الإسلام والإصلاح والخيارات الأُخرى

الدكتور رضوان السيد

 

فلنبدأ  في المسألة من الآخِر. كانت الأُطروحة الاستطلاعية التي أصررتُ عليها في السنوات الثلاث الأخيرة في الكثير من الدراسات والأبحاث، أنّ الأنظمة الجمهورية العربية والإسلامية، مدعومةً بالسياسات الأميركية في حقبة الهيمنة- هي التي أدَّت إلى تفاقم ظواهر الإسلام السياسي الجهادية والحزبية. وبالتالي فإنّ انهيار منظومة الديكتاتوريات القاتلة هذه، ستؤدّي إلى خفوت صوت وممارسات الجهاديين والحزبيين، بالتدريج، والجهاديين أولاً، ثم التنظيمات الحزبية. وإذا كانت هناك استمراريةٌ لبعض الحزبيات بسبب صلابة تنظيماتها وانتشارها على مدى عدة عقود، فلن تزيد عن صلابة واستمرار أحزاب المسيحيين الديمقراطيين في أوروبا الغربية بعد الحرب العالمية الثانية.

 

هل صدق هذا التوقُّع أو الاستطلاع في ضوء أحداث وتطورات السنتين الأخيرتين؟ سيقول كثيرون إنّ هذا التوقُّع ما كان صحيحاً ولا دقيقاً، بدليل استمرار الجهاديات من جهة، ووصول أحزاب الإسلام السياسي إلى السلطة أو ما يقاربُها في عدة بلدانٍ أبرزُها مصر وتونس. لكنني ما أزال على اقتناعي بأنّ الظاهرتين الجهادية والحزبية (وأصلُهُما واحد) هما إلى خفوتٍ وتداعٍ، وليس بسبب الفشل الذريع في إدارة الشأن العام خلال فترةٍ قياسية فقط، بل ولسببين آخَرين، أولُهُما انخراطُ الأجيال الشابّة كلّها في عمليات التغيير. وثانيهما إباءُ الجمهور وتمردُهُ على العنف والضغوط القاسية التي مورسَتْ وتُمارَسُ على الاستقرار والأمن الاجتماعي، ومواقع المجتمعات والدول في الإقليم والعالم. إنما يكونُ علينا أن نعترف بأنّ  الإسلام الإحيائيَّ هذا وفي جوانبه الشعائرية والأخلاقية والسياسية، أظهر صلابةً واستمراراً لدى قطاعات واسعة من الجمهور، ومن نُخَب الطبقة الوسطى الثقافية والاقتصادية والاجتماعية، كما أظهر قدرةً على التواصُل والتهادُن مع الخارج الإقليمي والعالمي، فاقت قدراتِه بكثيرٍ على المهادنة وطمأنة الفئات الاجتماعية الداخلية القلقة من السطوة الحزبية باسم الدين، وتحريض فئات الجمهور بعضِها على بعض. ولذا يكون علينا الدخول في التفصيل بعض الشيئ بشأن ظاهرة الإحيائية الإسلامية، لجهة تكوُّنها وصعودها، وتحوُّلِها وتحويلها الإسلام إلى دوغما لممارسة السلطة من خلالها. على أنّ نتحدث خلال ذلك وبعده عن العواقب والآثار، والإمكانيات والخيارات الأُخرى.

 

I

نحن نعلمُ من أدبيات وفقهيات قرنٍ ونصف القرن أنّ الاستعمار الغربيَّ وتداعياته كان وراء الاستثارات الأعمق للمشاعر الدينية الإسلامية، ولتحريك الفتاوى الفقهية. فنحن نعرف أنه منذ الربع الأول من القرن التاسع عشر، بدأت تظهر بالهند الإسلامية الفتاوى التي ما عادت تعتبر الهند دارَ إسلام، وتدعو بالتالي إلى مجاهدة البريطانيين أو الهجرة عن الديار في حالة العجز أو الهزيمة. ولعواملَ وطنية وقومية ودينية بلغت الأحداث ذروتَها بتمرد العام  1857بالهند، والذي ذهب ضحيته عشراتُ الأُلوف، وجعل  ذلك الجهاد مستحيلاً، ولذلك كثرت الفتاوى للخروج من دار الكفر إلى دار الإسلام في أفغانستان! وبعد هزيمة العام 1857 أيضاً نشِب صراعٌ عنيفٌ بين فقهاء المُسالمة، وفقهاء الهجرة. فقد ذهب السيد أحمد خان إلى تحريم الجهاد لأنه انتحار، ومن حقّ المسلمين الاستمرار في ديارهم المحتلة ما داموا يتمكنون من أداء فرائض دينهم، ويكون عليهم اجتراح سُبُل أُخرى للنضال من أجل الحرية والاستقلال. ثم إنّ هوية الدار ليست تابعةً لهوية السلطة أو الحاكم، بل لهوية السكّان. وبالوسع القول إنّ هذه الوقائع والنقاشات والتداعيات والآثار حدثت في كلّ مكانٍ غَلَب عليه المستعمرون. فبعد الهند مباشرةً حدث ذلك بالجزائر عندما غزاها الفرنسيون عام 1831. فقد طلب الأمير عبد القادر من سكان المدن والبلدات الهجرة باتجاه المغرب لأنّ الدار ما عادت دار إسلام. واستجلب لذلك فتاوى من فقهاء المالكية بالمغرب وتونس ومصر. واتصلت لديه الهجرة بالجهاد، فقد حشد شبان المهاجرين بتلمسان وعاد معهم لقتال الفرنسيين إلى أن انهزم  وأُسر عام 1847. وصدرت فتاوى بالهجرة في البوسنة في سبعينات القرن التاسع عشر عندما انهزم العثمانيون أمام الروس والنمساويين، واستولت النمسا على البوسنة. كما ازدهرت فتاوى الجهاد والهجرة بالسودان عند دخول البريطانيين إليه في ثمانينات القرن التاسع عشر. وقد قاتل السودانيون البريطانيين وهزموهم كما هو معروفٌ، لكنْ بعد مقتل محمد بن أحمد المهدي وهزيمة مجاهديه، بدأت فتاوى الهجرة بالصدور رغم صعوبة الأمر لأنّ مصر كانت محتلةً من جانب البريطانيين الذين دخلوا إلى السودان من جهتها، وما كان المسلمون مسيطرين بإثيوبيا، وكانت منطقةُ البحيرات تقع بالتدريج تحت السيطرتين الفرنسية والبريطانية. وإبّان ذلك الوقت، وبعد مناوشاتٍ استمرت قُرابة القرن، ظهرت فتاوى الهجرة في جاوة وسومطرة (إندونيسيا الحالية) في وجه الهولنديين. وعلينا أن لا ننسى الهجرات الكبيرة والكثيرة من آسيا الوسطى والقوقاز إلى أقطار العالم العثماني نتيجة تقدم السيطرة الروسية بتلك المناطق، والتي نجم عنها ميراث كبيرٌ من الفتاوى الداعية للقتال والهجرة معاً. وكانت أولى فتاوى الجهاد والهجرة في القرن العشرين، تلك الصادرة بمناسبة غزو  الإيطاليين لليبيا عام 1911. فقد  دعا السلطان العثماني للجهاد، ونشر السيد أحمد الشريف السنوسي زعيم السنوسية آنذاك فتاوى من علماء سائر الأقطار تدعو للجهاد وللهجرة من أجل التحشُّد للقتال. ومما يلقي ضوءًا على استمرار هذا النوع من التفكير والتصرف على نحوٍ ما إلى فترةٍ قريبةٍ فتوى الشيخ ناصر الدين الألباني في أواخر السبعينات بالهجرة من فلسطين، لأنها لم تَعُدْ دار إسلام بعد استيلاء الصهاينة عليها!

 

لقد ذكرتُ هذه النماذجَ والحالات، والتي تذكّر بأمورٍ مُماثلةٍ وفتاوى مماثلة صدرت خلال قرون ضياع صقلية والأندلس والحروب الصليبية بالمشرق. فهي نمطٌ في التفكير الفقهي له تقليدٌ عريق. بيد أنّ ثباتَه هذا رغم اختلاف الظروف، يدلُّ على جمودٍ مشهود. فقد كان هناك اختلافٌ بين الفقهاء في ماهية الدار وهويتها وعلى ماذا تُعَلَّقُ الهوية: على الحاكم أو  السكان أو الحفاظ على العهد الأول والحالة الأولى، أو  أخيراً على تطبيق أحكام الشريعة. وكان المشهور عن الفقهاء المالكية والحنابلة التشدد، بينما توسَّط الشافعية والأحناف. أمّا في الأزمنة الحديثة، فإنّ الأمر ما  عاد أمر اختلافاتٍ فقهية؛ بل هو تأزُّمٌ شاملٌ داخَلَ سائر المذاهب، وعانى منه الناسُ كثيراً. فالذين اتّبعوا الفتاوى بالهند، كانوا من الأحناف، وقد مضوا باتجاه أفغانستان، وما وصل منهم أحدٌ إلى هدفه، بل تخطّفتهم العصابات. والذين غادروا ديارهم بآسيا الوسطى حلّت محلَّهم شعوبٌ أُخرى. والذين تركوا ديارهم بليبيا جمعهم الطليان في معازل تشبه ما فعله النازيون باليهود والغجر فيما بعد!

 

ولا ينبغي الظنُّ هنا أنّ فتاوى الهجرة كانت السبيل الرئيسة لمواجهة الاستعمار، فقد قامت حركاتٌ وطنيةٌ هي التي أخرجت المستعمرين في النهاية وليس الجهاديات أو مغادرة الديار. بيد أنّ هذه الطريقة في التفكير  الانتحاري الذي يَفْطُرُ القلب، وقعت في أساس فشل تيارات الإصلاح الإسلامي، والتي كانت تريد أساليب أُخرى في مناضلة الغرب من أجل تَدارُكِ الانجراف في مجرى السيل الذي لا يمكن دفْعُه؛ بحسب تعبير خير الدين التونسي. ذلك أنّ الذهاب إلى أنّ الدار لم تَعُدْ دارَ إسلامٍ، هو سَحْبٌ لمشروعية العيش فيها على المسلمين المتدينين الذين يتبعون تلك الفتاوى. ويعني ذلك في بعض المذاهب استحلالَ استخدام العنف، كما يعني لدى البعض أيضاً عدم حِلّ إجراء العقود والمعاملات الضرورية لاستمرار العيش. وقد كافح الإصلاحيون المسلمون منذ الرُبع الأخير من القرن التاسع عشر للخروج من هذه الطريقة في التفكير، وفتح باب الاجتهاد، واعتبروا أنّ الدين ليس مهدَّداً من الخارج؛ بل هو مهدَّدٌ نتيجة الجمود في حركة التفكير، أمّا التهديد الأكبر فهو واقعٌ على الدول والمجتمعات، والتي ينبغي أن تمضي في سُبُل التقدم التي مضى فيها الغربيون لكي تنجوَ من العواصف الغربية الهائجة.

 

وما كانت الاستجابةُ لهذه الطريقة الجديدة في التفكير سريعة. وذلك لأنّ الحركة الاستعمارية تفاقمت في مطالع القرن العشرين. وجاءت الحرب العالمية الأولى بين الدول الاستعمارية، لتسقط بنتيجتها الدولةُ العثمانية، وهي آخِر الدول الإسلامية التي كانت داخلةً في النظام الدولي الحديث. فأَظهر الجزعُ الهائلُ الذي بدا على مثقفي المسلمين بمصر والهند والشام وجاوه وسومطرة وآسيا الوسطى نتيجة إلغاء مصطفى كمال للخلافة عام 1924، أنّ ذوي الذهنية الدينية دخلوا في حالة اليأس من إمكان استعادة (المشروعية) التي صارت الخلافةُ فجأةً عَلَماً عليها.

 

شكَّل إلغاء الخلافة إذن مرحلةً جديدةً في سياق الوعي المتأزّم الناجم عن السيطرة الاستعمارية على العوالم غير الأوروبية، ومنها العالم الإسلامي. ومسألة استعادة الشرعية الدينية والتاريخية والسياسية مسألةٌ خاصةٌ بذوي الذهنية الدينية من المسلمين. أما الميول الأُخرى في عوالم الثقافات الأسيوية والعربية فانطلقت باتجاه الثقافة الذاتية للدولة الوطنية الجديدة في حقبة ما بين الحربين. وعنى ذلك انتقالاً من إشكالية الإصلاح في السياق الأوروبي بغرض التقدم بالمعنى الغربي، إلى إشكالية الهوية والخصوصية. إشكالية النهضة الأولى هي التقدم، وإشكالية الإحياءRevivalism  هي صَونُ الهوية من التغريب والاستعمار الثقافي. وقد لاحظ تشارلز آدمز في كتابه: الإسلام والتجديد في مصر، 1933، أنّ مئات الجمعيات التربوية والخيرية والاجتماعية ظهرت عشية الحرب العالمية الأُولى في العشرينات والثلاثينات من القرن الماضي، ومن ضمنها جمعيات الشبان المسلمين، والإخوان المسلمين، وإحياء السنة، والجمعية الشرعية، والشبيبة الإسلامية في بلاد الشام. وقد اختلط في هذه الجمعيات والجماعات الديني بالقومي والوطني والمحلّي والخيري والاجتماعي. وبالتدريج وخلال فترةٍ قصيرةٍ انفصل الديني الإحيائي عن الوطني والقومي: فالحركات الوطنية والقومية انصرفت لاستعادة الشرعية من طريق الكفاح من أجل الاستقلال، وإقامة السلطات الوطنية- أما النزعة الإحيائية الإسلامية فقد انقسمت إلى قسمين: الإحيائية السلفية  التي استكانت إلى قيام الدولة السعودية الثالثة بقيادة الملك عبد العزيز آل سعود. والإحيائية الأصولية خارج المملكة العربية السعودية والتي انصرفت إلى بناء شرعية بديلة عبر الجمعيات التي تعتمد أسلوب البيعة للمرشد، بحيث صار "التنظيم" هو المحور أو  هو  الدائرة التي تعتصم بها الشرعية التي يراد بناؤها. فالثقافة الإحيائية الخاصة إنما انبنت من حول "التنظيم" وليس العكس. وخلال البناء الاعتقادي عبر عدة عقود كان مصدر ضعف أو قوة الاتجاه الجديد أمرين سلبيين إذا صحَّ التعبير: مصارعة الدولة الوطنية الجديدة والإفادة من تعثراتها، كما الإفادة من الاشتباك معها، ومصارعة الثقافة الغربية  التي كانت تُطبِقُ على العالم خلال الحرب الثانية وبعدها وصولاً للحرب الباردة واصطفافاتها. وخلال تلك الحقبة الحاسمة فيما بين الثلاثينات والستينات من القرن الماضي اكتملت مقولةُ النظام الكامل أو  الحاكمية والدولة الإسلامية وتطبيق الشريعة، وتمثّل ذلك كلُّهُ أو تمحور حول التنظيم بحيث صار هو الإسلام ذاتُه، والإخوان هم حزبُه، بفرعيه: الجهادي والحزبي ذي الأبعاد السمْتية والشعائرية وتقاليد المرشدية ومقتضياتها. وعندما سقطت تجربة الدولة الوطنية في سبعينات القرن الماضي، ما عاد هناك في الساحات العربية غير قطبين: الديكتاتوريات العسكرية القائمة على الأمن، والمعتمدة بالداخل على القمع، وفي الخارج على أحد قطبي الحرب الباردة، ومنذ الثمانينات على الولايات المتحدة وحلفائها ومعسكرِها الصاعد والمنتصر- والقطب الآخر الإسلامان الحزبي والجهادي، واللذان يتصديان للطغيان والاستبداد الداخلي، و الطاغوت الغربي، من أجل استعادة الشرعية عن طريق إقامة حكم الله في الأرض أو  استعادة الخلافة!

 

وهكذا وفي عودةٍ إلى تلخيص ما سبق أن أوجزتُهُ في التمهيد، لدينا خمسة أُمور إلى حين اندلاع حركات التغيير العربية: الإحيائية الإسلامية التي تطورت من جمعياتٍ للهوية إلى تنظيمات حزبية صلبة هدفُها استعادة الشرعية للمجتمع فالدولة، ثم للمجتمع من خلال الاستيلاء  على الدولة- واعتقادية الحاكمية أو النظام الإلهي الكامل الذي بُني من حول التنظيم- والشعبوية التي اكتسبها التنظيم العقائدي نتيجةً لفشل تجربة الدولة الوطنية- والازدهار الإخواني في الثمانينات وبعدها بسبب الصدام العقدي والجهادي مع الديكتاتوريات العربية والإسلامية  ومع النظام العالمي بشقيه. وقد أفادت التنظيمات السمْتية والحزبية والأُخرى الجهادية من بعضها، بحيث بدا الجهاديون إنقاذاً في فترة، وأهل التنظيم المستكين ظاهراً حلاًفي فترةٍ أُخرى- والأمر الخامس والدالّ، إنفجار السلفية الجديدة في السبعينات والثمانينات أيضاً باتجاه التشرذُم الجهادي، لتُضاف الحصيلةُ إلى حساب شعبوية التنظيم الإخواني أيضاً، لأنها تجنبت أعباء الصدام المسلَّح والانتكاسات مع الأنظمة من جهة، ومع النظام العالمي من جهةٍ ثانية. بحيث صار مقرراً منذ الثمانينات أنّ الحديث عن ترشيد الصحوة، وعن الوسطية الإسلامية، يصبح المُراد بهما تنظيمات الإخوان، فهم الصحوةُ الراشدة، وهم أهل الوسطية والاعتدال!

 

II

لستُ خائفاً على الدولة وإدارة الشأن العام بعد الثورات. فحركات التغيير ما أطلقها الجهاديون ولا الإخوان ولا السلفيون. بل أطلقتها الأجيال الجديدة من الشباب. وإذا كانت الموجةُ الأولى قد انكسرت تحت وطأة الضياع بين العسكر وشعبويات الإسلاميين؛ فإنّ الموجة الحاضرة وهي الثانية توشِكُ أن تعيد السوية والتصحيح إلى ملفّات الدولة الوطنية العربية التي تحطمت إنجازاتُها في السبعينات من القرن الماضي، لتصعد على أنقاضها الديكتاتوريات والأُصوليات على أنواعها. وما حدث في مصر وتونس واليمن وليبيا، يحدُثُ مثلُهُ منذ عامين ونصف في سورية، فالمدنياتُ والسلميات التحررية والتحريرية اجتمعت عليها الديكتاتوريات من النظام السوري وروسيا وإيران وحزب الله وأشياع إيران الآخرين، وأخيراً القاعدة ومتفرعاتها، والتي تجد نفسها اليوم أقرب إلى الأطراف الهاجمة على الثورة الشعبية. فالثورات العربية الحاصلة هي ثوراتٌ شعبيةٌ وقد انطلقت لأسباب تتعلق بتصحيح مسار الدولة  وإدارة الشأن العام. وإن لم تكف موجةٌ أو موجتان، فقد تكونُ هناك موجةٌ ثالثة.

 

إنما المخوفُ الآن وغداً هو الأخطارُ التي تتهدد الدين وذلك نتيجة عدة ظواهر وتداعيات. والظاهرةُ الأولى المرعبة هي التحويل المفاهيمي الذي استطاع الإحيائيون الإسلاميون إحداثه ضمن إسلام أهل السنة والجماعة، بإحلال الشريعة محلَّ الأمة، وإحلال التنظيم محلَّ العقيدة، واعتبار التنظيم مكلَّفاً بتزعُّم النظام لإعادة الشريعة والشرعية إلى الدولة والمجتمع. وبذلك فقد صار الموضوع الوهمي الثابت في أخلاد فئاتٍ واسعةٍ من العامة والمتعلِّمين المتدينين إنما هو إعادةُ الدين أو استكمالُ ما نقص منه نتيجة التغريب والأنظمة العلمانية. الله سبحانه وتعالى يقول لنا: { اليوم أكملْتُ لكم دينكم، وأتممتُ عليكم نعمتي، ورضيتُ لكم الإسلامَ دينا}، وهم يقولون لنا بل إنّ دينكم ناقصٌ أو إلى زوال، والتنظيم كفيلٌ بإعادته أو استعادته واستعادة الشرعية إذا استولى على النظام السياسي، وطهَّر من طريق التفرد والتمكين جهاز الدولة وانحرافات المجتمع!

 

والأَمْرُ الآخرُ المُهمُّ أنه بمقتضى هذه المقولة، أي أنّ مهمة الدولة الأساسية تطبيق الدين أو شريعته، يصبح الدين بيد المسيطرين في النظام السياسي. وقد كانت أكبر شكاوى تاريخنا الديني والسياسي هذا الأمر بالذات، أي وضع الدين بيد السلطة السياسية تستخدمُهُ كيف شاءت، وسواء أكانت ذات أيديولوجية دينية أو مدنية أو بين بين. فأيُّ جهةٍ تحصُلُ على شرعيةٍ باسم الدين، تصبح قوتها مطلقة، فتُفسِدُ الدين من جهة، وتفسد إدارة الشأن العام من جهةٍ أُخرى. لقد كان أقصى ما بلغته العلاقة بين مجتمعاتنا وسلطاتها بشأن إدارة الملفّ الديني- إذ إنّ إدارتَهُ هي حق المجتمع المسلم وواجبه- ما ذكره الماوردي  (- 450هـ) في مطلع كتابه: "الأحكام السلطانية والولايات الدينية" وفيه أنّ الإمامة موضوعةٌ لخلافة النبوة في حراسة الدين وسياسة الدنيا. والحراسةُ تعني الصَونَ من الاعتداء، ولا تعني الخوضَ في عقائده وعباداته. فالأَمْرُ أدنى إلى أن يكونَ بالصيغة المعاصرة صَوناً وضماناً للحريات الدينية لا أكثر. ونحن نجد شاهداً على ذلك في عهود الصلح والتعاقد بين الفاتحين المسلمين وأهل المدن والأمصار من المسيحيين، والتي كانت تتضمن صون الكنائس وحفظها، والحقّ في ممارسة المسيحيين واليهود لدينهم بدون بغيٍ ولا افتئات، لا لجهة العقائد ولا لجهة العبادات، وعودة إدارة الشأن الديني والاجتماعي لرجال دينهم وقضائهم الخاص. لكنْ حتى الماوردي كان متأثراً في ثنائيته (الحراسة والسياسة) بالنموذج الإيراني الساساني في علاقة الدولة بالدين. فبحسب عهد أردشير(228-241م) مؤسِّس الدولة الساسانية آخِر الدول الإيرانية قبل الإسلام أنّ الدين أساس، والدولة عماده. وأنّ الدين بالمُلْك يقوى، وأنّ المُلْك بالدين يبقى. وقد أسرف المفكرون المسلمون في اقتباس هذا العهد وتصوراته لعلائق الدين بالسلطان السياسي، وكان مقصدهم النصح للسلطان بالالتزام الديني، لأنّ في ذلك فائدةً لاستمرار سلطته. بيد أنّ الأمر تجاوز تلك النوايا إلى وضع الدين في خدمة السلطات، رغم الاختلاف الشاسع بين الحالتين. والدليل على ذلك أنّ الدين الزرادشتي زال بزوال الدولة الساسانية الراعية؛ بينما ما تأثر الإسلام بضعف الخلافة وزوالها. كان الشاهنشاه هو الكاهن الأكبر في الديانة المجوسية، وما عاد ممكناً أيام كسرى أنوشروان(528-578م) إقامة الشعائر الدينية بدون حضور ملك الملوك أو  إذنه. ولذا فقد صار وُجودُ الدين أو  مؤسستُهُ معلَّقاً على الدولة وسلطانها، ولذا يصبح مفهوماً ما جاء في العهد المنسوب لأردشير. ولا شيئ من ذلك كان وارداً في بداية الإسلام، ولا في تجربته الوسيطة. لكنّ إسلاميينا الأشاوس يريدون تحويل ديننا إلى مجوسيةٍ باعتباره ناقصاً أو مهدَّداً بالانعدام إن لم يستولوا هم على إدارة الشأن العام باسمه فيقوموا باستعادة "الشرعية" الذاهبة!

 

ثم كيف تستقيم مقولة الدولة المدنية، ما دامت مكلَّفةً بتطبيق الدين أو شريعته؟ سيقال: لكنّ الحاكم غير معصوم! ويمكن أن يُردَّ عليه: لكنّ الشريعة التي يزعم الحاكم تطبيقها معصومةٌ، فيصبح ذلك محلَّ نظرٍ لجهتين: لجهة التساوي في حقوق المواطنة أمام الدولة، ولجهة اكتساب رأس الدولة المتولّي للشأن الديني قوةً هائلةً بحيث يصعُبُ بعدها التفكير في تداوُل السلطة أو صناديق الاقتراع! وعندما أرادت الدولة العثمانية وهي دولةٌ إسلاميةٌ تجنُّب ظلم غير المسلمين، وتجنُّب التمييز بين فئات الأمة على أساس الدين، اصطنعت نظام المِلَل الذي أعطى غير المسلمين استقلاليةً واسعةً في شؤونهم الدينية والاجتماعية، استناداً إلى سوابقَ إسلامية تعودُ لعهد الصحابة! فإذا كانت الدولة العثمانية قد اعتبرت نفسَها دولة المسلمين، فاضطرّت إلى الإقرار للأقليات الدينية والإثنية بامتيازاتٍ معيَّنةٍ؛ فإنّ ذلك ما ارضى اليهود ولا المسيحيين ولا أبناء القوميات والإثنيات بمن في ذلك نُخَبٌ من العرب المسلمين السُنّة. وهذا على الرغم من أنّ العثمانيين تقدموا خطواتٍ واسعةً على طريق الدولة الوطنية بإصلاحات العام 1857 و1864 و1876. إنّ الدولة الوطنية والدولة الحديثة القائمة على المواطنة، لا يمكن أن تتوافق مع الحاكمية التي تريد تطبيق الشريعة. وقد قلنا مراراً إنّ هذه المقولة تخالف طبيعة الإسلام، وطبيعة اجتماعنا السياسي الوسيط والحديث: فلماذا نريد فرض هذه "الحتمية" الوهمية(= الحل الإسلامي) التي تضع الدين أو الشريعة في مواجهة الأمة، والحزب في مواجهة العروبة، والفئات الاجتماعية بعضها في وجه بعض؟! هناك من يقول إنّ الشريعة بالفعل غير مطبَّقة وهي تحتاج إلى تطبيق، وهذا خطلٌ كبير. لكنْ هناك من يقول إنّ النصَّ على الشريعة في الدستور أو الدساتير إنما هو من مقتضيات تأكيد الهوية. ولستُ أدري كيف ستتأثّر هوية الشعب المصري أو المغربي أو السوداني إذا لم يُنصّ عليها في الدستور؟ وقد كنت أرى أنّ ثقافة الهوية تصطنع أساليب وتنتج أفكاراً غير معقولة. لكنني وبعد ما رأيتُ ما حدث خلال الثورات العربية، أرى أنّ همَّ الإسلاميين في السلطة بحدّ ذاتها، أكبر من همِّههم في تأكيد الهوية بكثيرا! ولذا فالذي أراه أنّ مشروع الإسلاميين السياسي هو وهمٌ من الوهم، وهو تبريرٌ للوصول للسلطة عند أذكيائهم، وتسويغٌ للنضال والموت لدى عامتهم.وكما يمكن لهذه "الثقافة" أو هذا الوعي أن يشكّل عقبةً في وجه بناء الدولة الحديثة؛ فإنه مُضِرٌّ بالدرجة الأُولى بالدين في وحدته وسكينته والتفاف المجتمع من حوله.

 

ثم من أين أتى اعتبار النظام السياسي ضرورةً للدين أو  ركناً من أركانه؟ هذا الأمر موجودٌ لدى الشيعة الإسماعيلية والزيدية، ومستجد على نحو ما لدى الإثني عشرية، لكنه ليس موجوداً لدى أهل السنة والجماعة، وهم سوادُ المسلمين الأعظم. فعلماء الكلام المسلمون من السنة والمعتزلة، وفقهاء المذاهب الكبار جميعاً يعتبرون الإمامة أو رئاسة الدولة شأناً مصلحياً واجتهادياً وتدبيرياً ولا علاقة له بالتعبديات ولا بالعقائديات. وهم يقولون ذلك في الأبواب الأخيرة (أبواب الإمامة - والحدود والجنايات والجهاد والبغي) من كتب "علم الكلام" لتعليل ذكر الإمامة في كتب العقائد مع أنه لا علاقة لها بها، وهم يعلِّلون هذا الخُلْف بأنّ مقصودهم الدفاع عن تجربة الصحابة في إقامة الخلافة، والردّ على نظرية الإمامة المعصومة التي يعتبرها أنصارُها من أُصول الدين وأركانه. أما الفقهاء فيذكرون الإمامة في تلك الأبواب من كتبهم لبيان المجالات التي لها فيها صلاحيات داخلية وخارجية. أمّا في أُطروحة الحاكمية والنظام الكامل؛ فإنّ الشأن السياسي صار شأناً اعتقادياً، ويمكن أن يُحكم على مَنْ لا يقول به بالكفر أو بما هو أسوأ في نظر الإسلاميين أي الاتهام بالعلمانية، أو القول بالفصل بين الدين والدولة!

 

لكنْ وبدون تهويل، لقد كان هناك دائماً تداخُلٌ بين الدين والدولة في التجربة الإسلامية الوسيطة. ولذلك تأثر المسلمون كثيراً بإلغاء الخلافة. لكنّ الأُطروحة القائلة إنّ الإسلام دينٌ  ودنيا ومصحفٌ وسيف، هي أُطروحة الشيخ حسن البنا. وبها وباجتهادات عبد القادر عودة في الأربعينات، والاستظهارات الأُخرى للمودودي، بدأ تبلوُرُ المقولة التي أفضت إلى الحاكمية والنظام الإلهي الكامل. وقد لعبت ظروف العقائديات في الحرب الباردة دورَها في هذا الشأن، وهذا معنى قول الشيخ يوسف القرضاوي في مطلع السبعينات: إذا كان الحلُّ الاشتراكي حتمياً، وكذلك الحلّ الرأسمالي لدى مُناصريه، فالأَولى أن يكونَ دينُ الله حلاًّ تحت: شعار حتمية الحلّ الإسلامي، أو الإسلام هو الحلّ!

 

لقد عرفت حقبة الحرب الباردة جملةً من العقائديات والحتميات. بيد أنّ العقائدية أو الحتمية التي سادت بين الشبان والنُخَب العسكرية العربية في بلادنا كانت الحتمية التاريخية المتعلقة بالصراع الطبقي، وحرب الشعب الطويلة الأمد. وقد كان قسمٌ من هذه العقائدية ناجماً عن الاقتناع، و القسم الآخر ناجم عن تحالف الأنظمة العسكرية والأمنية مع الاتحاد السوفياتي في الحرب الباردة. فبعد أوساط الستينات بدت الأجواء في منتهى القهر  والاستفزاز. فعُصَبُ الضباط في سورية والعراق والسودان والجزائر وموريتانيا وليبيا تصل إلى السلطة بالانقلاب، وتعلن نفسها "طلائع ثورية"، وتقول بالحتمية التاريخية لانتصارها المدوّي باعتبارها أقليات واعية تريد النهوض بالعامة، وإنقاذها من سيطرة البورجوازيات العميلة للاستعمار أو للدين التقليدي. وفي ذلك الوقت كان الإسلاميون قد أوشكوا على إكمال القطيعة مع الدولة الوطنية، فبدت لهم مركسةُ  الضباط مبرراً جديداً للتمرد واللجوء إلى حتميةٍ مضادّةٍ هي الحتمية الإسلامية. ووقتها بدأ تفكير الدوائر الاستخبارية الغربية بهم في الحرب الثقافية التي داخلت الحرب الباردة. وعندما بدأ ظهور سلسلة الشيخ القرضاوي عن بيئات الحلّ الإسلامي وشبهاته وحتمياته (1972-1973)، كان كتاب الخميني عن الحكومة الإسلامية قد ظهر (1971)،وظهر في الوقت نفسه بحث إرنست غلنر عن  أمارات وإرهاصات الأُصولية الإسلامية (1973)، واستطلاع بريجنسكي الذي صار مستشاراً للأمن القومي أيام كارتر، عن إمكان استخدام الدين والحركات الإسلامية الصاعدة في الصراع مع الاتحاد السوفياتي.

 

إنّ لدينا في تجربتنا السياسية التاريخية والأُخرى المعاصرة، سلبياتٍ ومصائب كثيرة، ليس أقلّها الطغيان الفساد والعنف. بيد أنّ البلاءَ الأعظم الآخر هو الذي ابتلانا به الإحيائيون المسلمون في العقود الأخيرة، وأعني بذلك أُطروحة الدولة الدينية أو الإسلامية. والتي تُحيلُ الدولةَ ديناً أو مؤسَّسةً لخدمته، فيدخل الدين عملياً في خدمة هذا الفريق أو ذاك، سعياً لتخليده في السلطة مثلما فعل الحكام  العرب من طريق اعتلاء حتميتي القومية والاشتراكية. وقد انتهى الناس من تجربة الدولة الدينية المخيِّبة في العصور الوسطى. لكنّ التجربة تجددت أو تجددت محاولتها في نشأة الكيان الباكستاني، والآخر الإسرائيلي، وتجربة جمهورية إيران الإسلامية. فلننظر في هذه النماذج الثلاثة وما تمارسه كل تجربةٍ منها من سياسات بالداخل وتجاه الجوار والخارج. ولننظر هل جعل استتباع الدولة أو النظام رسمياً لدينٍ أو إمامٍ أو مرشدٍ الدولةَ المعنية أكثر إنسانيةً أو عدالةً أو محافظةً على حقوق وأرواح مواطنيها وأهل  جوارها ورُصفائها في الدين والثقافة والإنسانية؟!

 

قلنا إنّ التداخُل بين الشأنين الديني والسياسي كان حاصلاً في التجربة الوسيطة وبعض الحديثة. بيد أنّ أحداً ما اعتبر إدارة الشأن العامّ أمراً دينياً، وإلاّ فكيف يكون أساس الإمامة الاختيار من الناس  إذا كانت شأناً دينياً؟! وعندما قال الماوردي(- 450هـ) إنّ أصل الإمامة العقل والنقل أو العقل والسمْع معاً، ردَّ عليه إمام الحرمين الجويني (-478هـ) بأنه لا علاقة للنقل والسمع بقيام السلطة، بل المرجع العقل والمصلحة والإجماع أو الاتّفاق. فمهمةُ الدين (العقائد والعبادات والأخلاق) مختلفةٌ عن مهمة الدولة، وهي مؤثّرةٌ فيها بالطبع من طريق الأخلاق والقيم التي تتدخلن في الأخلاد، وتؤثّر بقوةٍ في الاختيارات السياسية للأفراد، ولأسباب متعددة. وإذا أعطينا الدين أو القائمين عليه والمدّعين لمرجعيته مهماتٍ سياسيةً بحجة وجود أكثرية معينة أو مصالح معينة أو باعتقاد وجود نظام حكم إسلامي مأخوذ من القرآن أو موروث عن النبي (ص)؛ فإننا نُحدثُ انقساماتٍ اجتماعية، لأنّ الدين في حضن المجتمع وفي أساس وحدته وتضامُنه. يقول تشارلز تيلر في كتابه: الزمن العلماني، إنّ المجتمعات الدينية، وبخاصةٍ المجتمعات الإسلامية، هي مجتمعاتُ ثقةٍ وتضامُن. وإدخال الدين في الصراع السياسي يترتب عليه أمران: انقسامات اجتماعية للتنافس بين الأحزاب الدينية. والأمر الآخر: إدخال اليأس في نفوس الناس إذا لم ينجح البرنامجُ السياسيُّ ذو الخلفية الدينية. ثم إنّ الناس العقلاء لا يأنسون لفكرة استغلال الدين في العمل السياسي سواء بادعاء تطبيق قيم الدين وأحكامه، أو من أجل المُغالبة والانتصار. فقد تتبع الأستاذ Putnam السلوك الانتخابي لفئات الشباب الأميركي منذ السبعينات وحتى العام 2006، فوجد أنّ الحزب الجمهوري تقل شعبيته بين الشباب كلما أَسرف في استخدام الدين في عمله السياسي! لكنّ الأسوأ فيما وجده، أنّ تركيز الإنجيليين الجدد على إدخال الدين في بطن الدولة لمكاسب انتخابية، دفع شباناً أميركيين كثيرين إلى هجران الكنائس المسيَّسة أو هجران الدين كلّه!

 

III

كان عنوان هذه المحاضرة: الاسلام والإصلاح والخيارات الأُخرى. وقد أوضحتُ أنّ تيارات الصحوة هي التي تولدت عنها الجهاديات والإسلام السياسي. وما شكل هذان الاتجاهان إصلاحاً لا بالنظر إلى الماضي، أي أن يكونا بديلاً للديكتاتوريات؛ إذ هما ينتميان إلى نزوعٍ شموليٍّ باسم الدين، ويرميان إلى إنجاز مشروع دولة دينية، لا تتوافَقُ وطبائع الإسلام السني، كما لا تتوافقان وروحَ العصر، ومتطلبات المستقبل الآخر للعرب والمسلمين. وإذا كنا قد عانينا وما نزال من ديكتاتوريات الجمهوريات الوراثية؛ فإنّ الإسلام السياسيَّ فضلاً على أنه لا يحلُّ مشكلات الدولة، ولا يصنع إدارةً صالحةً للشأن العامّ؛ فإنه يخلُقُ مشكلةً مستعصيةً داخل الإسلام ذاته. ولذا لا بد من كلمةٍ عن أوضاع الإسلام السني، قبل الصيرورة إلى متابعة مسألة الإصلاح و الخيارات الأخرى المطروحة أو التي ينبغي أن نفكِّر فيها.

 

قال الأنثروبولوجي المعروف إرنست غلنر في كتابه: مجتمع مسلم (1977) إنّ الإسلام السني أو  إسلام الأرثوذكسية الأكثرية داخل الإسلام التاريخي، يختلف عن الأرثوذكسيات في الأديان الأُخرى في أنه أكثر بساطةً وانفتاحاً وقبولاً للتعدد من الأرثوذكسيات أو الكنائس الكبرى في ديانات التوحيد وغيرها. وذلك بمعنى أنّ الفِرَق والشِيَع المنشقة عن الأرثوذكسيات تميل في العادة أو تعلّل انشقاقاتها بالهروب من التشدد الأرثوذكسي في الاتجاه الرئيسي في الدين. بينما الأمر في الإسلام على خلاف ذلك. فالمنشقون أو المتمايزون عن الأرثوذكسية التقليدية يميلون للتشدد من الناحيتين الاعتقادية والشعائرية. وعلى هذا  القياس: أين هي الأرثوذكسية أو "الجماعة "بالمصطلح القديم في إسلام أهل السنة اليوم؟ منذ أواخر القرن التاسع عشر قامت حملة على "التقليد السني"، تقليد الأشعرية والمذاهب الفقهية، من جانب السلفيين، ومن جانب الإصلاحيين، وهم الذين تحالفوا على ضرب التقليد ونجحوا في ذلك إلى حدود بعيدة، ثم افترق الطرفان على نموذج الدولة الوطنية، فسقط الإصلاحيون بعد علي عبد الرازق في التقنيات والتفاصيل، وخرجت الإحيائية الإسلامية على التقليد السني المتهاوي بسهولة، باتجاه الانشقاق والالتفاف حول التنظيم، في حين استكان السلفيون مؤقتاً لحكم الكتاب والسنة في دولة عبد العزيز آل سعود، إلى أن انشقّوا أيضاً في سبعينات القرن العشرين باتجاه الجهاديات. ولذا كان هناك من قسّم الإسلام السني في ثمانينات القرن العشرين إلى ثلاثة تياراتٍ بل ثلاث فرق: الإحيائية الإخوانية، والإحيائية السلفية، والإحيائية الصوفية. وإذا كان ذلك صحيحاً أو ممكناً جرّاء متابعة المشهد الحافل بالمَوَران والانقسامات، فأين هي "الجماعة" السنية التي كانت قائمةً على تقليد عريق، ضربته الإصلاحيات وأسقطته الإحيائيات بأحزابها الدينية، أو بعبارة أُخرى: ما هي المشتركات أو القواسم الكبرى التي ينبغي الاستنادُ إليها لاجتراح ما سمّاه أريك هوبسباوم: التقليد المتجدد؟ لقد كانت هناك تقليدية تعددية على المستوى الديني تمثلت في المذاهب الفقهية الأربعة، وفي الصوفية الحاضرة في ثلاثةٍ منها. وقد كانت هناك أسبابٌ معقولة للحملة على التقليد الفقهي هذا من جانب الإصلاحيين، ومن جانب السلفيين. وقد أراد الطرفان فتح باب الاجتهاد من طريق العودة إلى "ما قبل التقليد"، وليس من طريق فتح التقليد الذي اعتبروه مغلقاً في كلّ المذاهب. وعبْر عدة عقودٍ من الحملات من اليمين واليسار، أمكن تحطيم التقليد بالفعل، لكنّ الإصلاحيين والسلفيين انقسموا – كما سبق القول- في اتجاهين: إتجاه الإفادة من التجربة الغربية في كل شيئٍ من جانب الإصلاحيين- واتجاه الوقوف عند نصوص الكتاب والسنة من جانب السلفيين. وهذا مفهومٌ بسبب طبيعة البرنامج السياسي الذي دعمه كلٌّ منهم. فالإصلاحيون دخلوا في مشروع الدولة الوطنية. وهو مشروعٌ غربيُّ التوجُّهات تعباً لمتغيرات الزمان والمكان والأفكار. أمّا السلفيون فقد دخلوا في مشروع الملك عبد العزيز آل سعود لإقامة دولة الكتاب والسنة. وعندما كان مشروع الدولة الوطنية ناجحاً بدا كأنما عمليات الإصلاح الإسلامي سوف تنجح أيضاً؛ وهذا رغم انجراحات الوعي العام الناجمة عن إلغاء الخلافة، وعن الأفكار الجريئة لعلي عبد الرازق وطه حسين. بيد أنّ المرحلة العسكرية التي دخلت فيها الدولة الوطنية، والتي اجتذبت العامة في بداياتها، تركت الإصلاحيين المسلمين في مصر والمشرق العربي أيتاماً. فهي لم تكتف باستبعادهم، بل عمدت للتدخل بالقوة في المؤسسات الدينية بداعي إصلاحها إصلاحاً جذرياً! وما كان ممكناً العودة للتقليد الذي كان قد تحطّم، فعمدت كثرةٌ منهم إلى الانكفاء أو التداخُل مع الإخوان والسلفيين. وتأخرت عمليات الانشقاق في المغرب العربي، لأنّ الحركة الوطنية هناك تداخَلَ فيها السلفي والإصلاحي والمدني دونما تناقضٍ أو  افتراقات، حتى فسدت الأجواء في السبعينات وما بعدها بسبب العسكرية الجزائرية، وقد انفجرت بعدها في سائر أنحاء المغرب بدءًا بالجزائر. وفي الوقت الذي كانت فيه الأصولية الإخوانية ومتفرعاتها تتفجر من شتى جوانبها، انفجرت السلفية أيضاً وصارت سلفياتٍ نشورية وجهادية. وبالطبع فإنّ الإصلاح الديني كان أول الضحايا في كل مكان.

 

فلنعُدْ إذن إلى حديث الإصلاح. لا يشكّل الإسلام السياسي اتجاهاً جدياً للإصلاح، لأنه انشقاقٌ في الأصل، لأنه يحمل مشروعاً مستحيلاً لإقامة دولة دينية، ولأنه يُفسِدُ الدين أيضاً بإدخاله في بطن الدولة الطاحن والمشرذِم. وهكذا نكون محتاجين إلى إصلاحٍ سياسيٍّ، وآخَرَ ديني. أما الإصلاحُ السياسيُّ فتتولاه تيارات الشباب المعنية بإصلاح إدارة الشأن العام،وإقامة الحكم الصالح. وأمّا الإصلاحُ الديني فيحتاج لجهدٍ كبير لأنه يتطلب وعياً فائقاً وهادئاً وعقلانياً لا تُتيحُهُ اللحظة الثائرةُ الراهنة. فقد جرى استنزاف المؤسسات الدينية العريقة في العقود الستة الماضية، ومن جانب الأنظمة، كما من جانب الإحيائيات الإسلامية الثائرة على تلك المؤسسات  والمرجعيات، بقدْر ثورانها على الديكتاتوريات! في هذا الصدد أصدرت مشيخة الأزهر وعبر عامٍ ونصفٍ بعد الثورات، أربع وثائق، تتعلق أُولاها بمستقبل نظام الحكم في مصر، والثانية بالتغيير في العالم العربي. والثالثة بالإبداع والحريات. والرابعة بقضية المرأة. وهي وثائق شاسعةُ الاهتمامات، وحظيت بدعم معظم التيارات الدينية والسياسية أو سكوتها. وتعتمد تلك الوثائق خطاً وسطاً في الإصلاح إذا صحَّ التعبير. فهي في أولاها تقول بالاستناد إلى مبادئ الشريعة وقواعدها أو كلياتها، وتعتبر أنّ تلك المبادئ تسمح بإقامة الدولة الديمقراطية العصرية التعددية المؤسَّسة على المواطنة. وهذا تفسيرٌ تقدميٌّ للإسلام، لا يحظى بالطبع باستحسان أو حماس الإحيائيين من أهل الإسلام السياسي. بيد أنّ الحكم على فعاليته ومستقبله ينبغي أن يستند إلى نقطتين: مدى القدرة على استحداث وعيٍ جديدٍ بالعلائق بين الدين والشأن السياسي، ومدى القدرة على إحياء التقليد السني وتطويره باتجاه استعادة المرجعية في الدين بالكفاءة والجدوى، وليس بالفرض من جهة السلطات أو من أحزاب الإسلام السياسي التي تريد السلطة ولا شيئ غير.

 

لقد كان المؤمَّل في وجه ثقافة الإحيائيات الخالطة لكل شيئٍ بكل شيئ، أن ينهض جيل العلماء الشباب بعمليات الإصلاح الديني، التي توقفت منذ خمسة عقود تحت ضغط الأنظمة، وضغوط الإسلاميين الحزبيين. لكنّ الواقع الآن يُشْعِرُ بأنّ تخليص الدين ووحدته من بطن الدولة ومطاحنها، ومن ممارسات الحزبيين والجهاديين، لن يحدث إلاّ من خلال عمليات الإصلاح السياسي؛ بمعنى أنّ الإصلاح السياسي إن تحقّق، هو الذي يسمحُ بقيام إصلاح ديني، تقودُهُ قوىً ويقوده علماء تحرروا تماماً من أوهام الإسلام السياسي في الاستيلاء على الدولة باسم الشريعة! لماذا نقول ذلك هنا والآن؟ نقول ذلك، لأنّ هناك فرقاً شاسعاً بين الإصلاح والنهوض. فما قام به الأزهر الشريف بعد الثورات وما يزالُ مهمٌّ جداً ولجهتين: إجتراح تفسير تقدمي للدين في علاقته بالهوية وإدارة الشأن العام، وحفظ تماسُك المؤسسة الدينية، والمجتمع المصري( إنجاز مؤسسة: بيت العائلة المصرية). بيد أنّ هذا الخيار الذي ما كان غيره ممكناً في هذه الظروف على ما أعتقد غير كافٍ وقد أبقى على الالتباس في كثيرٍ من الأُمور، ومن بينها علاقة الدين بالدولة، ومعنى مرجعية الأزهر الدينية والوطنية. وهذا الغموض الباقي، لا تُزيلُهُ بياناتٌ تتوخّى التوسط والتوافُق العام. بل إنه محتاجٌ إلى نهوضٍ فكريٍّ بعيد المدى لا تبدو  نخبته حاضرةً الآن. نحن محتاجون إلى القيام بحركةٍ نقديةٍ جادّةٍ لمسألة "تحويل المفاهيم" والتي مارسها الإسلاميون لأكثر من نصف قرن، فأوشكت أن تغير من طبيعة الدين، وأن تتسبب في انشقاقاتٍ اجتماعيةٍ ودينيةٍ عميقة. ذلك أنّ الالتباسات لا تقتصر على وضع الدين في خدمة الدولة أو  الدولة في خدمة الأحزاب الدينية للإسلام السياسي، بل إنها تشمل تغيير علائق الأفراد بدينهم صغاراً وكباراً. إذ كيف يمكن للسكينة التي يعرفها ديننا أن تتسلل إلى نفسية فتىً يقال له منذ صغره إنّ عليه لكي يكتمل دينه أن يعمل على إقامة حكم الله في الأرض، وليس من طريق الدعوة؛ بل من طريق نُصرة هذا الحزب أو ذاك، لكي تتكامل عباداته الطقسية مع التعبُّد لله بإقامة الدولة الإسلامية! لا بد من إعادة الاعتبار للإيمان الفردي، والحرية الفردية في فهم الدين وفي التعبد به. وهذه الثقة بالنفس والله، تصبح ذات مردود أخلاقي كبير، في المجتمع الذي استوت إدارة شأنه العام.

 

كلُّ الخيارات المعقولة للدولة والدين معاً في العالم العربي إذن تمرُّ اليوم عَبْرَ الخلاص من طغيان الأنظمة العسكرية الوراثية، ومن رُهاب الإسلام السياسي وأوهامِه، باتّجاه الإدارة الصالحة للشأن العام، واستعادة المؤسسات الدينية للمرجعية في الشأن الديني لإنجاز المهامّ التي بقيت لها، ولا يستطيع القيامَ به غيرها وهي: التقليد المتجدّد والمنفتح في فقه العيش، وفي العلاقة بالعالم- والتعليم الديني غير الحزبي وغير النصوصي الحرفي- والفتوى التي تعقل حاجات الناس، وتجترح المبادرات- والإرشاد العامّ.

 

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يأتي على الناس زمان يكون فيه المؤمن القابض على دينه كالقابض على الجمر". هذه هي رسالة "المقاصد" في أزمنة الرخاء والشدّة منذ قيامها في سبعينيات القرن التاسع عشر: تلتزم بهذا الدين، دين التسابق في الخيرات، وصنع السكينة والأمان للمجتمع والبلاد، لا يغيّر من سيرتها عدل عادلٍ ولا جَور جائر. "يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين". صدق الله العظيم.

ـــــــــــــــــــــــــــ

محاضرة ألقي موجز عنها بجمعية المقاصد الخيرية الإسلامية – كلية الدراسات الإسلامية في بيروت بتاريخ 5 تشرين الثاني 2013 في احتفال بدء العام الدراسي.

المصدر: http://www.ridwanalsayyid.com/ContentPage.aspx?id=2437#.VxfZlHErLIU

الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك