الصراع الفكري والصراع الشخصي

د. عامر الغضبان

مواصفات الصراع الفكري تختلف اختلافاً كبيراً عن مواصفات الصراع الشخصي، فالصراع الفكري محوره رؤية فكرية أو توجه فكري، يقبله أفراد ويرفضه آخرون، أما الصراع الشخصي فوقوده قبول أو رفض فردٍ آخر (أو مجتمع آخر)، قبول وجوده في الساحة وانتمائه للمجتمع، أو رفض ذلك.

والصراع الفكري قد يؤدي إلى نمو وتطور في الفكر عندما يقصد الداخلون فيه البحث عن الرأي الصائب، ويتجردون من نوازع أهوائهم؛ أما الصراع الشخصي فينتج عنه تغيرات في خارطة الواقع البشري وانتماء الأفراد للفئات المختلفة، واتجاهات التغير تُحكم عادة بقوة الأطراف المتصارعة، بمختلف أنواع القوة المادية والمعنوية.

والصراع الشخصي في الغالب مرتبط بمشاعر البغض والحسد وممارسات البغي والعدوان، ولا ينجو من هذه المشاعر والممارسات إلا من عصمه الله بدين الحق وخلق العدل.

ومع ذلك يختلط النوعان من الصراع في كثير من المواقف، فيكون الصراع شخصياً، لكنه يلبس لبوس الصراع الفكري، وهذا موقف حرج نحتاج فيه للموضوعية العالية التي لا نجد من يتمثلها بين الناس إلا القليل. ودعونا نتأمل الأمثلة الآتية من هذه المواقف الصعبة:

–    كثير من الناس يتبنى موقفاً فكرياً يتبع فيه موقف فلان من الناس، فيتخذ الفكرة التي ينادي بها هذا الفلان مسلمة، ويدافع عنها دون نقد لها، بل دون فهم لها.

–    وكثير من الناس يختار معارضة شخص آخر، لأنه يعتقد أن هذا الشخص لا يمكن أن يأتي بخير. نحن هنا لا نتحدث عن شياطين أُمرنا بعصيانهم في ما علمنا وما لم نعلم من دعواتهم، إنما نتحدث عن أفراد يخالفوننا الموقف أو الرأي.

كثير من الناس يرفضون موقفاً سياسياً، أو عرفاً اجتماعياً، أو قولاً فقهياً، لأنهم علموا أن فلاناً قد تبناه. ماذا؟ فلان؟ لا بد أنه موقف تآمري، وقول ضال مضلل، فهذه المواقف عادة هي التي يتبناها فلان، وأنا لا يمكن أن أكون مع فلان في أي مشهد، وأرفض أن أنتسب له، أو لأي فكرة تتصل به.

–    وكثير من الأفراد الذين يُسمَع قولهم، أو يحبون أن يكونوا ممن يسمع قولهم، ويجتمع حولهم الآخرون، أي أنهم يحبون التزعم والزعامة، كثير من هؤلاء يصارعون أفراداً معارضين لأنهم لا يريدون أن يخسروا أشياعهم وأنصارهم، ويحسبون أن هؤلاء المعارضين يسعون لهدم زعامتهم، ويُلبس هؤلاء الزعماء الباحثون عن السلطة خطابهم لبوس الفكر والبحث عن الصواب. ثم يقولون: اتبعونا لأن فلاناً سيئ. وإذا خوطب الزعماء الباحثون عن السلطة بأن هؤلاء الذين يعارضونهم يطرحون فكراً يستحق السماع، يقولون: إن اتبعتم أولئكم سيوردوكم المهالك، فيصنفون فكر المعارض بأنه فكر مدمر، خطير، يحرق العقول، ويمزق الأمة، ويدمر البلاد.

–    وفي الاجتهادات السياسية ينتهج بعض الأفراد والناشطين منهجاً عجيباً، فتراهم يتبنون منهجاً سياسياً، أو اتجاهاً فكرياً، وربما مذهباً شرعياً، فقط لمهاجمة اجتهاد سياسي مخالف، وحين يُسألون عن أسباب هذا الاتجاه المتطرف، يقولون إنه لمواجهة الاتجاه الآخر الذي أعلن الاتجاه السياسي الأول، وإن سألتهم: أين الخلل في الاتجاه الآخر؟ وما دام هذا الاجتهاد الآخر متعلقاً بواقع سياسي واجتماعي متغير دعونا نبحث في عواقبه المحتملة، أو دعونا ننتظر كيف سيؤدي تبنيه في الواقع. عندها سيرد هؤلاء الآخرون المخالفون وكأن عندهم علماً لا يعلمه غيرهم: هل تريدوننا أن نكون حمقى تنطلي علينا مؤامرات هؤلاء المتآمرين، أم تحسبون أننا نصدق ما يظهرون من حسن القول، إن كل حق يقوله هؤلاء يريدون به باطلاً لا يعلنونه، ومخالفتنا لهم ليست اعتراضاً على ما يظهرونه من القول الحسن، إنما إدراكاً لما يبطنونه من نوايا سيئة، وتوجهات فكرية منحرفة.

وهذا النهج الصراع حول الاجتهادات السياسية من أكثر ما يوقع الفتن، ويغيب القدرة على التفكير السليم، لأنه صراع حاد حول أفكار لم تعلن، ويقدَّم للجمهور على أنه صراع وجود، لا وقت فيه للانتظار، ومن لم يدخل فيه فهو خائن لأمته، بينما قد يكون في الواقع انعكاساً لمشاعر كراهية شخصية بين بعض الأفراد، يُحمّلونها للمجتمع كله، ولا يهمهم أن يرهقوا أمتهم بفتن قد تدوم آثارها السيئة طويلاً.

ختاماً، ليس المقصود من المقال أن يعزل المرء نفسه عن كل مشاركة، إنما أن يتبصر في نفسه قبل دخوله في مهاجمة آخرين يقفون معه في نفس الخندق، وأن يتدرب على أن يفصل بين الفكرة والشخص المنتسب لها، وأن يسعى لنصرة الحق، وتطبيق الصواب، مهما كان الواقع حوله ضاغطاً مشوشاً.

اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، وجنبنا الفتن ما ظهر منها وما بطن.

المصدر: https://alfajrmg.net/2013/03/21/%D8%A7%D9%84%D8%B5%D8%B1%D8%A7%D8%B9-%D8...

الحوار الداخلي: 
الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك