الإسلاميون والدولة العلمانية

الدكتور رضوان السيد

 

كان الصراع حول التطورات التي أدت إلى إلغاء الخلافة في تر كيا (1922-1924) ، وكتاب علي عبد الرازق عام 1925 البيئة التي ظهرت فيها أُولى منتجات الفكر الإسلامي المعاصر . وكنتُ قد فرَّقتُ في موضعٍ آخر بين الفكرين الإسلاميين الحديث والمعاصر بالإشكالية التي حكمت كلاًّ منهما . فالإشكالية الرئيسيةُ في الفكر الإسلامي الحديث ( من منتصف القرن التاسع عشر وحتى  ثلاثينات القرن العشرين ) هي الإصلاح والتقدم ، وكيف يمكن تحقيقهما . أما إشكالية الفكر الإسلامي المعاصر في العقود الستة الأخيرة من القرن العشرين فتتمثل في التأكيد على الهوية الإسلامية ، ووسائل حفظها وصيانتها ، والدفاع عنها.

 

I

 

كانت وجهة نظر علي عبد الرازق أنَّ النبيّ جاء برسالةٍ روحيةٍ دينيةٍ ، وأنه لم يقصد قط إلى إنشاء دولةٍ إسلامية . وبالتالي فلا محلّ للقول بأنّ رسالتـــه تضمـــنت وجوب إقـامة تـلك الدولة الإسلامية في صورة نظام الخلافة. وفي نفس الاتجاه ذهب الدكتور طه حسين في كتابه " مستقبل الثقافة في  مصر " الصادر عام 1937 ؛ فقد قال : " إنّ المسلمين فطِنوا منذ عهدٍ بعيد إلى أصلٍ من أصول الحياة الحديثة ؛ وهو أنّ السياسة شيء ، والدين شيءٌ آخر – وأنَّ نظام الحكم وتكوين الدول إنما يقومان على المنافع العملية قبل أن يقوما على أي شيءٍ آخر . وهذا التصور هو الذي تقوم عليه الحياة الحديثة في أوروبا ".

وجهةُ النظر هذه ، التي دعمها سياسيون ومثقفون لأسبابٍ قوميةٍ وثقافية واجهها مفكرون إسلاميون كثيرون بالتأكيد على أمرين اثنين : ارتباط الديني بالسياسي في الإسلام ( محمد رشيد رضا ، ومحمد بخيت ، ومحمد الطاهر بن عاشور ) ، وأن  كون الإسلام يتضمن الدينَ والدولة معاً ، يعني أنّ الهوية الإسلامية مهدَّدةٌ إن انفصلا ، وأنه لا بد من الحفاظ عليها بشتى الوسائل والسُبُل ( مصطفى صبري ، ومحمد الخضر حسين ) .

ومع أنّ وجهتي النظر السالفتي الذكر ما كانتا الوحيدتين في أوساط المفكرين المسلمين ( أنظر مثلاً أُطروحة عبد الرزاق السنهوري عن الخلافة ، 1927 )؛ فإنّ وجهة النظر الثانية هي التي سادت في أوساط الإسلاميين في العقود التالية . وربما بسبب ذلك ( أي غَلَبة الربط بين الدين والدولة ) ، ما جرى الاهتمامُ كثيراً بحدود الاختلاف بين ما اصطُلح على تسميته بالدولة الإســلاميــة ( = الخلافة ) ، وما جــرت تسمــيتُهُ بالــــدولة العلمــانية أو القــومية ( نموذجها الوحيد آنذاك دولة أتاتورك ) . نملكُ فقط من هذه الفترة ملاحظة محمد رشيد رضا في مقالةٍ له بمجلة المنار عام 1928 يقول فيها إنّ الفرق بين الدولة الإسلامية ، والدولة الأوروبية قيام الثانية على " العصبية الجنسية ". وفيما عدا ذلك ؛ فالمُلاحَظ أنّ المفكرين الإسلاميين في الأربعينات والخمسينات من القرن العشرين يُعنَون بالمقارنة بين الحضارتين الإسلامية والغربية ، أو النظامين الإسلامي والغربي ، دونما  اهتمامٍ ظاهرٍ بنظامي الحكم أو أنظمة الحكم في الحضارتين . ونملكُ من هذه الفترة مقالةً مشهورةً لأبي الأعلى المودودي (-1979 ) كتبها سنة 1941 عنوانها : " انتحار الحضارة الغربية " يقول فيها إنه قد سُلِّط على تلك الحضارة شيطانان قويان يجرانها حتماً إلى الهلاك ؛ أولُهما شيطانُ تضاؤل النسْل ، وثانيهما شيطان القومية . أما الأول فقد غلب على عقول أفرادها رجالاً ونساءً فجعلهم يستأصلون أنسالهم بأيديهم . وأما الشيطان الآخر فقد استولى على عقول أممها وحكوماتها . وسبيلُ الخروج من هذا القطار السائر إلى الهاوية تبدأ بالتخلص من عبوديتنا الفكرية للنموذج أو المثال الغربي ، والعودة لأصالة الإسلام. والأمر نفسه يمكن قولُهُ عن كتاب أبي الحسن الندوي الصادر بالعربية عام 1950 بعنوان : " ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين " ؛ إذ تجري فيه المقارنة بين الحضارات ، وبخاصةٍ الغربية والإسلامية ، ولا يُشارُ إلى الوضع السياسي أو نظام الحكم إلاّ عند التعرض لأسباب انحطاط المسلمين . هناك يقول الندوي إنّ من أسباب ذلك فصل الدين عن السياسة ، مما أدى إلى وصول غير أكفاءٍ إلى السلطة . حتى إذا وصل لذكر خصائص الحضارة الأوروبية ذكر من بينها قلة الدين ، والاعتداد بالحياة الدنيا ، والنزعة الوطنية أو القومية. وبذلك فإنَّ الفصل بين الدين والدولة ، وقيام الدولة على النزعة القومية ، تصبحان من خصائص أو أسس الحضارة الأوروبية ، وليس من خصائص الدولة الغربية وحسْب . أما حضارة الإسلام أو نُظُمُهُ فقد قامت على الربط بين الدين والدولة أو بين الدين وتدبير شؤون الناس العامة من خلال الشريعة .

ويمضي كـلٌّ من الإمام حسن البنا ، وعبد القادر عودة خطوةً إلى الإمام ، دون أن يتخطّيا النظامَ إلى الدولة ونظام الحكم أو إلى المقارنة بين الدولتين الإسلامية والغربية . فالإسلام في نظر البنا " نظامٌ شاملٌ يتناول مظاهر الحـياة جميعاً فهو دولةٌ ووطن … " أو هو " عبادةٌ وقيادةٌ  ، ودينٌ ودولة ، وروحانية وعمل ، وصلاة وجهــاد ، وطاعة وحــكم ، ومصحف وسيف ، لا ينفكُّ واحدٌ من هذين عن الآخر …". وهذا الربط المحكَم بين الدين والدولة يعني في نظر البنا " أنّ الإسلام شريعةٌ ربانيةٌ جاءت بتعاليم إنسانية وأحكام اجتماعية أُوكلت حمايتُها ونشرها والإشراف على تنفيذها بين المؤمنين بها .. إلى الدولة . وإذا أَهملت شرائع الدولة هذه المهمة لم تَعُدْ دولةً إسلاميةً . وإذا رضيت الجماعةُ أو الأمة بهذا الإهمال ووافقت عليه ، لم تَعُدْ هي الأخرى أمةً إسلاميةً مهما ادّعت ذلك بلسانها " . وهذا التحديد من جانب حسن البنا لطبيعة  " الدولة الإسلامــية " يستتبعُ اختلافاً جذرياً مع " الدولة الغربية " لولا أنّ البنا يعودُ إلى التعميم باتجاه النظام والحضارة عندما يتحدث عن خصائص الدولة الإسلامية الموعودة أو التي كانت . يقول البنا إنّ الدولة الإسلامية تقوم على العدالة والحرية والجهاد. والعدالةُ مبدأٌ داخليٌّ للتعامل بين الأفراد والدولة ، أما الحرية والجهاد فهما في مواجهة الخارج . وواضحٌ أنّ هذا التعميم يعيد الأمور إلى مرحلة النظام والمبادئ ذات الطابع الحضاري ، وليس السياسي .

ولا يتجاوز عبد القادر عودة في كتابه " الإسلام وأوضاعنا السياسية " (1950) مسألة  " النظام العامّ " التي اهتمّ بها البنا إلى خصوصيات " نظام الحكم الإسلامي " التي وعد بالحديث عنها في مقدمة الكتاب . ومما يلفت الانتباه أنّ الأستاذ عودة نفسه كان قد أصدر عام 1947  كتاباً ضخماً قارن فيه بين القوانين  الجنائية الغربية ، والفقه الجنائي الإسلامي ، توصل فيه إلى تحديداتٍ دقيقة في التفرقة بين النظامين القانونيين وخصائصهما ؛ لكنه عندما حاول ذلك في المجال السياسي بقي في حيز العموميات ،والتأصيل النصّي ، والشواهد التاريخية .

وقد يمكن تعليلُ هذه المرحلة في التفكير الإسلامي الإحيائي  المعاصر (1925- 1950) بالطابع الأيديولوجي والجدالي الذي ساد فيها . ولـذلك غلبــت عليها العقائديات والعموميات ذات المنحى الثقافي والحضاري . فقد كان المراد الدفاع عن الهوية والخصوصية ، وصَون عقائد المسلمين من الاختراق الغربي . وكان السبيل لذلك الحملة على الغرب كلّه باعتبار حضارته حضارةً مادية ، واعتبار نُظُمه نُظُماً للغَلَبة والصراعات الغرائزية والإثنية والقومية  . وبذلك حتى عندما يكون العنوان هو " الدولة " – كما في الجدال حول الخلافة – فإنّ الأمر يتخذ طابعاً عقائدياً . فقد عولجت مسألةُ الخلافة باعتبارها ركناً من أركان الدين – كما ذكر حسن البنّا، وصارت مبادئُها ، كما ذكر هو أيضاً حدوداً للنضال ضدّ  الخارج  . وإذا عنى ذلك أنّ طبيعة فكر الهوية طبيعةٌ اعتقادية ؛ فإنّ ذلك يعني من جانبٍ  آخر أنه لم يكن لدى الإسلاميين الإحيائيين والحزبيين حتّى ذلك الوقت مشروعٌ سياسيٌّ بديلٌ للدولة الوطنية التي راحت تتكون وتظهر في حقبة ما بين الحربين . فالرفض الذي أعلنوه هو رفضٌ عقائدي وأيديولوجي بقي في حيّز المبادئ والنظام العامّ . لكنّ ذلك الرفض بالذات أعفاهم من تطوير مشروعٍ تفصيليٍّ لإدارة السلطة أو لإقامة الدولة الإسلامية .

 

II

 

كان من مواريث الحقبة الأولى في الفكر الإحيائي الإسلامي رغم غَلَبة الطابع العقائدي عليها التأكيد على خصيصتين من خصائص النظام الغربي  أو الدولة الغربية : فصل الدين عن الدولة ، وقيام ذلك النظام على العصبية القومية . وفي حين ظلَّ أبو الحسن الندوي يسميها فكرةً أو نظاماً حتى أواخر الخمسينات ؛ فإنَّ المودودي وسيّد قطب أطلقا عليها ومنذ الخمسينات ودونما تمييز واضح اسم الدولة الغربية أو الدولة الحديثة أو الدولة اللائيكية أو العلمانية . لكنّ الاتفاق بينهما في الموضوع السياسي ينتهي عند هذا الحدّ . فالمودودي الذي واجَهَ تحدّي قيام دولة باكستان (1947) اضطُرّ باعتباره زعيم َ حزبٍ دينيٍ/ سياسي إلى تطوير مشروعٍ تفصيليٍّ برزت فيه الفروقُ بين الدولة الإسلامية ، والدولة الحديثة أو العلمانية . لقد تَصَاحَبَ قيام دولة باكستان – التي كان مبرر انفصالها عن الهند إرادة المسلمين أن يكون لهم كيانهم الخاصّ – مع نشوب صراعاتٍ إثنيةٍ ومذهبيةٍ بداخلها أحرجت قادةَ الاستقلال ، كما أحرجت معارضيهم من أمثال المودودي  . كما أنّ النظام السياسيَّ الباكستانيَّ لم يتميز بشيءٍ عن النظام الهندي أو الغربي ، وسُرعان ما دفع الاضطراب السياسي العسكريين إلى التدخل والاستيلاء على السلطة من أجل فرض الاستقرار. ومن هنا جاء مشروع المودودي – الذي قضى اكثر حياته معارضاً لحكومة باكستان  – جامعاً للمبادئ والتطبيقات المخالفة للنظام العلماني الذي رآه سائداً في بلاده . فالنظام العلماني الحديث يقوم على الفصل بين الدين والدولة ، لذلك ذهب المودودي إلى أنّ النظام الإسلامي ثيوقراطي/ ديمقراطي . هو ثيوقراطي لأنّ أساسه ومرجعيته  مبادئ القرآن والشريعة . وهو ديمقراطيٌّ لأنَّ إرادة الجماعة هي التي تحدّد الحاكم أو الرئيس ، الذي يمارس السلطة التنفيذية ، بينما تتولى السلطتين القضائية والتشريعية هيئاتٌ أخرى مستقلة ، تجمع في تشكيلها بين الانتخاب والتفويض والتعيين . وفلسفتها الكبرى الإجرائية أو آليات تشكلها وعملها الشورى . وقد اعتقد المودودي أنه بهذه التركيبة ( الأساس الاجتماعي للدولة هو الأمة وليس القومية . والأساس الأيديولوجي الدين والشريعة . والآلية الإجرائية الشورى ) يكونُ قد تجاوز النظام العلمانيَّ للدولة الحديثة .

ويتفق سيد قطب مع المودودي في تشخيص أدواء أو أمراض الدولة الحديثة أو العلمانية : قيامها على الفِصام النكِد بين الدين والدولة ، وقيامها على العصبية القومية.  لكنه لا يمضي مثلَهُ قُدُماً في إقامة مشروعٍ تفصيليٍّ للدولة الإسلامية يواجهُ التكوينات الحديثة للدولة ؛ بل إنه يركّز على الأساس العقائدي لنظام الحاكمية الذي استمدّه من المودودي . فهناك نظامان لا ثالث لهما : نظام الحاكمية الإسلامية ، ونظام الجاهلية العلماني أو العالمي الحديث . والعالَمُ كلُّه اليوم تسودُهُ الجاهلية ، لا بسبب انفصال الدين عن الدولة ، ولا بسبب ظهور الدولة القومية (= الدولة العلمانية ) فتلك نتائج وليست أسباباً . إنّ سوادَ الجاهلية علتُهُ تحكيم الإنسان ونزعاته و أهوائه في كل شيء ، بدلاً من أن تكونَ الحاكميةُ لله وحده من خلال شريعته التي تتلاءَمُ والفطرةَ الإنسانيةَ السليمة . لذلك كان من نتائج الضلال عن حاكمية الله ، ظهور حكم الطاغوت ونظامه في المجال السياسي ، كما في سائر المجالات الأخرى . وهكذا تكونُ الدولة العلمانية مظهراً من مظاهر استيلاء الجاهلية ، وحكم الطاغوت في الأرض.

إنّ الواضح من منظومة كلٍّ من المودودي وقــطب أنّ منطلقهما واحد  ، وهو فكرةُ الحاكمية  . وبمقتضى هذا المنطلق تصبح العلمانية أمراً ملعوناً باعتبارها الخصيصة المميِّزة للنظام الغربي ، وللدولة الغربية الحديثة . لكنْ ف يحين يحاول المودودي ، زعيم الحزب السياسي ، إجراء تسويةٍ أو توفيق مع آليات الدولة الحديثة تحت سقف المرجعية ، يعتبر سيّد قطب أنّ النظام الغربيَّ مرفوضٌ من حيث الفكرة ومن حيث الآليات . وقد حال التشدُّدُ القطبي ، وسوء العلاقة بين الإسلاميين والأنظمة السائدة في البلاد العربية في الستينات والسبعينات ، دون إعادةٍ جديةٍ للنظر في الأطروحة الشمولية التي تُماهي أو تُماث~لُ بين الغرب والعلمانية من جهة ، وتضعُ الإسلام باعتباره نظاماً كاملاً وشاملاً في مواجهة الغرب ونُظُمه العلمانية . فمحمد البهي (-1981) وهو ليس حزبياً إسلامياً يقرّر عام 1965 أنَّ الإسلام ليس رأسمالياً وليس شيوعياً وليس اشتراكياً وليس ديمقراطياً ، بل هو فطرة الله التي فطر الناسَ عليها. ومحمد المبارك ، وهو إسلاميٌّ سوريٌّ معتدل ، يرى في كتابٍ صادرٍ عام 1966 أنَّ الفلسفة العلمانية تختلف عن نظرة الإسلام اختلافاً كبيراً ، وكذلك الديمقراطية إذا اعتبرناها مذهباً اجتماعياً وفلسفة فكرية. ويوسف القرضاوي – الذي بدأ عام 1964 بإصدار سلسلةٍ بعنوان : " الحلّ الإسلامي " مؤْذياً بظهر ما عُرف بالإسلام السياسي – يقول في كتابه الأول في السلسلة : " الحلّ الإسلامي فريضةٌ وضرورة " : " لا يستحقُّ حلٌّ شرف الانتساب إلى الإسلام ما لم يكن مصدره الإسلام الخالص ، لا الماركسية ولا المادية ولا الديموقراطية ولا الرأسمالية ، ولا الليبرالية وغيرها من مذاهب البشر ،وفلسفات البشر أياً كانوا … ".

 

وأنور الجندي ، الذي دأب على إصدار كتبٍ متشابهةٍ في الهجوم على الغرب منذ الستينات ، يذهب في كتابه " سقوط العلمانية " (1973) إلى أنها في خصومتها للأديان ، إنما تصدرُ عن منزعٍ اختطته بروتوكولات حكماء صهيون !

مع بلوغ الهجوم على العلمانية ذروته في السبعينات ، باعتبارها نظاماً شاملاً يضمُّ بين جنباته الفلسفة الكبرى للمجتمع والدولة في الغرب ، بدأ الهجوم أيضاً على الديمقراطية باعتبارها تارةً الجزءَ السياسيَّ أو الوجه السياسي للعلمانية ، وباعتبارها تارةً أُخرى تسميةً من تسميات العلمانية . وكان الشيخ تقي الدين النبهاني (-1981) أولَ حَمَلَ على الديمقراطية معتبراً إياها كفراً في رسالةٍ له عام 1951 ، ليس لأنها علمانية ؛ بل لأنها النظام السياسي الغربي الذي يحاولُ أن يحلَّ محلَّ نظام الخلافة ، الذي ما يزال حزبه – حزب التحرير الإسلامي – متمسكاً به إلى اليوم. أمّا في السبعينات   ،وتحت تأثير حاكمية سيّد قطب ، وبدايات تبلْوُر الإسلام السياسي ؛ فإنَّ الإسلاميين الحزبيين صاروا يحملون على الديمقراطية والاشتراكية باعتبارهما وجهين سياسيين غربيين للعلمانية سائدَين في ديار الإسلام تحت تأثير الاختراق الغربي . فالجماعة الإسلامية بمصر تعلن الحرب على مجلس الشعب المصري لأنه شَرَّع دستوراً ديمقراطياً يعطي السيادة للشعب وحده أو يجعل الشعب مصدر السلطات ، كما يقول بالحريات ، وبتعدد الأحزاب . وحكم الشعب ينقض الحاكمية ، ويؤِلّه الإنسان ، ويطلق الحرية للأفراد في ارتكاب المعاصي ، ويعدّد الأيديولوجيات بتعدد الأحزاب ، بينما لا ينبغي أن يكون في المجتمع المسلم غير حزب الله ، أما حزب الشيطان فممنوع. بينما تذهب جماعة الجهاد الإسلامي إلى أنّ الأنظمة السائدة في العالم الإسلامي إنما هي اختراقٌ غربيٌّ استشراقيٌ وعلمانيٌّ ويختلط فيها التعصب المسيحي بالمصالح الاستعمارية ، وتحت مسمياتٍ مختلفةٍ مثل الاشتراكية والديمقراطية. ومن هنا فالواجب مواجهتها بالحاكمية ، أي الدعوة للحكم بما أنزل الله باعتباره النهج السليم والذي يحفظ على الأمة دينها ومصالحها. وبخلاف الجماعة الإسلامية ؛ تقدّم جماعة الجهاد تصوراً تاريخياً تدرجياً للافتراق بين الدولة والمجتمع من جهة ، والإسلام من جهةٍ ثانية . وقد اكتمل هذا الافتراق بإلغاء الخلافة عام 1924 وحلول الأنظمة العلمانية ( الديمقراطية والشيوعية ) محلَّها.

وتعودُ بياناتُ تنظيمات الجماعة الإسلامية والجهاد في الثمانينات لتكرار أسباب هجماتها على العلمانية وربيبتها  الديمقراطية : فصل الدين عن الدولة ، والقول بسيادة الشعب وسلطته ، واشتراع القوانين الوضعية . فلا ينبغي الاغترار ببعض الجزئيات التي توافق الشريعة ؛ لأنها مصادفة وغير مقصودة ، ولأنها جزئيات في نظامٍ شاملٍ يواجهُ النظام الإسلاميَّ الشامل .

                                       *            *             *             *

عرف الفكر الإحيائي الإسلامي تطوراتٍ نوعيةً منذ أواسط الثمانينات . وأهمُّ هذه التطورات تبلور نظرية سياسية لدى التيار الرئيسي في الحركات الإسلامية من جهة ، وإقبال الأحزاب الإسلامية على المشاركة في السلطة أو في الانتخابات في عدة بلدانٍ عربية . بيد أنّ الأبعاد الرمزية والشعائرية ما تزالُ قويةً ودالّةً في هذا الفكر . فقد صدرت عشرات الكتب والمقالات – وما تزال – في الهجوم على العلمانية ، وفي المقابلة بينها وبين الإسلام باعتبارهما نقيضين. وبذلك فإنّ مسألة الهوية ما تزالُ شديدة التوهُّج ، وما تزال الجوانب الأيديولوجية والثقافية ذات تأثيرٍ غلاّبٍ في الوعي العامّ . فالعلمانية هي التهمة التي تُوجَّهُ في المجالين الثقافي والسياسي لمن يتصدى للإســـلام السياسي بالنقد ، ولمن يتــصدَّى لطرح تفـــسيرات أو قراءات مختلفة للنــصوص أو لبعض حِقَب التاريخ ، ولمن يتبنى قضايا خلافية مثل حريــة المرأة ، أو حقوق الأقليات ، أو ينقد الأدوار السياسية لرجال الدين .. الخ . وقد حاول عدة باحثين إدخال شيءٍ من الهدوء إلى النقاش ، بالحديث عن عدة أنواعٍ من العلمانية ، ليست كلّها معاديةً للدين ، لكنّ ذلك لم يفد في شيءٍ مما دفع مفكراً معروفاً كمحمد عابد الجابري لاعتبار أنه لا فائدةً من طَرْق الموضوع ، بل والذهاب إلى أنّ هذه الإشكالية غير مهمة ، ولا يحتاج إليها الفكر العربي .  لكنّ تحول العلمانية إلى مسألة رمزية وثقافية في وعي النُخَب الإسلامية ، وسَّع المجالَ السياسيَّ بعض الشيء ، أو بالأحرى حرَّره من ضغوط قضية الحاكمية ،  ربما باستثناء المجال التشريعي أو القانوني . فما يزالُ فقهاءُ كثيرون ( وأساتذةٌ في القانون ) يربطون القوانين الوضعية بالعلمانية.

لقد كان من آثار خروج السياسي نِسْبياً من دائرة العلمانية الملعونة ، اعتبار الديمقراطية أمراً تدبيرياً يمكنُ الإفادةُ منه بعد فصْله عن أصوله الليبرالية . فنظام الشــورى لدى التيار الرئيــسي في الحركات الإسلامية اليوم لا يرى مانعاً من الإفـــادة من الآليات الديمقراطية الحــديثة مثل الــتعددية الحزبية، والاستفتاء ، والانتخاب ، والمشاركة في البرلمانات والحكومات. ومع أنه تمت العودةُ تدريجياً إلى أفكار الإصلاحيين في الإصرار على مدنية النظام السياسي ، وبالتالي في اعتبار " المصلحة العامة " مقياساً للأخذ بهذا الأمر أو ذاك من النُظُم المعاصرة ؛ فإنّ علاقة الدين بالدولة ، والأساس الاجتماعي للنظام ، ومصدر السلطات أو مرجعيتها ؛ كلُّ ذلك ،  ما يزال مجالاً للاخذ والردّ ؛ دونما عودةٍ إلاّ في النادر لمقولة الستينات والسبعينات في المواجهة بين الدولة العلمانية والدولة الإسلامية . فقد ذكَّر الفقيه المعروف وهبه الزحيلي في كتابٍ له صدر قبل أشهر بمقولة محمـد ضيــاء الدين الريّس ، في كتابه : " النظريات السياسية الإسلامية " الصادر عام 1952 . قال الريّس إنّ النظام الإسلاميَّ للدولة يتفق مع أنواع الديمقراطيات السائدة في الغرب في تفاصيل مهمةٍ كثيرة ، لكنه يختلف معها في ثلاث مسائل كبرى ؛  المسألة الأولى  قيام الأساس الاجتماعي السياسي في الديمقراطيات الحديثة على الشعب الذي تجمع بين أفراده روابط الدم والجنس والأرض واللغة والعادات المشتركة ، أي العصبية القومية والوطنية ، بينما الرابطة في النظام الإسلامي العقيدة الواحدة . والمسألة الثانية أنّ الديمقراطية الحديثة بما هي تدبيرٌ سياسي ذات أهداف مادية تتعلق بالمصالح الدينية للأفراد والفئات ، بينما يملك النظام الإسلاميُّ أغراضاً روحيةً وأخلاقيةً أيضاً . والمسألة الثالثة أنّ سلطة الشعب في الديمقراطية مطلقة ، بينما هي في الدولة الإسلامية مقيدة بالشريعة . ولذلك فإنّ السيادة في النظام الإسلامي – في نظر الريّس – مزدوجة بين الأمة والشريعة . هكذا يصل الريّس إلى أنّ النظام الإسلاميَّ نظامٌ فريد لا يتطابق مع أيٍّ من النُظُم المعروفة!

وينشب منذ سنواتٍ نزاعٌ بين فقهاء وعلماء دستوريين مصريين حول مسألةٍ تأصيليةٍ إذا صحَّ التعبير ، والمتجادلون هم : أحمد كمال أبو المجد ، ومحمد سليم العوّا ، ويوسف القرضاوي ، وطارق البشري . فعلى سؤال :  ما أساس المشروعية في النظام الإسلامي ؟! يجيب أبو المجد والعوَّا : الأمة ، بينما يجيب القرضاوي والبشري : الشريعة! وعلى سؤال : هل تصح تسمية النظام السياسي الإسلامي ، أو نظام الشورى : ديمقراطية إسلامية ؛ يفضّل هؤلاء جميعاً تجنُّبَ ذلك خشية الإيهام. وللمفارقة أذكُرُ هنا اقتباساً من مجلة المنار عام 1907 يتضمن إجابةً من السيد محمد رشيد رضا على سؤالٍ لقارئٍ رأى أنه ما دام الحكم الدستــوريُّ الحديث متطابقاً مع الشورى الإسلامية ، فلماذا لا يُســمّي رضا النظام الدستوريَّ نظاماً شوروياً ؟ وأجاب رضا : " لا تقل أيها المسلم إنّ هذا الحكم المقيّد بالشورى أصلٌ من أصول الدين ، ونحن قد استفدناهُ من الكتاب المُبين ، ومن سيرة الخلفاء الراشدين ، لا من مُعاشرة الأوروبيين ، والوقوف على حال الغربيين . فإنه لو لا الاعتبارُ بحال هؤلاء الناس لما فكَّرت أنت وأمثالك أنّ هذا من الإسلام " !

المصدر: http://www.ridwanalsayyid.com/ContentPage.aspx?id=78#.V0NNq7grLIU

الحوار الداخلي: 
أنواع أخرى: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك