العلم والدين وإشكال التعارض

إبراهيم العلبي

كانت إشكالية العلم والدين على مر التاريخ ولا زالت تحتل موقعًا متقدمًا في نقاشات العلماء والفلاسفة، فمن قائل إنهما على طرفي نقيض، مستدلاً بصراع الكنيسة مع العلماء وتبنيها لخرافات ثبت بالدليل القاطع خطؤها؛ وقائل إنهما صنوان لا يصطدمان، وذلك بالنظر إلى أن العلم وحقائقه الثابتة لا تعدو كونها من صنع الله وتدبيره، وأن النص الديني لا يخرج عن كونه وحياً منه سبحانه، فإذا كان مصدر العلم والدين واحداً فأنى يصطدمان؟ 



وعلى الرغم من ظهور بطلان قول الفريق الأول، فإن الفريق الثاني لم يتمكن من الرد على كل ما أورده الفلاسفة وعلماء الطبيعة ردا شافيا، وما منشأ هذا الضعف ولا ذلك الوهم إلا في الخلط بين الحقيقة المطلقة، والتي لا يتأتى العلم بها إلا عن طريق الوحي باعتباره الواسطة بين الإنسان القاصر في علومه المحدود في وسائله، و مولاه العالم مطلق العلم، خالق الكون ومدبره، وبين الحقيقة النسبية المتمثلة في جملة قوانين الطبيعة ومكتشفات العلم القديم والحديث باعتبارها نتائج المنهج التجريبي التي تنبني على الاستقراء الناقص في المقام الأول، وهذا النوع من الاستقراء يفيد العلم بلا شك ولكنه لا يفيد الشمول المطلق.



ولطالما استشكل علماء الطبيعة والفلاسفة قديماً وحديثاً عدم قيام الدليل العلمي المجرد على مفادات النصوص الدينية تارة، وتعارضهما تارة أخرى، ولكن التأمل الدقيق يحكم بأن ما استشكلوه من عدم القدرة على إثبات الدين بالعلم المحض ليس إلا عجزاً معرفياً لا يسقط مقتضيات الإيمان، أما التعارض المزعوم فليس حقيقياً، بل هو ظاهري عند التحقيق، وافتراق في دائرة النظر ليس أكثر، كما بيّن ذلك الإمام حسن البنا في قوله: «وقد يتناول كل من النظر الشرعي والنظر العقلي ما لا يدخل في دائرة الآخر ولكنهما لن يختلفا في القطعي فلن تصطدم حقيقة علمية صحيحة بقاعدة شرعية ثابتة، ويؤول الظني منهما ليتفق مع القطعي, فإن كانا ظنيين فالنظر الشرعي أولى بالاتباع حتى يثبت العقلي أو ينهار».



إذن، فإن نسبية ما يثبته العلم و محدودية وسائله التي يستقي منها حقائقه لا تسقط الأخذ بها في مواضعها والبناء عليها، ولا يتعارض ذلك -كما بينا- مع الإيمان المطلق بكل ما أثبتته نصوص الوحي، ولو تعارضا ظاهرياً.

 

وهذا مثال تطبيقي سريع ربما يجسد الفكرة ويشرحها بشكل أوضح: الآية القرآنية تصف العسل بأنه «فيه شفاء للناس» [النحل: 69]، و لما أتى أحدهم رسول الله صلى الله عليه و سلم وأخبره بأن أخاه يعاني من ألم في بطنه أمره بأن يسقي أخاه العسل، عملاً بالآية الكريمة، ففعل فزاد ألمه، فأخبر النبي فأمره بأن يسقيه العسل مرة أخرى، ففعل فزاد ألمه وعلا صراخه، فأخبر النبي فكرر أمره بسقي العسل، فلم يفلح في تخفيف الألم فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «صدق الله و كذب بطن أخيك اسقه من العسل» [البخاري] فسقاه الرابعة فبرأ.

يقول من حلل الحادثة من زاوية طبية: كان المريض يعاني من قرحة في المعدة، فلما شرب من العسل في المرة الأولى تهيج القرح فتألم، ولما شرب الثانية اكتوى القرح بالمواد الأسيدية التي يحتوي عليها العسل فازداد الألم من الكي كذلك، ولما شرب الثالثة لم يتغير من الأمر شيء حتى مضى بعض الوقت، فشرب الرابعة فكان قريباً من مرحلة التعافي فبرأ إثر ذلك تماماً.


 

وهكذا، فالحقيقة العلمية، والتي تم الوصول إليها من خلال التجربة، وهي في المثال المذكور تضاعف الألم بعد شرب العسل، حقيقية من جهة لأنها مشاهدة وظاهرة للعيان، وظنية نسبية لا يمكن القياس عليها دائماً من جهة أخرى بسبب محدودية تلك التجربة و ظروفها التي تمت في إطارها، والتي تغيرت نتيجة التجربة بتغيرها، فنتيجة التجربة إذن لا ترقى لأن تكون حقائق علمية قطعية لا تتخلف في أية ظروف مهما كانت استثنائية أو خاصة.

 

ولا بد ختاماً من التنويه إلى أن الدين المقصود هنا هو دين الله الموحى به في كل زمان ومكان، بعيداً عن كل التحريفات التي طرأت عليه، نصًا أو فهمًا، فإن معظم ما استشكل قديمًا في إطار هذه القضية كان من قبيل تعارض الخرافات أو النظريات العلمية التي تبنتها الكنيسة وحملت رعاياها على الإيمان المطلق بها مع مكتشفات العلماء في تلك الفترة من الزمن، والتي نقضت تلك النظريات وتداعت لها تلك الخرافات، مما جعل الكنيسة تستشعر الخطر من العلم وتصادمه الحتمي مع الدين (الموهوم) فلم تكتف بالترويج للمنطق الصوري المنافس للمنطق التجريبي، بل مارست التعذيب والإقصاء والاستئصال بحق معارضيها وعلى رأسهم العلماء التجريبيون، ولا تزال المسألة بحاجة إلى المزيد من النظر والتأمل.

المصدر: https://alfajrmg.net/2013/06/03/%D8%A7%D9%84%D8%B9%D9%84%D9%85-%D9%88%D8...

أنواع أخرى: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك