الميتافيزيقا: علم الإلهيات أم علم حدود العقل؟

بقلم: محفوظ أبي يعلا

 

مـن المعلوم أنَّ أصل كلمة ميتافيزيقا يعود إلى ترتيب كتب أرسطو من طرف أندرونيقوس، حيث أنه وضع كتب أرسطو المتعلّقة بالفلسفة الأولى تالياً لموضوع كتاب الطبيعة [1]. غير أن بعض الباحثين يرون أن هذا العلم يمكن أن يسمَّى بعلم ما فوق الطبيعة لسمو موضوعه، أو بعلم ما قبل الطبيعة لاستناد العلم الطبيعي عليه [2]. 



 وأمّا موضوع هذا العلم، أي علم الميتافيزيقا، فقـد اختلف من عصر إلى آخر، فهو عند الأوائل و المتقدمين كأرسطو والمدرسيين مشتمل على البحث في الأمور الإلهيّة، والمبادئ الكليّـة، والعقل الأوّل. وهو عند المحدثين ككانط مقصورٌ على البحث في مشكلة المعرفة [3].



 وسنحاول في هذه المقالة أن نتطرق لهذين الموضوعين من الميتافيزيقا، أي باعتبارها علم ينظر في الأمور الإلهيّة، ثمَّ باعتبارها علم يُعنى بمشكلة المعرفة.



 1 ـ الميتافيزيقا: علم ينظر في الإلهيات 



 ذكرنا أن للميتافيزيقا موضوعين رأيسيين اختلافا باختلاف العصور. فأمّا موضوعها الأوّل فهو الَّذي سمَّاه أرسطو بالفلسفة الأولى. وقد وصفها بعدة طرائق مختلفة كان يراها جميعها مُتساويّة. فقد سماها دراسة المبادئ الأولى للأشياء، و قال عنها أنّها علم الوجود عامّة، أو علم الوجود من حيث هو كذلك، ووصفها أيضاً بأنها دراسة “الجوهر”. والجوهر، عند أرسطو، هـو ما وجد منذ البداية، وهو السَّابق على سائر الأشياء الأخرى لا من حيث الوجود فحسب، بل ومن حيث التّفسير والمعرفة كذلك [4]. ولهـذا نجد ابن سينا يقول: إنَّ هذا العلم، ويقصد الفلسفة الأولـى، يبحث عن الموجود المطلق، وينتهي في التّفصيل إلى حيث تبتدئ منه سائر العلوم، فيكون في هذا العلم بيان مبادئ سائر العلوم الجزئيّة [5]. 



 إنَّ الهدف الأسمى للميتافيزيقا، كما يتَّضح لنا، وحسب موضوعها الأوَّل، هو معرفة المبادئ العليا للوجود، معرفة ما سماه الإغريق بلفظ: Arché الَّذي ترجم إلى العربيّة بكلمة “الأوّل” [6]. وهذا الأوّل يماثل “الواحد”. الَّذي درج المفكّرون اليونانيون والمسلمون على اعتباره مبدأ العدد، دون أن يكون هو نفسه عدداً. لذا فهو عند أرسطو “النـوس” أي العـقل المتعالي على العالم والقائم بنفسه. فإذا كانت الجواهر السماويّة تُحرك وتتحـرك. فإنَّ النّوس كعلة غائيّة لحركتها هو المحرك غير المتحرك. ولهذا يُسمى العقل الكوني عند أرسطو بواجب الوجود [7].



 يتَّضح لنا، إذن، أنَّ موضوع الميتافيزيقا حسب سياقها الأوّل هو واجب الوجود، الَّذي يمكن أن نسميه الله أو الإله. ولهذا تم الاهتمام بهذا العلم كثيراً، واعتبر من أشرف العلوم وأعمها و أكثرها يقينيّة ومنفعة و تجريدًا. 



 والخلاصة أن الميتافيزيقا حسب موضوعها الأوّل تبحث عن المطلق، وتريد معرفته بعد معرفة الظواهر، ومعرفة علّة الوجود بعد معرفة شروطه. ولذلك يقول ليارد: موضوع علم ما بعد الطبيعة هو تعيين المطلق، والكشف عن العلّة [8]. 



 2 ـ الميتافيزيقا: النّظر في حدود العقل 



 أمّا بخصوص الموضوع الثَّاني للميتافيزيقا فهو متعلّق بمشكلة المعرفة *. وقد تطرَّق كانط إلى هذه المشكلة، فتساءل: هل يمكن قيام الميتافيزيقا على أساس علمي؟ لقد لاحظ كانط أنَّ العقل يقودنا إلى اليقين في المعرفة العلميّة ولكنَّه لا يقودنا إلى معرفة الميتافيزيقا معرفة يقينيَّة، فلماذا؟ يؤكّد كانط ، في كتابه نقد العقل المجرّد، على الطَّابع اللاّتجريبي لموضوع الميتافيزيقا التّقليديَّة ومنهجها القبلي الَّذي يعني استخدام العقل الخالص وحده [9]. و معنّى نقد العقل المجرّد حسب الّسياق الكانطي لا يعني مهاجمة العقل أو نقده وإنّما يعني الفحص عن قدرة العقل بوجه عام فيما يتعلّق بكلّ المعارف الَّتي يطمح إلى تحصيلها مستقلاً عن كلّ تجربة [10]، وإن كان كانط يصل في النّهاية إلى انتقاد العقل، بمعنى أو بآخر، حين يؤكّد على أنَّ مهمَّة الميتافيزيقا هي تحديد الحدود الَّتي ينبغي على العقل ألاَّ يتجاوزها. أو بعبارة أخرى: ينتهي إلى القول بأنَّ الميتافيزيقا هي العلم الباحث في حدود العقل الإنساني [11]. و كانط هنا يتفق مع هيوم الذي يرى أنه ينبغي علينا أن نبحث جادين في طبيعة العقل الإنساني، وأن نتبين ـ نتيجة للتَّحليل الدَّقيق لقواه و قدراته ـ أنَّه ليس ملائمًا بحال من الأحوال لبحث من تلك الموضوعات النَّائية المستغلقة . 



 ختامًا، لقد أحدث كانط ثورة لا تقلُّ أهميّة عن الثَّورات العلميّة التَّجريبيَّة في رؤيته للميتافيزيقا، فنظريَّة كانط في المعرفة وتحليله للذّهن البشريّ، ووضعه الأسس الحسّية للفهم والادراك، لا تقلّ أهميّةً أبدًا عن نظريَّة كوبيرنكوس في الفلك، واكتشاف البخار كطاقة محرّكة [12 ]. فحين ينكر كانط في مؤلّفه نقد العقل المجرّد أن معرفة الواقع كما هو على حقيقته مستحيلة، فقد كان ينكر أنَّ للميتافيزيقا موضوعًا خاصًّا بها، فأقام بالتَّالي براديغمًا جديدًا، أصبحت الميتافيزيقا معه تأخذ معنـى مختلفًا كلّ الاختلاف عن معناها الأوَّل، أي أصبحت ذلك العلم الَّذي ينظر في حدود العقل. فهل وصلنا نحن العرب المسلمون لهذه الثَّورة الكانطيَّة ** في الميتافيزيقا أم أنَّنا لازلنا نكرّر مشكلات الميتافيزيقا الأولى باعتبارها العلم الَّذي ينظر في الإلهيات؟!

 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 ـ عبد الرحمن بدوي، موسوعة الفلسفة، ج: 1 المؤسّسة العربيَّة للدّراسة والنّشر، ط 1، ص: 100.
2 ـ جميل صليبا، المعجم الفلسفي، دار الكتاب اللّبناني، ط: 1، ص: 301.
3 ـ جميل صليبا، نفسه.
4 ـ وج.أو. أرمسون، الموسـوعة الفلسفيَّة المختصـرة، ترجم: مجموعة مترجمين . مكتبة الإنجلو المصرية، طبعة سنة: 1963، ص: 356.
5 ـ جميل صليبا، المعجم الفلسفي، ص: 300.
6 ـ آرثور سعدييف، توفيق سلوم، الفلسفة العربيّة الإسلاميّة، دار الفارابي ـ بيـروت، ط: 1، ص: 226.
7 ـ نفسه، ص: 227.
8 ـ جميل صليبا، مرجع سابق، ص: 302.
* لا شكَّ أنَّه بين أرسطو وكانط ظهر مجموعة من الفلاسفة الَّذين فكَّروا في الميتافيزيقا وناقشوا موضوعاتها، لكن معظم هؤلاء الفلاسفة ظلّوا أرسطيين في رؤيتهم للميتافيزيقا، وإن كانت لديهم بعض الاجتهادات الخاصة الَّتي حاولوا من خلالها إغناء ميتافيزيقا أرسطو.
9 ـ الموسوعة الفلسفيّة المختصرة، مرجع سابق، ص ص: 356، 357.
10 ـ نفسه.
11 ـ نفسه، ص: 361.
21 ـ عمانوئيل كنت، نقد العقل المجرد، ترجمة: أحمد الشيباني، دار اليقظة العربية، ص: 26.
** نسجّل هنا أنَّ المثاليّة الألمانيّة الّتي جاءت بعد كانط رجعت إلى التّفكير في الميتافيزيقا بمعناها القديم، أي بحسب موضوعاتها التّقليديّة. وفي القرن التّاسع عشر، ونظرًا لتقدُّم العلوم الوضعيّة، أصبحت موضوعات فلسفة العلوم مختلطة بموضوعات الميتافيزيقا.

المصدر: http://alawan.org/article15060.html

أنواع أخرى: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك