الإرهاب والأنثروبولوجيا الكولونياليَّة

بقلم: حسن أوزين

 

أعرف بأنَّ الخراب والدَّمار ينتشران بسرعة ويحاولان بكلّ عنف دمويّ أن يسودا هادفين إلى حالة من التَّبلُّد والاستسلام لبشاعة جريمة الهزيمة المفعمة باليأس والإحباط والقبول بحتميَّة قوى الشَّر المتحالفة بشكل خطير يصعب على ثقافة الحسّ المشترك والجهل المقدَّس تصديقه.

وهي قوى رهيبة تتقاطع على مستوى أفق استراتيجيَّة الأهداف السَّيطرة والتَّسلُّط والهيمنة والمتاجرة بالدَّم البشري حيًّا وميّتا. إنَّها تمثّل التَّحالف البشع بين الإرهاب المقنع بالمقدّس والأنثروبولوجيا الكولونياليّة الَّتي لا تكفُّ عبر أشكال سياسيّة جديدة عن معاودة إنتاج السَّيطرة والهيمنة، وهي تتفرَّج الآن على اختبار ما هو أخطر من أسلحتها الفتَّاكة، أي ما أنتجته مراكزها البحثيّة ومعاهدها العلميَّة من ترسانات معرفيّة وسوسيولوجيَّة وأنثروبولوجيَّة في قراءة تاريخ وواقع بلدان العالم الثَّالث المقهور. أليس بالأمس القريب تمَّت جريمة الإبادة و التَّطهير العرقيّ في رواندا من خلال التَّبني الأعمى من قبل شعوب البلد للأنثروبولوجيا الكولونياليَّة كشكل سياسيّ تاريخيّ أنتجه الاستعمار البلجيكيّ. واليوم نرى في العراق، سوريا، اليمن الدَّمار والخراب والمجازر الدموية التي يمارسها يوميًّا التّحالف الرَّهيب بين قوى الإرهاب باسم الإثنيّة والطَّائفيّة والمذهبيّة الدّينيّة كفرقة ناجية تمتلك الحقيقة المنجزة النّهائيّة والمطلقة وبين قوى الاستشراق الغربي الأمريكيّ الأوروبي والشَّرقي الرُّوسي، ولا نستثني من هذا ما يحدث في مصر، لبنان و البحرين...

ووسط هذا الخراب وهذا الدَّمار الهائلين ينتصر سؤال الحياة في سيرورته التَّاريخيّة المعقَّدة الَّتي لا تقبل بالتوقف أو الرجوع إلى الوراء، لأنّ التحولات الَّتي مسَّت العالم وضمنه بلدان العالم المتخلف تسير بقوّة موضوعيّة لا تقهر. قد تتباطؤ أو تعاق عبر التَّأثير في ديناميّة حركة تطوّرها هنا أو هناك. وقد تنجح قوى هذا التَّحالف أحيانا في نشر لغة الاحباط واليأس والسُّخط العارم تجاه التَّغيير والثَّورة، بما يشبه الاستسلام للقدر المحتوم. خاصَّة وأنّ هذا التَّحالف البشع يدمّر من خلال قوى الإرهاب الدّيني أعزَّ ما في الانسان، أي ما يشكله في العمق النّفسي الثَّقافيّ التَّاريخيّ كتميّز واختلاف، وهو يشكّكه في مصداقية معتقده الإيمانيّ المتَّهم بالقتل وسفك الدّماء. وتتكفّل قوى الأنتربولوجيّة الكولونياليّة بالإجهاز على حريَّته وكرامته بإفشال أحلام ثورته وترسيخ في أعماقه دونيته البعيدة كليّا عن جدارة إنسانيّة الانسان لامتطاء صهوة المستقبل والحلم بالتّغيير والثّورات. هكذا يضع متخيّل الاستشراق وكلّ الانتروبولوجيّة الاستعماريّة يده في يد قوى الإرهاب باعتبارنا مجرَّد شعوب قبلية عنيفة دمويَّة غريبة الأطوار، وبعيدة عن الشَّرط الانسانيّ الحضاريّ.

أعرف بأنَّ كلّ هذا الرُّعب الرَّهيب من بشاعة القتل والدَّمار والخراب يستهدف تسييد وتكريس وجهٍ وتصورٍ ومنظورٍ واحدٍ وحيدٍ لا شريك له، هو القبول بالهزائم إلى درجة الخنوع والخضوع فيما يشبه الرضا الكاذب بالأمر الواقع، أي رؤية الذَّات والعالم بمنظار التّرحم على الماضي والسُّخط على المستقبل. وجعلنا نؤمن على أنَّنا مجرّد كائنات تراثيَّة دينيّة مثقلة بأعباء دماء العدوانيَّة والكراهية وفتن الحروب المذهبيَّة الطَّائفيَّة. مع تسويق هذه الصورة النَّمطيَّة للعالم كلّه، خاصَّة لشعوبهم.

لكن الفكر النَّقدي والعقل الجدلي لا يقبلان بالمعرفة العفويّة الجاهزة، سواء تلك الَّتي ينتجها الإرهاب في ممارساته المستغلة للمقدَّس أبشع استغلال، أو تلك الَّتي تمارسها الدّول الغربية بما فيها روسيا كواقع أنتروبولوجي محلي نابع من الذَّات كشرّ لا مفرَّ منه. لذلك نتساءل ما الَّذي تخفيه هده الحروب الدَّمويَّة وهذا الدَّمار والخراب؟ كيف يمكننا اكتشاف ومعرفة حقيقة ما يجري؟ هل هناك إمكانيّة أخرى لرؤية واقع الاحداث؟ وما هو التَّراكم المعرفيّ الفكريّ الثَّقافيّ الَّذي يتيح ذلك؟

أوّلا العمل على تغيير المنظور= تفكيك البديهيات للتّفكير بشكل مختلف

صحيح أنَّ واقع الأحداث في الكثير من البلدان العربيّة والاسلاميّة وصل إلى مستوى مرعب ومرهب إلى أبعد الحدود، فالمجازر صارت صناعة يوميّة للاستهلاك الاعلاميّ والسّياسيّ قصد توجيه الاحداث في مسارات محدَّدة بما يخدم أهداف مثلث الموت الغرب الأوروبيّ الأمريكيّ والرُّوسيّ والكيان الصهيونيّ كالتَّغطية على التَّحوُّلات الاجتماعيّة والاقتصاديَّة الَّتي تعتمل في داخل هذا المثلث، وهي تحوّلات أثَّرت بشكل سلبيّ على حياة مواطني هذه الدُّول بفعل الهجمة الشَّرسة للنيولبيراليّة. لهذا برزت الحاجة إلى فزَّاعة الفاشية اليمينيّة محليًّا والإرهاب.

وأيضا السيطرة على الادراك بما يتجاوز التحكم في الوعي بجعل شعوبهم تقتنع بشرعية الحرب التي تمارسها جيوشهم ضد الإرهاب حماية للعالم الغربي الحر والديمقراطي. وان ما يحدث من قتل يومي للشعب الاعزل من قبل قوى الاستبداد والإرهاب المحلي والاقليمي والدولي مسألة عادية لا تتطلب أي تضامن او تعاطف انساني، بل هي طبيعية متأصلة في الانسان العربي المسلم. كما تعمل على تصويرنا على أننا عبارة عن همج لا تربطنا بمفهوم الانسان اية صلة أي اننا مجرد مسخ بشري مسكون بشهوة السلطة و بهواجس جز الرقاب وسفك الدماء. لذلك تكون المادة الاعلامية الاثيرة عندهم هي قطع الرؤوس، اما عدد القتلى تحت الانقاض وفوق الانقاض وفي المجازر المروعة فلا تثير ادنى اهتمام عندهم. وفي الجانب الاخر من السيطرة على الادراك لدى شعوبنا هو خلق حالة من الحزن والاحباط واليأس والانكفاء على الذات بشكل عدواني يغلي في الاعماق بما يشبه الرغبة في الانسحاب من العالم او التعطش للموت في هوامات تقديم النفس قربانا في سبيل الشهادة بالسقوط في ايدي صناع الموت برا او بحرا.

وصحيح ايضا بان مثلث الموت هذا يستعمل المقاربات العلمية والعقلانية السياسية والاعلامية والديبلوماسية المدروسة والمفكر فيها جيدا بصورة شاملة في تعامله مع دينامية الاحداث الجارية في بلداننا، لذلك تراه يتصرف عن معرفة ودراية بخبايا التفكير الاستراتيجي بأن الالية المضمونة النتائج لتفكيك اي مجتمع هي استغلال الانقسامات الثقافية والاثنية والدينية المذهبية كاختلافات سوسيولوجية يعرفها اي مجتمع، اي تحويل هدا التنوع والتعدد والاختلاف كثراء اجتماعي تاريخي و كعوامل للتقدم الى حروب طائفية. هكذا تفلح الاثروبولوجية الكولونيالية في توريط قوى الإرهاب العرقي الاثني او الطائفي الديني في نوع من الانتحار الذاتي للمجتمع، بتفتيته وجعله سهلا في متناول أي احتلال او مما يجعل التدخل الاجنبي مطلوبا ومشروعا في سياق صراع التفكك الذاتي العنيف والدموي الذي يشهده المجتمع بأكمله. 

لكن عندما ينفجر المجتمع بهذا الشكل مثلما هو الامر الان في العراق وسوريا واليمن ما الذي يتبقى فعله بالنسبة للقوى الحية؟

ان تعتبر حالة التغيير المنشودة ضرورة موضوعية تتطلبها اللحظة التاريخية في سيرورتها الراهنة والمستقبلية، وان تعرف ايضا بان كلفة التغيير باهضة الثمن بالمقارنة مع كلفة الحماية التي كان التسلط الاستبدادي يؤدي خدماتها، وتبتعد ما امكن عن التربة الايديولوجية للتسلط السياسي والديني ضمانا لعدم السقوط في احكامهما التبخيسية لقدرات ومؤهلات وفاعلية الشعوب، ليس فقط في عيش القيم الانسانية، بل ايضا في ابتكار وابداع انماط حياة وجودية جديدة، واساليب في التفكير لا تستغني عن التنوع والتعدد والاختلاف كانفتاح كوني. وبالتالي تغيير مفهوم المعركة بما يتجاوز التفكير التقليدي الضيق الدي يحصر الانتصار على الارض متجاهلا استغلالا اوسع للأشكال السياسية والفكرية و الاعلامية محليا وعالميا. وفي هدا السياق نستغرب عدم ابداع الجاليات اي الفاعلين او القوى الديمقراطية السورية التي تعيش في الغرب لأشكال نضالية سياسية مدنية محرجة للمؤسسات الرسمية الحقوقية والانسانية او الدولية بما في ذلك محاكم الجرائم ضد الانسانية. فنجاح استراتيحية سياسية اعلامية في هذا الشأن يعتبر مكسبا ثمينا لربح المعركة خاصة في هذا الظرف الدقيق من تشديد الخناق على مصير الشعب والوطن. 

اولا بالوعي بخطورة الانتقاء السياسي للتراث العربي الاسلامي وللفكر الحديث والمعاصر التي يقوم بها مثلث الموت بالتحالف مع الاستبداد المحلي على اننا مجرد قبائل وطوائف مجنونة بعشق الفتن والحروب وبالانغلاق الديني الى حد الهلوسة والقهر الوسواسي. حيث يتم افقار زاوية الرؤية من كل الصراعات الاجتماعية الاقتصادية السياسية الدنيوية، كما يتم التعتيم على مجهودات الأنسنة في الفكر العربي القديم والحديث والمعاصر بهدف اختزال الرؤية في سقف الصراع الديني بثنائياته النمطية بما يسمح بسيطرة الفهم والتأويل والتفسير المتخلف للدين كخلفية والية لإدارة الصراع والتحكم في مصير الشعوب. هكذا يتم نفي المجهودات الجبارة التي انجزها الكثير من العلماء و المفكرين كحسين مروة ومحمد اركون على مستوى نشأة مستأنفة للأنسنة في الفكر العربي الى جانب الحداثة الفكرية والسياسية التي خاض صراعها الكثير من المفكرين والمثقفين العرب ندكر على سبيل المثال صادق العظم و عبد الله العروي، عزيز العظمة، هشام شرابي، محمد عابد الجابري، سميرأمين، نصر حامد ابو زيد، جورج طرابيشي و فاطمة المرنيسي...

كما تمَّ استبعاد فكر النَّهضة بجرأته في خوض الصّراع السّياسيّ الاجتماعيّ الفكريّ من منطلقات أسئلة الحياة في التّقدم والتَّطور وتجاوز التَّخلُّف وقرون الانحطاط. مع وصم بالسّوء كلّ الأقلام الَّتي أنجزت هذا المشروع الكبير بل عملت على إقصائها وتكفيرها.

ثانيا الوعي بان هذه الرؤية الاختزالية الدينية التي تجعلنا مجرد كائنات تراثية دينية بطريقة تصلبية اورتودوكسية و التي نتبناها كذات وهوية حضارية ليست من انتاجنا رغم ما يحتضنه تراثنا من شر و ما تمثله الكثير من الكتابات العربية الاسلامية في هذا الشأن، بل هي ردود فعل ازاء ما تمارسه الانتروبولوجية الكولونيالية من ممارسات ايديولوجية سياسية تستهدف بناء التوسط الايديولوجي الضامن لمصالحها في السيطرة والهيمنة انطلاقا من مقولة الذات الاصيلة الخصوصية المنتفخة بأمجاد المتخيل الاسطوري في السيطرة على الواقع. يمكن القول وإن كان الامر يحتاج الى سرد معطيات وضعية بما يسمح بتحليل أعمق واكثر وضوحا ان ما نسميه اليوم ثوابتنا هويتنا اسلامنا في سياق هدا الصراع الدي تخوضه قوى الاستبداد والإرهاب لا يمثل المعتقد والدين الاسلامي في شيء كتدين مارسته الشعوب ولا تزال عبر التاريخ. بمعنى ان ذلك الشر الكامن في داخلنا هو شبيه بالشر الدي عرفته كل الديانات بمختلف اشكالها ومضامينها، اي انه وليد شروط تاريخية مرت بها كل المجتمعات. لا نحاول تبرير او تبيض صفحتنا بقدر ما نتمسك بالمنهجية النقدية التاريخية ليس في تصفية الحساب مع الماضي فقط، بل ايضا في تفكيك الاستثمار السياسي الكولونيالي لتراث وتاريخ الشعوب.

ثالثا بناء على ما سبق يمكن القول بان هده الرؤية الدينية الاختزالية التي نمارسها بنوع من الفيض الايماني الكاذب في اللباس والالفاظ والحركات والسكنات...و التي تمارسها الانتروبولوجية الكولونيالية وهي تحاول ان تجعلها مسيطرة اعلاميا وسياسيا و أكاديميا، قامعة لكل ابعاد وجودنا الحضاري والسياسي و الاجتماعي. بل وتعمل على تهميش كل التيارات الفكرية والسياسية الواعية حقيقة بخطورة المرحلة التاريخية وما تتطلبه من نهوض ونضال سياسي واقتدار معرفي وتمكن علمي. قلت هده الرؤية الاختزالية بعيدة عن المعتقد الديني فهي شكل سياسي لاحتضان الإرهاب الديني تدريبا وتمويلا وتسليحا باعتباره الاداة الايديولوجية السياسية لتفكيك الشعوب وهدم الاوطان وتأبيد السيطرة والهيمنة الاجنبية. هذه الرؤية الاختزالية مارستها دول الاستبداد القروسطي في المنطقة ضد كل الحركات والتيارات الفكرية والسياسية المعارضة، خاصة منها القومية واليسارية بمختلف خلفياتها الايديولوجية، كما مارستها بالتحالف مع الغرب في سياق الحرب الباردة خاصة في افغانستان.

ثانيا تراكم الفكر النَّقدي في مواجهة تحالف الإرهاب والأنثروبولوجيا الاستعماريَّة

رغم قوَّة السَّيطرة والهيمنة الَّتي يمارسها مثلث الموت لصناعة التَّوسط الإيديولوجي للقهر والإذعان من خلال الشَّكل السّياسي للوعي الدّّيني المتخلف بما يخدم تحالفه مع الاستبداد المحليّ، ورغم التَّعتيم الإعلاميّ والسّياسيّ، فلسنا وحدنا في الميدان بل هناك تراكم كبير للفكر النَّقديّ منذ عصر النَّهضة الَّذي حاول أن يبلور إجابات علميّة للأسئلة الَّتي تطرحها البنيات السّياسيَّة والاجتماعيَّة والاقتصاديَّة والثَّقافيَّة كتحدّيات وازنة لربح معركة الاستقلال الوطنيّ الحقيقيّ من خلال التَّقدّم التكنولوجيّ العلميّ والتَّحديث الاجتماعيّ الاقتصاديّ والحداثة الفكريَّة والسّياسيَّة.

فمجتمعاتنا عبر تاريخها الحديث والمعاصر لم تكن لتقبل بمنطق الهزيمة والانهيار الشَّامل، بل غالبا ما كانت إزاء كلّ المحن والخيبات والهزائم ترتفع أصوات العلماء والمفكّرين والأدباء رافضة الاستسلام، وهي تعمّق أسئلة الرَّفض والشَّك والنَّقد الجذريّ، حيث سرعان ما تبرز إنتاجات فكريّة وسياسيَّة وإبداعيَّة تحاول الفهم والوعي والتَّثقيف والتَّغيير. لعلَّنا نتذكَّر كتابات جلال صادق العظم وإلياس مرقص وياسين الحافظ... إلى جانب الوعي اليساريّ السّياسيّ الفكريّ والتَّنظيمي الَّذي تبلور من خلال إعادة النَّظر في الخلفيات المعرفيَّة الإيديولوجيَّة من أجل صياغة أكثر علميّة للأسئلة الَّتي يطرحها الواقع الحيّ في سيرورته التَّاريخيَّة. هكذا كان يتمُّ الرَّد على كلّ هزيمة بالكثير من تشاؤم العقل النَّقديّ وتفاؤل الإرادة بحثا عن الأسباب الحقيقيّة للنُّكوص والخيبات والانكسارات.

أمّا سطوة السّياسي على الدّين من خلال الشّكل السّياسي للوعي الطَّائفي الدّيني ما كان ليسيطر إلّا من خلال الاستبداد المحليّ المفتقد للشَّرعيَّة السّياسيَّة الاجتماعيَّة، بالإضافة إلى تحالفه مع الهيمنة الغربية. فقد برز هذا التّقاطع المصلحيّ حتَّى على المستوى الفكريّ بين الفكر الدّيني الانغلاقي والمنهجيات الفيلولوجيّة الاستشراقيَّة. وقد نبَّه محمد أركون في مشروعه النَّقدي لتجديد الأنسنة في الفكر العربي عن خطورة المقاربة الاستشراقيّة الَّتي كانت تدعم وتعزّز المتخيّل الأسطوري في الفكر الدّينيّ الاسلاميّ خدمة للأنتروبولوجيّة الكولونياليّة، متستّرة وراء الحياد المنهجيّ الأخلاقيّ الكاذب في احترام معتقدات الآخرين. لكن ممارسة المنهجيّة الاستشراقيّة كانت تخفي خوفها من تحرّر الوعي العربيّ الاسلاميّ من ثقل أعباء الجهل المقدَّس، من خلال تطبيق النَّقد التَّاريخي ومختلف منهجيات العلوم الانسانيَّة والاجتماعيَّة...

وهذا التَّراكم الفكريّ النَّقديّ الحداثيّ حاضر بقوَّة داخل مجتمعاتنا من خلال مجموعة كبيرة من الأقلام الَّتي بلورت أعمال ومشاريع فكريّة وسياسيَّة كان لها ولايزال فعل وصدى إيجابي على مستوى التَّثقيف والتَّنوير والوعي، وهي وحدها القادرة دون الرُّؤية الاختزاليّة ذات الأقنعة الدّينيّة على فضح التَّحالف بين النيوليبراليّة والإرهاب بأقنعته المتعدّدة الدّيني المسيحيّ أو الاسلاميّ واليهودي، أو من خلال قناع الفاشيّة لليمين المتطرّف، ولنا مثلا في كتابات سمير أمين ما يكفي لفهم أسس خلفيات هذا التَّحالف وما يربطه من أهداف مشتركة. أمّا على مستوى الحروب الأهليّة الَّتي تعيشها بعض مجتمعاتنا وتبقى الأخرى مهدَّدة في أيَّة لحظة بانفجار الإثنيّة والطَّائفيّة الدّينيَّة المذهبيّة فلا يمكن فهمها من خلال المكوّنات السوسيولوجيَّة التَّاريخيَّة كحروب عرقيّة أو دينيّة طائفيّة كما يوهمنا بذلك تحالف الإرهاب مع مثلث الموت أي باعتبارنا مجرّد قبائل وطوائف إثنيّة مذهبيّة مسكونة بالتَّعصب والهويات القاتلة، بل لنا في كتابات مهدي عامل ما يفضح الشّكل السّياسي لهذه الحروب البعيدة كليًّا عن المعتقد الدّينيّ و إن كانت تبدو على السَّطح كذلك لأنَّ الآلية السّياسيَّة والأكاديميّة والإعلاميّة الغربية تشتغل في هذا الاتجاه الإرهابي والفاشي كشل سياسيّ للهيمنة والتَّحكُّم وإدارة الأزمات المركَّبة الَّتي تعيشها بلدانها سياسيًّا واقتصاديًّا واجتماعيًّا. إلاَّ أنَّ هذا الشّكل السّياسيّ من الإرهاب والفاشيّة وزرع الرّعب في أوطانها وداخل مجتمعاتنا ليس إلَّا خيارا مؤقتا دفاعي مهدّد مستقبلا بالسُّقوط لأن صيرورة التّحولات تهدّد توازنات السّوق العالميَّة ممَّا قد يخلف الكثير من التَّداعيات كتفكّك منطقة الأورو...

إنَّنا مجتمعات دنيويّة تحركنا بنيات اجتماعيَّة اقتصاديَّة سياسيَّة ولنا تراكم فكريّ نقديّ طموح يعبّر عن تطلّعات شعوبنا من أجل الحريَّة والكرامة والمساوة والدّيمقراطيَّة الَّتي تؤسّسها التَّحوّلات الاجتماعيّة الثَّقافيَّة ولا يمكن أن يختزل وجودنا في الانحطاط والتَّخلّف والانغلاق الدّينيّ والحروب الإثنيّة والمذهبيّة الطَّائفيَّة هذه مجرَّد أدوات للشَّكل السّياسيّ الَّذي يستهدف مناعة شعوبنا قصد تدمير مناعتها الذَّاتيَّة من خلال الإرهاب والحروب الطَّائفيَّة.

المصدر: http://alawan.org/article15159.html

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك