الفكر الإسلامي السياسي من السياسة الشرعية إلى الأحكام السلطانية

الدكتور رضوان السيد

 

(1)

عرف الماوردي (-450هـ/ 1058م) "الإمامة" أي رئاسة الدولة في المجال الإسلامي كما يلي(1): "الإمامة موضوعة لخلافة النبوة في حراسة الدين وسياسة الدنيا". وقد اعتُبر هذا التعريف جامعا مانعا، وتكرر على أقلام وألسنة كل من كتب وحاضر في نظرية الدولة في الإسلام أو في الفقه الدستوري للنظام الإسلامي ولغياب دستور أو نص تأسيسي بالمعنى المتعارف عليه في الدولة الحديثة فإن الفقه أو القانون المقصود يتعلق بالمؤسسات، والإمامة أو الخلافة هي رأس مؤسسات النظام في عصور الإسلام الوسيطة.

وعلى عكس ما توحي به البساطة الظاهرة في هذا التعريف، الذي يعيد صياغة "تاريخ" أو "فقه" لسلطة أو المنصب المستمر أيامه لما يزيد على أربع مئة عام؛ فإن تحديد الماوردي الفضفاض هذا محشو بالإيديولوجيات، وبصراعات العقائد والمذاهب والسياسات وحتى أيامه. يعتبر الماوردي منصب الإمامة أو السلطة الإسلامية "موضوعة"؛ وبذالك فإنها منصب مدني "وضع" بإجماع الصحابة كما يفسر هو ذلك في ما بعد(2).

لكن ليس هذا فقط؛ بل أن الوضع كما هو معروف لدى علماء الفقه يعني أن يكون الحكم سببا لشيء أو شرطاً له. وإذا كان الماوردي قد فتح بمسألة الوضع مشكلة مع الذين يقولون بالنص على الإمام وأنه مُنصّب من الله ورسوله؛ فإنه باعتباره الإمامة أداة أو وسيلة أو سلطة لحراسة الدين –بالإضافة إلى الوظيفة- المتعارف عليها للسلطة، عاد فأعطى الخلافة صلاحيات وطابعا دينيا، اقترب فيه من جديد لفهم الإمامة لدى أصحاب النص، بعد أن حاول التخلص من ذلك في مسألة الوضع. باسم من يتحدث الماوردي إذاً؛ باسم الفقهاء الشافعية أو فرقة الأشاعرة؟ لو كان الأمر كذلك لعهد إليهم هم بحراسة الدين، وليس للخليفة العباسي الذي لم يكن يملك وقتها من أمره شيئا. وقد كان ذلك هو موضع الخلاف بينه وبين معاصرة إمام الحرمين الجويني "توفي 478هـ/ 1085م" صاحب "غياث الأمم"(3) الذي قاد الأمور إلى نهاياتها في تلك الحقبة التي ضعفت الخلافة فيها ضعفا شديدا فرأى أن تكون المرجعية حراسة الدين للفقهاء، وبمقتضاها يستطيعون أن يعهدوا للسلاجقة الأقوياء بسياسة الدنيا في مقابل حمايتهم للدين؛ أي لدار الإسلام في مواجهة البيزنطيين ثم الصليبيين وقتها. إن الجانب الإيديولوجي الآخر، والذي يعيد الإشكال لهذا النص السياسي يكمن في الغطاء الديني الكثيف الذي يريد الماوردي إعطاءه لسلطة السياسية. فهي إمامة وخلافة "عن النبوة"، وهي تقوم بالإضافة إلى سياسة الدنيا (وهي المهمة المتعارف عليها لأي سلطة)، كما دلل الماوردي فيما بعد؛ يقوم بالإضافة إلى مهمتها العادية إذاً بمهمة دينية كبرى هي التي تعطيها فيما يبدو مشروعيتها المتجددة عنده: حراسة الدين. وكان يمكن لنا أن نفسر حراسة الدين بحراسة الدار أو صون الإسلام عن طريق صون الديار التي يسلكها المسلمون، كما حاول الجويني أن يفعل(4).

لكن الماوردي لم يمكنا من ذلك، كما لم يمكّنا أبو يعلى الحنبلي "ت 457هـ/ 1064م" في كتابه الذي يحمل نفس عنوان كتاب الماوردي: الأحكام السلطانية. إذ بعد الفصول الأولى في شروط "المشروعية" (أو الشرعية التأسيسية)، أقبلا على ذكر المؤسسات الفرعية التي تشرف عليها الخلافة؛ ومن بينها ولايات دينية بحتة: الولاية على إمامة الصلوات، والولاية على الحج، ولاية الصدقات، في أحكام الحسبة، وولاية النقابة على الأنساب(5). وكنت قد حاولت فهم هذا الإشكال، إشكال المهمات الدنيوية والدهرية للدولة، والقائمة على المصالح، والأخرى الدينية التي تبدو تارة واجبات، وطورا حقوقا، انطلاقا من عدة أمور:

- الالتباس الذي أحاط بنشوء الدولة في عالم الإسلام؛ إذ إنها نشأت في حضن الدين، وباسمه أطلقت الفتوحات التي أفضت بدورها إلى الإمبراطورية. ثم إن هناك نصوصا ووثائق من أيام الراشدين والأمويين، تشير كلها إلى الدعوى الدينية للسلطة السياسية: أنها هي القائمة على حراسة الدين ونشره تجاه الخارج (خليفة الله، خلافة الله)، وأنها هي القائمة على تنفيذ أحكامه في الداخل (إمارة المؤمنين)(6).

- تشبّث المعارضة السياسية، كمعارضة المحكِّمة (لا حكم إلا لله)، والمعارضة الشيعية (النص الديني على الإمام) بالدعوى الدينية، أو أن الدين الإسلامي يقتضي سلطة ثيوقراطية(7). وبذلك زايدوا على الأمويين والعباسيين، الذين كانوا يستمدون قدسية الخليفة من قدسية منصبه، في حين قال المعارضون الرئيسيون في القرنين الأولين بقدسية المشروع السياسي كله.

- تأثري بتوجه الدارس الألماني للخلافة المستشرق تلمان ناغل T.Nagel الذي ذهب في كتابه: "خلافة الهدى" Rechtleitung Kalifat und إلى أن الصراع على السلطة بعد وفاة النبي (ص)، كان صراعا على المؤسسة البديلة أو التي ستخلف مؤسسة النبوة، وتأخذ صلاحياتها أو أكثرها. ولأن دعوى النبوة دعوى دينية في الأساس: فإن المؤسسة التي حلت محلها اتخذت طابعا دينياً.

ثم لاحظت أمرين أثنين: الأمر الأول صراع طبقة العلماء والفقهاء مع السلطة السياسية طوال القرن الثاني الهجري على المرجعية في الدين. والواقع أننا لا نعرف الكثير حتى الآن عن نشوء الفقهاء والمحدثين بالذات، وهما الفئتان اللتان تولت إحداهما (الفقهاء) العناية بالقرآن وتأويلاته ووجوه اشتراعه في العبادات كما في المعاملات، بينما تولت الأخرى العناية بالسنة النبوية، ومتابعة وظائفها الشعائرية والتشريعية أيضا, وقد تجلى الصراع الأول في إصرار الفقهاء على عدم وجود سلطة تشريعية للدولة أو للسلطان، وأن استنباط الأحكام، والاجتهاد في الدين، إنما هو شأن الفقهاء. ويبدو ذلك في عدم قدرة عمر بن عبد العزيز على "توحيد" القضاء والأحكام المطبقة في الأمصار، وعدم قدرة أبي جعفر المنصور على القيام بذلك أيضا، وكلام ابن المقفع في صلاحيات الخليفة الدينية (ليست له صلاحيات دينية من وجهة نظره)، والتشريعية (السلطة الثالثة بعد الكتاب والسنة)، دون أن يؤدي ذلك لشيء. وهذا يعني أنه منذ طلب هارون الرشيد من أبي يوسف أن يكتب له في الخراج؛ تنازلت الدولة أو الخليفة ومستشاروه عن دعواهم في الاشتراع(8). وتجلى الصراع الثاني مع المحدثين أو أهل الحديث والسنة في (المحنة)، أي الخلاف بين المأمون العباسي من جهة، وأحمد بن حنبل وزملائه من جهة ثانية، حول من يتولى تحديد طبيعة التعامل مع القرآن، وهل هو الخليفة (الذي قال إن القرآن مخلوق) أم أهل السنة والجماعة (أصحاب الحديث) الذين قالوا إن القرآن كلام الله غير مخلوق! ومما له دلالته أن أهل السنة هؤلاء (الذين يسميهم الجاحظ: نابتة، أي جدداً لا جذور لهم!) كانوا يقولون بوجوب الطاعة للسلطان في الشأن السياسي، ولا يرون طاعته في الشأن الديني (لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق)(9).

ولا شك أن وقوف الفقهاء في وجه الصلاحيات التشريعية للسلطة، ووقوف المحدثين في وجه المرجعية الدينية للسلطة السياسية، هذان الموقفان يتصل أحدهما بالآخر، لكن موقف المحدثين أكثر جذرية، وأوضح لجهة التمييز بين المجالين الديني والسياسي، وذلك بالتسليم للخليفة والسلطان بالتصرف في السياسي، وعدم التسليم له بالتصرف في الديني. وقد كان من نتائج هذا الصراع، أنه بعد منتصف القرن الثالث الهجري، فإن المجالين الديني والسياسي استقل أحدهما عن الآخر، وتولى العلماء (ورثة الأنبياء) الشأن الديني، في حين انفردت السلطة بالشأن السياسي وبقيت المرجعية العليا للإسلام طبعا، كما بقيت المرجعية القانونية والمؤسسات للسلطة السياسية، كما في كل دولة.

بيد أن الثنائية التي صاغها الماوردي لصلاحيات الخلافة (حداسة الدين، وسياسة الدنيا) لا تفهم تماما إلا إذا لاحظنا الأمر الثاني المتعلق بعلاقة العلماء والسلطة السياسية على حد سواء، بالأدبيات السياسية الكلاسيكية، ولدى الفرس واليونان على حد سواء. فكتاب الأحكام السلطانية، وكتاب نصائح الملوك، وكتاب الآداب السلطانية، يقتبسون من عهد أردشير بن بابك، مؤسس الدولة الساسانية (228-241م) العبارة القائلة "إن الدين والملك أخوان لا قوام لأحدهما إلا بصاحبه، لأن الدين أس، والملك حارس. ولا بد للملك من أسِّه، ولا بد للأسّ من حارسه؛ لأن ما لا حارس له ضائع، وما لا أُسَّ له مهدوم"(10). وأنا أرى أن المقايسة بين علاقة الدين (الزرادشتي) بالدولـة، وعلاقة الإسلام بالدولة، هو الذي أفضى إلى هذه الصياغة الوهمية (حراسة الدين وسياسة الدنيا). والطريف أن ذلك حدث عندما كانت الخلافة تفقد قوتها السياسية، وتتحول إلى رمز، بينما صارت سلطة القوة بيد السلاطين المستندين إلى عصبيات عسكرية ديلمية وتركية وعشائرية في منطقة الجزيرة الفراتية وما حولها. لقد اعتقد الماوردي وزملاؤه أنهم بهذه الصياغة، وتلك المقايسة، إنما يؤكدون على قوة علاقة السلطة السياسية في عالم الإسلام بالدين. بينما الواقع أن الأمور مختلفة تماما بين المجالين الإيراني والإسلامي.

فالدين الزرادشتي كان مستتبعا لكسرى، وكاد يزول بزوال الدولة الساسانية، وليس الإسلام كذلك، الذي أعطى الدولة مرجعيتها الرمزية، مع فصل للشريعة والفقه عن نظام الحكم. ولهذا فأقصى ما يمكن قوله عن علاقة الدين بالدولة منذ القرن الرابع الهجري أن المرجعية العليا للإسلام، وأن السلطة الإسلامية مدنية، وأن هناك مؤسسة دينية تتولى الشأن الديني، وأن الطرفين يعترف كل منهما بالآخر، مع استمرار الصراع على أطراف المجالين، فعندما تقوى الدولة تأخذ من الفقهاء بعض الأمور، وعندما تضعف الدولة ينتزع الفقهاء منها بعض الأمور. والأمثلة على ذلك كثيرة؛ ومنها اجتياف السلطة السياسية لصلاحيات الفقهاء والقضاة في مسألة قضاء المظالم، والحسبة، وإصرار الفقهاء على تضمين كتبهم باباٌ في أحكام البغاة (المعارضين السياسيين) إصرارا منهم على أن يحاكم هؤلاء أمام القضاء الإسلامي، وليس أمام محاكم المظالم التي يشرف عليها السلطان أو وزيره وحاجبه (11).

(2)

فوجئ الفقهاء بظهور الدولة السلطانية. فحتى مطلع القرن الرابع الهجري كانت الخلافة، وكان الفقهاء يشددون على الوحدات الثلاث: وحدة الأمة، ووحدة الدار، ووحدة السلطة. ومع أن الوحدات هذه ما تحققت منذ أواسط أيام الدولة الأموية؛ فإن القابلية للتحقيق جعلت هذه الدعوى تستمر وتتصلب. وعندما كان متغلب يثور بعد منتصف القرن الثالث، كان جيش يخرج لإخضاعه، فإن عجز الجيش جرى التفاوض مع الثائر على الخضوع شكليا أو في مقابل مبلغ من المال؛ وإلا اعتبر ثائرا أو متمردا، يظل الأمل بإخضاعه أو قتله قائما. ثم حدث خلل أخر في دار الخلافة، عندما سيطر قادة الجيش على الخليفة، وصاروا يولون من الخلفاء من يشاءون ويعزلون من يشاءون. بيد أن الخلل الثالث، والذي أفضى إلى تغيير جذري، تمثل في استيلاء العسكر الديلمي بقيادة أسرة بني بويه على بغداد. ومع أن هؤلاء كانوا من الشيعة الإمامية أو الزيدية، فإنهم ما ألغوا الخلافة العباسية، خشية اضطرارهم للتخلي عن سلطتهم للفاطميين الشيعة المسيطرين على مصر والشام والمغرب. الذي فعله البويهيون أنهم أرغموا الخليفة الجديد الذي نصّبوه عام 334هـ/945م على أن يكتب عهدا للأمير البويهي يوليه بمقتضاه "ما وراء بابه". وبعد البويهيين جاء السلاجقة فضربوهم، وأخذوا بغداد منهم عام 450هـ/1058م، وهو العام الذي توفي فيه الماوردي صاحب "الأحكام السلطانية" السالف الذكر. وكان السلاجقة من الترك السنة؛ لكن تعاملهم مع الخليفة القائم ببغداد لم يختلف كثيرا. فقد استكتبوه عهدا بولاية أمور الدنيا بدلا منه، وبقي الخلفاء في قصورهم مع حريمهم، يركزون على الشؤون الدينية، باعتبارهم الزعماء الرمزيين للإسلام. بل ويثيرون النعرات بين السنة والشيعة ما استطاعوا لذلك سبيلا. وسمى البويهيون أنفسهم أمراء وملوكا، بينما سمى طغرل بك السلجوقي نفسه سلطانا، وصار هو اللقب المتعارف عليه لزعيم المسيطرين؛ أما الآخرون فيسمون ملوكا أو أمراء حسب اتساع سلطانهم، ورضا زعيم المتغلبين عنهم.

هذه الظاهرة الجديدة، والتي بلغت ذروتها عام 333هـ/334هـ بدخول البويهيين إلى بغداد، دفعت الفقهاء وكتاب الآداب السلطانية، والفلاسفة.. الخ إلى كتابة قراءات لأوضاع الخلافة. ولأن الفقهاء هم المدرسة الرئيسية الألصق بتجربة الخلافة، نجد أنهم اهتموا أكثر من غيرهم بالتكييف الدستوري للوقائع الجديدة. فنحن نملك ثلاثة كتب في "الأحكام السلطانية" ظهرت ما بين 440هـ و470هـ: كتاب الماوردي، وكتاب أبي يعلى الحنبلي، وكتاب إمام الحرمين الجويني (13). أما الماوردي وأبو يعلى فيعترفان بالتغير وبالوقائع الجديدة. ويعتبران أن الحل المؤقت الذي جرى التوصل إليه (أن لا يباشر الخليفة الأمور بنفسه، بل من خلال تفويض أمير الاستيلاء) هو الوحيد الممكن والمعقول، لأنه يحافظ على وحدة الدولة (لا على وحدة السلطة)، ويترك الأمل والباب مفتوحا لتصحيح الأوضاع باتجاه توحد السلطة (الدستورية) والقوة من جديد (14). ويختلف الجويني معهما، بل ويهاجم زميله الماوردي دون أن يسميه. فالخليفة العباسي صار عبئا ولم يعد ميزة. ولا حاجة لهذه الازدواجية السلطوية. ولا حاجة أيضا لبقاء الخليفة لسبب ديني، فالشأن الديني يتولاه الفقهاء والعلماء. أما السياسة (تدبير الشأن الداخلي)، والشوكة (الجهاد والدفاع عن دار الإسلام)، فيتولاها السلطان، سواء أسميناه خليفة أم لا(15). وما اقتصر التغيير على الجانب الشرعي والقانوني، بل اقترن هذا الفصل بين الشريعة والسياسة بظهور فئتين اجتماعيتين متمايزتين: أرباب السيوف، وأرباب الأقلام.

وانتصر الاتجاه التقليدي المؤسسي في الظاهر. فقد بقي الخليفة، وحكم السلاطين، وظلوا يطلبون التكليف منه مهما بعدت أقطارهم. وعندما قتل المغول المستعصم ببغداد عام 656هـ/1258م، اخترع المماليك بمصر والشام "خليفة" من الأسرة العباسية، بقي في حضنهم حتى استلب حياته ولقبه وشعاره العثمانيون.

وأقول إن التقليدية السنية انتصر ظاهرا فقط؛ لأن تغييرا دستوريا كبيرا (إذا صح التعبير) حدث نتيجة الافتراق الدائم بين السلطةAuthority والقوة السياسية Political Power والقوة أو تأسيس القوة والاستيلاء بحسب الماوردي، تنشئ سلطة ضرورة أو سلطة مؤقتة، وتخضع الناس لمواضعات الضرورة ومقتضياتها. من هنا تلك الحملة التي شنها الفقهاء على السياسة (سلطة أمراء الضرورة وتصرفاتهم) التي اعتبروها واقعة أو مستجدة في مواجهة الشريعـة (16). ولا يعني ذلك أن السلاطين والأمراء تعرضوا للقضاء الشرعي، أو للأحكام الشرعية النافذة، بل لأن الإطار الناظم للعلاقة بين الدولة والدين، اختل لصالح السلطات الجديدة، التي صارت إلى أحد أمرين: إما تطبيق أحكام السياسة (أي ما تراه مناسبا وملائما في المسائل المالية والإدارية والأمنية)، أو تطبيق أحكام الشريعة؛ لكن خارج المحاكم من طريق المحتسب أو قائد الشرطة أو الحاجب. وحتى السلاطين الأتقياء والورعين من أمثال نور الدين زنكي وصلاح الدين والسلطان الناصر محمد بن قلاوون، كانوا يجرون "أحكام العدالة" بأنفسهم في دار العدل (قضاء المظالم) وليس في المحاكم العادية (17). وقد بلغ الأمر بالمقريزي -845هـ/ 1441م) الفقيه والمؤرخ المعروف أن اتهم سلاطين المماليك في زمانه، بأنهم لا يطبقون أحكام الشريعة؛ بل يطبقون أحكام السياسة (المغولية، لأنهم مثل المغول من أصل تركي)، التي يسمونها سياسة(18)!

واستنادا إلى هذا الإدراك للمتغيرات، تشبث الفقهاء بالأمر الديني والشعائري وما يتصل بهما، ولجأوا في المجال العام إلى تطوير ما اعتبروه "سياسة شرعية" للخروج من الضروري والطارئ إلى الصالح والشرعي. كانت السياسة حتى القرن الرابع الهجري تعني لدى الفقيه والقاضي حق السلطان في "تغليط العقوبة" في الجرائم العادية إذا فشت المنكرات بين الناس؛ وكان ذلك يسمى سياسة، أي تدبير الأمور بما يصلحها في ذلك الظرف الخاص أو الاستثنائي(19).

أما بعد انتصار القوة والشوكة في الدولة فقد جرى الانتقال من "الأحكام السلطانية" إلى "السياسة الشرعية" بمعنى أن المصلحة صارت مصدرا شرعيا، كان على الفقهاء الانصراف إلى تقنينه وضبطه بالقدر الذي تسمح به السلطة والظروف. وما كانت سلطات الأمر الواقع تستطيع الاستغناء عن الفقهاء، كما لم تستغن كليا عن "الخلفاء". وكان الخلفاء مفيدين من الناحية الرمزية؛ أما الشأن الواقعي والشعبي، فكان لابد من اللجوء فيه إلى الفقهاء؛ وبخاصة أن هؤلاء السلاطين والأمراء كانوا من المسلمين الجدد في الغالب، ولا يعرفون الكثير عن أحكام الشريعة، ولا عن مواضعات الجمهور. ولذلك فكما أبقوا على الخليفة، عمدوا للاعتراف بالمذاهب السنية الأربعة، وعينوا لها قضاة في سائر المدن والأمصار(20).

وكما استند فقهاء التقليدية السنية إلى الماوردي وأبي يعلى في أحكامهما السلطانية، عادوا فاستندوا إلى الماوردي نفسه في "السياسة الشرعية". لقد احتاج الأمر إلى نظرية جديدة للسلطة تتحدث عن غاياتها (لا عن أصلها التاريخي) باعتبارها قائمة على صون (المصالح العامة) التي يشكل الدين أساسا ومرجعا. ويأتي بعد ذلك الحديث التفصيلي عن المؤسسات، وكيف تتحقق المصالح من ورائها في دولة القوة، أو دولة التغلب والشوكة. قال الماوردي في كتابه الآخر: "أدب الدنيا والدين"(21): "اعلم أن ما به تصلح الدنيا، حتى تصير أحوالها منتظمة، وأمورها ملتئمة، ستة أشياء؛ في قواعدها وإن تفرعت؛ وهي: دين متبع، وسلطان قاهر، وعدل شامل، وأمن عام، وخصب دائم، وأمل فسيح". ثم يمضي الماوردي تحت باب "أدب الدنيا" مفصلا كيف يتحقق ذلك كله في ظل السلطان "القاهر" العادل. وجاء ابن تيمية -728هـ/ 1327م) فكتب "السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية" (22)؛ فاعتبر قاعدة "العدل أساس الملك" عمادا للدولة، ثم فرع العدل في أربعة قواعد: العدل وأداء الأمانة في الشأن الخاص، والعدل في الأموال (موارد الدولة)، والعدل في إقامة الحدود، وأخيرا العدل في أداء حقوق الأفراد. وختم رسالته بفصل طريف بعنوان: "وجوب اتخاذ الإمارة"(23)؛ كان الماوردي في "الأحكام السلطانية" قد جعله أولاً كما هو معروف؛ بينما جعله ثانيا بعد "الدين المبتع" في "أدب الدنيا والدين". واحتار ابن جماعة -733هـ/1332م) ماذا يفعل؟ ثم حل المشكلة في رسالته "تحرير الأحكام في تدبير أهل الإسلام"(24). بأن لخص كتاب الماوردي "الأحكام السلطانية" مساويا بين الإمام والسلطان في الباب الأول، دونما عودة للخليفة والخلافة بعد ذلك، أما ابن قيم الجوزية -751هـ/ 1350م) فلا تهمُّه النظرية العامة للدولة بل يهتم للسياسة في القضاء! وقد كان فقهاء القرنين الرابع والخامس لا يرون أن يستخدم القضاة السياسة بأي شكل، وإنما هي مميزة للسلطات في ظروف استثنائية؛ أما ابن القيم، فكما سبق القول، تصبح السياسة عنده مصدرا عمليا للحكم القضائي (25): فـ "من له ذوق في الشريعة.. تبين له أن السياسة العادلة جزء من أجزائها وفرع من فروعها..". ويتابع "وقال ابن عقيل في الفنون: جرى في جواز العمل في السلطنة بالسياسة الشرعية أنه هو الحزم، ولا يخلون من القول به إمام. فقال الشافعي: لا سياسة إلا ما وافق الشرع! فقال ابن عقيل: السياسة ما كان فعلا يكون معه الناس أقرب إلى الصلاح، وأبعد عن الفساد وإن لم يضعه الرسول ولا نزل به وحي..".. "فإن ظهرت أمارات العدل، وأسفر وجهه بأي طريق كان؛ فثم شرع الله ودينه..". ويزايد الطرسوسي -758هـ/1356م) على الشافعية بالقول إن الأحناف أفضل للسلطان إذا اتبع مذهبهم، لأنهم لا يشترطون عليه شيئا؛ فيستطيع ممارسة السلطة كما يشاء(26)؛ لكنه لا يقرّ للسلاطين إهمال القضاء أو تجاوزه باسم السياسة(27).

(3)

اضطر الفقهاء إذن لشرعنة إمارة الاستيلاء وسلطنة التغلب، حفـظا للوحدة، ودرءا للانقسام. واعتبروا أنه ما دامت الخلافة قائمة فإن المشروعية التأسيسية متحققة، والخلل إنما داخل شرعية المصالح؛ وهذا يمكن تلافيه بالإصرار على العدالة. لكن الخلافة ما لبثت أن زالت تقريبا؛ فخافوا أن تنتصر "السياسة" على "الشريعة" لتضاؤل المشروعية، وزوال الشرعية. وقد قضوا زمنا يكافحون السلطنة الجديدة من طريق مهاجمة "السياسة". ثم أرادوا الخروج من دولة الضرورة وتبينوا لتلك السلطنة فضائل أهمها الشوكة تجاه الخارج (مكافحة البيزنطيين والصليبيين والمغول) ومنع الفتنة والاضطراب في الداخل. فأصغوا للحاجات المستجدة، وراحوا يتحدثون عن الغايات والمقاصد والأهداف التي من أجلها قامت الدولة في الإسلام. ورأوا أن تحقق هذه الأهداف أو بعضها يعين على استعادة بعض الشرعية، من طريق السياسة الشرعية أو العادلة. لكن ابن خلدون -808هـ/1405م) وتلميذه المقريزي -845هـ/1441م) ظلا متشككين. أما المقريزي فلأنه رأى أن السياسة حلت محل الشريعة. وأما ابن خلدون فلأنه رأى (في إحدى خاطراته) أن السلطة في الإسلام دينية، بسبب وظائفها الدينية المتكاثرة؛ ولذلك لا تنفع السلطة العادية، والسياسة الشرعية؛ في خلافة الخلافة أو الحلول محلها(28). وقد كان صاحب "المقدمة" في المغرب الإسلامي، الغاص بالعصبيات المقترنة بدعوة دينية. ثم جاء إلى القاهرة إلى دولة المماليك وولي قضاء المالكية مرارا، وتوفي فيها. ولا ندري ماذا كان رأيه في السلطة المملوكية التي كانت تحمي "بيضة الإسلام" بشوكته؛ لكنها ما كانت تملك دعوة دينية أو أنها لم تقم على دعوة دينية؛ فضلا عن لجوئها الكثيف للسياسة والمصالح دونما اهتمام بـ"حمل الكافة على مقتضى النظر الشرعي"، كما أراد!.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1)  الأحكام السلطانية والولايات الدينية، نشره مقس أنغر، بون 1853، ص3.

(2)  يقيم الماوردي "وجوب السلطة" واستطرادا للخلافة على أصلين: ضرورتها للاجتماع البشري، وإجماع المسلمين الأوائل عليها، الأحكام السلطانية، مصدر سابق، الصفحة نفسها. وقارن بالماوردي: أدب الدنيا والدين. نشره مصطفى السقا، دار الكتب العلمية بيروت، 1978، ص136-137.

(3  الجويني: غياث الأمم في التياث الظلم. وضع حواشيه خليل المنصور. دار الكتب العلمية بيروت، 2003، ص144-155.

(4)   غياث الأمم، مصدر سابق، ص157.

(5)  أبو يعلى الحنبلي: الأحكام السلطانية، صححه وعلق عليه محمد حامد الفقي. نشره دار الفكر ببروت، 1974.

(6)  قارن بكتابي: الأمة والجماعة والسلطة. بيروت، دار اقرأ، 1984م، ص142-149، وكتابي الآخر: الجماعة والمجتمع والدولة. دار الكتاب العربي، بيروت 1997، ص363 وما بعدها. وانظر عن تاريخية الدولة وقيامها في عالم الإسلام؛ فرد دونر: تكون الدولة الإسلامية، مجلة الاجتهاد، السنة الرابعة، العدد الثالث عشر، خريف العام 1991، ص67-94.

(7) قارن بكتابي: مفاهيم الجماعات في الإسلام، المؤسسة الجامعية للنشر، بيروت، الطبعة الثانية، 1994، ص28- 36.

(8) رضوان السيد: الأمة والجماعة والسلطة، مرجع سابق، ص110- 114، والجماعة والمجتمع والدولة، ص370-373.

(9)  قارن عن وقائع المحنة؛ كتاب فهمي جدعان: المحنة، جدلية الديني والسياسي في الإسلام، 1994، ص176-209.

(10)  عهد أردشير، نشر إحسان عباس. بيروت 1967، ص54.

(11) أول من عقد فصلا لأحكام البغاة كان الإمام الشافعي -204هـ/819م) في كتاب "الأم".

(12)  قارن بهلال بن المحسن الصابي: رسوم دار الخلافة. تحقيق ميخائيل عواد. ط. ثانية. بيروت 198، ص83 (نموذج لوثيقة التفويض). وقارن عن الدولة السلطانية، كلود كاهن: تاريخ العرب والشعوب الإسلامية. ترجمة بدر الدين قاسم، 1977، ص235- 264. ولكاهن نفسه دراسة تأسيسية عن الإقلاع الذي اقترن ظهوره بظهور الدولة السلطانية، ترجمت بمجلة الاجتهاد، ج1، 1987، ص193-242.

(13)  قارن بدراسة الفضل شلق: الفقيه والدولة الإسلامية، مجلة الاجتهاد، م4، صيف العام 1989، ص91-140.

(14) الأحكام السلطانية للماوردي، مصدر سابق، ص47-48، والأحكام السلطانية لأبي يعلى، مصدر سابق، ص35-37.

(15) غياث الأمم للجويني، مصدر سابق، ص67 (نقد الماوردي).

(16) جمعت نصوصا عن رؤى الفقهاء في القرن (4- 6هـ) للعلاقة بين السياسة والشريعة في مقدمتي على كتاب ابن حداد الموصلي الجوهر النفيس في سياسة الرئيس، بيروت 1983، ص38- 46.

(17) قارن عن قضاء المظالم ومعناه دراسة لي بعنوان: قضاء المظالم وجهٌ من وجوه علاقة الدين بالدولة في الإسلام، بمجلة دراسات الجامعة الأردنية، م 14، ص36- 64.

(18) المقريزي: الخطط والآثار. تحقيق أيمن فؤاد السيد. م3، ص713- 718.

(19) قارن بدره خليفة: رسالة في السياسة الشرعية. نشر دار الكتب العلمية. بيروت، 2003، ص19- 20.

20)  قارن عن وسائل وأدوات الشرعية في العصر المملوكي دراستي بعنوان: "صراع الفقهاء على السلطة والسلطان في العصر المملوكي"، في مقدمة تحقيقي لكتاب: تحفة الترك فيما يجب أن يعمل في المُلك للطرسوسي. بيروت، دار الطليعة 1992، ص13- 18.

(21) أدب الدنيا والدين للماوردي، مصدر سابق، ص135-136.

(22) ابن تيمية: السياسة الشرعية إصلاح الراعي والرعية. دار الكتب العلمية بيروت، 2000.

(23) السياسة الشرعية، ص137- 142.

(24) بدر الدين ابن جماعة: تحرير الأحكام في تدبير أهل الإسلام. منشورات محمد علي بيضون. بيروت، 2003.

(25) ابن قيم الجوزية: الطرق الحكمية في السياسة الشرعية. دار الكتب العلمية. بيروت 1995، ص10-11.

(26) الطرسوسي: تحفة الترك، مصدر سابق، ص63-70.

(27) تحفة الترك، ص40-42.

(28) مقدمة ابن خلدون، نشره علي عبد الواحد وافي، م2، ص756-757.

المصدر: http://www.ridwanalsayyid.com/ContentPage.aspx?id=86#.VzI_ylUrLIU

الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك