الدين والعصبيات

محمد الغزالي

url

مع غلبة الأوهام وانتشار التفاهات يستكثر الصغار من الأمجاد الكاذبة، ولمَ لا يستكثرون منها وهي لا تغرمهم ثمنا ولا تكلفهم جهدا؟!

إن اختلاف البشرة في ألوانها يعطي البيض فضلا ليس للسود!

وميلاد المرء فوق قطعة من الأرض دون أخرى يجعل وطنا أرقى من وطن!

وتكوين الجنين في بطن معين من نطفة معينة يخلق نسبة أشرف من نسبة!

فإذا اصطنع أقوام من هذه الأحوال وأشباهها فروقا يتشبثون بها، ويدورون حولها، فماذا عليهم؟!

لقد صفرت أيديهم من الجد فلمؤوها بالهزل، ثم شقوا طريقهم في الحياة، وعلى خدودهم صَعَر، وفي قاماتهم تطاول.

وشأن عالمنا هذا غريب، لو أنه يتوقف عن المسير كما تتوقف السيارة حين ينفد وقودها فتتطلب المزيد تستأنف به رحلتها.

إنها لن تسير إلا بوقودها الصحيح.. أما عالمنا هذا فهو مستعد لأن يسير، ولو وضعوا له بدل الوقود ترابا أو قمامة، إنه يسير مهما اضطربت وجهته واختلت حركته.

وهل اندفاع العالم بالعصبيات المحضة -بعد تنكره للمثل العليا- إلا ضرب من هذا السير المجنون؟

عصبيات الأسر، وعصبيات الأوطان، وعصبيات الأجناس.

أما الحقائق الكبرى التي تعلو هذه النزعات الطائشة، وتحكمها بحزم، فإن العالم في جاهليته القديمة أو الحديثة لا يلقي باله إليها، لأنها تعكر عليه نعيم الأمجاد الزائفة التي ينتجها في ظلال هذه العصبيات.

إن ناسا يريدون أن يسودوا، لأن فروج الأمهات يوم قذفت بهم إلى الحياة أضفت عليهم هالة خاصة.

أصخْ جيدًا.. إنهم أشراف!

فلو غربلت التراب السافي عن رفات آبائهم الذاهبين، لبرق بالمواهب الدفينة التي ستنتقل حتما من الأجداد إلى الأحفاد، فيجب أن نحني الهام إجلالا!!

وهؤلاء.. إنهم الجنس الأبيض الممتاز، لقد نضح صفاء قلوبهم على لون جسومهم، فكساهم شمائل لا تبلى من الفضل والإيثار!!

فلنفسح الطريق أمام الجنس المختار، ولندفع الأجناس الأخرى إلى الخلف بمقامع من حديد!

ثم هؤلاء الذين ولدوا معنا في صعيد واحد، إن لهم حقا أكبر، وألئك هم «مواطنونا» الأعزاء، يجب أن ترجح رابطتنا بهم كل رابطة أخرى!

إنجلترا فوق الجميع، ألمانيا فوق الجميع، مصر فوق الجميع، (سورية فوق الجميع)..!!

لكن من الجميع الذين يجب أن يهبطوا إلى تحت لتنتصب فوقهم الأوطان الخاصة ببعض البشر؟!

إن العصبيات لا يعنيها أن تجيب؛ لأن العصبيات لا تعرف منطق العقل المعتاد. إن العصبية حماس يشتعل وليست حقا يضيء.

الدين والعصبيات:

chess_snack__by_marioguti-d5re3y9

هذه العصبيات -برغم ما يساندها من قوانين وتقاليد- هي في نظر الدين حماقة كبرى، والاعتراف بها هدم للأركان الأولى من الرسالات التي أنزل الله هداية للعالمين، إذ قوام هذه الرسالات أن الإنسان مسؤول بنفسه عن نفسه، يقدمه ما اكتسب من خير فحسب، ويؤخره ما اكتسب من شر فحسب.

ولا مكان في هذا الميزان القسط لتدخل بشر، كبير أو حقير.

ولا حساب في تقويم شخص ما لوطنه أو نسبه.

ولا اعتبار البتة لما تواضع الناس عليه من شارات الرفعة أو الخسة.

ابن النبي أو ابن البغي سيان. إن تأخر الأول في سباق الصالحات لم ينفعه حسبه، وإن تقدم الأخير لم يضره نسبه.

وقد أوضح الله هذه المبادئ لا في قرآن محمد صلى الله عليه وسلم فحسب، بل في كتب الأنبياء الأولين كذلك: «أم لم ينبأ بما في صحف وموسى * وإبراهيم الذي وفى * ألا تزر وازرة وزر أخرى * وأن ليس للإنسان إلا ما سعى * وأن سعيه سوف يرى * ثم يجزاه الجزاء الأوفى» [النجم: 36-41].

وتلك قاعدة تمليها العدالة المجردة.

ومن ثم فهي قديمة مع الأزل، مسترسلة مع الأبد، لا يلحقها نسخ، ولا يخدشها استثناء: «من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فعليها ولا تزر وازرة وزر أخرى وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا» [الإسراء: 15].

ولما كان الظن قد سبق إلى أن اصطفاء الله لبشر ما كيما يحمل أعباء الدعوة إليه ربما أشعر باختصاص يخرجه عن هذه القاعدة، فإن الله كذّب هذه الظنون وبين أن المرسلين كغيرهم أمام هذا القانون العام: «وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم وأخذنا منهم ميثاقا غليظا * ليسأل الصادقين عن صدقهم وأعد للكافرين عذابا أليما» [الأحزاب: 7-8].

وحدد الله سبحانه صلة الأتباع المستجيبين بالنبي الذي علّمهم، فكان هذا التحديد القاطع ردا للأقارب والأباعد إلى القانون الذي لا يهتم بقربى ولا قرابة، قانون العمل والجزاء الذي لا يستطيع نبي أن يغير من نتائجه لتطيش براجح أو ترجح بطائش.

وإيماءً لهذه الحقائق أمر الله رسوله أن «قل لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا إلا ما شاء الله…» [الأعراف: 188].

«قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول إني مَلَك إن أتبع إلا ما يوحى إليّ قل هل يستوي الأعمى والبصير» [الأنعام: 50].

«قل ما كنت بدعا من الرسل وما أدري ما يُفعل بي ولا بكم» [الأحقاف: 9].

هذه الأوامر الصريحة تهدف إلى إفهام كل بشر، أين كان، ومتى كان، إلى أن تحليقه أو إسفافه طوع إرادته الحرة، وأنه وغيره سواسية في جو طليق رحب، وأن كافة ما اختلقه الدجالون من تفاضل بأوطان أو أنساب أو ألوان هراء في هراء.

من كتابه: التعصب والتسامح بين المسيحية والإسلام

المصدر: https://alfajrmg.net/2013/02/14/%D8%A7%D9%84%D8%AF%D9%8A%D9%86-%D9%88%D8...

 

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك