مسألة العقل وسلطته في النقاشات الإسلامية القديمة

الدكتور رضوان السيد

 

أولاً: العقل والتعقُّل

يُعرِّف الكنِدْيُّ (- 252هـ) الفيلسوف العقل بأنه (جوهرٌ بسيطٌ مُدركٌ للأشياء بحقائقها)(1). ثم يعمد في رسالته في العقل إلَى تقسيمه إلَى أربعة أقسام(2): العقل الأول- وهو علهِّ لجميع المعقولات والعقول الثواني، وهو الذي يُخرجُ النفسَ من حالة كونِها عاقلةً بالقوة إلَى حالة كونها عاقلةً بالفعل. ويعني ذلك أنّ العقل جوهرٌ غير مادي، وأنه آتٍ إلَى الإنسان من خارج، ومآلُهُ إلَى ترك الإنسان عندما تفُارقُهُ الروح أيضاً. ولذلك يسميه الكنديُّ مستفاداً، أي أنه لم يكن للنفس ثم صار لها. إن مهمتَه أن يدبِّرها من فوق؛ من خارج، أن يسوسَها عن طريق إخراجها من حالة كونِها عاقلةً بالقوة إلَى حالة كونها عاقلةً بالفعل. أما الأقسام الثلاثة الأخُرى للعقل فهي (رغم جوهرتها) تدخل في العقل الإنساني الجزّئي، وربما أمكن اعتبارُها من ضمن قوى النفس عنده، وإن يكن اختصار كلام الكندي يجعلُ الأمر متّسماً ببعض العُسْر والابتسار(3). أماّ الفارابي (-339هـ) فإنّ العقل الفعّالَ عنده هو العقلُ الأولُ عند الكندي، وهو يقومُ بالوظائف نفسِها تقريباً. فالعقل الفعاّلُ(4): (فعْلُهُ العنايةُ بالحيوان الناطق، والتماسُ تبليغه أقصى مراتب الكمال الذي للإنسان أن يَبْلُغَهُ وهو السعادةُ القصوى؛ وذلك بأن يعبر الإنسان في مرتبة العقل الفعاّل. وإنما يكونُ ذلك بأنه تحْصُلَ مفارقاً للأجسام غير محتاجٍ في قوامه إلَى شيءٍ آخر مما هو دونه من جسمٍ أَو مادةٍ أَو عَرَض..) وكأنما يريد الفارابي زيادة الأمر وضوحاً فيُتاَبع(5): (..ومنزلةُ العقل الفعّال من الإنسان منزلة الشمس من البصر؛ فكما أن الشمسَ تُعطي البصر الضوءَ فيصير البصرُ بالضوء الذي استفادةُ من الشمس مبصراً بالفعل بعد أن كان مبصراً بالقوة.. كذلك العقلُ يفيدُ الإنسان شيئاً يرسمُهُ في قوته الناطقة منزلةُ ذلك الشيء من النفس الناطقة منزلةُ الضوء من البصر..). هكذا يكون العقلُ الفعاّل عند الفارابي قائماً بذاته (أي جوهراً) مفارقاً مهمتُهُ في العالَم الإنساني تدبرُ النفس وبالتالي الإنسان وسياستُهُما من فوق، ومن خارج، دون أن تُدنِّسَهُ المادةُ أَو تمسَّ جوهريتَهُ الجزئيات.

ويرى ابن سينا (-428هـ) أن (وجودَ النفس مع البدن، وليس حدوثها عن جسمٍ بل عن جوهرٍ هو صورةٌ غير جسمية... إنّ القوة النظرية فيه أيضاً تخرج من القوة إلَى الفعل.. وذلك لأنَّه الشيءَ لا يخرج من ذاته إلَى الفعل إلاّ بشيءٍ يفيدُ الفعل، وهذا الفعلُ الذي يفيدُهُ هو صُوَرُ المعقولات. فإذن ها هنا شيء لا محالةَ النفس، ويطبعُ فيها من جوهره صور المعقولات فلذَّات هذا الشيء لا محالةَ عنده صُوَرُ المعقولات، وهذا الشيء إذن بذاته عقل.. وهذا الشيء يُسمَّى بالقياس إلَى العقول التي بالقوة وتخرج منه إلَى الفعل عقلاً فعاّلاً، كما يُسمَّى العقلُ الهيولانيُّ بالقياس إليه عقلاَّ منفعلاً، ويُسمَّى العقلُ الكائنُ فيما بينهما عقلا مستفاداً.. وهذا العقلُ الفعاّلُ تفيضُ منه قوةٌ تسيح إلَى الأشياء المتخيلَّة التي هي بالقوة معقولة، فتجعله معقولةً بالفعل، وتجعلُ العقل بالقوة عقلاً بالفعل...)(6). وبذلك تبرز عند ابن سينا القضايا الثلاث التي برزت عند سابقيه فيما يتعلقُ بالفعل: الجوهرية، والمفارقة، وسياسة النفس أَو تدبيرها.

 

ثانياً: السياسةُ والتدبير

إنّ العقل الفعال ليس عقلاً فردياً أَو جزئياً. بل هو بحكم جوهريته وبساطته (لا ماديته) شاملٌ، وهو يدبّر الإنسان (النفس والبدن). ومهمٌّ انطلاقاً من هذا الأمر أن يكونَ واضحاً ما يراه الفلاسفةُ وهو أنّ الإنسان الماديَّ (مضبوط) من خارج، وليس من القوى النفسانية الداخلية التي يُصارعُها عقلُ الخارج من أجل ضبطها وسياستها. وهدفُه بحسب أفلاطون وأرسطو أَو غايتهُ أن يبلغ بالنفس والبدن مبلغ الاعتدال فالسعادة من طريق التوسُّط الذي هو فضيلةٌ بين رذيلتين. وتمضي الأفلاطونية المُحْدَثة فالإشراقية قُدُماً في مجال رفض المادّة والجسد؛ فإذا الأَمْرُ ليس رذيلةً فقط، بل هو شرٌّ من الشر لابد من تجاوزه لتعودَ النفسُ فتتجوهر، ويعودَ العقلُ المُفارقُ إلَى عالمه. ووسط التأكيدات المستمرة على الجوهرية والبساطة والمفارقة - وهي من لوازم العقل يجري الحديثُ عن العقل بالفعل الذي يكتسبُ صفاتٍ (بالفعل) لملامسته المادّة إذ إنه هو المباشرُ لتدبير النفس، بل لقواها ذات الظهور المادّيّ. لكنْ على الرغم من تلك الملامسة لا تتغير حقيقةُ العقل بالفعل. إنه فقط أداةُ العقل الفعّال، والبدنُ –بدوره- أداةُ العقل بالقوة في التبلور والظهور المادي.

هذه الرؤية لطبيعة العقل ووظيفته تُصبحُ معها النتائجُ على المستوى الاجتماعي والسياسي واضحة. فالنظرة الفلسفيةُ إلَى مدينة الاجتماع البشري، وفكرة تقسيم العمل التي يقومُ عليها المجتمع، هي نتيجةٌ لمفهوم العقل ووظائفه وليس العكس(7). فاللسانُّ عند ثاسطيوس، والرئيس عند الفارابي، والشارعُ عند ابن سينا – هؤلاء جميعاً هم العقل المدبِّر من خارجه على المستويين الاجتماعي والسياسي. فكما أنَّ السببَ الأولَ (الله) متقدمٌ على الوجود، وكما أنّ العقل الفعّال متقدمٌ على النفس طبعاً؛ فكذلك الرئيس متقدمٌ على الاجتماع البشري (المدينة)(8): (فرئيسُ المدينة ينبغي أن يكونَ هو أولاً، ثم يكون هو السبب في أن تحصل المدينةُ وأجزاؤها...). كما أنّ القلبَ يكونُ أولاً (ثم يكون هو السبب في أن يكونَ سائر أعضاء البدن)(9). فمثالُ الملك المتولي على المجتمع هو (مثالُ النفس الناطقة)(10). والملكُ في المجتمعُ كالرأس في الجسد، وفي الرعية كالروح في البدن(11). ومدارُ الأمر -كما يرى مسكويه- على العقل الذي هو الرئيسُ على النفس(12). وكما أنّ النفس تحتاج إلَى قوةٍ سائسةٍ هي العقل؛ فإنّ المجتمع البشري يفترضُ سائساً حتى قبل تحوله من اجتماعٍ ناقص (قرية، عشيرة) إلَى اجتماعٍ كامل (مدينة). بل إنّ التحول ذاك غير ممكنٍ بدون السائس؛ إذ لا مدينة بغير رئيس، كما أنه لا نفس إنسانية بغير القوة الناطقة. ذلك أنّ مثالَ الملك هو مثالُ النفس (الناطقة) التي تسوسُ جميعَ البدن(13).

إنّ العقل المستفادَ إذن هو رئيسُ النفس والبدن. والرئيسُ هو عقلُ المجتمع. ولأنَّ وظيفةَ الرئيس في المجتمع (القيادة والضبط) كوظيفة العقل في النفس؛ فإنه يتّسمُ بالسِماتِ نفسِها، وهي بعد الأولية أَو الضرورة المنطقية: النطق أَو الحكمة. وقدِْماً قال أفلاطون(14): إنّ الشقاءَ لا يزولُ ما لم يحكم الفلاسفة أَو يتفلسف الحكّام. فاسمُ الملك يدلُّ على التسلُّط والاقتدار.. وليس يمكن ذلك إلاّ بعظَم قوة المعرفة.. فلذلك صار الملكُ على الإطلاق هو بعينه الفيلسوف وواضع النواميس. ولهذا (فمعنى الإمام والفيلسوف وواضع النواميس معنىً واحد..)(15). وهكذا يصبحُ التملُّكُ أمراً ذاتيّاً فوقيّاً يتصلُ بالعقل الفعّال لا بالمجتمع المحكوم أَو المَسوس أَو المدبَّر: (الملكُ هو ملكٌ بالمهنة الملكية وبصناعة تدبير المدن، وبالقدرة على استعمال الصناعة الملكية أيَّ وقتٍ صادف رئاسةً على مدينة، سواءٌ أشتهر بصناعته أَو لم يشتهرْ بها، وجد آلاتٍ يستعملُها أَو لم يجد، وجد قوماً يقبلون منه أَوْلا، أُطيع أَو لم يُطَعْ؛ كما أنَّ الطبيبَ بالمهنة الطبية..)(16).

فالرئاسةُ منحةٌ من فوق، من العقل الفعّال، وهي آتيةٌ لقَود المجتمع البشريّ إلَى خيره وسعادته. وعلى الجماعة في المدينة أن تعتبر نفسها محظوظةً إن تنزَّلَ أَو تَسامى عليها حكيمٌ أَو فيلسوفٌ يسوسُها ويدبّر أمر بقاء ترتيباتِها الثابتة والهرمية بحسب القرب أَو البُعد من عقل المجتمع ومحّدد مصائره. بل إنّ مهمةَ الرئيس الأُولى هي الحفاظُ على الهرمية الاجتماعيَّة لكي لا يلتحقَ الأسافلُ بالأعالي، فيبقى الحراسُ حراساً، والصنّاع صناعاً، والزراع زراعاً، والخدم والعبيد خدماً وعبيداً. فمثالُ النفس الناطقة مثالُ الملك المستولي.. ومثالُ النفس الغضيةَ مثالُ الجند الذين يسُدُّون ثغوره.. ومثالُ النفس الشهوية مثالُ رعيته(17).

 

ثالثاً: الرؤية الأُخرى في العقل والتعقُّل

اختلَف الفقهاء والمحدّثون في (محلّ العقل) من بدن الإنسان. فذكر أبو يعلى الفرّاء في كتاب (العُدّة) ما يلي(18): (.. ومحلُّ العقل القلب. ذكره أبو الحسن التميمي في كتاب العقل.. وسأل رجلٌ الإمام أحمد عن العقل أين منتهاهُ من البدن؟ فقال: العقلُ في الرأس.. وهذا غير صحيح لقوله -تعالى-: ﴿إنّ في ذلك لذكرى لمن كان له قلب﴾. وأرادَ به العقل فدلَّ على أنّ القلبَ محلّه.. ويُروى عن النبي (ص): (والقلبُ مسكنُ العقل. وعن علي: العقلُ في القلب). هكذا يختلفُ أكثرُ فقهاء المذهب الحنبلي مع شيخ المذهب أحمد فيذهبون مختلفين في ذلك معه إلَى أنَّ محلَّ العقل القلب. ويستمرُّ الاختلافُ لكنّ الأساسَ واحدٌ لدى الفقهاء والمحدّثين فهم يرون أنّ العقل مستقرٌّ في الإنسان يبدأ ُمعه وينتهي معه، لم يبدأ من خارج، ولا ينتهي إلَى خارج. ولاشكَّ أنّ الاختلاف في محلّ العقل بين الرأس والقلب؛ إنما هو خلافٌ حول ماديته أيضاً. إذ في الرأس يمكن اعتبارُ الدماغ مادياً؛ في حين لا يمكنُ قولُ ذلك عن القلب. على أنّ هذا الاختلاف في محلّ العقل أشعر الجميع أنّ البحث ينبغي أن يبدأ من مكانٍ آخر، من ماهية العقل أَو حقيقته.

أ- فالمحاسبي (-243هـ) معاصر الكندي (-252هـ) والرادّ عليه، يذهب إلَى أنّ العقل غريزة وصفها الله -سبحانه- في أكثر خَلْقه، لم يطّلع عليها العبادُ بعضهم من بعض، ولا اطّلعوا عليها من أنفُسهم برؤيةٍ ولا بحسٍّ ولا ذوقٍ ولا طَعمً فهو لا يُعرفُ إلاّ بفعاله في القلب والجوارح.

ب- وأحمد بن حنبل (-241هـ) يقول: (العقلُ غريزة، والحكمةُ فطنة، والعلمُ سماعٌ، والرغبةُ في الدنيا هوى، والزهوُ فيها عفاف.. ومعنى قوله غريزة أنه خَلْقٌ لله ابتداءً، وليس باكتساب العبد، خلافاً لما حُكي عن بعض الفلاسفة أنه اكتساب..)(19).

ج- وأبو الحسن التميمي (-371هـ) يؤلّف كتاباً في العقل يقولُ فيه: العقل ليس بجسمٍ ولا صورةٍ ولا جوهر، وإنما هو نورٌ، فهو كالعلم(20).

د- والماورديُّ (-450هـ) يقول(21): (واختلف الناس في العقل وفي صفته على مذاهب شتى؛ فقال قومٌ: هو جوهرٌ لطيفٌ يُفْصَلُ به بين حقائق المعلومات... وهذا القولُ في العقل أنه جوهرٌ لطيفٌ فاسدٌ من وجهين؛ أحدهما أنّ الجواهر متماثلة فلا يصحُّ أن يُوجبَ بعضُها مالا يوجِبُ سائرُها. والثاني أنّ الجوهر قيامُهُ بذاته فلو كان العقلُ جوهراً لجاز أن يكونَ عقلٌ بدون عاقل، كما جاز أن يكونَ جسمٌ بدون عقل.. وقال آخرون -وهو الصحيح- أنّ العقل هو العلمُ بالمدركات الضرورية..).

هـ- وقال الجويني (-478هـ)(22): (فإن قيل: فما العقل؟ قلنا: ليس الكلامُ فيه بالهيِّن، وما حوَّم عليه أحدٌ من علمائنا غير الحارث المحاسبي؛ فإنه قال: العقل غريزةٌ يتأثّر بها دَرْكُ العلوم، وليست منها. فالقدْرُ الذي يحتملُ هذا المجموع ذكره أنه صفةٌ إذا ثبتت تأتّي التواصُّلُ إلَى العلوم النظرية، ومقدماتها من الضروريات التي هي مستندُ النظريات).

يُصرُّ المحدِّثون والفقهاء إذن على نفي مادية العقل، كما ينفون جوهريته ومفارقته. والمحاسبيُّ –وهو أقدمُ مَنْ ألَّف في ذلك- واضحٌ في رسالته عن (مائية العقل) مَنْ يقصد بردوده. إنه يقصدُ الكنديَّ، كما يقصد رجالَ الترجمة المعاصرين له. ووعْيُ المحاسبي هذا ينتحبُ على أحمد بن حنبل وأبى يعلى والماوردي والجويني الذين صرحوا بنقض الجوهرية والمادية والمفارقة. بل إنّ الذين من بينهم أثبتوا للعقل محلاًّ عادوا فوحَّدوا بينه وبين العلم لنفي المادية والجوهرية عنه: (فكلُّ مَنْ نفى أن يكون العقلُ جوهراً أثبتَ محلَّهُ في القلب لأنَّ القلبَ محلّ العلوم كلّها، قال الله –تعالى-: ﴿أفلم يسيروا في الأرض فتكونَ لهم قلوبٌ يعقلون بها﴾. فدلَّت هذه الآيةُ على أمرين أحدهما أنّ العقل علم، والثاني أنّ محلَّه القلب..)(23).

ويضعُ ابن تيمية (-728هـ) أخيراً هذا الخلافَ بين الفلاسفة والفقهاء في موضعه الصحيح حين ينبّه إلَى أصول وأهداف الرؤيتين(24) فيقول: (وسبب غلطهم -أي الفلاسفة- أنّ لفظ العقل في لغة المسلمين مصدر عقل يعقلُ عقلاً - كما في القرآن: ﴿وقالوا لو كنا نسمع أَو نعقلُ ما كنا في أصحاب السعير﴾.. ويُرادُ بالعقل الغريزة التي جعلها اللهُ -تعالى- في الإنسان يعقلُ بها. وأمّا أولئك فالعقلُ عندهم جوهرٌ قائمٌ بنفسه كالعاقل، وليس هذا مطابقاً للغة الرسل والقرآن..).

 

رابعاً: الرؤيةُ الأُخرى في التدبير والسياسة

مادام العقلُ ليس مادةً ولا جوهراً مفارقاً؛ فإنّ معنى الغريزة هنا الشيوع في الإنسان كسائر الدوافع والغرائز والقوى. ويحملُ الفردُ عند العرب معنى الكبح والردّ والمنع والتقييد. ويظهرُ هذا المعنى في اللسان العربي من التقابُل الذي يقيمونه بين العقل والهوى. ذلك أنّ العقل والهوى متعاديان. والواجبُ أن يكونَ المرءُ لرأيه مسعفاً ولهواه مسوِّفاً. فإذا اشتبه أمران اجتنب أقربهما إلَى هواه؛ لأنّ في مجانبته الهوى إصلاح السرائر، وبالعقل تَصْلُحُ الضمائر(25). وكما يرى الطرطوشي فإنّ الهوى عدوُّ العقل(26)، أَو أنه -أي الهوى- كما يقول الماوردي(27): صدأ العقل. فهو يُدبِّرُ من طريق الموازنة، والميولة دون سيطرة غريزةٍ ما تُردي الإنسان. فيبقى في العقل وللعقل معنيان رئيسيان: التساوي، فسائرُ البشر فيه سواء. والشيوع، أي أنّ إنساناً لا يخلو منه في الأغلب الأعمّ. أما التفاوتُ فيه بين البشر فيأتي لاحقاً من طريق العلم والتجارب؛ فكلُّ شيءٍ يحتاجُ إلَى العقل، والعقل يحتاجُ إلَى التجارب.

إنّ هذه السمات الثلاث للعقل: الغرزية، والتساوي، والشيوع (وهي سماتٌ تُناقض رؤية الفلاسفة تماماً)، مع التسليم للعقل -كالفلاسفة - بوظيفة التدبير-، تُنتج رؤيتين متواجهتين لمعنى السلطة ووظائفها لدى الفلاسفة من جهة والفقهاء من جهةْ أُخرى. فلأنّ العقل شائعٌ في الناس بالتساوي فمعنى ذلك أنّ السلطة التدبيرية شائعةٌ فيهم أيضاً، مادام العقلُ هو الذي يتولى التدبير، وهو في هذه الرؤية لا يتفاوتُ فيه الناس، ولا يختصُّ به فردٌ دون فرْد. وهكذا فإنّ الأمة هي التي تملكُ السلطة باجتماع عقولها وإراداتها؛ كما أنّ إجماعَها السياسيَّ هو الذي يُنتج الإمامة أَو يعطيها الشرعية. يقول الآمديُّ(28): (ليس التنصيصُ على مَنْ عُقدتْ له الإمامةُ بالاختيار شرطاً في طاعته؛ فإنّ طاعته بعد ذلك إنما صارت واجبةً بالإجماع). وقد يقالُ: إنه من الجهة السياسية لا فرقَ في النتيجة بين الطرفين لأنهما يصلان إلَى القول بوجوب الإمامة أَو السلطة أَو الدولة. لكنّ الواقع أنّ هناك اختلافاً شاسعاً في رؤية الاجتماع البشري، وفي وظائف السلطات فيه. فبينما يرى الفلاسفةُ (ويلتحق بهم القائلون بعصمة الإمام) أنّ الناسَ لا يصلحون أمرهم بل ولا تقومُ المجتمعاتُ بدون سانٍ حاضرٍ دائماً هو بطبيعته إمامٌ ورئيس ولا يستطيع الرئاسة غيره؛ يرى الفقهاءُ وجوبَ الإمامة بالشرع، والمعنيُّ بالشرع (ما ثبت بالتواتُر من إجماع المسلمين.. على امتناع خُلُوّ الوقت عن خليفةٍ وإمام...)(29)، أي ضرورة وجود السلطة والدولة.

جاء في مفيد العلوم(30) للخوارزمي أنّ العقل والدولة تناظرا (فقال العقل: معي الخطاب! وقالت الدولة: العيشُ معي! فقال العقل: أنا حجة الله! فقالت الدولةُ: أنا عطاءُ الله! فتحاكما إلَى سليمان النبي فقال: إنّ العقل لا يطيب إلاّ مع الدولة، فمثالكما مثالُ الروح والجسد، لا يحسُنُ أحدُهُما إلاّ مع الآخَر. فحلفت الدولةُ أنها لا تسكُنُ الأرض، ولا تحصُلُ بكسْب آدمي فذهبت إلَى السماء، فالدولةُ سماوية، والعقلُ نورٌ ربّاني...). أمّا الماورديُّ فيقول في الأحكام السلطانية: (الإمامةُ خلافةٌ عن النبوة، وهي موضوعةٌ لحراسة الدين وسياسة الدنيا... والمصير إليها بالاختيار من الأمة...)(31).

إنّ هذا التأصيل لمعنى العقل، ومآل السلطة التدبيرية فيه -في نظر أصوليي الفقهاء، والمحدّثين- والمتكلمين، يفتح المجال لتأمُّلٍ آخر لعلائق العقل بالدين لدى الفقهاء ولدى المتكلمين. ويشكّل ذلك مدخلاً لفهمٍ جديدٍ للتوافقات والاختلافات بين الفقهاء والمتكلمين أنفسهم، وبينهم وبين الفلاسفة. بيد أنّ الأمر يحتاج أيضاً لقراءةٍ جديدةٍ لأفهام الفريقين بشأن طبيعة الدين ووظائفه.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1- رسائل الكندي الفلسفية، تحقيق أبوريدة، دار الفكر العربي، 195، 1/16: (والعقلُ هو القائمُ بنفسه، وهو حاملٌ للأعراض لم تتغير ذاتيته، موصوفٌ لا واصف).

2- رسائل الكندي الفلسفية، 1/312، 348، 353-358.

3- قارن بمقدمة أبوريدة لرسالة الكندي في العقل 1/312- 358.

4- الفارابي، السياسة المدنية، تحقيق فوزي النجار، ص32.

5- السياسة المدنية، ص35.

6- ابن سينا، رسالة في النفس وبقائها ومعادها، تحقيق الأهواني، القاهرة، 1952م، ص111 – 112.

7- أفلاطون، الجمهورية، الكتاب الثاني، الفصل الحادي عشر 369ب 11-12= ترجمة فؤاد زكريا، ورسالة تامسطيوس إلَى يوليان الملك في السياسة وتدبير المملكة، تحقيق محمد سليم سالم، القاهرة 1970م، ص28-30، والفارابي: آراء أهل المدينة الفاضلة، تحقيق ألبير نادر بيروت 1973م، ص117، وابن سينا: الإشارات والتنبيهات. تحقيق سليمان دينا، مصر 1968م، 4/60-62.

8- آراء أهل المدينة الفاضلة، ص120.

9- آراء أهل المدينة، ص120.

10- الثعالبي، الخوارزمشاهي (مخطوطة السليمانية رقم 1808) ص65ب.

11- الخوارزمشاهي، ق12أ.

12- أبو حيان التوحيدي ومسكويه: الهوامل والشوامل، القاهرة 1951م، ص196.

13- قارن برضوان السيد: الأمة والجماعة والسلطة، بيروت 1985م، ص186.

14- الجمهورية، الكتاب الخامس، فقرة 473، والكتاب السادس، فقرة 485، 499.

15- الفارابي، كتاب تحصيل السعادة، تحقيق جعفر آل ياسين، بيروت 1981م، ص92-93.

16- الفارابي، فصولٌ منتزعة، تحقيق فوزي النجار بيروت 1971م، ص49.

17- الخوارزم شاهي للثعالبي، مصدر سابق، ق65ب.

18- العُدّة في أصول الفقه، بيروت 1980م، 1/89-94. ويذهر ابن الجوزي في ذمّ الهوى، تحقيق مصطفى عبدالواحد، ص5-6 أنّ أصحاب أبي حنيفة يذهبون مذهب أحمد بن حنبل في (محلّ العقل).

19- المحاسبي، العقل وفهم القرآن، تحقيق حسين القويكى، بيروت 1978م، ص201-202.

20- العدة للفراء 1/89-90، والمسوّدة لابن تيمية، ص559-560.

21- العدة للفراء 1/84. وقارن بذمّ الهوى لابن الجوزي، ص5.

22- الماوردي، أدب الدنيا والدين، نشرة اسطنبول 1299هـ، ص4-5. وفي المعتمد في أصول الدين لأبي يعلى (-458هـ)، ص101-102 أنّ العقل ليس بجوهرٍ ولا جسم بل هو بعضُ العلوم الضرورية؛ خلافاً للفلاسفة.

23- الجويني، البرهان في أصول الفقه، تحقيق عبد العظيم الديب، 1399هـ، 1/112-113.

24- أدب الدنيا والدين للماوردي، ص5.

25- ابن تيمية، الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان، الرياض 1956م، ص46-47.

26- ابن حبّان، روضة العقلاء، ص7.

27- الطرطوشي، سراج الملوك، القاهرة 1306هـ، ص69.

28- الماوردي، قوانين الوزارة وسياسة المُلْك، تحقيق ودراسة رضوان السيد، بيروت 1979م، ص131.

29- الآمدي، غاية المرام في علم الكلام، القاهرة 1971م، ص480.

30- غاية المرام للآمدي، ص364.

31- الخوارزمي، مفيد العلوم، 1980م، ص204-205.

المصدر: http://www.ridwanalsayyid.com/ContentPage.aspx?id=91#.Vy5INVUrLIU

الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك