس باعتبارنا جزءاً من هذا المدى الإسلامي الشاسع وحسب، بل وباعتبار "التطرف الإسلامي" الذي يريد منا أصحابُ الرسالة أن ننضمّ إليهم في الحرب عليه، يشارك فيها عربٌ كثيرون ويكون علينا من الناحية الأخلاقية والسياسية أن نتخذ موقفاً منه. لكن قبل ذلك وبعده: نحن معنيون باعتبارنا جزءاً من هذا العالم المعاصر، بالقيم الإنسانية والأخلاقية المشتركة التي تحكمه أو ينبغي أن تحكمَه، والتي يشير إليها، بل ويؤسس عليها الزملاء المثقفون تسويغهم للحرب الجارية.

 

أولاً: 1- إننا نؤمن كما تؤمنون بالمبادئ الخمسة المتعلقة بالمساواة والحرية والكرامة الإنسانية، ومركزية الإنسان في هذا العالم، والمعنى العميق للحياة الإنسانية الفردية والجماعية، وحرية الضمير والمعتقد، وحرية القتل باسم الله.

فقد شكّلت هذه المبادئ والقيم عناوين كبرى في ثقافتنا التاريخية والحاضرة، غير مختلفين في ذلك عن الأمم والديانات الأخرى، وقبل أن تتحول تلك المبادئ والقيم إلى مواثيق عالمية في الأمم المتحدة، والإعلان العالمي لحقوق الإنسان، والمعاهدات والإعلانات اللاحقة.

إننا لا نذكر هذا الأمر هنا على سبيل التمدّح أو المجادلة، كما لا نذكُرُه لتجديد الإلتزام بها وحسب، بل ولوضع هذه القضايا الهامّة في سياقاتها التاريخية والمضمونة السليمة. ما شاركت دول عربية أو إسلامية كثيرة عامي 1945 و 1948 في صياغة ميثاق الأمم المتحدة، ثم الإعلان العالمي لحقوق الإنسان (اللذين يتضمنان هذه المبادئ) لأن غالبية البلاد العربية والإسلامية كانت ما تزال مستعمرة، بل إنه في السنة التي صدر فيها الإعلان العالمي النظام الدولي آنذاك وما يزال – رغم مُناقضتها للمبادئ الخمسة السالفة الذكر، ولميثاق الأمم المتحدة، والإعلان العالمي لحقوق الإنسان. والوضع الآن، بل ومنذ العام 1967 أسسوا مما كان عليه عام 1948. فأرض فلسطين التاريخية وقعت بكاملها تحت سيطرة الدولة العبرية – بالإضافة إلى أراضي من دول عربيةٍ أُخرى-، والشعب الفلسطيني الآن قسمان: قسمٌ تحت الإحتلال والعسْف والعنف، وقسمٌ آخر مشرّدٌ في جهات العالم الأربع.

 

أولاً: 2- ومرةً أخرى، لا نذكر ذلك كلّه من أجل التبرير أو المجادلة، بل من أجل الفهم والإفهام، ولكي تكون المنطلقات واضحة، بل والمساحة المشتركة مع المثقفين الأميركيين واضحة أيضاً: فإذا كانوا يرون أن أحداث 11 أيلول / سبتمبر – التي لا يمكن تبريرُها ولا تجاهلُها – تشكل بالنسبة لهم فعلاً تأسيساً لتحديد العلاقة بينهم وبين العرب والمسلمين والعالم (ونحن لا نرى أنها كذلك رغم ضخامتها وخطورتها)، فنحن نذهب إلى أنّ قيام الدولة العبرية على أرض فلسطين، وهيمنتها بدعم من الدول الكبرى على مقدّرات المنطقة ومصائرها، كان وما يزال العامل الأساسي في تحديد طريقة حياتنا أمةً وشعوباً ودولاً، منذ أكثر من خمسين عاماً، بل إنه صار – خطأ أو صواباً – العامل الأساسي أيضاً في تحديد علاقتنا بالعالَم وقيمه ومؤسساته.

لقد بلغت المرارةُ العربية والإسلامية خلال العقود الخمسة الماضية إلى حدود الشكّ في هذه القيم الإنسانية الوضعية الكبرى، فكان هناك مَن قال إنه لا ضمان للعدالة في هذا العالَم إلاّ باللجوء إلى "الحق الإلهي" بدلاً من الإعتصام بالحقوق والإلتزامات الوضعية التي تتأسس عليها العلاقات الدولية، والتي تُخلُ بها – بل وتتلاعب بها – علاقاتُ القوة السائدة.

وإذا كان هذا التوجّه الإحتجاجي، لم يُكتب له السوادُ لحسن الحظَ، فالفضل في ذلك يعودُ للعقلاء من رجالات الثقافة والسياسة، الذي يشكونَ على أي حالٍ، باستمرار، من التمييز، وسياسة الكيل بمكيالين، في النظام الدولي، والعلاقات الدولية، وليس في قضية فلسطين وحسب، بل وفي مسائل كبرى كثيرة، لا ينفرد بالتظلُم منها العربُ أو المسلمون.

أولاً: 3- إننا نرى أن المبادئ والقيم الإنسانية الكبرى، والتي تعبّر عنها المواثيق والإعلانات العالمية، تقتضي الإقتناع والإلتزام، رغم عدم تجلّيها إلى حدٍ كبيرٍ في العلاقات الدولية، ونحن لسنا مع من يقول إنها قيمٌ غربيةٌ لا تُلزِم غير الغربيين. إنها متعددة المصادر، وتُمثّل خُلاصة التجارب الحضارية الكبرى، ومن بينها الحضارة الإسلامية، والثورة الفرنسية، والسموق الإنساني للأمم الآسيوية، والمعاناة الهائلة للإنسان الأفريقي. وفي مجال التسامح الديني، الذي يُطالبُنا به الزُملاءُ الأميركيون، نودُ أن نذكّر بأنه منذ العصور الوسطى وحتى مشارف العصور الحديثة، ما شهد العالَم مجتمعات متعددة دينياً وإثنياً، غير المجتمعات المنضوية في نطاق الحضارة الإسلامية.

.. ومرة أخرى لا نقولُ ذلك هنا على سبيل التمدّح، بل لأنّ أصحاب الرسالة يعتبرون تلك القيم الإنسانية قيماً أميركية أو قيماً تأسيسية في حياة وتاريخ الأمة الأميركية ودولتها الإتحادية، ونحن لا نأخذُ عليهم نزعة "الإمتلاك" هذه، بل نعتبرها التزاماً قوياً بتلك القيم، التي نريد كما يريدون أن تسودَ في المجال الدولي أياً يكن نصيبُ كل منا (تاريخياً) في التأسيس لها. بيد أن المُلاحظ هنا ذلك التماهي الذي يقيمونه بين تلك القيم، وبين أميركا – الدولة، وأميركا القُطب الأعظم في النظام الدولي منذ ما يزيد على الخمسين عاماً. صحيحٌ أنهم يذكرون أكثر من مرة أنّ كثيرين منهم لا يُقرّون بعض سياسات الحكومة أو الحكومات الأميركية. وصحيح أنهم ينتقدون بعضَ مظاهر الحياة الأميركية العامة، لكنهم لا يقيمون حداً أو فاصلاً بين "القيم الإنسانية" ، هم يذهبون إلى أنّ "السياسات تستمدّ جذورها من قيم وأولويات المجتمع ككل".

نحن ندركُ هنا خصوصية أميركية إلى حد ما، لا نستطيع ملاحظتها بالقدْر نفسِه من الوضوح لدى مثقّفي الأمم والدول الأخرى، وتتمثّل في الإلتزام لدى الفئة الأوسع من أولئك المثقفين، ليس بالدولة الأميركية وحسب، بل وبالنظام الأميركي أيضاً. بيد أن ذلك ل يُعتبر كافياً من وجهة نظرنا، ومن جانب مثقفين أميركيين كبار متعددي المشارب الثقافية والسياسية، لتعليل هذا التجاهُل للفروق الشاسعة بين القيم والثقافة (الأميركية التي يتحدثون عنها) من جهة، وسياسات أميركا الخارجية، باعتبارها ممثّلة لمصالح شرائح اجتماعية وسياسية، وباعتبارها القطب الأعظم (والأوحد اليوم) في النظام الدولي. إن كثيرين منا نحن العرب والمسلمين، بل وكثيرون في سائر أنحاء العالَم، في عقود الحرب الباردة، وبعدها، ما رأوا غير سياسات الدولة الأميركية، دون قيمها. ولا نقول ذلك الآن للإحراج أو المجادلة، بل لأن هذا يوضّح مقاصدَنا من وراء الإختلاف ومن وراء الحوار في الوقت نفسِه. ولهذا السبب أيضاً لا نعتبرُ أحداث 11 أيلول / سبتمبر بدايةَ أو نهاية. فالولايات المتحدة حاضرةٌ وبقوة (ساحقة أحياناً) في العالمين العربي والإسلامي، وفي العالَم كلّه، منذ أكثر من خمسين عاماً. ويظنّ كثيرون منا الآن نتيجة سياسات الولايات المتحدة تُجاه المشكلات العالمية الكبرى بعد نهاية الحرب الباردة، أن لجوءها إلى تلك القيم والمؤسسات خلال الحرب الباردة، إنما كان من أجل التسلّح بها في مواجهة الإتحاد السوفياتي، وليس إيماناً بتلك القيم والمؤسسات التي أسهم الأميركيون بقوةٍ في تشييدها في النصف الثاني من أربعينات القرن العشرين.

لقد شهدت السنوات التالية لحرب الخليج الثانية تعطيلاً أميركياُ للمؤسسات الدولية القائمة على القيم الإنسانية الكبرى التي تحدث عنها المثقفون. وتكادُ الولايات المتحدة أن تكون وحيدةً أو منفردة في كل مشكلة يلتقي المجتمع الدولي للتصدي لها، تارةً بحجة تهديدها للأمن الأميركي أو للمصالح الإقتصادية الأميركية.

ثانياً: 4- يتضح مما سبق أن بيننا اختلافاً لا يتناول القيم الإنسانية، بل يتناول مفاهيمها وتجلياتها في السياسات والممارسات الأميركية تُجاه العالم المعاصر وفيه. والحوار والعمل المشترك في ظل هذه القيم ضروري للتقارب الثقافي والسياسي والإنساني.

وما دام الإختلاف بيننا ليس على القيم الإنسانية، فهو أيضاً ليس في الدين أو عليه. لذلك ما كنا لنخوضَ نقاشاً حول الجوانب الدينية التي طرحتموها، ولولا أنكم اسّستم عليها نتائج تتطلب نظراً ومراجعةً وتحاوُراً وتصحيحاً أحياناً.

يعتقد كثيرون من المسلمين والمستشرقين أو المختصين الغربيين بالدراسات الإسلامية أن هناك اختلافاً في ماهية الدين ودوره بين العالَم الإسلامي والغرب. فالإسلام – من وجهة النظر هذه – ليس اعتقاداً وإيماناً وحسب، بل هو أيضاً ثقافة وأسلوب حياة لمليار وربع المليار من البشر في العالم اليوم. ولا شكّ أن التجارب الدينية مختلفة لدى أُمم الأرض، لكنّ اختلافها – من وجهة نظرنا – لا يعود لاختلاف طبيعة الإيمان بين الديانات الإبراهيمية على الخصوص -، بل إن اختلاف التجارب سببُه اختلاف العلاقة بين المؤسسة أو المؤسسات الدينية من جهة، والدولة أو النظام السياسي، في تلك المجتمعات من جهة ثانية. وقد أدّى اختلاف العلاقة (لأسباب كثيرة لا مجال لذكرها هنا، ومن ضمنها مفهوم المؤسسة الدينية ذاته، وعلاقة النظام السياسي بمجتمع المؤمنين) إلى تعدد التجارب في العصور الحديثة، ومن ضمن تلك التجارب التجاربُ في عالم الإسلام في ظلّ الهيمنة الأوروبية والغربية على العالَم. ويمكن تلخيص سياسات الدول القومية والقطرية تجاه الدين في عالَم الإسلام في ثلاثة أنماط لم ينجح أيّ منها في التحول إلى نموذج: نمط الإستيلاء على الدين بغرض توظيفه في شرعنة النظام، وضبط المجتمع، ونمط الفصل بين السياسية والشريعة من أجل تحرير "السياسي من الديني" دونما معاداةٍ للدين، ونمط عزل الدين ومؤسساته ومحاصرته باسم العلمانية.

ولا يخلو مجالٌ دينيٌ في عالم اليوم من ظواهر للتشدد، نابعة في كثير من الأحيان، من الخوف على الهوية والخصوصية، في ظل عواصف الحداثة والتغيير التي تتهدّد – في نظر كثيرين – الإيمان، كما تتهدد المؤسسات. بيد أن الإتجاه للعنف تجاه الآخرين في الداخل أو الخارج يأتي غالباً من سلوك الدولة تُجاه تلك الظواهؤ، ومن اتجاه السلطات والقوى في الداخل والخارج لتوظيفها بهذا القدْر أو ذاك. وإذا كان التشدّد ظاهرة طبيعية انغلاقية وليست عنيفة غالباً ، فإن الضغوط والتوظيفات الداخلية والخارجية حوّلت الفئات الهامشية المتشدد في عالم الإسلام إلى شرذام متطرقة وعنيفة.

 

ثانياً: 5- لقد ظهرت دراسات كثيرة عن التطرف الإسلامي قبل أحداث 11 أيلول / سبتمبر وبعدها، ومن جانب دارسين غربيين. ونحن نعتقد أن تلك الدراسات ليست كافية لفهم الظاهرة وصعودها تطوراتها. بل ونرى أيضاً أننا نحن المثقفين العرب والمسلمين، مقصرون في دراسة الظاهرة الدينية في مجالنا الحضاري، وفي دراسة ظهور ما عُرف باسم الأصولية والإسلام السياسي، وهما أمران مختلفان.

بيد أن القدْر المتوافر من المعرفة السوسيولوجية، والسياسية، والنظر في العلاقات الدولية، يفيد بأن صراعات الحرب الباردة وما بعدها كانت وراء صعود الظاهرة وتفاقُمها. ففي الوقت الذي كان فيه الرئيس السادات يحيّي الأفغان المجاهدين في سبيل الله في الجامع الأزهر، كانت الصورُ تلتقط للرئيس رونالد ريغان في البيت الأبيض مع المجاهدين من أجل الحرية في أفغانستان، في مواجهة الشرّ الأكبر: الإتحاد السوفياتي! والحكاية بعد ذلك معروفة. ففسطاطا ابن لادن، فسطاطا الإيمان وفسطاطا الكفر، لا يعودان للعام1997، بل إنما يعودان لمطالع الثمانينات. أما الجذور فتعود للفشل العربي والإسلامي في بناء الدولة، ولتوظيف الولايات المتحدة الأميركية والإتحاد السوفياتي للحركات الإحتجاجية يساراً ويميناً، في صراعات الحرب الباردة.

 

ثانياً: 6- بيد أن لا شيء من ذلك يبرّر أو يسوّغ أو يقلّل من شأن هجمات 11 أيلول / سبتمبر على نيويورك وواشنطن، كما لاشيء يبرّر مذابح الجزائر الوحشية المستمرة منذ العام 1994، أو مقتل ما يزيد على المليون إنسان في رواندا وبوروندي والكونغو. فالبشر في النهاية يستطيعون اتخاذ قراراتهم الخاصة والحرّة رغم الضغوط القاسية، والظروف الصعبة، وإلاّ فما معنى الحرية الإنسانية، ومسؤولية الإنسان؟

يقول الزملاء الأميركيون إن خطاب الإسلاميين المتطرفين غير المعقول لا يعني غير شيء واحد هو كراهية الاميركيين لأنهم أميركيون، ولأنهم يملكون أسلوب عيش معيّن. ونحن نعلن هنا بأننا لا نفهم الدوافع الحقيقية لهؤلاء، ولا نرى فيما ذكروه من أسباب فيما بعد، ما يُعلّل أو يُقنع بأن لتلك الهجمات معنىً أو أهدافاً. أما أسلوب الحياة الأميركي فهو الخيار الحرّ للشعب الأميركي، وليس من حقّ أحد الإضرار به أو الإعتداء عليه بحجّة دينيةٍ أو سياسية.

وهناك أخيراً أمران نرى أن التعرض لهما مفيدٌ لهذه الجهة، يتعلق أحدهما بالحياة الأميركية، والنظام الأميركي – ويتعلق الآخر بالإسلام والثقافة الإسلامية، والهوية العربية والإسلامية.

ففضلاً عن أن النظام ونمط العيش الأميركي، لا يبدو لدى العرب والمسلمين ذلك النفور من الأميركيين أو نمط عيشهم والذي يُلاحظه أصحاب الرسالة من المثقفين، بدليل وجود ملايين العرب والمسلمين في الولايات المتحدة، والذين قدِموا إليها باختيارهم ورغبتهم، ويُسهمون اليوم، كما أسهموا بالأمس في سائر مناحي الحياة.

لقد ذكرنا من قبلُ أسباباً تبرر وجوهَ التذمر والغضب التي يُحس بها كثيرون منا تُجاه سياسات الولايات المتحدة، لكننا نؤمنُ وسنظلُّ نؤمن بإمكانات التغيير وفُرصه وآلياته، ليس لأنّ هذا العنف العشوائي غير إنساني ولا يوصِل إلى الأهداف المتوخاة وحسب، بل ولأننا نعتبر التجربة الأميركية، والتجارب الحضارية والسياسية المتقدمة الأخرى، فرصة للعالم الذي تنتمي إليه، ونعيش فيه، وتُسهم الولايات المتحدة إسهاماً أساسياً في تشكيله، والتأثير في مستقبله.

لهذه الأسباب كلها لا نرى مجدّداً في أحداث 11 أيلول / سبتمبر بدايةً أو نهاية لعلاقة العرب والمسلمين بالولايات المتحدة، فالحدثُ على خطورته عارضٌ، أو أنّ علينا جميعاً أن نعمل لكي يكون كذلك، دونما وقوع في أسْرِ الرثاءِ للنفس أو المسؤولية الجماعية. فقد انصبّت التصريحات منذ 11 أيلول / سبتمبر على تبرئة الإسلام، وإدانة المجرمين. والمطلوب اليوم "تبرئة" العرب والمسلمين إذا صحّ التعبير، والمقصود بذلك ليس الناحية القانونية وحسب، بل والناحية الأخلاقية، الثقافية، والحضارية.

إن بين الموقّعين على رسالة المثقفين الأميركيين أُناساً يقولون بالصراع بين الحضارات أو بنهاية التاريخ وما شابه من أوهام القوة وحقائقها. ونحن نرى خَطَلَ هذه التطورات وخطأها. فالحضارات لا تتصارع ولا تتحاور، وإنما يتحاور الأفراد، وتتواصل أو تتقاطع الدول ولا مسؤولية جماعية لأُمم أو أبناء دين معيّن، عن تصرفات يقوم بها أفرادٌ منهم. ودعوات الصراع ومزاعم النهايات تُحيل المشاركة على قدم المساواة إلى وهم، في هذا العالَم الذي تتقارب أجزاؤه، ويتوق العرب والمسلمون – مثل سائر الناس – للمشاركة الفاعلة والقوية فيه، بما يتناسب مع رغباتهم وإمكانياتهم، وبما يتناسب أكثر مع النزوع الإنساني الكبير للتجدد والتقدم من طريق التواصل.

ثالثاً: 7- يصل المثقفون الأميركيون بعد هذا التمهيد الطويل والعميق إلى أن الإرهاب الأعمى وغير الإنساني الذي تعرضت له الولايات المتحدة يُسوّغ القيام بحرب عليه، أي على المتطرفين المسلمين، كما يسمّونهم، ويرى فيها أصحابُ الرسالة حرباً عادلة، ولذلك فهم يدعمون حكومتهم التي تشُنّ هذه الحرب في الشهور الأخيرة.

إننا نريد في البدء أن نقرّر أن الولايات المتحدة تعرضت لعدوان، ومن حقّها الدفاع عن نفسها، وملاحقة أولئك الذين اعتدوا عليها. ونحن نحمدُ للمثقفين الأميركيين الدوافع الأخلاقية التي أمْلت عليهم مُحاولة إيضاح المسوّغات الأخلاقية لمقاتلة المعتدين. لكننا لسنا مطمئنين إلى اعتبار الحرب "الشاملة" هذه أخلاقياً أياً تكن مبرراتها. فالحرب الأميركية المستمرة "على الإرهاب" عملٌ من أعمال السياسة الكبرى. ونحن نعتقد أن علاقتَها بالأخلاق (الدفاع عن النفس) تقف عند حدود ملاحقة منظمة القاعدة، لكنها منذ تجاوزت ذلك إلى إجراءات على مستوى العالَم، وإلى تغيير الحكومة الأفغانية وإحلال فريقٍ من فرقاء الحرب الأهلية محلّ آخر، صارت حرباً شاملة لا يمكن تبريرها أخلاقياً، وبخاصة أنها تخطّت القانون الدولي والأعراف الدولية.

ذكر الزملاء الأميركيون، أن الحرب، أي حرب، تطرح مشكلة أخلاقية. ونحن نعتقد أن هذه "المشكلة" تفاقمت منذ صارت حرباً شاملةً، تتجاوز مفهوم الدفاع وحدوده. ولأن الزملاء أحسّوا بهذا الأمر لجأوا إلى اللاهوت القديم للحرب العادلة. لقد جاء في القرآن: يا أيها الذين آمنوا كُتب عليكم القتالُ وهو كُرهٌ لكم (سورة البقرة: 216). ويعني هذا أن سفك الدم تأنفُ منه الطبيعة البشرية السوية، أو أنها تفعلُه على كُره. وربما من أجل ذلك وضع اللاهوتيون المسيحيون ضوابط للحرب العادلة، بأنها تلك التي تطلقها الكنيسة أو توافق عليها. وطبعاً ما كان في ذلك ضمانٌ لأخلاقية الحرب أو عدالتها. ونحن نعرف أنّ مواريثَ الديانات الإبراهيمية الثلاث في مسألة الحرب حفلت باجتهادات وممارساتٍ كثيرةٍ لا تُغلّبُ جانب المسالمة والمصالحة في كثير من الأحيان. بيد أن القرآن الذي كرِه الحرب حدّد حدودها في آية من أواخر الآيات نزولاً، حين قال: وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا (سورة البقرة: 190). فلم يبق غير الحرب الدفاعية لاهوتياً وأخلاقياً.

لقد عانى الفقهاء المسلمون كثيراً في العصور الحديثة من هجمات الدارسين الغربيين الذين كانوا وما يزالون يعتبرون الجهاد حرباً مقدّسة بالمعنى الديني الوسيط لدى الكاثوليك. والواقع أن المسلمين ما قاموا بحروب هجومية في القرن الأخير، بل كانت كل جهودهم منصبّة على مكافحة الإستعمال، وبذلك فما كان الجهادُ غير حرب دفاعية. ومع هذا فقد برز علماء من سيد أحمد خان وجراغ علي ومحمد عبده.. وإلى محمود شلتوت ومحمد أبو زهرة وجودت سعيد  ومحمد مهدي شمس الدين ومحمد سعيد رمضان البوطي، قالوا جميعاً بدفاعية الجهاد. أما المتظرفون المسلمون فيصرون على أن الحرب ليست للدفاع وحسب، بل وعندما يكون الإسلام في خطر! وتكمن خطورة هذا الأمر في إمكان تأبيد الحرب. ومع الفارق البعيد بين قوة الإسلاميين المتشددين وقوة الولايات المتحدة، فإن هذا هو ما تقوم به أميركا وعندما تعتنق رؤية هجومية بحجة الأخطار التي تتهددها. ثم من ذا الذي يملك سلطة أو مرجعية تحديد الأخطار التي لا يمكن دفعها عن الدين إلا بالحرب؟! لكن الخطير أيضاً فيما يذهب إليه الإسلاميون المتطرفون فرضهم "للجهاد" في مواجهة خصومهم من الحكّام والفئات الإسلامية الأخرى. والذي حدث حتى اليوم أن أكثر من قُتل في الصراعات المسلحة التي يخوضها المتطرفون الإسلاميون، كانوا من المسلمين "الآخرين" غير الحزبيين.

هكذا تُرجّح الإجتهادات الجديدة في الأديان، كما في الرؤى الإنسانية المتجددة، جانب إقرار الحرب الدفاعية، كُرهاً، منعاً لانتشار الفوضى، وسيطرة الأقوياء. وهذا هو القانون الدولي أو مقتضياته فيما يتعلق بالدفاع في مواجهة العدوان، وفيما يتعلق بمقاومة الإحتلال، وتحرير الأرض. ونحن نرى – ليس لأننا عرب ومسلمون وحسب – أن فلسطين تكاد تكون البلد الأخير في العالم الذي يحقّ لسكانه مقاومة الإحتلال حتى التحرير، ولو بالعمل المسلّح بعد أن رفض المحتلون الوصول إلى حل بالسياسة وبالتفاوض. وباستثناء هذه الحالة، نرى أن الأدنى للدقة والأخلاق تسمية الحرب حرباً ضرورية، وليس عادلة – والفرق واضحٌ بين الأمرين. ثم لماذا لا نعمل معاً ليس من أجل "الحرب العادلة" بل من أجل السلام العادل والشامل؟

 

ثالثاً: 8- لا يحتاج الأميركيون فعلاً إلى لاهوتٍ ديني أو أخلاقي لتبرير دفاعهم عن أنفسهم ومدنييهم. بيد أن ما يحتاج إلى تبرير فعلاً اقتصار "الحرب العادلة" تلك على المتطرفين المسلمين! وما يحتاج إلى فهمٍ أخيراً مدى "ملاءمة" الوسائل للأهداف سياسياً وأخلاقياً.

يبحث المثقفون الأميركيون عن "مساحة مشتركة، تجمعهم و "إخوتهم" المسمين. هذه "المساحة" ينبغي أن تكون مضمونة من الناحيتين الأخلاقية والقيمية، والأفضل أن تكون متجلية في القانون الدولي. لكنهم لم يذكروا في هذا المجال غير الحرب على المتطرفين المسلمين الذين ارتكبوا ما ارتكبوه ضد الولايات المتحدة. إننا معنيون فعلاً بالحملة على الإرهاب سواءٌ أتى من مسلمين أو غير مسلمين. لكن ما دام الأمر مستنداً إلى قيم وأخلاقيات وإمكانيات لقاء، فلماذا لم يُذكر المتطرفون الآخرون؟ ولماذا لم يُذكر الفلسطينيون الذين يتعرضون لإرهاب دولة عضو في الأمم المتحدة، وليس منظمة سرية منف القاعدة؟

أما "الملاءمة" التي نقصدها فتتصل بالإتساق بين الوسائل والأهداف. فإذا كان الهدف استئصال الإرهاب من جذوره، فإن الوسيلة الملائمة ليس الحرب العادلة أو الشاملة، بل السلام العادل وهذا ما نبحث عنه، ويبحث عنه العالم في فلسطين وفي غير فلسطين.

 

رابعاً: 9- يعرف العالم للولايات المتحدة إسهامها المباشر في سلامه وتقدمه وأمنه ي ثلاث مناسبات كبرى: إعلان الإستقلال الذي أسّس لحقوق الإنسان، ومبادئ ولسن الأربعة عشر، التي ربطت العالم بعضه ببعض برباط المساواة والعدالة والحرية – وكفاحها ضد النازية والفاشية، في الحرب العالمية الثانية. بيد أن أهم ما يُعرف لها التجربة الإنسانية الكبرى للمجتمع المتعدد والديموقراطي والمفتوح.

لكننا نعرفُ من جهة أخرى معاناة الهنود الحمر والسود. ونعرف معاناة شعوب العالم من سياسات القوة الأميركية. ونعرف ما يعانيه الشعب الفلسطيني نتيجة الإحتضان الأميركي لإسرائيل، ونعرف سياسات الولايات المتحدة العالمية المتجاهلة للرأي العام العالمي، وللقضايا الكبرى التي تهم البشر.

وإذا كان ذلك كله لا ينسي القيم التأسيسية للولايات المتحدة، وللعالم المعاصر، فإنه أيضاً ليس ظاهرة عارضة يمكن تجاوزها بالقول إن الإلتزام بالقيم كان غالباً. ليس الأمر أمر عدد الممرات، بل هو في غلبة روح المشارك، والعمل على الجماعي على مستوى العالم. والواقع أن الولايات المتحدة – وفي السنوات الأخيرة بالذات – تغلّب جانب القوة في تصرفاتها على المستوى الدولي. ثم إنها لا تميل لإشراك أحدٍ فيما تعتبره جزءاً من أمنها المباشر. ويمتد ذلك للنظرة إلى الأمم المتحدة، وقضايا البيئة، وقضايا نزع التسلّح، وقضايا منع انتشار السلاح النووي، وتحريم الأسلحة البيولوجية والكيميائية، وضوابط العدالة والمنافسة في التجارة الدولية، وأخيراً إنشاء المحكمة الجنائية الدولية، والحرب الإسرائيلية المستمرة على الشعب الفلسطيني، والمدعومة من الولايات المتحدة. لا يجوز التقليل إذن من شأن الفروق بين القيم والسياسات العملية،  كما لا يجوز اعتبار الحرب استمراراً للسياسة، بل إنها قطيعةٌ معها. ولذلك يبدو لنا أنه بقدر ما هو الحوار ضروري ومؤثر، فإن الوضوح ضروري أيضاً. بل إن الحوار إنما يتأسس على الوضوح والمصارحة، والبعد عن التشنج، والقابلية للنقد والمراجعة.

نحن نسعى مثلما تسعون، وكثرة كاثرة من دعاة الحرية والسلام، إلى عالم منفتح على الحريات الأساسية، وعلى التقدم، وعلى مرجعية المؤسسات الدولية في العلاقات على المستوى العالمي. وقبل ذلك وبعده على قيم المساواة والعدالة والسلام.

وإذا كنتم تشعرون في كثير من الأحيان بضرورة التدخل من أجل مراجعة بعض سياسات الحكومات الأميركية المتعاقبة، فنحن نحُسُّ ونفعل الشيء نفسَه تجاه حكومتنا. لكننا نغبطكم على هذا الإيمان بالتزام الحكومة والنُخَب الحاكمة في بلادكم غالباً بالقيم الإنسانية الكبرى، وهو أمرٌ نختلف معكم فيه بالنسبة للنظام الأميركي، ولأنظمتنا.

نملك أهدافاً مشتركة، وتنفردون كما ننفرد بأولويات مختلفة. ونرى أن الحوار الذي دعوتمونا إليه هو السبيل الوحيد للمراجعة والتقارب. ويبقى لكم فضل المبادرة.

المصدر: http://www.ridwanalsayyid.com/ContentPage.aspx?id=74#.V0iSvbgrLIU

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك