الإسلام في زمن الانشقاقات

الدكتور رضوان السيد

 

توفّي في مطالع شهر أغسطس (آب)عام 2015 الفقيه الشامي الكبير الشيخ وهبة الزحيلي. وقد ترك تراثاً اجتهادياً هائلاً في الفقه الشافعي، والفقه المقارن، وعلوم القرآن، والتفسير، والفتاوى، والشباب ومشكلات العصر، والإسلام والحريات. ولعلَّ أهمَّ نتاجاته إلى جانب أُطروحته المصرية والأزهرية في "آثار الحرب في الفقه الإسلامي" (1962) موسوعته الضخمة في ثماني مجلدات بعنوان:"الفقه الإسلامي وأدلته". وقد كان شأن كبار علماء التقليد الفقهي المنفتح بمصر والشام والمغرب، عميق الاقتناع بقدرات هذا الميراث العظيم الذي انفتح بالاجتهاد المطلق- كما كان يقول- على التلاؤم والتجدد إلى أقصى الحدود. وقد اعتبر دائماً أنّ الفقهاء الأفرادَ إلى جانب المجامع الفقهية، فيما بين الأربعينات والتسعينات من القرن الماضي، قدّموا صُوَراً رائعةً لما يمكن بلوغُهُ بأدوات أصول الفقه مُضافاً إليها علم مقاصد الشريعة الشاسع الآفاق؛ بحيث لا يجوز اتهامهم بالقصور في فهم المستجدات والتلاؤم معها، كما لا يمكن اتهامهم بعدم القدرة على التوقع والتحوط وسط عواصف الحداثة والتآمر الغربي على الإسلام. وعندما كنتُ أقولُ له على مدى العقدين الماضيين إننا لم نؤتَ فقط من الحداثة والتغرب، بل أُتينا أيضاً من جانب الأُصوليات بداخل الإسلام، والتي ترفض هذا التقليد كُلَّه، وتزعم العودة المباشرة للكتاب والسنة، وقد صارت حركاتٍ وأحزاباً تدّعي إرادة "استعادة الشرعية" للمجتمع والدولة بالقوة والعنف- ما كان يُنكر وجودَ مثل هذه الظواهر، لكنه كان يحيلُني بل ويُحيلُ بعض تلامذته إلى كتابه الكبير:" الفقه الإسلامي وأدلته"، ويقول: لقد طبع الكتابُ الضخم خمس مرات، وتُرجم رغم ضخامته إلى عدة لغاتٍ إسلامية؛ فكيف تقولون لي إنّ التقليد الفقهي فقد زخمهُ وجمهورَهُ؟ لماذا هذا الرواجُ إذن لكتب شيخنا محمد أبو زهرة وشيخنا عبد الوهاب خلاّف، وشيخنا علي حسب الله، وشيخنا محمد عبد الله دراز، وشيخنا محمود شلتوت؟! وفي العام 2009 وفي ندوةٍ فقهيةٍ بعُمان قال له أحدُ تلامذته القُدامى بكلية الشريعـة بجامعـة دمشـق: والله يـا شيخنا نحـن لا نـريد أن نجـادلك أو نقـلِّل مـن قيـمة ما قـدمه فقهـاء الاجتهاد الكبار من شيوخك وشيوخنا وأنت منهم، وإنما ماذا يمكن عمله مع هذا العنف الفظيع باسم الدين؟ ثم قُل لنا وبإنصاف: أيُّ الكتب كانت الأكثر رواجاً في العقود الماضية وليس في الشام فقط بل وفي مصر وبلدان الخليج: كتبكم أو "فقه السنة" للشيخ سيد سابق؟ وما دلالةُ ذلك على الوعي المتغير في أوساط الشبان والكهول؟ فلمّا رأيتُه قد تلبّث قليلاً  تدخلتُ في الحديث وقلتُ له إنّ  الراحل مالك بن نبي قال لي في مطالع السبعينات، وكان مقيماً وقتَها عندكم بالشام إنّ الإسلام يشهد بروتستانتيات جديدة احتجاجية وساخطة وصاخبة، وإنها توشكُ أن تلجأ للعنف، وهو يرى ضرورة مكافحة العنف في عقول الشباب وهم في الغالب ليسوا من طلاب العلوم الدينية. وقال الشيخ رحمه الله: بماذا كان الأستاذ مالك يُعلِّلُ ذلك؟ قلت إنه كان يقول إنّ هناك اختلالاً في فقه الدين، أدّى إلى اختلالٍ في فقه العيش! وما قبل الشيخ وهبة هذا التفسير وقال إنها طلاسم غربية، فقد تركنا رسولُ الله(ص) على الواضحة ليلُها كنهارها لا يضلُّ عنها إلاّ هالِك. فالاختلال في العيش يمكن أن يحصل لأسبابٍ سياسيةٍ واقتصادية واجتماعية، أمّا الاختلال في فقه الدين فمستحيل الحصول، ولذا فابحثوا عن اُصول الظاهرة المتشددة في اختلالات العيش التي داخلت حياة المسلمين للأسباب التي ذكرتُها، وهي التي تعلِّل أيضاً رواجَ كتاب " فقه السنة"، وفقه الجاهلية وأُمورأً أُخرى كثيرة. ثم وقعت الواقعة عام 2011 بسورية وبدولٍ عربيةٍ أُخرى، وعندما اشتدّ الاضطراب والعنف، ظهر الإسلامان السياسي والجهادي. وقد رأيتُ الشيخ الزُحيلي آخِر مرة عام 2013 وكان كأنما كبر عشرين عاماً وأكثر، وكان الشيخ الشهير الآخر محمد سعيد رمضان البوطي الذي وقف مع النظام بسورية إلى النهاية، قد قُتل في ظروفٍ غامضة. وقد هجر الشامَ أكثر علمائها هرباً من القتل من أحد الاطراف المتصارعة، بينما لزم الشيخ الزحيلي بيته بدمشق، ولزم حياديةً صارمة، وبادرتُه بالتعزية بالبوطي، فقال: ليتني متُّ قبل هذا، تعال يا رضوان وقل لي كيف كان مالك بن نبي يقول عن فقه الدين وفقه العيش، وعلاقة أحدهما بالآخر!

I

كيف ظهرت الفتاوى؟ لقد ظهرت إجابةً على مسائل محدَّدة في الحياة اليومية للناس، وما أكثرها. ولذلك فإنّ القديم منها كان يُسمَّى جوابات، ولدينا حتى اليوم فتاوى قديمة بهذا الاسم مثل جوابات جابر بن زيد، وجوابات قتادة. أمّا ما يتجاوز جزئيات الحياة اليومية فإنّ العلماء كانوا يسمُّونها مسألة أو رسالة. ولدينا أيضاً مؤلَّفات من القرن الثاني بهذا الإسم، وهي تعالجُ قضايا لها مساسٌ بالطبع بالحياة اليومية، لكنها تتطلب نوعاً من التقعيد الذي له علاقةٌ بأُصول الدين أو أُصول العيش أو مفاهيم قرآنية. وهذا النوع هو الذي سمّاه الإمام أبو حنيفة: الفقه الأكبر، وآثر آخرون تسميته بعلم الكلام كما هو معروف. الفتاوى في شؤون الحياة اليومية جرى جمعُها وترتيُبها على الأبواب في مرحلةٍ لاحقةٍ فظهرت كُتُبُ السُنَن، فكتُبُ الفقه العادية. ومن تلك الكتب الموطّأ للإمام مالك. بيد أنّ رسالة الإمام الشافعي شكّلت حداً فاصلاً  بمعنيين: التقعيد والتأصيل للفتوى أو للاستنباط وسأعود لذلك فيما بعد. والأمر الآخر الذي تغيّر طرائق عمل الفقهاء، بحيث بدا أنّ الفقه انفصل منهجياً عن علم الكلام. وأعني بذلك أنّ التوجهات الفقهية التي تحولت إلى مذاهب في القرنين الثالث والرابع للهجرة ما كان تلامذتُها يلجأون إلى كتب الأئمة، بل الى المختصرات التي كتبها تلامذتهم أو أهل الجيل الثالث والأجيال اللاحقة. مثل مختصر المُزَني تلميذ الشافعي ومختصر الطحاوي أو مختصر الكرخي لدى الأحناف، أو مختصر ابن أبي زيد لدى المالكية فمختصر خليل بن إسحاق - أو مختصر الخرقي لدى الحنابلة..الخ. والمختصرات تصير متوناً للتعليم المدرسي، كما تصبح معتمداً للفتوى. ثم يظهر فقيهٌ كبيرٌ في المدرسة فيكتب مؤلَّفاً اجتهادياً كبيراً لا يصير متناً، بل يأتي من يختصره ويحوّله إلى متنٍ ينجح أو لا ينجح، فيصبح متناً إن نجح، ويعتمد التعليم وتعتمد الفتوى عليه وهكذا. وعلى هذه الممارسة استقر التقليد. ولدينا أربعون شرحاً لمختصر المزني، كما لدينا مختصرات وشروح لكتب أبي إسحاق الشيرازي والغزالي ولدينا مئات الشروح والحواشي على مختصر خليل في الفقه المالكي. ويمكن قول الشيئ نفسه عن عمل فقهاء الزيدية والإباضية والإمامية طوال الحقبة الكلاسيكية. وليس في الفقه فقط؛ بل وفي أصول الفقه أيضاً: كتب كبرى إذن فمختصرات إذا اعتُمدت تتحول إلى متون ومصادر للفتوى، وقد تستمر جيلاً أو جيلين أو ثلاثة وتظل سائدةً أو يظهر إلى جانبها مختصر آخر أو تُهمل لصالح مختصرٍ ومتنٍ جديد، مثلما حصل أيضاً وأيضاً لكتب الغزالي ولكتب ابن رشد الجد ولكتب محمد بن الحسن الشيباني المسمّاة كتب ظاهر الرواية، والتي جُمعت ثم اختًصرت، واعتمد عليها التعليم والفتوى في المدرسة الحنفية في بيئاتٍ دون البيئات الأُخرى.

ولكي لا أُطيلَ أكثر من ذلك، أقول إنّ هذا التقليد اهتزَّ مرتين في عصور الإسلام الكلاسيكية: إهتزَّ بالمشرق لاهتزاز فقه العيش بضعف السلطة العباسية وتهدُّدها بالزوال في القرنين الخامس والسادس للهجرة- واهتزَّ فقه الدين عندما سقطت صقلية بأيدي النورمانديين وانفقدت من دار الإسلام. الحالة الأُولى نطالعُها في كتاب" غياث الأُمم" لإمام الحرمين الجُويني، الذي اقترح تغييراً في فهم علاقة الدين بالخلافة، أو يختلَّ أمر الإسلام. الدولةُ تسُوسُ الدنيا وتحرس  الدين. وما عادت الخلافةُ مستطيعةً سياسة الدنيا، ولا حراسة الدين. ولذا لا بد من تغيير نظامها، وإن لم يغيّر الفقهاء طرائقهم (وهم ما استطاعوا ذلك) فإنّ الدين مُعرَّضٌ للخطر.  وكانت الحالةُ الثانيةُ أخطَر، لأنها تعلقت بفقه الدين وليس فقه الدنيا. في الحالة الأولى انحلّت المشكلة بظهور سلطات قوية حمت الناس وحررتْهم من تسلط الصليبيين والمغول، وإذا سلمت الجماعةُ سَلِم الدين. أمّا في الحالة الثانية، حيث تآكلت دارُ الإسلام فبدأت أقطار الأندلس تتساقط بعد صقلّية؛ فإنّ الفقه كان عليه التصدّي للمفاهيم، ماهي ثوابتُ الدين التي لا يجوزُ  التنازُلُ عنها أو تجاهُلُها؟! وما مدى ارتباط الدين بانبساط سلطان دولة المسلمين أو انكماشها؟ وقتَها ظهر لدى المالكية مصطلح فقه النوازل، ومورس في القضايا الكبرى ثم الوسطى، وظهرت مسائل فقه الهجرة التي لم تكن ملائمةً في غالب الأحيان. إنما في الحالتين، أي حالة الاختلال بالمشرق، وحالة الاختلال بالغرب الإسلامي؛ فإنّ فقه الضرورة كان يطالب بأمرين: السلطة القوية ذات  الكفاية والشوكة، والربط الأَوثَق للفتوى بفقه الدين، وفقه الواقع. ولذلك أُعيد الاعتبارُ لتأسيس  الفتوى وهي من فقه الفروع في الأصل، على أصول الدين أو ثوابت الدين. ولذلك أيضاً وأيضاً وجدْنا لكلّ الذين ألَّفوا في الفتاوى والنوازل بعد القرن الخامس الهجري كتباً في أُصول الاعتقاد، ومن هؤلاء الشيرازي والجويني والنووي والعز بن عبد السلام وابن رشد الجد والقاضي عياض والمازَري.. وصولاً للونَشريسي؛ بل وصولاً لفتاوى الهجرة عند التسولي ومحمد عليش في القرنين التاسع عشر والعشرين.

II

ما هي ثوابتُ الدين، وما هي ثوابتُ فقه العيش التي تقتضيها أو ترتبطُ بها، وما هو واجبُنا نحن العلماء في مؤتمر الفتوى هذا، وفي الظروف الحاضرة، ما هو واجبنا إزاءَها؟ ثوابتُ الدين في اعتقاد المسلمين هي الوحدانية، وما يتصل بها بسببٍ وثيقٍ من عوالم الغيب والشهادة- والرسل والنبوات والكتب- والعباداتُ والمعاملاتُ بين الناس- واليومُ الآخِر. وقد أوضح لنا رسول الله صلواتُ الله وسلامُهُ عليه في خطبة حجة الوَداع الرابطَ بين الاعتقاد من جهة، وحياة جماعة المسلمين من جهةٍ ثانية، عندما أصرَّ على الحُرَمات الثلاث: حرمة الدم، وحرمة العِرض، وحرمة المال. لقد يئس الشيطانُ أن يُعبد بأرض العرب، وإنما يؤتى الناسُ، ويؤتى إيمانُهم بالاختلال في نظام الحُرمات أو نظام الحياة. وهذا هو الداءُ العياءُ الذي تُعاني منه الأمة، ويُعاني منه الدينُ اليوم. إنه التعرض للحُرُمات، والتعرض لحيوات الناس وكراماتهم وممتلكاتهم، وباسم ماذا، ليس بالبغي والطغيان وحسْب؛ بل وباسم الدين، أي بهدر الدم تكفيراً، والتعرض للكرامات والأعراض والأموال استحلالاً بهذه الذريعة الشيطانية. وهذا هو الاختلالُ في فقه الدين بعينه، وهو الذي أدّى إلى الاختلال في فقه العيش لدى هذه الجماعات، ويوشك إن استمرّ أن يُعرِّضَ جماعةَ المسلمين والإسلام لأخطارٍ كبرى.

ما هو واجبنا نحن أهل العلم والفتوى في هذه الظروف؟ وما هي مهماتُنا في شتّى الظروف؟ يقول الماوردي إنّ مهمات أهل العلم وأهل السلطة هي" صونُ الدين على أُصوله وأعرافه المستقرة". وقد كانت المهمات والصلاحيات واضحة. فالسلطات السياسية مهمتُها "حراسةُ الدين". والحراسة تعني صَون الحريات الدينية لسائر فئات المجتمع  على  اختلاف  الأديان والمذاهب في ثلاثة أمور: العقيدة، والعبادة، والتعليم على الأصول والأعراف المستقرة. وتكون مهمةُ أهل العلم والتقوى هي تحديدُ الأصول التي ينبغي صونُها، وليس من طريق السلطة، بل من طريق التعليم والفتوى ووحدة العقيدة والعبادة. وهذا معنى التعاوُن أو الانسجام بين المؤسسات الدينية والمؤسسات السياسية في التجربة التاريخية والحديثة لأمتنا. وقد كنا وما نزال نمارسُ المهام المتعلقة بنا من خلال أربع وسائل: القيام على العبادات شمولاً ووحدة، والقيام على التعليم الديني، والقيام بمهامّ الفتوى، والقيام بمهامّ ووجوه ونشاطات الإرشاد العام. وقد ميَّزتُ بين الفتوى والإرشاد، لأنّ الإرشاد أعمّ من الفتوى، ويُعنى بعرض الوجه الدَعَوي للإسلام بالداخل الاجتماعي، والوجه الحضاري والثقافي للإسلام تجاه الديانات والثقافات الأُخرى بالداخل وفي العالم. وهكذا يكون من الواضح أنّ مهمات الإرشاد أيضاً على أهميتها لا تتعلقُ بنا وحدنا، بل هي شأنُ وهمُّ كلّ مسلم. فيبقى بذلك أنّ لنا ثلاث مهمات أو واجبات نكاد ننفردُ بها، وهي العقائد والعبادات، والتعليم، والفتوى. وبالتوازي مع بروز الإنجاز في الأمور أو المهمات الثلاث، نصبح أقدر على النجاح أو الإقناع في قضايا ومسائل الإرشاد العام، في هذه الظروف القاسية على الإسلام والمسلمين، الذين اسودّت وجوههم في العالم وأُسيءَ إلى دينهم كثيراً جداً وسط النقائض الصارخة. فمن جهة نحن نكافح ضد ما يُسمَّى بالغزو الثقافي الغربي منذ مائة عام وأكثر قبل ظهور القاعدة، بينما يعود الآلاف من شباننا من أبناء الجاليات إلى الديار التي تركها آباؤهم وأجدادهم ليقيموا نظام الإسلام الذي يعلن أنّ همَّه مقاتلة العالم كلّه! ومن جهةٍ ثانيةٍ تزحف الملايين من الناس من مجتمعاتنا ودولنا باتجاه الغرب بكل وسيلة طلباً للأمن  والسلام والحرية والعيش الكريم، وهي أمورٌ أفتقدتْها في ديارها الاصلية منذ عقودٍ وعقود!

أنا أرى أنّ المهامَّ الثلاث (وحدة العقيدة والعبادة، والتعليم، والفتوى) والتي عهدت إلينا المجتمعات القيامَ بها منذ آمادٍ وآماد، واستجبنا ونستجيبُ لها بمقتضى قوله تعالى: { ولتكن منكم أمةٌ يدعون إلى الخير، ويأمرون بالمعروف وينهَون عن المنكر، وأولئك هم المفلحون) (آل عمران: 104)،هي مهماتٌ جليلةٌ، وهي أساسيةٌ اليومَ بالذات لاستعادة الاستقامة في الدين، وضرب الاختلالات والانشقاقات التي تسببت بها أجيالٌ من الغلاة والواهمين والسذّج والمتآمرين وضحايا الاستنزافات والاستفزازات. وهنا قضيتان لا بد من بحثهما لكي نعرفَ ما نحن منغمسون فيه، وما نحن مقبلون عليه؛ الأُولى هي الوضع الحالي للملفات التي نقومُ عليها عقيدةً وعبادةً، وتعليماً وفتوى، وما هي التحديات التي نواجهها فيها،  وبالتالي ما هو التغيير الذي ينبغي أن يحصُلَ في طرائق التدريب والمعالجة لنكونَ على مستوى التحدي استعداداً وكفاءةً وهمةً واهتماماً. والثانية: الوضْعُ الذي نحن فيه اليوم أفراداً ومؤسَّسات، وكيف يمكنُ الإصلاح لجهتين: الثقافة والوعي والتدريب، والجهة الثانية: مراجعة العلاقة مع الجمهور، ومع السلطة، بحيث نتمكن من القيام بمهمات صَون الدين بالفعل.

ولأبدأ بالقضية الأُولى: الوضع الحالي للملفات التي نقومُ عليها، والتحديات التي نواجهُها. ولا أُريدُ هنا استعراضَ الوضع الحالي للتعليم الديني وللفتوى رغم القصور فيهما، ورغم كثرة الحديث عن تجديد الخطاب الديني، وإنما سأذكر في النهاية نقاطاً محدَّدةً. ذلك أنّ معظم وجوه القصور والخطأ هي مسائل تقنية يمكن تجاوُزُها أو تجاوُزُ الكثير منها بالتعليم الأفضل، وبالوعي الجديد بالعالم، وبالتدريب الأفضل. إنّ ما أُريدُ التعرضَ له مباشرةً هو ملفّ العقيدة والعبادة، لأنه الملفّ الأساس الذي نبتت منه نابتةُ المتطرفين ودُعاة العنف وأهله، فخرجوا على صحيح الدين وثوابته، وأرهقوا الدين والأمة والعالم بالتكفير والقتل والإرهاب. فإذا تحدثنا عن إصلاح التعليم وتجديد الفتوى؛ فإنّ المقصودَ به ليس مجرَّد التجديد والإتقان التقني والفهم الحسن للمادة المدروسة؛ بل وبالأساس الإصغاء للتحديات العَقَدية التي تتهدد ثوابت الدين بحيث يستولي بها وعليها المتشددون الذين تطوروا إلى متطرفين وإرهابيين.  إنّ أولَ ما يعرضُ لهذه الناحية هي هذا الغُلُوُّ في تكفير الدول والمجتمعات، ولكأنما نحن نواجهُ ماواجههُ رسولُ الله صلواتُ الله  وسلامُهُ عليه مع قريش وفي سورة براءة. وقد بدأ الأمر بإحياء مسألة الولاء والبراء والفسطاطين تجاه الأديان والعوالم الأُخرى، ثم صار الولاءُ والبراء بضاعةً رائجةً بالداخل الإسلامي. وعندما بدأ العنف الأعمى صرَّحوا بكفر الجميع ما عداهم لاستحلال العنف ضدّ الجميع. وقد ظهر في العقد الأخير اعتبار الخلافة ركناً من أركان الدين يجب تطبيقه مثل الصلاة؛ فصار كافراً أيضاً من لا يقول بخلافة سلطان داعش!

لقد نجم عن هذا الاختلال والانشقاق، اختلالٌ في فقه العبادة بعد العقيدة. ما عاد هؤلاء يصلون في المساجد الجامعة، ثم انصرفوا لتفجيرها بمن فيها. كانوا يقولون أولاً إنهم يريدون القضاء على العلمانيين  وعلى الحكام الكفرة والمرتدين، وهم في سنوات العقد الماضي، لا يتورعون عن تدمير المساجد التي يصلي فيهاعامةُ المسلمين على مَنْ فيها.

عندنا معهم إذن مشكلة في العقيدة، وأُخرى في العبادة. بل وهناك مشكلةٌ ثالثةٌ ليست أقلّ هولاً، هي المشكلة الأخلاقية إذا صحَّ التعبير. وأنا لا أقصد بذلك فقط ما أمرنا الله برعايته ومراعاته بالأمر بالمعروف ( أي ما تعارف عليه الناس)، والنهي عن المنكر ( أي ما تناكره الناس). بل أقصد ما هو الأكثر من ذلك، أقصِد قولَه تعالى: { إنّ الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر}، وأي فحشاء أفظع من تفجير المساجد، والفجور بالنساء وسبيهنّ، والتعامُل مع المسلمين وغيرهم بمنطق الغلبة والاستعباد، والإلحاد في الدين، والتهجير من الديار. وهذه فظائع حتّى بالمنطق الحروفي الذي يدّعون فهمهم للنصوص من طريقه.

لقد أدّى هذا الاختلال في فقه الدين إلى اختلالٍ في فقه العيش بطبيعة الحال. فقد أثروا أولَ ما أثروا على المسلمين ثم على غيرهم ممن يعيشون معهم منذ عصورٍ متطاولة، سواء من أهل الكتاب أم من أهل الديانات والثقافات الأُخرى. وما وافقهم في ذلك وعليه إلاّ بعض السفهاء والأَوشاب. لكنّ المسلمين أمةٌ ضخمةٌ هي خُمس سكّان العالم. فلو أنّ عُشْر معشار الواحد بالمائة وافقهم كما يحصل الآن؛ فإنهم يوشكون على تدمير جماعة المسلمين، وتدمير  علاقاتهم بالعالم الذي يعيشون فيه ومعه. كما أنّ ثلث المسلمين- كما هو معروف- يعيشون في مجتمعاتٍ غير إسلامية. وقد زاد الأمرُ على المسلمين لأنّ الديانات الأُخرى  حتى البوذية، ظهرت فيها أصولياتٌ قاتلةٌ، فصار العنف ضد الأقليات الإسلامية مسوَّغاً بحجة أنّ المسلمين أياً كان عددهم ضئيلاً لا يمكن العيشُ معهم، ولا بد من تهجيرهم أو قتلهم. تقول إحصائيات وكالات الأُمم المتحدة أنّ في العالم ستين مليوناً من اللاجئين منهم خمسة وثلاثون مليوناً من المسلمين، ونصف هؤلاء في العقد الأخير من العرب!

إنّ هذا هو معنى القول إنّ علينا أن نُطوِّر في مفهوم الفتوى ووظائفها، باتجاه أن يكونَ من بين الوظائف الرئيسية: العمل في التعليم وفي الفتاوى المباشرة على إيضاح ثوابت الدين، وثوابت الأمة في تجربتها التاريخية، وصحيح الدين في التعامل بداخل الإسلام، ومع الأديان والثقافات الأُخرى. ما عادت الفتوى قاصرةً على الفروع ومشكلات الحياة اليومية وإن بقيت تلك مهمةً بالطبع. بل لا بد من تقرير أصول الإسلام، في عقائده وعباداته وقيمه وأخلاقه، ولا بد من تقرير مواقف صحيح الدين في التعامُل مع الناس من أهل الإجابة، ومن أهل الدعوة.

لقد انقضت علينا قرون نحن أهل السنة صار فيها الفقه أصولاً وفروعاً هو دأْبُ العلماء والفقهاء وأهل التعليم والفتوى. بيد أنّ هناك اتجاهاتٍ بداخل الإسلام قدّمت وما تزال فقه العقيدة على فقه الفروع. بل واعتبرت قبل قرنين وإلى الآن أنّ التقليد الفقهيَّ كلَّه مرفوضٌ بحجة أنه انحرافٌ ينافي الاجتهاد. وقد بدا لأول وهلةٍ أنّ هذه السمتيات الصحوية مفيدةٌ في مواجهة حداثة العالم والحداثات التي ظهرت في المجتمعات الإسلامية. بيد أنّ تلك الفوائد الجانبية انتهت، بل وبدا ضررُها، عندما انفجرت السمتيات فينا من خلال تكفير الآخر المسلم، والقطيعة العنيفة مع الآخر غير المسلم. وهنا يبدو الجانب الآخر الضروري لتقرير ثوابت الدين وصحيح الدين: لا بد من استعادة العمل على عقيدة أهل السنة، ليس فيما آلت إليه دعاوى السلفيات الجديدة، بل فيما كانت عليه عقيدة الإمام أحمد بن حنبل:" لا نكفّر مؤمناً بذنب.. ونصلّي وارء كل إمام، ونجاهد مع كل أمير". إنّ هذه الاستعادةَ ليست مفيدةً في الخروج من مسائل الشِرك المصنـوعة ومسائل الولاء والبراء فقط؛ بل هي مفيدةٌ أيضاً في استعـادة تلك الرحابة، وذلك الاعتـراف بالتعـددية في تجـربة أمتـنا التاريخـية. ولنـتذكر مقولـة إمامنا أبي الحسن الأشعري(-324هـ) في مطلع كتابه: "مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين": "اختلف الناس بعد نبيهم صلى الله عليه وسلّم في أشياء كثيرة ضلَّل فيها بعضُهم بعضاً، وبرىءً بعضُهم من بعض فصاروا فرقاً متباينين، وأحزاباً مشتتين، إلاّ أنّ الإسلامَ يجمعُهُم ويشتملُ عليهم..".  لقد حدث فصلٌ منهجيٌّ ين علمي الفقه وأُصول الدين، إلاّ أنّ العمل التعليمي والتربوي وبخاصةٍ عند دراسة أصول الفقه كان يضمُّ الأمرين. ثم إنّ الفقهاء أحسُّوا بالحاجة لذلك أكثر في الأزمات  مثلما ذكرتُ عن الإمام الجويني في"غياث الأُمم"، وعن ابن رشد الجد في فتاويه ونوازله. وقد كانت هناك دعواتٌ لعلم كلامٍ جديدٍ بدأها شبلي النعماني، وعمل عليها المفكرون الإيرانيون طويلاً. وهذا أمرٌ جيدٌ، لكنه يتعلق بالدرجة الأُولى بمواجهة الاجتياح الفكري والثقافي الغربي للعالم. أما ما نقصِدُهُ هنا فهو استعادةُ التقليد العريق في تعليم عقيدة أهل السنة، ومُراعاتها في الفتوى، للخروج من الغُلُوّ التكفيري، ومن دعاوى تطبيق الشريعة، ودعاوى فرض الدين على الناس بالعنف.

ويبقى جانبٌ أخير في هذه القضية الكبيرة، وهو يتعلق بأصول الإسلام من وجهٍ آخر، وهو: اجتراح أساليب للعمل على تجديد دعوة القرآن والنبي(ص) باعتبار الإسلام دينَ دعوة، وليس دينَ قتلٍ للناس من أجل فرضه عليهم. فالله سبحانه وتعالى يقول:{ وما أرسلْناك إلاّ رحمةً للعالمين}. وهو يخاطب المسلمين قائلاً: { لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين، ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتُقسطوا إليهم إنّ الله يُحبُّ المقسطين}. ليس للحرب الدفاعية إذن غير سببين: محاولة إكراه المسلمين بالحرب على تغيير دينهم، أو غزو ديارهم بقصْد إخراجهم من أرضهم. وإن لم يحدث ذلك فإنّ المسلمين مأمورون بالتعامل مع الناس (بغضّ النظر عن أديانهم ودولهم) بالبرّ والقسط.

إنّ هذا الكلامَ المبسوطَ في الوظائف  الجديدة والضرورية للفتوى، يمكن أن يردَ عليه أنه يصلح للبرامج التعليمية أكثر مما يصلح للفتوى. ولا شكَّ أنه ضروريٌّ في البرامج التعليمية. لكنّ الفتوى ما كانت في مسائل الحياة اليومية، وحلّ المشكلات العملية للناس فقط؛ بل كانت أيضاً في مسائل اعتقادية، وأُخرى عامة. ثم إنّ الحاجة إلى الوظائف الجديدة للفتوى ظاهرةٌ أخيراً في استفهامات الناس واستفساراتهم، كما يظهر من الاطلاع على أرشيف عددٍ من دُور الإفتاء في العالمين العربي والإسلامي. وقد أجريتُ أحاديث مع أئمةٍ وخطباء بلبنان والأردنّ في العالم 2012 تبين لي من خلالها أنّ الناس صاروا يقصدونهم في الـ 40 إلى الـ 50% من الحالات، من أجل إشكالاتٍ تتعلق بالاعتقاد أو بالحياة العامة. وسيظهر ذلك في القضية الثانية التي أختمُ بها هذه النقطة.

لقد دعوتُ فيما سبق إلى مراجعة العلاقة بين الدولة والمؤسَّسات الدينية. وكنتُ أقصِد بالمراجعة الإفادة من دروس فشل أو إخفاق التجارب أو بعضها بين الطرفين خلال العقود الخمسة أو الستة الماضية. لقد وجدْتُ بالاستطلاع التقريبي أنه في الدول التي كانت فيها المؤسسات الدينيةُ مضيَّقاً عليها مثل سورية والعراق وليبيا؛ فإنّ الإحيائيات العنيفة كانت أكثر انتشاراً وشراسة. كما وجدْتُ أنه في الدول التي كانت فيها المؤسسات الدينية مرتاحةً نسبياً فإنّ الأُصوليات ظلّت أقلَّ حِدَّةً وعنفاً. ونحن نمرُّ الآن بتجربة شديدة الحساسية والقسْوة، وفيها أخطارٌ هائلةٌ على الدين، وأخطار على الدولة. وهكذا هناك ضروراتٌ للتعاون والانسجام والتشاور والتحاور البنّاء أكثر من السابق بكثير.

لكنْ لنعُدْ بسرعةٍ إلى الوظائف الجديدة للفتوى في هذا المجال بالذات. قال لي أحد عشر إماماً في لبنان والأردن من أصل تسعة عشر، إنّ الناس يسألونهم كثيراً هل يملك الإسلام نظاماً للحكم؟ أو لماذا يملك الإسلام الشيعي نظاماً للحكم لا يملكه الإسلام السني؟ ثم هل الشريعة مطبَّقة، وما هي وسائل تطبيقها إن لم تكن مطبقة؟! لقد حدثت عمليات تحويلٍ هائلةٍ للمفاهيم خلال العقود الماضية، وما قام بها المتطرفون العنيفون فقط؛ بل بالدرجة الأُولى أهل وأحزاب ما صار يُعرف بالإسلام السياسي. والأخطر منها بالطبع التحويلات المفهومية الخاصة بضرورة تطبيق الشريعة باعتبارها غير مطبقة. وهكذا يكون الناس غير مسلمين لأنهم لا يطبقون الشريعة. وهذا خطلٌ وضلالٌ وباطل. فالشرعية  هي الدين، والدين كما سبق القول عقائد وعباداتٌ وأخلاقٌ ومعاملاتٌ بين الناس. وهذه كلُّها سائدةٌ بالفعل في حياة المسملين، ولا يدّعي عدمَ تطبيقها إلاّ الذين يريدون الاستيلاء على السلطة بهذه الحجة، أي حجة تطبيق الدين لاستعادة الشرعية المفقودة. وهكذا وبهذا التدوير والتحويل وصلْنا إلى المقولة الصارخة أنّ الإسلام يملك نظاماً للحكم هو جزءٌ من الشريعة ولا بد من تطبيقه بقوة الدولة، فصار المتطرفون يعتبرن هذا الفهم اعتقاداً، وصارت العامة ترى فيه كمالاً وفضيلة. إنّ كلَّ علمائنا منذ القديم يقولون إنّ الإمامة أو السلطة السياسية هي تدبيريةٌ ومصلحيةٌ وليست شأناً دينياً اعتقادياً أوتعبدياً. هذه هي رؤيةُ أهل السنة وهم سوادُ المسلمين الأعظم، إنهم لا يقولون بالدولة الدينية، المستحيلة على أيّ حال. وقد كان الأمر على هذا النحو منذ اختارت غالبيةٌ من المسلمين أبا بكرٍ في السقيفة بعد وفاة رسول الله صلواتُ الله وسلامُهُ عليه. ولكي تصحَّ العلاقةُ بين الدين والسلطة السياسية لا بُدَّ أن ينتفي الصراع باسم الدين على سلطة إدارة الشأن العام. وهذا جزءٌ مهمٌّ في تصحيح العلاقة، وفي توجيه الناس للعناية بالشأن العام، وإبعاد الدين عن الصراع السياسي الذي يضعف الدين ولا يقوِّيه، ويجعل أصولَهُ موضوع تنازُع. وللأزهر وثائق صارت مشهورةً في هذا المجال. فلا بد أنّ تكونَ الفتوى حاضرةً في هذا المجال الخاصّ بالفتوى أكثر مما هو خاصٌ بالتعليم والبرامج المدرسية. إنّ الشرعية في أي نظامٍ سياسيٍ يصنعها الناس، ولا تصنعها النصوص الدينية المُلْزمة، كما يزعم الأصوليون وأشياعهم.

III

.. ولنمض إلى الركن الآخَر من ركني هذه المعالجة لمسألة الفتوى. كان  الركن الأول هو الوظائف القائمة لأهل العلم والفتوى، والمهام الجديدة التي تطرحها عليهم ظروف المخاض والتأزم بسبب الأخطار التي تتهدد الدين وتتهدد الدولة في ديار العرب والمسلمين. أما الركن الثاني فهو يتعلق بالمؤسسات الدينية التي يكون عليها القيام بهذه الوظائف والمهمات، التي حاول الإحيائيون والجهاديون الاستيلاء عليها وما يزالون.

عانت المؤسسات الدينية في العالم العربي في العقود الماضية من عدة مشكلات. وأولاها وأهمُّها الضغوط من جهة السلطات. ففيما عدا مصر والسعودية والمغرب، ضعُفت المؤسسات في بعض البلدان العربية إلى حدّ الزوال. وهناك بلدٌ أو بلدان ما بقي فيهما حتى علماء أفراد. وقد ظهر ذلك بالفعل في هجمة الإسلامين السياسي والجهادي بعد العام 2011. ومرةً أخرى ففيما عدا مصر والمغرب والمملكة العربية السعودية؛ لم يظهر أثرٌ للمؤسسات أو العلماء في دول ما صار يُعرف بالربيع العربي على وجه الخصوص. ولذلك لا بد من تجاوز هذه الفراغ وذاك الضعف، وإعادة بناء المؤسَّسات الدينية، لأنّ الدول لا تستطيع مواجهة العنف الديني بالأمن فقط. من الضروري أن تدافع الدول عن نفسها وعن وجودها. وأمن المجتمعات مرتبط بذلك. بيد أنّ السكينة الدينية، وثقة الناس بأديان بعضهم وأخلاقهم شديد الأهمية لنا وللدولة. ولذا هناك مصالح لدولنا في أن تكون المؤسسة الدينية قوية، وقادرة على القيام بإصلاح ديني كبير، وإنتاج خطاب ديني جديد، يعيد السكينة للدين، والثقة إلى المجتمعات. ولذا هناك مصالح وضرورات لنا وللدولة في قوة المؤسسات الدينية. واشتقاقاً من هذه الضرورة يكون على الدول والمجتمعات أن تُعيد الاعتبار للعلماء والمؤسسات، إسهاماً منها في مكافحة العنف باسم الدين، ومكافحة مقولة وممارسات الدولة الدينية.

أما ثانية  تلك المشكلات فهي الاختلاط المفهومي، والاختراق المفهومي. صحيحٌ أنّ المؤسسات الدينية في الدول العربية الكبرى لم تحصل فيها اختراقاتٌ معتبرة. بمعنى أنّ   الحزبيين الإسلاميين فضلاً عن الجهاديين بقوا قليلين أو نادرين في صفوف علمائها. لكنّ مقولاتٍ مثل تطبيق الشريعة، ووجود نظام حكم إسلامي هو الخلافة أو غيرها، ينبغي تطبيقه؛ لقيت بعض التجاوُب بالتأليف والفتوى. ولا أقصِد بالمشكلة هنا أنه كان ينبغي مَنْعُ هؤلاء من التأليف أو الإفتاء في هذه الشؤون فهذا أمرٌ غير وارد. إنما المقصود أنه لم تُثَرْ نقاشاتٌ كبرى وجادّة في أوساط المؤسسات أو هيئات العلماء عندما كانت الموجات الصحوية هائجة، وتجتذب جمهوراً من الشباب. وقد انقضى هذا الأمر الآن بسبب ظهور أهوال التسييس والجهاديات على الدين وعلى المجتمعات. وينبغي أن يتدعَّم هذا الخسوف بالتعليم وبالفتوى على النحو الذي ذكرناه سابقاً. ونحن نعرف أنّ هناك رواداً نهضويين في هذا المجال في مصر والمغرب وسورية والعراق طوال المائة عام الفائتة. إنّ هذا الأمر، أي أمْر الحكم المَدَني فيه إنقاذٌ للدين من الدخول في خضمّ الحزبيات، وأهوال الصراع على السلطة باسمه. وقد أصْغت الدساتير والقوانين لمطالب الهوية والخصوصية، فلا حاجةَ للمزايدات أو يخسَرَ الإسلام باختطاف الأُصوليات للدين واستخدامه في الصراع السياسي باسم نُصرته.

وثالثة المشكلات هي مسألة المنهج والإطار. فالفتوى جزءٌ أساسيٌّ في التقليد الفقهي. ونحن ملتزمون بمنهجيات هذا التقليد وآلياته، وقد انفتح التقليد، وكل الاجتهادات الكبرى في القرن العشرين قام بها فقهاؤه. بل إنّ الإحيائيين الذين أنتجوا فقهاً له معنى، إنما استندوا إلى التقليد العريق، رغم كثرة التشدق بالحملة عليه والذهاب إلى شعارات تجديد الفقه والأصول. فحتى في مجال مقاصد الشريعة، ما زادوا كثيراً على ما قاله الشاطبي. إنّ التقليد بالطبع غير مُلْزِم، لكنه غير مرذولٍ ولا نملك غير الأدوات التي وضعها علماء أُصول الفقه، وعلماء القواعد الشرعية، وفقهاء المقاصد الشرعية والضرورات الخمس.

ثم هناك مسألة الإلزام في الفتوى لدى علماء المذاهب الفقهية، إذ لا أحد منهم يقول بذلك، وإنما المسألة مسألة غَلَبة ظنٍ، وبذل الجهد في مُوافقة مُراد الله تعالى. المسلم يسأل من يثق بدينه  وعلمه، وهو يتبع فتواه في العادة، إنما الإلزام غير ضروري وإلاّ وقعنا في فقه داعش والقاعدة. فحتى المراجع الشيعة الذين كانوا يحرّمون تقليد الميت، صاروا يقولون بإباحته، لكنهم ما استطاعوا الخلاص من مقولة تقليد الحي! 

ورابعة المشكلات هي الترهُّل الذي عانت منه المؤسسات الدينية، بسبب ظروف وشروط الدولة الحديثة والمجتمعات الحديثة، وإحساس كثيرٍ من العلماء بفُقدان الهمّ أو المهمة. وهذا الداء هو أخطرُ ما يُصيبُنا إن غاب الهمّ، وغابت أحساسيس الرسالة. وصحيح أنّ الظروف الحاضرة فاجأتنا لكنّ الغيرة على الدين، وعلى السكينة الاجتماعية، تدفع باتجاه الإعداد والاستعداد والعمل في التعليم والفتوى والإرشاد العام. لقد تحمسنا في مواجهة الغزو الثقافي والديني الغربي. وأنتج شيوخنا تراثاً مهماً في التلاؤم وفتح الآفاق. بيد أنّ المشكلة التي نواجهها اليومَ أخطَر، لأنها تتعلق بالانشقاقات بداخل الدين، وتتعلق بممارسة العنف ضد المجتمعات والدول باسم الدين. إنّ مؤسساتنا تطوعية وتعتمد الكفاءة في الأساس، ولا تحوطها القداسة. وهذا الروح إن ازدهرت فيه الحياة، يمكن أن يصنع الكثير من جديد لأنه يلبي رغباتٍ ذاتية، وأحاسيس رسالية،  واحتياجات اجتماعية، ودعوةً إلهية: { ولتكن منكم أمةٌ يدعون إلى الخير، ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، وأولئك هم المفلحون}.

الإرشاد العام دعوة. والفتوى دعوة. وتعليم الدين رسالة. ما قصّرنا من قبل، ولن نقصّر اليومَ وغداً إن شاء الله، لأنّ في عملنا إنقاذاً للدين، وإعادةً للسكينة إلى المجتمعات والدول: {فأما الزبد فيذهبُ جُفاءً، وأمّا ما ينفع الناسَ فيمكثُ في الأرض}(سورة الرعد: 17). صدق الله العظيم.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

محاضرة بالمؤتمر العالمي للإفتاء الذي أقامته دار الإفتاء المصرية بعنوان: الفتوى، إشكاليات الواقع وآفاق المستقبل، يومي 17 و 18 أغسطس(2015) بالقاهرة.

المصدر: http://www.ridwanalsayyid.com/ContentPage.aspx?id=2724#.Vw6bEnErLIU

أنواع أخرى: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك